الأدب
الشعر
العصر الجاهلي
العصر الاسلامي
العصر العباسي
العصر الاندلسي
العصور المتأخرة
العصر الحديث
النثر
النقد
النقد الحديث
النقد القديم
البلاغة
المعاني
البيان
البديع
العروض
تراجم الادباء و الشعراء و الكتاب
شعر الفتوح
المؤلف: شوقي ضيف
المصدر: تاريخ الادب العربي - العصر الاسلامي
الجزء والصفحة: ص:63-68
5-7-2021
9193
شعر الفتوح
خرج العرب من جزيرتهم بعد حروب الردة يجاهدون في سبيل الله دولتي الفرس والروم. فقضوا على الأولي، واستولوا على أهم ولايتين للثانية، وهما الشام ومصر. وكانوا في أثناء هذا الجهاد ينظمون أناشيد حماسية مدوية، يتغنون فيها بانتصاراتهم ويتمدحون بشجاعتهم وما يؤدون لله ودينه. ومن الصعب أن نعرض كل ما نظموه في مواقعهم المختلفة، إنما نلم بطرف منه، ولنقف قليلا عند موقعة واحدة في الشرق هي موقعة القادسية، وفيها يلمع اسم أبي محجن الثقفي (1)، وكان مولعا بالخمر فحبسه سعد بن أبي وقاص، حتي إذا احتدمت المعركة توسل الى سلمي زوج سعد أن تطلقه-علي أن يعود الى قيده-ليسهم في شرف المعركة، فأطلقته وأبلي فيها بلاء حسنا، وعاد الى سجنه وهو ينشد (2):
لقد علمت ثقيف غير فخر … بأنا نحن أكرمهم سيوفا
فإن أحبس فقد عرفوا بلائي … وإن أطلق أجرعهم حتوفا
وكان حول أبي محجن فرسان كثيرون قصفوا الفرس وأطاحوا برءوس أبطالهم، وهم يتصايحون بالشعر الحماسي، منهم عمرو بن معديكرب الزبيدي (3)، وكان من أبطال الجاهلية وفرسانها وأسلم، وكانت له آثار مشهورة في القادسية واليرموك ونهاوند، ومن شعره (4):
والقادسية حين زاحم رستم … كنا الحماة بهن كالأشطان (5)
الضاربين بكل أبيض مخذم … والطاعنين مجامع الأضغان (6)
63
ومنهم بشر بن ربيعة الخثعمي، وله يصور بلاءه وبلاء قومه في مواقع القادسية (7):
تذكر-هداك الله-وقع سيوفنا … بباب قديس والمكر عسير (8)
عشية ود القوم لو أن بعضهم … يعار جناحي طائر فيطير
إذا ما فرغنا من قراع كتيبة … دلفنا لأخري كالجبال تسير (9)
تري القوم فيها واجمين كأنهم … جمال بأحمال لهن زفير (10)
وممن له بلاء حسن في القادسية قيس بن المكشوح المرادي ابن أخت عمرو بن معديكرب، وهو الذي قتل رستم قائد الفرس في تلك المعارك، وله يصور ذلك (11):
جلبت الخيل من صنعاء تردي … بكل مدجج كالليث سامي (12)
إلي وادي القري فديار كلب … الى اليرموك فالبلد الشآمي
وجئن القادسية بعد شهر … مسومة، دوابرها دوامي (13)
فناهضنا هنالك جمع كسري … وأبناء المرازبة الكرام (14)
فلما أن رأيت الخيل جالت … قصدت لموقف الملك الهمام
فأضرب رأسه فهوي صريعا … بسيف لا أفل ولا كهام (15)
وقد أبلي الإله هناك خيرا … وفعل الخير عند الله نامي
وممن حضر القادسية الأسود بن قطبة، وله فيها أشعار كثيرة (16)، وعمرو بن
64
شأس الأسدي (17)، وكان كثير الشعر في الجاهلية والإسلام، وله يذكر قتل رستم (18):
قتلنا رستما وبنيه قسرا … تثير الخيل فوقهم الهيالا (19)
وفر الهرمزان ولم يحامي … وكان على كتيبته وبالا (20)
وشهد القادسية أيضا عروة بن زيد الخيل، وله فيها شعر كثير على شاكلة قوله (21):
برزت لأهل القادسية معلما … وما كل من يغشي الكريهة يعلم
ومن الشعراء البارزين الذين شهدوها ربيعة بن مقروم الضبي (22)، وقد ختم الجاحظ كتابه «الحيوان» بأبيات له يذكر فيها بلاءه حينئذ، يقول فيها (23):
وشهدت معركة الفيول وحولها … أبناء فارس بيضها كالأعبل (24)
متسربلي حلق الحديد كأنهم … جرب مقارفة عنية مهمل (25)
والأبيات من قصيدة رواها أبو الفرج في أغانيه، وهو فيها يتحدث بجانب صنيعه في تلك الحرب عن اقتحامه لحوانيت الخمارين ويفخر بأنه يسقي صاحبه الصبوح، ونحن نعرف أن الإسلام حرم الخمر، ومن ثم كنا نقطع بأن القصيدة تتألف من جزءين قيل أولهما في الجاهلية، وقيل ثانيهما في الإسلام، وسنري عند حسان بن ثابت قصيدة على هذه الشاكلة حين نترجم له في الفصل التالي. ومن ذلك قصيدة لعبدة (26) بن الطبيب، وهو من الشعراء المجيدين الذين أبلوا في حروب القادسية والمدائن، ونراه يستهلها بقوله (27):
65
هل حبل خولة بعد الهجر موصول … أم أنت عنها بعيد الدار مشغول
ويمضي فيذكر جهاد المسلمين للفرس، يقول:
يقارعون رءوس العجم ضاحية … منهم فوارس لا عزل ولا ميل (28)
ويحدثنا عن هجرته مع قومه وأنهم إنما يبتغون ثواب الله، يقول:
نرجو فواضل رب سيبه حسن … وكل خير لديه فهو مقبول
ولكنا نصدم في آخر القصيدة بوصفه المسهب لمجلس شراب، ومن ثم كنا نقطع بأن للقصيدة أصلا قديما يتصل بحياة الجاهليين الوثنية وما كانوا يحلون من خمر. وقد أضيفت الى هذا الأصل قطع جديدة، تتصل بالهجرة في سبيل الله ورسوله ووصف معارك العرب مع الفرس.
وعلي هذا النحو نستطيع دائما أن نجمع كثيرا من الأشعار التي نظمت في كل معركة، سواء مع الفرس أو مع الروم، وإن ما تطفح به كتب الصحابة مثل الاستيعاب والإصابة وكتب التاريخ مثل الطبري وكتب الأدب مثل الأغاني وكتب الجغرافية مثل معجم البلدان لياقوت ليؤلف للعرب في الفتوح ملحمة ضخمة. ولم تكن كلها أشعارا حماسية، ففيها مراث رائعة لبعض من كانوا يفقدونهم، من ذلك قصيدة كثير بن الغريزة التميمي يرثي بها من أصيبوا في معارك الطالقان وجوزجان لعهد عمر بن الخطاب، وفيها يقول (29):
سقي مزن السحاب إذا استهلت … مصارع فتية بالجوزجان
وما بي أن أكون جزعت إلا … حنين القلب للبرق اليماني
ورب أخ أصاب الموت قبلي … بكيت ولو نعيت له بكاني
وعبروا في أثناء ذلك عن حنين بالغ الى ديارهم وأهليهم. وبجانب هذا الحنين والرثاء نجد بعض الشعراء يتحدثون عن بلائهم في المغازي بعامة، على نحو
66
ما نجد عند زياد بن حنظلة في وصفه لمغازي الشام لعهد عمر وما أفاءه الله على المسلمين (30) ويروون أنه كان لأوس (31) بن مغراء «قصيدة طويلة ذكر ما كان فيها من بلائهم في الفتوح وفخر فيها بقريش لم يقل أحد أحسن منها» ومن قوله فيها:
محمد خير من يمشي على قدم … وكان صافية لله خلصانا
ويمكن أن نضم الى هذه الأشعار شكوي بعض الجنود من الولاة والعمال حين يخونون فيما ائتمنوا عليه، على نحو ما نجد عند يزيد بن الصعق، فقد أرسل بشكوي طويلة الى عمر بن الخطاب من أصحاب الخراج، يقص عليه كيف أثروا ثراء غير مشروع من أعمالهم التي يتولونها ومما يأخذون لأنفسهم من المغازي، وفيها يقول (32):
نؤوب إذا آبوا ونغزو إذا غزوا … فأني لهم وفر وليس لنا وفر
وقد وصفوا كثيرا مما شاهدوه في فتوحهم من المعاقل والحصون والحيوان كالفيل، وتحدثوا عما نزل بهم من طواعين (33).
وهناك أشياء لا بد أن نلاحظها في هذه الأشعار الكثيرة التي رويت عنهم في مغازيهم وفتوحهم، لعل أهمها أنها طبعت بطابع الآداب الشعبية، سواء من حيث نسيجها العام أو من حيث قائلوها ومن نسبت إليهم. أما من حيث النسيج فإنها لا تبلغ من المتانة مبلغ الأشعار التي نسبت في العصر نفسه الى الشعراء المجودين، وأما من حيث القائلون فإن كثيرا منهم يكاد يكون مجهولا، لسبب بسيط وهو أنه من عامة الجند. ومن ثم اختلف الرواة في نسبة كثير من الأشعار الى أصحابها. ويكثر أن يرسل الراوي الشعر إرسالا بدون نسبته الى شاعر بعينه، وينص الطبري على قطعتين كانت تتجاوب بهما الآفاق في الجزيرة العربية ولا يعرف من نظمهما، ويعقب عليهما بقوله: «وسمع بنحو
67
ذلك في عامة بلاد العرب (34)». وكأن طائفة من شعر الفتوح تحولت الى ما يشبه الأمثال التي يبدعها الشعب، فناظمها لا يعرف كما لا يعرف مرسل المثل لأنه من أبناء الشعب وأبناء الشعب قلما ذكروا أو مجدوا بل إنه لا يعنيهم أن يذكروا أو يمجدوا، إذ هم آخر من يهتم بهذا الفضل.
ويسود في هذا الشعر الإيجاز، فهو شعر اللمحات السريعة والمواقف الخاطفة، وجمهوره لذلك مقطوعات قصيرة، يجري فيها الشاعر على سجيته دون تدقيق في معني أو تنقيح للفظ أو التماس وزن أو قافية. إنه يعبر عن خاطر التحم بصدره دون معاناة أو مكابدة، ويرمي به في سرعة كما يرمي بسهمه أو يضرب بسيفه، غير مفكر في تنقيح ولا في تصفية أو تهذيب، ولذلك كانت تشيع فيه البساطة وعدم التكلف لما يعترض صاحبه من شواغل الجهاد التي تحول بينه وبين إطالة الفكرة كما تحول بينه وبين المعاودة للفظ وتجويده وتحبيره.
وملاحظة أخيرة، وهي أن قصصا كثيرا عن أبطال الفتوح وجهادهم في حروب الفرس والروم أضيف الى هذه الأشعار. وقد حمل لنا ياقوت في معجمه كما حملت كتب التاريخ والأدب أطرافا منه كثيرة. ومن غير شك خضع هذا العمل كله لمخيلة القصاص فزادوا في القصص والأشعار ما اتسع له خيالهم.
ولكن مهما يكن فلهذا كله أصل صحيح، وهو أصل ضخم إذ كان الشعر يتدفق على ألسنة الفاتحين، وكانوا ينشدونه في كل موقف وكل معترك، مقصدين له حينا وراجزين أحيانا أخري، وطبيعي أن يشيع فيه الرجز، لأنه كان فعلا الوزن الشعبي الذي ينظم فيه عامة العرب.
68
_________
(1) انظر في ترجمة أبي محجن الأغاني (طبع الساسي) 21/ 137 والشعر والشعراء 1/ 387 والإصابة 7/ 170 والخزانة 3/ 550 وما بعدها والاستيعاب ص 682.
(2) أغاني 21/ 140.
(3) انظر في ترجمته كتب الصحابة وأغاني (دار الكتب) 15/ 208 والشعر والشعراء 1/ 332 وذيل الأمالي ص 145 والخزانة 1/ 422، 3/ 460 ومعجم الشعراء للمرزباني (طبعة الحلبي) ص 15 ومعاهد التنصيص 2/ 240 والعيني 1/ 379.
(4) ذيل الأمالي ص 146.
(5) الاشطان هنا: الجن والمردة.
(6) الأبيض: السيف. المخذم: القاطع. مجامع الأضغان: القلوب.
(7) أغاني (طبعة دار الكتب) 15/ 243.
(8) قديس: يريد القادسية أو موضع بجانبها.
(9) دلفنا: تقدمنا.
(10) واجم: من الوجوم وهو السكوت مع كظم الغيظ.
(11) فتوح البلدان للبلاذري (طبع المطبعة المصرية بالأزهر) ص 261.
(12) تردي الخيل: ترجم الأرض بحوافرها.
(13) مسومة: معلمة. الدوابر: العراقيب. دوامي: ملطخة بالدم.
(14) المرازبة: رؤساء الفرس.
(15) أفل: مثلم. كهام: كليل لا يقطع.
(16) الإصابة 1/ 108.
(17) انظر ترجمته في الأغاني (طبعة دار الكتب) 11/ 196 والشعر والشعراء 1/ 389 وابن سلام ص 164 والاستيعاب ص 454 ومعجم الشعراء للمرزباني ص 22.
(18) الطبري 3/ 50.
(19) الهيال: ما ينهال من الغبار.
(20) الهرمزان: الكبير من حكام الفرس.
(21) الأغاني (طبع الساسي) 16/ 51.
(22) انظر ترجمته في أغاني (ساسي) 19/ 90 والشعر والشعراء 1/ 279 والإصابة 2/ 220 الخزانة 3/ 566.
(23) الحيوان (طبعة الحلبي) 7/ 263.
(24) البيض: الخوذ. الأعبل: حجر أبيض.
(25) يشبه الفرس بإبل جرباء. مقارفة: من القراف وهو داء يقتل البعير. العنية:
طلاء للجرب، وأراد نفس الإبل الجربي. والمهمل: الذي يهمل الإبل في المرعي.
(26) انظر في ترجمته الأغاني (طبعة الساسي) 18/ 163 والشعر والشعراء 2/ 705 والإصابة 5/ 101 والموشح ص 75.
(27) انظر القصيدة في المفضليات (طبعة دار المعارف) ص 135.
(28) يقارعون: يضاربون. العجم: الفرس. العزل: جمع أعزل وهو من لا سلاح معه. الميل: جمع أميل وهو الذي لا يحسن ركوب الخيل.
(29) أغاني (طبعة دار الكتب) 11/ 278 حيث سرد أبو الفرج القصيدة في ترجمته وانظر فيه الإصابة 5/ 318 والخزانة 4/ 118 ومعجم الشعراء ص 240.
(30) طبري 3/ 108.
(31) انظر ترجمته في الأغاني (طبعة دار الكتب) 5/ 8 والشعر والشعراء 2/ 668 والإصابة 1/ 118 وابن سلام ص 445 وفي مواضع متفرقة والموشح ص 65 وما بعدها.
(32) فتوح البلدان ص 377.
(33) الحيوان 4/ 137 والإصابة 3/ 14، 5/ 60
(34) طبري 3/ 83.