الأدب
الشعر
العصر الجاهلي
العصر الاسلامي
العصر العباسي
العصر الاندلسي
العصور المتأخرة
العصر الحديث
النثر
النقد
النقد الحديث
النقد القديم
البلاغة
المعاني
البيان
البديع
العروض
تراجم الادباء و الشعراء و الكتاب
شعراء الهجاء
المؤلف: شوقي ضيف
المصدر: تاريخ الادب العربي - العصر الاسلامي
الجزء والصفحة: ص:230-235
19-7-2021
3255
شعراء الهجاء
احتدم الهجاء في هذا العصر احتداما شديدا، بتأثير العصبيات القبلية التي اشتعلت-كما مر بنا-نيرانها في كل مكان، ومعروف أن الإسلام دعا الى نبذ هذه العصبيات وحاربها حربا عنيفة، غير أن هذا-فيما يظهر-كان مثلا أعلي لم يستطع العرب تحقيقه إلا الى فترة محدودة، فلم تكد نيرانها تتحول الى رماد، حتي عادت الى الظهور، إذ نشبت حرب الردة وأشرع فيها الشعراء ألسنتهم صادرين عن روحهم القبلية، على نحو ما يروي عن أبي شجرة السلمي وانتصاره للمرتدين من قبيلته سليم، وكأن من دخلوا هذه الحرب أرادوا أن يخلعوا عنهم سلطان قريش. وقضي أبو بكر الصديق قضاء مبرما على هذه الفتنة، ودفع العرب الى الفتوح، ولكنهم لا يكادون يهدأون، حتي تحدث فتنة عثمان وتنشب الحروب بين على وخصومه: طلحة والزبير وعائشة ثم معاوية. وكانت كثرة جيشه من اليمانية وربيعة، ونراهما تتنافسان في قيادة حربه بموقعة الجمل، كما تتنافسان في موقعة صفين ضد معاوية، ويتبادل شعراؤهما الطعن والتجريح كل يصور حسن بلاء قومه في الحرب. والتقت بهذه الأصوات أصوات مضرية كثيرة. وحدث هذا نفسه في صفوف خصومه، مما نجد آثاره في الطبري وفي
230
وقعة صفين لنصر بن مزاحم. وعبثا حاول على أن يعلي كلمة الإسلام الذي حاول أن يمحو الدعوات الجاهلية وما اتصل بها من عصبيات، إذ لم تلبث طائفة كبيرة في جيشه بعد قبوله للتحكيم أن نظرت في تولي قريش تدبير الأمور في الأمة، وأن من حقها جميعا أن يكون لها الحكم والسلطان. وبسرعة تكونت جماعة الخوارج وشهرت سيوفها في وجهه مما اضطره أن يحاربها ويذيقها وبال انتكاسها وخروجها على الجماعة.
ومما لا شك فيه أن موقف معاوية كان سببا قويا من أسباب استشعار جماعته للعصبية القبيلة، فقد مضي يطالب بحق عشيرته الأموية في الأخذ بثأر عثمان، وكأنه أحيي قاصدا أو غير قاصد الفكرة القديمة التي كانت تجعل حق الثأر للقبيلة والعشيرة. ومعروف أن الإسلام هدم هذا الحق وحوله من القبائل والأفراد الى الدولة، فهي التي تعاقب عليه بما يفرضه دستور القرآن الكريم. وزاد في استشعار العصبية في صفوفه أنه كان يعتمد على قبيلة كلب اليمنية، وكان بينها وبين الأمويين مصاهرات مختلفة، فإن عثمان تزوج منها بنائلة بنت الفرافصة. وتزوج معاوية من ميسون بنت بحدل، وهي أم ابنه يزيد، وكذلك تزوج مروان بن الحكم ليلي بنت زبان بن الأصبغ الكلبية، وهي ابنة عم نائلة.
وقد استغل معاوية في حربه لعلي ذلك، لأن الصهر عند العرب كالنسب، ووسع استغلاله، إذ ضم تحت لوائه جميع القبائل اليمنية الشامية.
وعلي هذا النحو كانت العصبية القبلية تسري في أحداث هذه الفترة، وهدأت الأمور نحو ربع قرن، حتي إذا توفي يزيد وجدنا العصبية تستعر بين القبائل في الشام والجزيرة وفي البصرة وخراسان. أما في الشام والجزيرة فاندلعت بسبب نزول قيس فيهما واصطدامها في أولاهما بكلب والقبائل اليمنية وفي ثانيتهما بتغلب الربعية. وكانت وفاة يزيد بن معاوية إشارة الوقت لهذا. الاندلاع، فقد بايعت قيس ابن الزبير وبايعت اليمنية وتغلب مروان بن الحكم، وسل الطرفان سيوفهما في معارك حامية تحدثنا عنها في غير هذا الموضع، وانبعث شعراء كل طرف يفتخرون ويهجون، بالضبط، كما كان يفتخر آباؤهم في الجاهلية ويهجون.
231
وفي نفس الوقت نجد الحلفين الكبيرين في البصرة: حلف تميم وقيس من جهة وحلف الأزد وربيعة واليمنية من جهة أخري يستشعران العصبية القبلية استشعارا حادا. ومر بنا في غير هذا الموضع كيف اصطدم الحلفان بعد فرار عبيد الله بن زياد عن العراق، وكيف أفضي الاصطدام الى القتال، لولا أن تدارك الأمر الأحنف بن قيس فرتق الفتق. وقد ظلت نفوس الحلفين تغلي طوال العصر، وظل الشعراء يتصايحون صياحهم القبلي حتي لنجد أبا نخيلة، وهو ممن أدركوا الدولة العباسية ينظم أرجوزة طويلة يذكر فيها حرب قومه التميميين مع الأزد وربيعة مفاخرا بانتصارهم على شاكلة قوله (1):
نحن ضربنا الأزد بالعراق … والحي من ربيعة المراق
ضربا يقيم صعر الأعناق … بغير أطماع ولا أرزاق (2)
إلا بقايا كرم الأعراق
ولم تحتدم العصبيات القبلية في البصرة فحسب، فقد انتقلت الى خراسان لسبب طبيعي، وهو أن أكثر جيوشها كانت تتألف من جند البصرة، إذ هم الذين ابتدءوا فتحها منذ عهد عمر، وتوالت بعد ذلك كتائبهم وفرقهم هناك، فكان طبيعيا أن تنعكس بها نيران هذه العصبيات، وقد أخذت تزداد تأججا واشتعالا بعامل المنافسة على قيادة الجيوش وولاية الثغور، إذ كان الوالي هناك يولي عماله وقواده من قبيلته وأحلافها، فإذا تولي المهالبة مثلا قدموا رجال الأزد وربيعة واليمن وانتكست قيس وتميم، وإذا تولي قتيبة بن مسلم الباهلي مثلا رفعت قيس وتميم رءوسهما وانتكست الأزد وأحلافها. ولم تقف المسألة عند ذلك فإن القبائل في الحلف الواحد كثيرا ما اختلفت وتحاربت وتطاحنت بسبب الاختلاف على المغانم وطمعا في اكتنازها، واقرأ في أي شاعر ممن عاشوا هناك وترجم له صاحب الأغاني فستراه دائما يذود عن قبيلته بلسانه، سواء كان من أصولها أو من مواليها، على نحو ما مر بنا من استعار الهجاء بين زياد الأعجم مولي
232
عبد القيس وكعب الأشقري الأزدي، وكان زياد يهاجي أيضا المغيرة بن حبناء التميمي وقتادة بن مغرب اليشكري وابن عمه أبا جلدة (3). وقد يرتفع صوت في أثناء هذا الضجيج باعتزال هذه الحرب اللسانية وما تطوي من عصبيات عنيفة على شاكلة قول نهار بن توسعة (4):
أبي الإسلام لا أب لي سواه … إذا هتفوا ببكر أو تميم
ولكن مثل هذا الصوت كان يضيع في غمار هذه العصبيات التي استعلي سلطانها في العصر استعلاء شديدا، وهو استعلاء سقطت منه آثار مختلفة في جميع البيئات.
وقد قلنا فيما أسلفنا إن الكوفة شغلت عن العصبيات القبلية بتشيعها وخصومتها للأمويين، ومع ذلك فإننا نجد هناك الكميت بن زيد الأسدي يثير معركة حامية مع حكيم (5) بن عياش الكلبي وهرون (6) مولي الأزد، وكثيرا ما كانت تثار معارك بين شعراء العشائر والبطون، ولكنها على كل حال لم تحتدم هناك على نحو ما احتدمت في خراسان والبصرة. وإذا ولينا وجوهنا نحو المدينة وجدنا عبد الرحمن بن حسان بن ثابت يتهاجي مع عبد الرحمن بن الحكم الأموي هجاء مريرا (7)، ويقال إنه هجا يزيد بن معاوية وشبب بأخته رملة تشبيبا أحفظه، فأغري الأخطل بهجائه، فجهاه وهجا قومه الأنصار، وأغضب ذلك النعمان ابن بشير، فتعرض للأخطل بهجاء عنيف (8):
ويلقانا في نجد هجاء كثير دار على ألسنة شعراء القبائل، ولعل من خير ما يمثله تهاجي المرار بن منقذ الأسدي ومساور بن هند العبسي. ومن طريف ما للمرار قوله (9):
_________
233
شقيت بنو عبس بشعر مساور … إن الشقي بكل حبل يخنق
ومر بنا ما كان من مهاجاة شبيب بن البرصاء الذبياني وابني عمه عقيل بن علفة وأرطاة بن سهية ومهاجاة ابن ميادة والحكم الخضري، وكان في ابن ميادة (10) شر كثير جعله يهاجي كثيرين من مثل عقبة بن كعب بن زهير وعقال بن هاشم اليمني وشقران مولي بني سلامان.
وعملت بجانب هذه العصبيات أسباب شخصية كثيرة على اندلاع نيران الهجاء، فمن ذلك أن ينتصر أحد الشعراء لزميل في تهاجيه مع زميل آخر، حينئذ يرميه بسهام هجائه، على نحو ما هو معروف عن جرير في تهاجيه مع الفرزدق إذ كان كثير من الشعراء يقفون مع خصمه ضده. فكان ينصب عليهم شواظ نار. وقد يفاضل أحد الولاة أو الأجواد بين من يمدحونه من الشعراء فيزيد شاعرا في جائزته على زميله أو زملائه، فيغضب المفضول، ويسقط بغضبه على من فضله كما مر بنا في تهاجي المغيرة بن حبناء، وزياد الأعجم. وقد يبطئ الممدوح على مادحه بمكافأته، فيتحول الى هجائه على نحو ما هجا الحزين الكناني عمرو بن عمرو بن الزبير بقوله (11):
مواعيد عمرو ترهات ووجهه … على كل ما قد قلت فيه دليل
جبان وفحاش لئيم مذمم … وأكذب خلق الله حين يقول
وقد يحرم ممدوح مادحا له من نواله فيسرع الى هجائه على نحو ما كان من عكرمة بن ربعي مع المتوكل (12) الليثي، وقد لا تقوم مكافأة الممدوح في
_________
234
رأي المادح بما قدم له من مديحه. فيهجوه ويسرف في هجوه على نحو ما صنع الشمردل بهلال (13) بن أحوز المازني فارس تميم في عصره غير مدافع. وقد يحجب الممدوح مادحه فلا يأذن له بلقائه، فيصب عليه نار هجائه، على نحو ما روي الرواة عن حجب مقاتل بن مسمع بن مالك لأبي جلدة الشكري، فقد تولي يهجوه بمثل قوله (14):
قري ضيفه الماء القراح ابن مسمع … وكان لئيما جاره يتذلل
وقد يمتدح الشاعر أحد العمال ويطلب إليه حاجة فلا يقضيها، حينئذ ينتقم منه بهجائه، على نحو ما كان من زياد الأعجم مع عباد بن الحصين، وكان على شرطة القباع والي ابن الزبير على البصرة، فسأله حاجة فازور عنه فهجاه وهجا عشيرته الحبطات طويلا، وفيها يقول (15):
رأيت الحمر من شر المطايا … كما الحبطات شر بني تميم
وعلي هذا النحو أصبحنا نجد الأجواد والقواد والولاة الذين مرت بنا أسماؤهم والذين طالما مدحهم الشعراء يهجون كثيرا أو قليلا، فزياد وبنو زياد يهجوهم ابن مفرغ، والحجاج يهجوه العديل (16) بن الفرخ العجلي ومالك (17) بن الريب التميمي. وفيه يقول (18):
ولولا بنو مروان كان ابن يوسف … كما كان عبدا من عبيد إياد
زمان هو العبد المقر بذله … يراوح صبيان القري ويغادي
وكان الفرزدق مولعا بهجاء كثير من الولاة والعمال عصبية لقبيلته تميم
_________
235
أو لأسباب شخصية، وممن أكثر من هجائهم عمر (19) بن هبيرة الفزاري وخالد القسري (20)، وفيهما يقول إسماعيل بن عمار (21):
بكت المنابر من فزارة شجوها … فالآن من قسر تضج وتجزع
وكان المهالبة ممدحين كما قدمنا. ومع ذلك لم يسلموا من هجاء الشعراء وعلي رأسهم الفرزدق (22). ومن ولاة الشرق الذين هجاهم غير شاعر قتيبة بن مسلم الباهلي والي خراسان، وسنري عما قليل هجاء ثابت قطنة له، ومنهم عبد الله العبشمي مهجو أبي حزابة (23). ونري أعشي همدان يهجو خالد بن عتاب بن ورقاء والي الري وأصبهان حين جفاه بمثل قوله (24):
ويركب رأسه في كل وحل … ويعثر في الطريق المستقيم
ويهجو أبو نخيلة المهاجر بن (25) عبد الله والي اليمامة. وفي الحجاز نجد الأحوص مشغوفا بهجاء ابن (26) حزم والي المدينة لعمر بن عبد العزيز كما نجد العرجي مشغوفا بهجاء محمد بن هشام المخزومي والي مكة لهشام بن عبد الملك.
ونحن نقف قليلا عند ثلاثة من الهجائين هم ابن مفرغ البصري والحكم بن عبدل الكوفي وثابت قطنة الخراساني.
_________
(1) طبقات الشعراء لابن المعتز (طبع دار المعارف) ص 63.
(2) الصعر: الميل، وصعر الأعناق كناية عن الكبر والغطرسة، وأصله ميل العنق والنظر عن الناس تهاونا واستكبارا.
(3) أغاني (دار الكتب) 11/ 321.
(4) الشعر والشعراء 1/ 521.
(5) أغاني (ساسي) 15/ 12 ومعجم الأدباء 10/ 247.
(6) الحيوان 7/ 75.
(7) أغاني (ساسي) 13/ 141 والمبرد ص 289.
(8) انظر في ترجمة النعمان بن بشير أغاني (ساسي) 13/ 147، 14/ 114 وما بعدها والشعر والشعراء 1/ 456 وقد طبع له ديوان على الحجر في دهلي ونشره كرنكو مع ديوان أبي بكر بن العزيز.
(9) أغاني (دار الكتب) 10/ 318.
والأغاني (طبع دار الكتب) 2/ 261 وما بعدها والاشتقاق ص 287 والخزانة 1/ 76 والموشح ص 228.
(11) أغاني دار الكتب 15/ 338
(10) انظر في ترجمة ابن ميادة الشعر والشعراء 2/ 747 والمؤتلف 174
(12) انظر في ترجمة المتوكل ابن سلام ص 551 وما بعدها وأغاني (دار الكتب) 12/ 159 ومعجم الشعراء ص 339 وهو صاحب البيت المشهور: لاتنه عن خلق وتأتي مثله عار عليك إذا فعلت عظيم
(13) أغاني (دار الكتب) 13/ 358.
(14) أغاني 11/ 331.
(15) البيان والتبيين 4/ 37 والخزانة 4/ 280.
(16) أغاني (ساسي) 20/ 13.
(17) انظر في ترجمة مالك الشعر والشعراء 1/ 312 وأغاني (ساسي) 19/ 163 والخزانة 1/ 317 ومعجم الشعراء ص 265.
(18) المبرد ص 290.
(19) الديوان ص 282، 647.
(20) أغاني (ساسي) 19/ 23.
(21) أغاني (دار الكتب) 11/ 379.
(22) انظر الديوان ص 10، 187، 252، 262، 412.
(23) أغاني (ساسي) 19/ 152.
(24) البيان والتبيين 4/ 50.
(25) أغاني (ساسي) 18/ 145.
(26) أغاني (دار الكتب) 4/ 237.