x

هدف البحث

بحث في العناوين

بحث في المحتوى

بحث في اسماء الكتب

بحث في اسماء المؤلفين

اختر القسم

القرآن الكريم
الفقه واصوله
العقائد الاسلامية
سيرة الرسول وآله
علم الرجال والحديث
الأخلاق والأدعية
اللغة العربية وعلومها
الأدب العربي
الأسرة والمجتمع
التاريخ
الجغرافية
الادارة والاقتصاد
القانون
الزراعة
علم الفيزياء
علم الكيمياء
علم الأحياء
الرياضيات
الهندسة المدنية
الأعلام
اللغة الأنكليزية

موافق

الأدب

الشعر

العصر الجاهلي

العصر الاسلامي

العصر العباسي

العصر الاندلسي

العصور المتأخرة

العصر الحديث

النثر

النقد

النقد الحديث

النقد القديم

البلاغة

المعاني

البيان

البديع

العروض

تراجم الادباء و الشعراء و الكتاب

السياسة

المؤلف:  شوقي ضيف

المصدر:  تاريخ الادب العربي - العصر الاسلامي

الجزء والصفحة:  ص:183-193

10-6-2021

1904

 

السياسة

قام الإسلام على تقرير السيادة الإلهية وسيطرتها على أمور المسلمين الدينية والدنيوية سيطرة تنهض على مبادئ الحق والعدل والأمر بالمعروف والنهي عن

 

183

المنكر. وبذلك فرض الإسلام على كل مسلم أن يشترك في الحياة العامة للجماعة ونشاطها السياسي، وهو نشاط ينبغي أن يقوم على مبادئ الدين ومقاصده السامية.

وقد رأينا-في غير هذا الموضع-كيف أن الحوادث تطورت بعد مقتل عثمان، فولي علي، ونشبت بينه وبين السيدة عائشة وطلحة والزبير موقعة الجمل، ثم نشبت معركة صفين بينه وبين معاوية. وكان التحكيم، فخرج جمع كبير من جيشه ثائرين ضده، ولم يلبث أن قتل، فتحولت الخلافة الى معاوية وبيته الأموي وأصبحت وراثية في هذا البيت. وكان الأمويون في نظر كثيرين لا يمثلون الحكام الجديرين بالدولة الإسلامية، لأنهم عادوا الإسلام في أول ظهوره، وبذلك كانوا يعدون مغتصبين للخلافة. وزاد في الحنق عليهم أن سيرة يزيد بن معاوية وابن أخته يزيد بن عبد الملك وابنه الوليد لم تكن سيرة مرضية. وأيضا فإن عمالهم ظلموا الناس. ومن أجل ذلك سخط عليهم جمهور من القراء أهل التقوي والورع، غير أن هذا الجمهور لم يكون حزبا لمعارضتهم معارضة إيجابية، فقد اكتفي بإشاعة السخط في الناس، واشترك منه نفر في بعض الثورات عليهم، لكنه على كل حال لم يقم بثورة منظمة. على أنه ينبغي أن نشير الى ثورة المرجئة في خراسان بقيادة الحارث بن سريج، وسنعرض لها في حديثنا عن الثقافة وأصحاب المقالات الكلامية.

والحجاز والعراق هما أهم المراكز التي نشأت فيها المعارضة لبني أمية، وقد بدأت معارضة الحجاز لهم منذ حاول معاوية إسناد ولاية العهد لابنه يزيد وأخذه البيعة على ذلك من أهل الأمصار، فإن فريقا من أبناء كبار الصحابة مثل الحسين بن على وعبد الله بن الزبير وعبد الله بن عمر أبوا أن يبايعوا ليزيد. فلما ولي الخلافة كتب الى عامله بالمدينة أن يشدد على هؤلاء الثلاثة في أخذ البيعة تشديدا ليس فيه رخصة، فبايع عبد الله بن عمر، وفر الحسين وعبد الله بن الزبير الى مكة. ولم يلبث أهل الكوفة أن استدعوا الحسين لبيعته، فخرج وقتل بكربلاء على حدود العراق. أما ابن الزبير فعاذ بالبلد الحرام الذي لا يحل فيه القتل وسفك الدم، ولما يئس يزيد من بيعته له أرسل الى عامل المدينة أن يأخذها منه كرها، فبعث

 

184

إليه بأخيه عمرو بن الزبير على رأس جيش، وكان بينهما مغاضبة، ولم يفلح هذا الجيش في مهمته، وقبض عبد الله على أخيه وقتله تحت السياط.

وفي هذه الأثناء رأي عامل المدينة أن يبعث الى يزيد بطائفة من أشرافها، ولما مثلوا بين يديه أكرمهم وأعظم جوائزهم، غير أنهم رجعوا يثيرون عليه الناس ويقولون:

«إنا قدمنا من عند رجل ليس له دين ويشرب الخمر ويعزف بالطنابير وتضرب عنده القيان ويلعب بالكلاب ويسامر الخراب والفتيان (1)». وثار أهل المدينة وبايعوا عبد الله بن حنظلة، فأرسل إليهم يزيد جيشا بقيادة مسلم بن عقبة المري ونشبت بين الفريقين معركة الحرة المشهورة التي استبيحت فيها مدينة الرسول صلي الله عليه وسلم ثلاثة أيام، وقد بكاها من الشعراء كثيرون (2). وولي بعد ذلك جيش مسلم وجهه نحو مكة، وسمع بذلك بعض الخوارج فنفروا لمساعدة ابن الزبير، وحدث أن توفي مسلم في طريقه، فخلفه الحصين بن نمير السكوني، ومضي حتي حاصر مكة وابن الزبير، غير أن الأنباء جاءته بوفاة يزيد سنة 64 للهجرة، ففك الحصار وعاد الى الشام.

وهيأ ذلك لأن تتسع دعوة ابن الزبير، فإن الأمصار اضطربت على ولاة بني أمية حتي الشام، إذ بايع بعض ولاتها ابن الزبير ودعمته هناك قبائل قيس.

ولم تلبث مصر أن دخلت في طاعته كما دخلت الكوفة والبصرة وخراسان، غير أن المختار الثقفي دعا لابن الحنفية (أحد أبناء على من سيدة من بني حنيفة) في الكوفة وأخرج منها عبد الله بن مطيع عامل ابن الزبير، الذي انتقم منه بحبس ابن الحنفية في سجن عارم بمكة، وولي على البصرة بدلا من عبد الله بن الحارث الملقب بالقباع أخاه مصعبا، فنازل المختار الثقفي وقضي عليه، وبذلك عادت الكوفة الى الدخول في طاعة ابن الزبير. وتلقانا في هذه الأحداث أشعار كثيرة مبثوثة في الطبري.

ومنذ أول الأمر تدور الدوائر على قيس في موقعة مرج راهط بالشام، ويخلص هذا الإقليم لمروان بن الحكم، وتتبعه مصر، وسرعان ما يخلفه ابنه

 

185

عبد الملك. فيتريث في القدوم على مصعب بجيوشه، حتي يري ما يكون من أمره مع المختار الثقفي. ويشغل مصعب بعد المختار بالخوارج، ويقدم عبد الملك فيقضي عليه، ويرسل الحجاج الى ابن الزبير بمكة، فيهزمه ويقتله في سنة 73. وكان ابن الزبير شحيحا، ومن ثم هجاه فضالة بن شريك هجاء مرا (3). أما مصعب فكان جوادا ممدحا، ولذلك مدحه ورثاه غير شاعر (4):

وبمجرد القضاء على ابن الزبير في مكة دخل الحجاز في طاعة بني أمية، ولم يعد للثورة عليهم طوال العصر. أما العراق فكان موطن الخصومة الحقيقية لهم، إذ كان فيه الخوارج وخاصة في البصرة لأول هذا العصر، وكان فيه الشيعة وخاصة في الكوفة، وكان فيه كثير من أشراف العرب الذين كانوا يعدون بني أمية غاصبين للخلافة. ومر بنا في غير هذا الموضع انتقاض عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث عليهم وكذلك انتقاض يزيد بن المهلب.

وكان هناك كثير من الرقيق الذين كانت تعاملهم الدولة فيما يظهر معاملة قاسية، مما جعلهم يثورون مرارا، مرة في عهد المغيرة بن شعبة والي الكوفة (5)، ومرة ثانية في عهد مصعب، ومرة ثالثة في عهد الحجاج، وكان الزنج هم الذين أشعلوا الثورتين الأخيرتين، وسجل ذلك بعض الشعراء في أشعارهم (6).

علي أن هذه الثورات الجانبية لا تقاس في شئ الى ثورات الخوارج التي امتد لهبها الى أركان كثيرة في العراق والموصل وإيران واليمامة وحضرموت وعمان. وكان أول ظهورهم عقب التحكيم بين على ومعاوية وما كان من رضا على به، فقد تنادي فريق من جيشه: لا حكم إلا لله، وبذلك شقوا عصا الطاعة عليه، ولم يلبثوا أن عدوه ومن معه ضالين وتجب الهجرة عنهم كما هاجر رسول الله صلي الله عليه وسلم عن أهل مكة، وفعلا هاجروا الى حروراء بالقرب من الكوفة، ولذلك سموا الحرورية. وسموا أيضا الخوارج، لأنهم خرجوا على الجماعة، أو لعلهم هم الذين سموا أنفسهم بذلك أخذا من قوله تبارك وتعالي:

186

 

{{ومن يخرج من بيته مهاجرا الى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله}} وسموا أنفسهم الشراة أخذا من قوله جل وعز: {{ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله}} وكان الذي أثارهم أنهم رأوا عليا ومعاوية يقتتلان على الخلافة، كأن الأمر ليس أمر الله إنما هو أمر أشخاص، فثاروا على ذلك ثورة عنيفة اعتبروها جهادا في سبيل الله وسبيل دينه الذي يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر، وجاهدوا عليا، ولكنه نكل بهم في موقعة النهروان. ولم يلبث ابن ملجم المرادي أن قتله لينال رضا امرأة منهم (7). وتحولت مقاليد الخلافة الى معاوية فرأوا فيه إماما زائفا، وأخذت تتكون عقيدتهم بسرعة حول محور ثابت هو أن الخلافة ينبغي أن لا تحتجزها قريش لنفسها من دون المسلمين، فهي ليست حقا لقريش، إنما هي حق لله وينبغي أن يتولاها أكفأ المسلمين لها وخيرهم تقوي وورعا ولو كان عبدا حبشيا. ومضوا يعتقدون أنهم وحدهم الجديرون بوصف الإسلام، مؤمنين بأنه لا يتجاوز حدود معسكراتهم، ومؤمنين أيضا بأن من واجبهم أن يجاهدوا الجماعة التي ارتضت الأمويين وما ثبتوه من نظام الوراثة للخلافة في بيتهم. وكانت آراؤهم تعمل عمل السحر في كثير من النفوس، فانضم إليهم كثير من العرب والموالي والأتقياء. ونراهم يغمدون سيوفهم لأول عهد معاوية، ولكن لا تلبث طائفة منهم أن تخرج في الكوفة بقيادة المستورد بن علفة سنة 43 وسرعان ما يقضي عليهم. وتهدأ الكوفة حتي سنة 58 فتثور منهم جماعة بقيادة حيان بن ظبيان وينتظرهم نفس المصير، ولا يعودون بعد ذلك الى الظهور في الكوفة، إذ لم يكن بها جمهورهم الكبير.

بل كان في البصرة، وهي لذلك تعد مهد نشاطهم الأول. وقد تولي أمرها زياد ابن أبيه، فأخذهم أخذا عنيفا اضطروا معه الى الاستتار. وخلفه ابنه عبيد الله فمضي في سياسته، وعنف بهم، فأكثر من حبسهم وقتلهم، وكان ممن قتله من رجالهم عروة بن أدية ومن نسائهم البلجاء، ولم يلبث أبو بلال مرداس أخو عروة أن خرج في أربعين رجلا الى الأهواز سنة 58 فبعث إليه ابن زياد جيشا عليه ابن حصن التميمي عداده ألفان، غير أن الجيش هزم هزيمة نكراء عند «آسك» فقال رجل من بني تيم الله بن ثعلبة (8):

 

187

أألفا مؤمن منكم زعمتم … ويقتلهم بآسك أربعونا

كذبتم ليس ذاك كما زعمتم … ولكن الخوارج مؤمنونا

هم الفئة القليلة قد علمتم … على الفئة الكثيرة ينصرونا

وأرسل إليه ابن زياد جيشا آخر بقيادة زرعة بن أسلم العامري، فلم يكن حظه خيرا من حظ سابقه، حتي إذا كانت سنة 61 بعث إليه عباد بن علقمة فهزمه وقضي عليه. وقد تطايرت مع معاركه أشعار كثيرة.

وعاد الجيش المنتصر الى البصرة، فتصدي عبيدة بن هلال الخارجي ونفر معه لقائده فقتلوه غيلة، وأخذ كثير من الخوارج يدعو للاقتداء بأبي بلال في خروجه

شعرا (9) وغير شعر. وسمع فريق منهم بأن جيشا سيسير لابن الزبير في مكة، فخرجوا إليه ليعينوه ضد من سيهاجمونه هو والبلد الحرام.

وتوفي يزيد فرجع أهل الشام الى ديارهم، وانفض الخوارج من حول ابن الزبير، إذ رأوه لا يري رأيهم، وفي مقدمتهم نجدة بن عامر الحنفي ونافع بن الأزرق وعبد الله بن الصفار وعبد الله بن إباض. وذهبوا الى البصرة، وأخذوا يدعون لمحاربة السلطان، وساعدهم في شغبهم فرار عبيد الله بن زياد عقب وفاة يزيد الى الشام وانتقاض تميم وحلفائها على الأزد ومن آزرها. وانتهز نافع بن الأزرق الفرصة فخرج بجمع كبير من الخوارج الى الأهواز، وطرد منها عمال ابن زياد، وتخلف عنه نجدة بن عامر وابن الصفار وابن إباض، إذ رأوه يغلو في آرائه، وذلك أنه كان يري دار المسلمين دار كفر يجب الخروج عنها كما يجب تحريم ذبائحهم وميراثهم والتزوج منهم، وأيضا يجب قتلهم وقتل نسائهم وأطفالهم، وسلك ابن الأزرق معهم القعدة من الخوارج. وخالفه في كل ذلك الثلاثة الذين سميناهم فقد ذهبوا الى أن المسلمين ليسوا كفار دين لتمسكهم بالتوحيد والقرآن السنة، إنما هم كفار نعمة، ومن ثم بحل التزوج منهم كما يحل التوارث بينهم وبين الخوارج، وحقا يجب جهادهم ولكن لا يصح قتل أطفالهم، وأجمعوا

 

188

علي أن القعدة منهم ليسوا كفارا (10). ومضي نجدة بأصحابه الذين يسمون بالنجدات نسبة إليه فنزل اليمامة، وأعلن هناك الجهاد، أما عبد الله بن الصفار الذي تنسب إليه الصفرية، لصفرة وجوههم من أثر العبادة (11) فإنه لم يعلن الخروج، ومن أجل ذلك شاع القعود عن الجهاد بين أنصاره (12).

وقد انضم الى نافع بن الأزرق كثير من جموع الخوارج الذين دانوا برأيه، وهم يسمون الأزارقة نسبة إليه، وكان من بني حنيفة، إلا أن أكثر أنصاره كانوا من بني تميم، ولم يلبث أن جهز جيشا كبيرا اتجه به الى البصرة فخرج إليه مسلم بن عبيس في جيش ضخم، وما زال يدافعه حتي كانت وقعة دولاب على نهر دجيل في الأهواز وفيها قتل نافع ومسلم معا، وتوالت وقائع أخري قتل فيها عبد الله بن الماحوز خليفة نافع. وتصدي لهم المهلب في سولاف ثم في سلي وسلبري، وانسحب الخوارج الى الجبال بقيادة الزبير بن الماحوز، وهزمهم عمر بن عبيد الله بن معمر عند سابور، فانسحبوا الى أصفهان وكرمان وتعقبهم هناك عتاب بن ورقاء وقتل أميرهم الزبير فولوا عليهم قطري بن الفجاءة وتقدم بهم الى العراق، فوجه إليهم مصعب المهلب، فصدهم وما زال يناوشهم حتي قتل مصعب، وتحول الأمر الى بني أمية، فأرسلوا إليهم قوادا حالفتهم الهزائهم، حينئذ وجه إليهم بشر بن مروان المهلب عدوهم اللدود، وما زال يخضد من شوكتهم في رامهرمز وسابور وكرمان، وتعقبهم الى جيرفت، ولم يلبث أن دب الخلاف بينهم، وتحاربوا، إذ خرج على قطري جماعة كبيرة من صفوفه بزعامة ابن عبد رب، وكان أكثرهم من الموالي. ورأي قطري أن ينسحب بجموعه الى طبرستان، وبذلك قضي المهلب سنة 78 على عبد رب وأصحابه قضاء مبرما، وتعقبت جيوش أخري قطريا وصاحبه عبيدة بن هلال، وكللت جهودها بالنجاح،

 

189

وبذلك انتهت حروب الأزارقة التي استمرت نحو أربعة عشر عاما، وقد تطاير فيها شعر كثير (13).

وقد قلنا إن نجدة خرج بمن معه الى اليمامة، فأخضعها، كما أخضع البحرين وعمان، وساعده اضطراب شئون الدولة في عهد ابن الزبير على أن يتسع نفوذه في اليمن وجزيرة العرب. غير أن خلافا نشب بينه وبين بعض أنصاره، فولوا عليهم أبا فديك سنة 72 وقد هاجم البصرة مرارا، غير أنه هزم في سنة 73 هزيمة ساحقة قضت على دولة النجدات قضاء مبرما.

وشاع مذهب الصفرية في الموصل، وشاع معه القعود عن الخروج الى أن ظهر فيهم صالح بن مسرح، وكان من وعاظهم، فما زال يدبر للأمر حتي اجتمع حوله كثيرون، فخرج بهم في سنة 76 وأنزل بجيوش الحجاج هزائم متوالية، غير أنه لم يلبث أن قتل في إحدي الوقائع، فنهض خليفته شبيب بن يزيد ومعه زوجته غزالة وأمه جهيزة بمقارعة الحجاج مقارعة عنيفة حتي لقد قتل خمسة قواد أرسلهم إليه واحدا بعد واحد. ودخل في بعض غاراته مع زوجته غزالة على الحجاج في الكوفة، فهرع الى قصره، وتحصن به منه، وبذلك جلله بالعار. وفي إحدي حروبه نفر به فرسه فغرق في نهر دجيل سنة 77 غير أن ذكراه بقيت خالدة في ذاكرة الخوارج. وظل صفرية الموصل بعده لا يهدءون فقد تجدد خروجهم في عهد يزيد بن عبد الملك بقيادة شوذب، وقضت عليه جيوش الشام، وخرج بعده في عهد هشام بهلول بن بشر، وقضت عليه جيوش خالد القسري، وكان آخر ثوارهم الضحاك بن قيس الذي استولي على العراق في سنة 127 وبايعه عبد الله بن عمر بن عبد العزيز واليها وسليمان بن هشام وصليا خلفه فقال شبيل بن عزرة الضبعي (14):

ألم تر أن الله أظهر دينه … وصلت قريش خلف بكر بن وائل

وأرسل إليه مروان بن محمد ابنه عبد الله ثم نازله بنفسه فقضي على ثورته.

 

190

وظل أنصار عبد الله بن إباض المسمون بالإباضية نسبة إليه لا يتحركون، حتي ظهر من أتباعه في سنة 129 عبيد الله بن يحيي الملقب بطالب الحق في حضرموت فاستولي عليها وعلي اليمن، وجهز جيشا بقيادة أبي حمزة للاستيلاء على مكة والمدينة، واستولي عليهما غير أن جيشا أمويا لقيه في وادي القري وهزمه هزيمة ماحقة فر على إثرها الى مكة، وهناك لحقه الجيش وقتله، وتقدم هذا الجيش فقضي على عبيد الله بن يحيي وعاد الأمر الى نصابه.

وكان الشيعة طوال العصر يعارضون بني أمية جهرا وسرا، وكان مركزهم الكوفة كما قدمنا، ويضطر زياد بن أبيه الى العنف بهم كما مر بنا في غير هذا الموضع حتي إذا وجد أهلها الفرصة بعد وفاة معاوية كاتبوا الحسين ليذهب إليهم لأخذ البيعة، ويقبل الحسين فلا يخفوا الى نجدته، ويقتل في كربلاء، ويتحول قتله في نفوس الشيعة نارا حامية لا تزال تسيل عويلا وحرقا لاذعة (15). ثم تكون حركة التوابين بزعامة سليمان بن صرد، ويقضي عليها، ويبكيهم أعشي همدان في قصيدة طويلة كانت من المكتمات في أيام بني أمية (16).

ويتولي المختار بعد سليمان بن صرد قيادة الشيعة في الكوفة، فيخرج عنها والي ابن الزبير، ويدعو دعوة صريحة لابن الحنفية، وهو-كما أسلفنا-ابن لعلي بن أبي طالب من امرأة من بني حنيفة. وسرعان ما أخذت تتكون حول دعوته نظرية شيعية تسمي الكيسانية نسبة لمولي يسمي كيسان، وقيل بل كيسان هو المختار نفسه.

وتشترك هذه النظرية في الأسس التي قام عليها التشيع، وهي أن الرسول صلي الله عليه وسلم أوصي بالخلافة من بعده لعلي، فهي ليست مفوضة للأمة، بل هي تنتقل بالوصية في على وأبنائه المعصومين من الأئمة انتقالا طريقه النص. وزادت الكيسانية أفكارا غالية استمدتها من السبئية المنسوبين الى عبد الله بن سبأ، وكان

 

191

 

يغلو في تصور علي، حتي لقد زعم أن به قبسا إلهيا ورثه عن الرسول، وهو ينتقل من بعده في الأئمة واحدا تلو الآخر، وبذلك أشاع فكرتي الحلول والتناسخ، وأيضا فقد زعم أن عليا سيعود فيملأ الأرض عدلا وعلما ونورا، وبذلك وضع أسس فكرة الرجعة. ومضي يزعم أن الإمام لا يعلم علم الظاهر فحسب، بل هو يعلم أيضا علم الباطن لاطلاعه على أسرار الكون وخفايا المغيبات.

وكل هذه الأفكار انزلقت الى الكيسانية (17) وزاد المختار عليها شعوذات (18) كثيرة، من ذلك أنه كان يقول بالبداء على الله أي أن له أن يعدل في الأحكام كلما بدا له التعديل، تعالي الله عن ذلك علوا كبيرا. وإنما اعتنق هذا القول لأنه كان يدعي علم ما يحدث من الأحوال بوحي يوحي إليه، فكان إذا وعد أصحابه بحدوث شئ، فإن حدث جعله دليلا على صدق دعواه، وإن لم يحدث يقول:

قد بدا لربكم. وكان يزعم أن محمد بن الحنفية هو المهدي المنتظر الذي يخلص العالم من شروره، وكان يتكهن بالأسجاع، واتخذ لأشياعه كرسيا غشاه بالديباج وقال لهم: إنه من ذخائر أمير المؤمنين على بن أبي طالب، وهو منكم بمنزلة التابوت في بني إسرائيل. وكان يكثر من إرسال حمامات بيضاء على جيوشه زاعما أنها ملائكة تنزل عليهم من السماء، وفي ذلك يقول سراقة (19) البارقي وقد فر عنه (20):

ألا أبلغ أبا إسحاق أني … رأيت البلق دهما مصمتات (21)

كفرت بوحيكم وجعلت نذرا … على قتالكم حتي الممات

 

192

ويقول أعشى همدان (22).

شهدت عليكم أنكم سبئية … وأني بكم يا شرطة الكفر عارف

وأقسم ما كرسيكم بسكينة … وإن كان قد لفت عليه اللفائف (23)

وإن لبس التابوت فتنا وإن سمت … حمام حواليه وفيكم زخارف (24)

ولعل أهم فرقة شيعية بعد فرقة الكيسانية لهذا العصر هي فرقة الزيدية أتباع زيد بن على الذي ثار في الكوفة سنة 121 لعهد هشام بن عبد الملك، وقتل كما مر في غير هذا الموضع، وكان يؤمن بحقوق بيته في الخلافة غير أنه لم يكن يؤمن بالنص في الإمامة ولا ببقية الآراء الغالية عن الكيسانية وأشباههم، وكان يجوز إمامة المفضول مع وجود الأفضل وبذلك جوز إمامة أبي بكر وعمر مع وجود علي، وذهب الى أن كل فاطمي عالم زاهد سخي شجاع قادر على القتال في سبيل الحق يخرج للمطالبة به يصح أن يكون إماما. وبكل ذلك كانت فرقة الزيدية-في نشأتها-من أكثر فرق الشيعة اعتدالا (25)، وشاعرها الأول الذي عاش يردد نظريتها الكميت، وهاشمياته مطبوعة ومشهوره. وخرج بعد زيد ابنه يحيي ولكنه قتل سنة 125 دون غايته. وخرج من بعده عبد الله بن معاوية ابن عبد الله بن جعفر سنة 127 وانضم إليه كثيرون من أهل الكوفة، وانتهي أمره بخروجه الى بلاد الجبل ثم فراره وقتله. غير أن رايات الشيعة لا تلبث أن تقدم من خراسان، وتكون نهاية بني أمية.

ومن المحقق أن هذه الإنقسامات العنيفة في صفوف الأمة العربية لعصر بني أمية وما جرت إليه بين أبنائها من تطاحن ومعارك دامية جعلها تنتكس صورتين من الانتكاس: صورة سياسية إذ ظلت طوال هذا العصر مشغولة بفتن وحروب داخلية لو لم تشغل بها لفتحت أكثر العالم ولتغير وجه التاريخ.

وصورة اجتماعية إذ انقسم الشعب أحزابا وصفوفا تتحارب وتتناحر في سبيل

 

193

الحكم ومطامعه، ولو أنصفت الأمة لأخذت بنظرية الخوارج فأحق الناس بحكمها أصلحهم سواء أكان من البيت الهاشمي أو من البيت الأموي أو من أي بيت من بيوت العامة، فخير الأمة أنفعهم لإدارة شئونها ولو كان أبوه نجارا أو حدادا أو راعيا من الرعاة. ومن الغريب أنهم أهملوا التفكير في المصلحة العامة للشعب وما ينبغي أن يسوده من عدالة اجتماعية ومضوا يفكرون في الخلافة ومن أحق بها من سواه، وكأنما انقلبت الوسيلة غاية، تسفك من أجلها الدماء.

وفي كل الأحداث التي قدمناها سواء منها ما يتصل بالشيعة والخوارج وثوراتهما وما يتصل بأشراف العرب وثوراتهم على الأمويين تروي كتب التاريخ أشعارا كثيرة، إذ كان الشعر يجري على كل لسان، واتخذه الأمويون وخصومهم أداة للتعبير عن آرائهم السياسية المختلفة.

 

 

 

_________

(1) طبري 4/ 368.

(2) طبري 4/ 370 وراجع كلمة حرة في معجم البلدان لياقوت.

(3) أغاني 1/ 15 وانظر 12/ 71 وما بعدها.

(4) انظر الأغاني 6/ 33 وابن سلام 530 والطبري 4/ 592، 5/ 9 وما بعدها.

(5) اليعقوبي 2/ 262.

(6) طبري 5/ 338 وما بعدها.

(7) الكامل للمبرد (طبعة رايت) ص 549.

(8) طبري 4/ 222 وانظر الكامل ص 588.

(9) الكامل ص 590، 595.

(10) الكامل ص 610 - 615 وانظر الفرق بين الفرق للبغدادي 62 وما بعدها والشهرستاني (طبعة لندن) ص 90، 93، 100 - 102 وما بعدها حيث تجد تفصيلا لآراء هذه الفرق.

(11) الكامل ص 615.

(12) نفس المصدر ص 615 والشهرستاني ص 102.

(13) انظر الكامل للمبرد ص 617 - 703.

(14) البيان والتبيين 1/ 343 وانظر في الأحداث الطبري في مواضع متفرقة من الجزء الخامس وكذلك الكامل للمبرد.

(15) انظر الطبري في حوادث سنة 61 ومقاتل الطالبيين لأبي الفرج الأصبهاني (طبع الحلبي) ص 106 وما بعدها ومعجم الشعراء للمرزباني ص 126.

(16) طبري 4/ 472.

(17) انظر الفرق بين الفرق للبغدادي ص 34 والملل والنحل للشهرستاني ص 109.

(18) الملل والنحل ص 109 - 111.

(19) انظر في ترجمة سراقة الطبري 4/ 526 وما بعدها والأغاني (طبع دار الكتب) 8/ 13، 68، 9/ 13 وابن عساكر 6/ 69 والأخبار الطوال للدينوري ص 300 وقد نشر ديوانه في القاهرة بتحقيق حسين نصار.

(20) طبري 4/ 527 وأغاني 9/ 13.

(21) البلق: الحمامات. مصمتات: لا يخالط دهمتها لون آخر.

(22) الحيوان 2/ 271.

(23) يشير الى الآية الكريمة التي كان يقصدها المختار في اتخاذ كرسيه: (وقال لهم نبيهم إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم).

(24) فتن: جمع فتان وهو الغشاء.

(25) أنظر في الزيدية وعقيدتهم الملل والنحل ص 115.

 

 شعار المرجع الالكتروني للمعلوماتية




البريد الألكتروني :
info@almerja.com
الدعم الفني :
9647733339172+