Logo

بمختلف الألوان
في وطنٍ تئنُّ روحه من ثِقل الأيام، وتتوقُّ أجياله إلى فجرٍ يمحو ظلام اليأس، انبعث نورٌ من قلب مدينة مقدسة، نورٌ يملأ الوطن ضياءً، وأيدٍ أمينة تعانق آماله واحلامه. سطع نور العتبة العباسية المقدسة، التي لطالما كانت مَوئِلاً للعلم والمعرفة، لتتجاوز دورها الديني وتصبح حاضنة حقيقية للطاقات الشابة،... المزيد
أخر المواضيع


مرحبا بكَ زائرنا العزيز
نتمنى أن تكون في تمام الصحة والعافية

تحذير! هل انت متأكد من حذف هذا المقال مع الردود عليه ؟
الإمارات بين بريق الأبراج وفراغ الإنسان

منذ 4 شهور
في 2025/08/13م
عدد المشاهدات :2456
الإمارات بين بريق الأبراج وفراغ الإنسان
الأستاذ الدكتور نوري حسين نور الهاشمي
13/8/2025

لا يختلف اثنان على أن دولة الإمارات العربية المتحدة قد حققت نهضة عمرانية مبهرة، تجسدها أبراجها الشاهقة التي تناطح السحاب، وشوارعها العصرية الممتدة كخيوط ضوء، وتقنياتها المتقدمة التي تضيء موانئها ومطاراتها، وتدير مؤسساتها عبر أنظمة إلكترونية حديثة لا تعرف التعقيد. هذه الصورة البراقة التي تعرضها للإقليم والعالم، تعكس نجاحًا في مجالات شتى، من البنية التحتية إلى الترفيه والخدمات، لتجعل من الإمارات نموذجًا يتطلع كثيرون إلى محاكاته في المنطقة.
غير أن بريق الحجر والمعدن يثير سؤالًا لا يقل أهمية، بل ربما يفوقه وزنًا في ميزان التنمية الحقيقية: ماذا عن الإنسان الإماراتي
ذلك المواطن الذي يفترض أن يكون جوهر هذه النهضة وقلبها النابض، الغاية التي من أجلها تُشيّد المدن، وتُدار الاستثمارات، وتُبنى الجسور المادية والمعنوية. فالتنمية التي تكتفي بإبهار العيون دون أن تغذي العقول وتنهض بالإنسان، تبقى قاصرة عن بلوغ معناها الكامل، مهما بلغ جمال واجهتها.
منذ قيام الدولة عام 1971، بدا أن مسار السلطة يمضي في اتجاه يثير التساؤل، إذ انشغلت عن وعي أو عن غير وعي بتجريد المواطن الإماراتي من مضمونه الحضاري والإنساني، وتحويله تدريجيًا إلى مجرد مستهلك سلبي، يتلقى الخدمات ويعيش في رفاهٍ مموّل، دون أن يُمنح المساحة الكافية ليكون فاعلًا أو مبدعًا أو مشاركًا حقيقيًا في صياغة مصير بلاده.
فالجامعات والمدارس، والمستشفيات والمراكز العلمية، بل وحتى المؤسسات الأمنية والعسكرية، أصبحت في معظمها تدار بعقول أجنبية وأيدٍ وافدة، بينما ينحصر دور المواطن في مواقع الإشراف الرمزية، أو المناصب البروتوكولية التي تكتفي بالحضور دون الفعل، والمراقبة دون المشاركة الجوهرية. وهكذا، انحصر دوره في الاستهلاك والاعتماد على الآخر، بدل أن يكون شريكًا في صناعة المعرفة وإنتاج الخبرة.
لقد أُغدقت عليه وسائل الراحة، لكن هذه الراحة المفرطة صارت غطاءً رقيقًا يخفي تحتها حالة من العزلة عن مجالات الإبداع، وانفصالًا تدريجيًا عن ديناميكية التطوير الذاتي. وكأن رفاهه أضحى سجنًا مخمليًا، يقيّده في دائرة التلقي بدل أن يدفعه إلى خوض غمار البناء والمنافسة.
ولم يكن من المستغرب، في ظل هذا المسار، أن تخلو الجامعات الإماراتية من مراكز بحثية عالمية الطراز، أو من مختبرات علمية تصنع المعرفة بدل أن تستهلكها. فالمؤسسات الأكاديمية التي يفترض أن تكون منارات للإبداع، تحولت إلى قاعات تلقين تعتمد على مناهج مستوردة، وكفاءات غير إماراتية، بلا تراكم علمي حقيقي يُراكم على خبرات الأجيال السابقة.
وبالمثل، توقفت المراكز الطبية عن تقديم ابتكارات نوعية أو علاجات متقدمة تحمل بصمة محلية، فغابت المبادرات الطبية الرائدة، واقتصر دورها على استيراد التقنيات وتطبيق البروتوكولات التي يضعها الآخرون. وعندما دقت أزمة جائحة كورونا ناقوس الخطر، وجدت الإمارات نفسها مضطرة للعودة إلى الخارج وتحديدًا إلى الصين طلبًا للقاحات، في مشهد كشف هشاشة البنية البحثية والاعتمادية المفرطة على المنجزات المستوردة.
لقد عكست تلك اللحظة أن النهضة العمرانية وحدها، مهما بلغت من الفخامة، لا تكفي إذا لم تواكبها نهضة علمية وصحية تجعل الدولة قادرة على الاكتفاء الذاتي في أوقات الشدّة.
المواطن الإماراتي، في غالبه، يعيش حالة فراغ إنساني مقلقة؛ فراغ سلب منه القدرة على الإحساس الصادق بمعاناة الآخرين، حتى في أبسط صورها. فقد انكفأ على ذاته، وغرق في دوامة الرغبات الشخصية والرفاه الاستهلاكي، حتى صار لا يرى أبعد من حدود محيطه الضيق، ولا يكترث بما يدور خارج دائرة مصالحه المباشرة. وهذه ليست مجرد حالة فردية عابرة، بل هي نتاج سنوات من السياسات التي عملت على إفراغ الوعي من كل مضمون إنساني، وتجريد الانتماء من أبعاده الأخلاقية والقيمية.
ومن هنا يمكن فهم موقفه البارد، بل واللامبالي، تجاه المآسي التي يشهدها العالم من حوله، وأشدها وقعًا وأقساها على الضمير الإنساني: ما يحدث في غزة. هناك، حيث يقف أطفال حفاة في مواجهة آلة حرب لا ترحم، وحيث تمطر السماء صواريخ، وتتحول البيوت إلى ركام، وتختلط دماء الشهداء بتراب الأرض التي ما زالت تعانق جذور الزيتون. ومع ذلك، يظل كثير من المواطنين في الإمارات يمرون على هذه المشاهد مرور العابر الذي لا يعنيه الأمر، وكأنها مجرد لقطات في نشرة أخبار عابرة، لا حياة فيها ولا موت.
الأدهى من ذلك أن هذا الصمت المريب يتزامن مع مسار تطبيع سياسي واقتصادي وأمني مع الكيان الصهيوني، مسار تتبناه السلطة الحاكمة علنًا، دون أن يثير في نفوس معظم المواطنين موجة غضب أو حتى تساؤل أخلاقي. وكأن الحصار الخانق على غزة، ومجازرها المتكررة، لا تكفي لتحريك الضمائر أو زعزعة ركونهم إلى حياة مرفهة صامتة.
إن المأساة هنا ليست فقط في فقدان القدرة على التعاطف، بل في قبول هذا الفقدان كأمر عادي، وفي التكيف مع واقع تصبح فيه المصلحة الفردية أسمى من المبدأ، والصمت أثمن من الكلمة، حتى لو كانت الكلمة هي آخر ما تبقى للدفاع عن المظلوم.
هذا الفراغ الروحي والإنساني لا يمكن أن تملأه ناطحات السحاب، ولا أن تستره واجهات المشاريع الترفيهية الفاخرة. فالقصر مهما بلغ ارتفاعه، والبرج مهما لمع بريقه، لا يعوض غياب القيم التي تمنح الإنسان معنى لوجوده. بل إن ما يُسمى بـ"الاستثمار الناعم" المتمثل في حفلات الترفيه الصاخبة، ومهرجانات المجون، وتصدير ثقافة اللهو يشكل في جوهره أداة استراتيجية مدروسة، غايتها إجهاض أي يقظة للوعي الوطني أو الأخلاقي، واستبدال منظومة القيم الأصيلة بثقافة استهلاك وانحلال، تُشغل الناس عن قضاياهم المصيرية، وتبقيهم في دائرة اللهو الدائم.
إنها سياسة لا تعمل على بناء إنسان قادر على التفكير أو الإبداع، بل على إنتاج أجيال غارقة في الفردية، تلهث وراء متع عابرة، وتُقاس قيمتها بقدرتها على الاستهلاك لا على الإسهام. وهذا ليس مجرد عرض جانبي للترف، بل هو هدف في حد ذاته؛ إذ أن السلطة التي تُبقي شعبها في حالة من الغفلة الدائمة، تضمن بقاء مقاعد الحكم بعيدة عن أي تهديد من الداخل.
وليس هذا النهج حكرًا على الإمارات وحدها، بل هو سمة مشتركة في ما يُعرف بدول مجلس التعاون الخليجي. ففي هذه الدول، تُسخَّر ثروات هائلة هي في الأصل ملك للشعوب من أجل مشاريع تُفرغ هذه الشعوب من القدرة على التغيير أو المقاومة، وتبني جدارًا من التبعية والرضوخ حول أنظمة الحكم. وهكذا، تتحول الثروة من وسيلة للنهضة إلى أداة للسيطرة، ومن فرصة للتقدم إلى قيد يقيّد حركة الإنسان ويعطل إرادته.
ولو افترضنا مجرد افتراض أن أزمة كبرى باغتت هذه الدول، كحرب مفاجئة أو اضطراب داخلي واسع، فإن هشاشة بنيتها السكانية والاجتماعية ستنكشف على الفور، لتسقط مظاهر الرفاه المعلّقة على خيوط الاستيراد والاعتماد الخارجي. فالمجتمع الذي بُني على ثقافة الاستهلاك الخالص، واستورد كل مقومات حياته من عقول وأيدٍ أجنبية، سيجد نفسه في مواجهة فراغ هائل، حيث تتوقف الخدمات في ساعات معدودة، وتتعطل المرافق التي كانت يومًا مفخرة إعلامية.
وفي تلك اللحظة، سيكتشف المواطن الذي اعتاد أن تُنجز له كل أمور حياته بيد غيره أنه وحيد في ساحة مفتوحة على التحديات، عاجز عن تدبير أبسط احتياجاته أو الدفاع عن أمنه وكرامته. إنها النتيجة الحتمية لمجتمع جُرّد من أدوات الاكتفاء الذاتي، وأُبعد عن ميادين الإنتاج الفعلي، حتى صار كالبناء الفخم المقام على أرض رخوة، ينهار مع أول زلزال يهز أساساته.
هذه الحقيقة القاسية تختبئ خلف بريق الأبراج المذهّبة وأضواء النوافير الراقصة، لتغطي على واقع شبابي مقلق. فالشاب الإماراتي، في شريحة واسعة منه، يعيش بلا بوصلة، يشبه في مجاز قاسٍ البهيمة التي تقتل الوقت بلا هدف، غارقًا في دوامات الانحرافات والمخدرات، بعيدًا عن ميادين العطاء والبناء. وهي صورة يجد صداها في وصف الناقد أمين بغداد السابق "زرق ورق"، الذي جسّد حالتها من الضياع الروحي والثقافي، كصفحة تلمع ألوانها من الخارج بينما داخلها فارغ من المعنى.
إن النهضة الحقيقية لا تُقاس بعدد الأبراج ولا بأحدث التقنيات، بل تُقاس بالإنسان الذي يقف خلفها: الإنسان القادر على الإنتاج، الواعي بحاضره، الحالم بمستقبله، الممسك بزمام أمره لا التابع لغيره. هو الإنسان الذي يبني مجتمعه بعمله وفكره، ويحميه بثقافته ووعيه.
وأي نهضة تخلو من هذا الإنسان الحي الفاعل ليست سوى سراب يتبدد مع أول ريح تعصف به. فالتقديس لا ينبغي أن يُمنح للأشكال المبهرة الفارغة، بل للجوهر الإنساني الذي يشكل روح الأمة وكرامتها، لأن الأمم تُحفظ بإنسانها قبل عمرانها، وبقيمها قبل أبنيتها.
وهنا، تفرض الضرورة وقفة ناقدة جريئة، تتجاوز المجاملة وتواجه الحقيقة كما هي، لتعيد النظر في السياسات التي سمحت لهذا الفراغ الإنساني أن يتمدد ويتجذر. وقفة تدعو إلى إعادة تمكين المواطن ليكون فاعلًا أصيلًا في معادلة بناء وطنه، لا مجرد متفرج يستهلك ما يصنعه الآخرون.
إن المستقبل الحقيقي لا يُبنى على بريق الزجاج والخرسانة وحدهما، بل على أسس راسخة من الوعي العميق، والإنتاجية المستدامة، والقيادة الوطنية المؤهلة. فإذا غابت هذه الأسس، فإن الأبراج المبهرة
لا تعدو كونها قشورًا تخفي تحتها هشاشة البنيان، وزينةً سرعان ما تتساقط أوراقها عند أول اختبار حقيقي. وحينئذ، لن تُنقذ صور المدن اللامعة في نشرات السياحة، ولا الحملات الدعائية المكلّفة، واقعًا فقد عمقه الإنساني، وتحوّل إلى مشهد صامت فاقد للروح.
إن بناء الإنسان قبل البنيان ليس شعارًا إنشائيًا، بل هو القاعدة الذهبية التي قامت عليها نهضات الأمم الحقيقية. والإنسان الذي يحمل وعيًا، وينتج معرفة، ويحمي قيمه، هو الضمانة الوحيدة لاستمرار أي حضارة، مهما تغيّرت الظروف وتعاقبت الأجيال. أمّا حين يُهمَّش هذا الإنسان ويُستبدل بالاعتماد على الغريب، فإن كل ما شُيّد يصبح مهددًا بالزوال، مهما ارتفع في السماء أو لمع في الأعين.
إن مستقبل الإمارات، بل ومستقبل أي أمة، لن يُصان بزخارف العمران ولا بأرقام الناتج المحلي، بل بإنسانٍ حرّ الوعي، متمكّن من أدواته، مؤمن بقيمه، قادر على الفعل لا الاكتفاء بالمشاهدة. فالأبراج قد تنهار، والواجهات قد يبهت لونها، لكن الإنسان الحيّ الواعي إذا وُجد، أعاد البناء وأحيا الروح، أما إذا غاب، فلن تبقى إلا أطلال يرويها التاريخ على أنها قصة ازدهار قصير العمر.

اعضاء معجبون بهذا

الغرفة الزجاجية بين الصخب الإعلامي وظلال الحقيقة
بقلم الكاتب : وائل الوائلي
في زمنٍ صار فيه الضوء يُسلَّط حيث الضجيجُ أعلى، لا حيث الحاجةُ أعمق، بتنا نشهد مشاهد إنسانية تُقدَّم على هيئة عروضٍ استعراضية، غرفٌ زجاجية تُشيَّد كأنها معابد عصرية للترند، لا يُعرَف من يديرها، ولا إلى أين تذهب الأموال التي تُسكَب عند عتبتها، ولا بأي روحٍ تُستثمر دموعُ الفقراء على منصاتها... المزيد
المزيد من المقالات الإجتماعية

المزيد من المقالات الثقافية

الْتَّضَارِيْسُ إِنَّ الْـعُـيُوْنَ الَّـتِـيْ سَـالَـتْ تُـوَدِّعُـكُمْ ... المزيد
كان اسمها (زينب)  ويقال إن للإنسان نصيبا من اسمه،وهي كذلك،ترتدي الخُلق وتنطق... المزيد
ونحنُ في المشتاةِ ندعو الجَفَلَىٰ لا تُرى الآدِبَ فينا يُنتَقَرُ طرفة بن العبد... المزيد
مازلتُ غريقا في جيبِ الذكرياتِ المُرّةِ، أحاولُ أن أخمدها قليلا ؛لكنّ رأسها... المزيد
رُوَّادُ الولاء : شعراء أضاءوا بالحقِّ فطُمِسَ نورُهم لطالما تهادت على بساط... المزيد
في قريةٍ صغيرةٍ محاطةٍ بجبالٍ شاهقة، عاش رجلٌ يدعى هشام، معروفٌ بحكمته وطيب قلبه،... المزيد
في فضاءات القصيدة العراقية، ينهض فالح حسون الدراجي كصرحٍ شعريٍّ نادر، يُجسّد آلام أمةٍ...
في زاوية السوق، جلس رجل أشيب، يضم كفيه الفارغتين إلى صدره كمن يحمي كنزًا لا يُرى. كان اسمه...
حين نتحدث عن الأجناس الأدبية التي تتصدر المشهد الثقافي العربي عامة، والعراقي خاصة، نُشَخِّص...
في رحاب الكاظمية المقدسة، وُلد جابر بن جليل كرم البديري الكاظمي عام 1956، ليكون نجمًا متألقًا...


منذ 4 ايام
2025/12/05
هي أنهار تجري على السطح ثم تدخل إلى شقوق أو فتحات موجودة في الصخور، فتغوص داخل...
منذ 6 ايام
2025/12/03
سلسلة مفاهيم في الفيزياء الجزء التاسع والسبعون: اللحظة التي لا تعرفها الفيزياء:...
منذ اسبوعين
2025/11/28
الضمير: قراءة علمية في ماهية صوت الإنسان الداخلي الأستاذ الدكتور نوري حسين نور...