هي تشكيلات جبلية تبدو للعين مجرّدة من أي ممرات مائية سطحية، فلا تظهر عليها أودية ولا شعاب ولا مسارات سيول، رغم أنها تتعرّض لنفس الأمطار التي تهطل على الجبال المحيطة بها. هذا السلوك الغريب يجعلها تبدو كأنها جبال “مغلقة” أو “عمياء” لا ترى الماء ولا تسمح له بالجريان فوق سطحها، بينما الحقيقة أن الماء لا يختفي، بل يتسلل بسرعة إلى داخلها ، وسر هذه الجبال يكمن في نوع صخورها وتركيبها الداخلي ، فهي غالباً تتكوّن من الحجر الجيري أو الدولوميت أو الجبس، وهي مواد قابلة للذوبان ببطء عندما تتعرض لمياه ممزوجة بثاني أوكسيد الكربون ، وهذا الذوبان يخلق عبر الزمن شبكة من الشقوق والفراغات والأنفاق الصغيرة التي تتحوّل لاحقاً إلى أنظمة جوفية واسعة. وهكذا، عندما تهطل الأمطار، لا تجد الماء على السطح طريقاً للجريان، بل يمر مباشرة عبر الشقوق وينحدر إلى باطن الجبل.
مع مرور آلاف السنين، تتسع هذه الممرات الجوفية وتتحول أحياناً إلى كهوف وأنفاق حقيقية، فيصبح الجبل من الداخل ممتلئاً بمسارات مائية، بينما يبدو من الخارج صامتاً لا يحمل أي أثر لمياه أو سيول. لذلك تبدو الجبال العمياء جافة وخالية من الوديان، رغم أنها قد تحتوي تحت سطحها على أنهار جوفية تتحرك ببطء من مكان لآخر، بل قد تخرج فجأة على شكل ينابيع في مناطق بعيدة، مما يجعل الماء الذي سقط على الجبل يظهر في مكان آخر تماماً.
وتتميّز هذه الجبال بأن سطحها يصبح غير مستقر في بعض مناطقها، لأن الفراغات الداخلية قد تتوسع إلى حد يسبب انهيارات أرضية مفاجئة أو تشكّل حفر عميقة تهبط بسبب فراغ تحته، وهذا يحدث كثيراً في المناطق الكارستية حول العالم ، كما أنها تشكل بيئة جيولوجية حساسة، فالماء الذي يخترقها قد يحمل معه الملوثات إلى جوف الأرض دون أن يمر بمراحل ترشيح طبيعية، لذلك تُعد المناطق التي تحتوي جبالاً عمياء مناطق حساسة من ناحية حماية المياه الجوفية.
وهذه الجبال لا تُفهم من النظر إليها فقط؛ بل تحتاج إلى مسوحات جيولوجية وجيوفيزيائية ورادارات تخترق التربة لتمييز الفراغات، لأن شبكاتها الداخلية أحياناً تمتد لعشرات الأمتار تحت السطح. ولأنها تخفي داخلها سجلاً طويلاً من التغييرات المناخية القديمة، فإن الكهوف المرتبطة بها قد تحتوي على ترسبات رسوبية دقيقة تُستخدم اليوم في دراسة المناخ القديم ومعرفة الفترات التي مرّت بها المنطقة بين رطوبة وجفاف.
وباختصار، الجبل الأعمى يبدو ككتلة جبلية صامتة خالية من الحياة المائية على سطحها، لكنه في الداخل شبكة معقدة من الأنفاق والممرات، تجمع الماء وتعيد توزيعه بصمت وهو جبل بلا عيون على السطح لكنه ممتلئ بالأسرار في العمق.
والجبال العمياء تُعدّ نتاجاً مباشراً لعمليات التعرية والتجوية التي تعمل على سطح الصخور لمدة زمنية طويلة جداً، وقد تترافق هذه العمليات مع عوامل جيومورفولوجية أخرى تجعل الجبل يفقد شكله الحاد ويصبح ملساء ومن وهذه العوامل :
1ـ التجوية (Weathering)
وهي تفكك الصخور بفعل عوامل مثل:
ـ التجوية الفيزيائية: مثل تمدد الصخور بسبب تغير درجات الحرارة، أو تجمد الماء داخل الشقوق.
ـ التجوية الكيميائية: مثل تفاعل الأمطار الحامضية مع المعادن، مما يؤدي إلى ذوبان بعض العناصر ونعومة سطح الصخر.
هذه العمليات تُضعف الصخور وتفككها تدريجياً، مما يجعل سطح الجبل يصبح أرشق وأكثر قابلية للتآكل.
2ـ التعرية (Erosion)
هنا تبدأ عملية إزالة الأجزاء المتفتتة من الصخور بفعل:
ـ الرياح القوية التي تنقل الرمال وتقوم بنحت الصخور مثل آلة نَحْت طبيعية.
ـ مياه الأمطار والسيول التي تقطع من الجبل طبقات صغيرة بفترات طويلة.
ـ الأنهار أو الجليد في بعض المناطق عندما يكون هناك نشاط جليدي.
3ـ التركيب الصخري
الجبال التي تتكوّن من صخور رسوبية أو صخور ضعيفة مثل الطين والحجر الجيري تتحول بسهولة أكبر إلى جبال عمياء، لأن هذه الصخور أكثر قابلية للتآكل من الصخور النارية الصلبة.
4ـ الاستقرار التكتوني
إذا كان المكان بعيداً عن الزلازل وحركات الصفائح، فإن الجبل لا يتجدد أو يرتفع، مما يعطي الوقت للتعرية كي تسوي قمته وتفقده شكله الحاد.
وهذه بعض أمثلة واضحة عن الجبال العمياء:
١) جبال الحجر – سلطنة عُمان والإمارات
هذه الجبال عالية ولكن لا تخرج منها أنهار دائمة، لأن طبيعتها كارستية (كلسية) تسمح بتسرّب المياه إلى باطن الأرض ، حيث ان المطر ينزل، لكن الماء يختفي داخل الصخور، فيبدو الجبل كأنه أعمى مائياً.
٢) جبال الكارست – صربيا والبوسنة والهرسك
هذه المنطقة مثال عالمي لظاهرة الجبال العمياء ، ومياه الأمطار تدخل الشقوق والفجوات العميقة، وتتشكل أنهار تحت الأرض بدل أنهار فوقها.
٣) جبال الأناضول الداخلية – تركيا
بعض أجزاء الأناضول جبال مغلقة التصريف، خصوصاً القريبة من الحوض الداخلي قونية، حيث تتجمع المياه في بحيرات داخلية ولا تخرج إلى البحار.
٤) جبال تيان شان – آسيا الوسطى
في بعض مناطقها الداخلية، الثلوج تذوب لكن المياه لا تصل للبحر، بل تتجمع في أحواض مغلقة مثل بحر آرال سابقاً.
٥) المرتفعات الداخلية في إيران (جبال زاغروس الشرقية)
بسبب الطبيعة الجافة والتصدعات، المياه تتسرب بسرعة ولا تتشكل أنهار دائمة، فتبدو الجبال “عمياء” من ناحية التصريف الخارجي.







وائل الوائلي
منذ 1 يوم
"المهمة".. إصدار قصصي يوثّق القصص الفائزة في مسابقة فتوى الدفاع المقدسة للقصة القصيرة
(نوافذ).. إصدار أدبي يوثق القصص الفائزة في مسابقة الإمام العسكري (عليه السلام)
قسم الشؤون الفكرية يصدر مجموعة قصصية بعنوان (قلوب بلا مأوى)
EN