"هنا الآن في العراق تؤسَّسُ حضارةٌ وتُكتب بالدّم، والحضارة التي تمتزج ما بين التراب والدم حقيقةً تكون هذه العجينة عجينة خاصّة، فعجينة الدم مع التراب أقوى من عجينة بعض المواد مع التراب، وهذا يحتاج الى التركيز والاهتمام".
هذا ما بيّنه المتولّي الشرعيّ للعتبة العبّاسية المقدّسة سماحة السيد أحمد الصافي(دام عزّه) خلال الكلمة التي ألقاها في حفل افتتاح مؤتمر الكفيل الدولي للمتاحف الذي انطلقت فعاليّاته اليوم الخميس (15 ذي الحجّة 1438)هـ الموافق لـ (7 أيلول 2017م).
وكانت كلمة سماحته بمحورين، الأوّل سلّط الضوء فيه على نقاط عدّة أبرزها:
1- المتاحف هي عبارة عن إطلالة قد تكون مختصرة، ونافذة منها يطلّ على عمق التاريخ، وهذه الإطلالة هي قراءة تكون مركّزة ومختصرة لمجموعة من الصراعات، وهذه الصراعات تركت آثاراً كبيرة وكثيرة وواسعة بحجم الإرث الحضاري لكلّ دولة بالتقسيمات الحديثة.
2- الدول سابقاً كانت عبارة عن أراضي واسعة وقد تكون القوّة هي التي تحكم، وبالنتيجة تولّدت عندنا هذه الشواخص الحضارية التي يُمكن من خلالها أن نقرأ ما جرى على هذه الأرض، إذ لولاها لكان بعض ما يصل الينا يفتقر الى الدليل أو التشخيص العلميّ الوجداني.
3- إنّ قراءتنا للتاريخ تارةً تكون في كتاب وتارةً تكون في شواخص خارجيّة اهتمّ بها أو اهتمّت بها الأمّة.
4- إنّ هذا المتحف الموجود في العتبة العبّاسية هو متحف غير مختصّ بنشاط العتبة العبّاسية، بمعنى أنّ القائمين على المتحف منفتحون على كلّ ما له من شأن سواء كان متعلّقاً بالعتبة أو بالعراق أو بخارجه.
5- المشكلة عندنا في العراق مشكلة مهمّة وتحتاج الى حلّ، وهي أهميّة المتاحف وضرورة المحافظة على الإرث، وعلى من هو في موقع المسؤولية أن يتحمّل مسؤوليّته تجاه هذه المشكلة وإيجاد الحلّ لها.
6- نحن في العراق نعاني من أزمة الفهم من بعض المتصدّين لمسألة الإرث الحضاريّ، تارةً نحن نعيش أزمة حضارة، والعراق لا يعيش أزمة حضارة، فعمقه الحضاريّ عميق جدّاً ومن أوائل الدول في العالم.
7- بعض المتصدّين يُعاني من فهم الاهتمام بهذا الإرث الحضاريّ وإعطائه الأولويّة.
8- عنوان هذا المؤتمر ربط المسألة بمسألة الاقتصاد، لماذا؟ اليوم كلّ دولة في العالم تتنافس في أن تظهر حسنها للآخرين، وتتنافس دول العالم على إظهار هذا الحسن ولسان حالها يقول: هلمّوا اليّ وتعالوا وزوروا وتفسّحوا في هذا البلد.
9- عندما نأتي نصنّف العراق في المنظومة التاريخيّة يكون العراق في المرتبة الأولى، وعندما نصنّف العراق في الاهتمام بالمنظومة التاريخيّة يكون العراق في المراتب المتأخّرة.
10- هناك تناقض بين ما هو موجود وما نقرأه، فعندما نأتي الى الرُّقم الطينيّة والشواخص والشواهد وأقدم النصوص عندما نقرأها نجد أنّ ساحتها كانت في العراق، وعندما نأتي نريد أن نرى هذه النصوص على أرض الواقع حقيقةً نخجل أن نظهرها للآخرين، لأنّها غير موجودة على أرض الواقع.
11- صراعات العراق تختلف عن باقي الصراعات، فمنذ تأسيس الدولة العراقيّة والى اليوم نحن نُعاني من مشاكل كبيرة، لكن هذا لا يعني البكاء ولا يعني الوقوف ولا يعني اليأس، وإنّما هذا يعني لابُدّ أن نتحمّل المسؤولية وأن نعمل وكأنّنا في وقت طوارئ، إذا كان الآخر يعمل ستّ ساعات يوميّاً فعلينا أن نعمل اثنتي عشرة ساعة يوميّاً حتّى نستطيع أن نتجاوز ما مضى ونحاول أن نرمّم هذا الصدع الذي حدث.
12- ابتُلينا بفتنة الدواعش الذين لا يفقهون ولا يحترمون شيئاً، لا يحترمون البشر ولا الحجر، وفعلوا ما فعلوا قتلاً وهدماً، هنا يُذبح وهنا يُهدم، نحن مسؤولون هنا من خلال هذا المؤتمر والذوات له مواقع مهمّة، في أن نلملم ما دمّروه وخرّبوه.
13- هناك مسؤوليّة تقع على عاتق الجميع ألا وهي لابُدّ أن نهتمّ بتراثنا، فالإنسان يلجأ للمتحف من باب إنقاذ ما يُمكن إنقاذه حتّى يأتي بهذه الأشياء ويطلّ بها على العالم، ويقول للعالم: أيّها الزائر هذا ما عندنا وله جذوره.
14- العراق يضمّ واحداً وعشرين ألف معلمٍ حضاريّ وتراثيّ وهذا رقمٌ كبير، لكنّ هذه المعالم تحتاج الى جهد من أجل إبرازها، وهناك معالم كثيرة لم يتمّ الكشف عنها وما زالت تحت التراب، من مدن وحضارة لم يكشف النقاب عنها الى الآن لسببٍ أو لآخر، فنحتاج الى همّة وجهد وتفاعل مع جميع الإخوة المعنيّين في هذه المسألة متحفيّاً أو تراثيّاً.
15- نحن في العتبة العبّاسية المقدّسة بدأنا وحاولنا أن نفتح باباً في العتبات للمتاحف، وكان عندنا خزينٌ جيّد، واستعنّا بالإخوة في المتحف الوطني وبعض الإخوة من خارج العراق، وبدأنا بصيانة وتحصينات وتعديلات على ما موجود لدينا، لأنّ السابق كان في طيّ الإهمال، ولعلّ البعض تلف أصلاً ولعلّه بيع بأثمانٍ زهيدة جدّاً لعدم الاكتراث به أصلاً.
16- مشكلة العالم مع الجاهل تبقى مشكلة أزليّة، الجاهل يحاول أن يغطّي جهله بتدمير العلم والعالم فيحاول أن يكون هذا النقص فيرميه على العالم، فكم من حضارة أُبيدت وكم من كتابٍ تلف، ولحدّ أكثر من عشرين أو ثلاثين سنة هنا في هذه المدينة، شاهدنا بعض الجنود ممّن دخل هذه المدينة عنوةً وبدأوا بإحراق المخطوطات والكتب لغرض الاستئناس بذلك، وهذا الجهل عادةً يبقى ولا تنتهي الأرض من جاهل كما لا تنتهي من عالم إن شاء الله.
17- نحيّي في الإخوة الحاضرين روح المشاركة وروح البحث التي تؤكّد على ضرورة الاهتمام، فهذه البحوث لابُدّ أن تُعطى لمن بيده القرار، والذي بيده القرار لابُدّ أن تكون هذه البحوث حجّةً عليه، حتّى يبدأ فعلاً ويرمّم ويُحدّث ويُجدّد، ولا يتّكئ على الأماني والأحلام، فقط يحفر في الماضي ويقول كنّا، فلفظة كنّا تدلّ بعض الأحيان على العجز.
18- لابُدّ أن يكون الإنسان كما كان ويقول أنا هنا أيضاً موجود ولابُدّ أن يعمل، نحن ورثنا من الآباء شيئاً فلابُدّ أن نورّث الأبناء أشياء، ونُضيف الى ما موجود لا أن نهدم منه ولا أن نهمل ما موجود، بل نضيف له وتستمرّ هذه الحياة في طولها الزمنيّ الى ما شاء الله تعالى حتّى يرث الله الأرض ومن عليها.
19- إنّ مؤتمرات المتاحف بداية إطلالة على حضارة، وهي حالة من الالتصاق في الحضارة، وهي حالة من محبّة الأرض ومحبّة الأوطان، ولذلك عندما نتحدّث مع بعض الضيوف الأعزّاء لا نجد أيّ غرابة في ذلك، لأنّ الهدف واحد وهو الحفاظ على هذه الحضارة التي صنعها الإنسان وخلف فيها ما خلّفه.
20- في العراق نحتاج الى جهدٍ مضاعف من أجل إبراز الجوانب الحضاريّة التي عندنا وتعريف العالم بها.
21- نحن بين المؤتمرين دائماً نؤكّد على الإخوة في المتحف بإبداعات مضاعفة والاتّصال بكلّ الإخوة المعنيّين بالشؤون المتحفيّة، سواءً كانت بطريقة العرض أو غير ذلك، حتّى تصل الحالة الى حالة التزاوج الفكريّ بين جميع الإخوة المعنيّين والمختصّين بهذا المجال.
أمّا في المحور الثاني من كلمته، فقد أوضح السيّد الصافي الى أمرٍ مهمّ، حيث بيّن قائلاً: "في نفس الوقت أحبّ من خلالكم إيصال رسالة، فكما أنتم سفراء في قضيّة المتحف لابُدّ أن تكونوا سفراء في نقل شجاعة وبطولة الإخوة العراقيّين الأعزّة الذين لا زالوا يُدافعون عن هذا البلد ويحفظون حضارته.
ذكرتُ قبل أيّام أنّي تشرّفت في الذهاب الى الإخوة المقاتلين في الجبهات وزارني شيخٌ كبيرٌ يبلغ السبعين من عمره، وطلب منّي هذا الطلب، قال: ادعُ لي بالشهادة. قلت: اللهمّ ارزقه الشهادة بعد طول عمر. قال: لا.. هذه -بعد طول عمر- لا تذكرها، قل: اللهمّ ارزقه الشهادة الآن، فأعدت الدعاء بذيله، فأعاد الرجاء وأعدت، فبقي يراددني الى أكثر من دقيقة ونصف، فقلت له: اذهب وأنا أدعو لك. قال: لا.. أريد أن أسمعها الآن، وهذا الشيخ من أمثاله الكثير في العراق".
وأعرب السيد الصافي عن أسفه بأنّ: "المشكلة نحن شعبٌ عندنا شيء ولكن لا نؤرّخه، يصعب عليّ أنّي أقول هذه الكلمة ولكن حتّى أحمّل الجميع هذه المسؤولية، أنا أعتقد أنّ هذا الشيخ لو كان في بلدٍ آخر لكانوا يتغنّون به ويكتبون فيه القصائد ويطوفون فيه المجالس وغيرها، حتّى يقرأوا رسالة هذا الرجل، للمعلومة هو عنده خمسة من أولاده في الجبهات، وأعتقد أنّه حتّى لا يمتلك بيتاً لكنّه يحبّ بلده، فرقٌ بين أمرين، إنسانٌ لا يملك شيئاً في البلد لكن يحبّ بلده وإنسان قد يملك شيئاً في بلده ولكن قد لا يحبّ بلده، هذا وأمثاله يدافعون عن حضارة هذا البلد".
وأضاف: "عريف الحفل عندما يطلب منّا قراءة سورة الفاتحة على أرواح هؤلاء الشهداء الحقيقة هم لا يستحقّون منّا فقط قراءة سورة الفاتحة، فهنالك أحياء، والحقيقة هؤلاء الأحياء يستحقّون أن نشدّ على أياديهم بكلمة أو بدعوة أو بلقاء لأن نبيّن ما يدور، فهنالك ظلامة لبيان ما يدور وما يجري هناك".
وأكّد السيّد الصّافي: "الإعلام في بعض مفاصله لا أقول جميعها، قد يكون بخيلاً في تسليط الضوء على حضارة تُكتب بالدّم، نحن الآن نتعامل مع حضارة واجتماعنا هذا من أجلها، هنا الآن في العراق تُؤسَّس حضارةٌ وتُكتب بالدّم، والحضارة التي تمتزج ما بين التراب والدم حقيقةً تكون هذه العجينة عجينة خاصّة، عجينة الدم مع التراب أقوى من عجينة بعض المواد مع التراب، وهذا يحتاج الى التركيز والاهتمام".
واختتم الصافي: "لابُدّ أن نوثّق كلّ ما يدور حفاظاً على المنتج وعلى هذه المخرجات المهمّة في الوفاء والقيم والشجاعة والبطولة ومحبّة هذه الأرض الطيّبة، وإن شاء الله نسمع من الإخوة بحوثاً تسرّنا، ولكم فيها الأثر الفاعل في إعادة النهضة التراثيّة المتحفيّة لهذا البلد".