كشف باحثون من خلال أجهزة للتنصّت على أصوات حيتان العنبر أنها تنقل الكثير من المعلومات عن أنفسها، وخلال لحظات فقط، من خلال رموز صوتية خاصة.
توجد بالقرب من سواحل جزيرة دومينيكا، في البحر الكاريبي، إحدى مجاميع حيتان العنبر التي أثارت اهتمام الباحثين لأكثر من عقد من الزمن.
ومثل الكثير من أجناس هذا النوع من الحيتان، فهي تعيش حياة اجتماعية معقدة. لكن ما يميز هذه المجموعة الخاصة أنها تعيش ضمن وحدات عائلية صغيرة، مما يتيح للباحثين تحديد أفرادها والتعرف عليها بسرعة.
إن قدرة هذه الحيتان على التعرف على أفرادها قدمت لنا رؤى مسبوقة حول عالمها الخاص. فعلى سبيل المثال، أصبحنا نعرف أن حيتان العنبر تتذكر أصدقاءها وأفراد عائلتها لسنين عديدة.
وقد حاول الباحثون مؤخراً معرفة الطريقة التي تستعملها هذه الحيتان لتتبّع بعضها البعض.
في الأعماق العكرة للمحيطات، يصعب على الحيتان التعرف على بعضها البعض عن طريق الرؤية فقط. ولذا، أصبح واضحاً الآن أن كل حوت يطلق أصواتاً مميزة. وتشبه هذه الأصوات نوعين من العلامات التي يستعملها البشر للتعرف على غيرهم: الأسماء ونبرة الصوت.
يطلق كل حوت عدة مقاطع صوتية قصيرة من نوع خاص، ويسمي الباحثون ذلك المقطع الصوتي "كودا" (وهي تعني صوتا موسيقيا ختاميا). هذه المقاطع الصوتية متميزة إلى درجة أنه يمكن للباحثين التعرف على تلك الحيتان عن طريق أصواتها فقط.
"كان المتّبع تقليدياً التعرف على حيتان العنبر عن طريق صور زعانفها الذيلية، ولكن عندما تبدأ في التخاطب فيما بينها فإنه يصعب معرفة من منها يقوم بهذه الحركة أو تلك (باستعمال أذيالها فقط)"، كما قال "شَين غيرو"، كبير الباحثين في الدراسة التي أعدها فريق من جامعة آرهوس الدانماركية.
وأضاف غيرو: "إنه نداء واحد ولكنه مختلف بما فيه الكفاية بين أفراد عائلة من هذه الحيتان بحيث أننا نستطيع تحديد كل واحد منها".
إن القدرات اللغوية للحيتان تذهب لما هو أبعد من ذلك. فإضافة إلى أفراد العائلة المترابطة بشدة، والتي تعيش جلّ حياتها سوية، فإنها تنتمي إلى "عشائر" أكبر: مع وجود لهجات خاصة تميزها عن بعضها البعض.
لا تلتقي أفراد عشيرة البحر الكاريبي في أوقات متقاربة، ولكن عندما يحين وقت اللقاء فإنها تستعمل مقاطع صوتية، أو "كودا"، متميزة. يطلق كل فرد من أفراد هذه العشيرة مقاطع صوتية بطريقة خاصة بحيث لا يمكن للباحثين تمييزهم عن بعض.
ويمكن لعشائر الحيتان هذه أن تتألف من عدة مئات من الأفراد. و"تتخاطب" جميعها بأنماط متشابهة من تلك المقاطع الصوتية حتى وإن كانوا يعيشون على بعد آلاف الأميال عن بعضهم البعض.
وقد تم نشر هذه النتائج في مجلة "الجمعية الملكية المفتوحة للعلوم".
إنها أولى الدلائل على "فرضية الحياة الاجتماعية المعقدة" لدى بعض الأنواع من الحيوانات البحرية. الفكرة هنا أنه إذا كان حيوان ما يعيش حياة اجتماعية معقدة، فسيكون بحاجة أكبر إلى وسائل متنوعة للتخاطب.
يقول "غيرو": "ما أبيّنه هو أن لدى الحيتان جميع نداءات التخاطب الضرورية لتحديد كل فرد منها، وتحديد وحدتها الاجتماعية (أي العائلة) وعشيرتها المميزة (أي مجموعتها العرقية)".
إن الحيتان التي تطلق مقاطع صوتية مختلفة (أو كودا مختلفة)، لا تقضي أي وقت مع بعضها البعض.
توصل فريق الباحثين إلى تحديد هذه الأنماط المميزة من التخاطب لدى تسع عائلات مختلفة من حيتان عشيرة الدومينيكا. لقد تنصّتوا لسماع الرشقات الصوتية للحيتان خلال 324 يوماً من الرصد، على مدى ستة أعوام.
قام فريق الباحثين بتسجيل أصوات الحيتان عندما كانت تغطس أو تقضي أوقاتاً مع بعضها في أجواء اجتماعية.
حسب قول "غيرو"، فإنه من المعقول أن تتخاطب حيتان العنبر بهذه الطريقة. فهي تحتاج إلى التمييز بين أفراد عائلة ما وأفراد العشيرة حتى عندما تغطس في قاع المحيطات. نعلم جيداً أنها تفضل فيما بينها الأفراد الذين يقضون معها معظم الأوقات.
ويضيف "غيرو": "بيّنا هنا أنها تطلق نداءات يمكنها أن تقوم مقام التسوية في جميع العلاقات الاجتماعية المختلفة، التي عرفنا عن وجودها لفترة من الزمن".
ويعلق قائلاً: "وإلا كيف يمكن معرفة أي من أفراد العائلة هو القادم نحوك إن لم تتعرف عليه سمعياً؟".
وتعتبر عشيرة البحر الكاريبي صغيرة، فهي تتألف من بضعة مئات من الحيتان التي تعيش في حدود مسافة تمتد إلى ألف كيلومتر.
غير أن عشيرة أخرى تعيش في المحيط الهادئ هي أكبر بكثير، وتعيش بعيداً عن بعضها. قد تحوي هذه العشيرة أكثر من 1000 حوت. لذا، فإن لهجة تخاطب عشيرة ما يمكن أن تمتد لعدة آلاف من الكيلومترات.
يؤدي هذا ضمناً إلى تبعات دراماتيكية نوعاً ما. إذا كانت جميع حيتان العنبر التي تعيش في المحيطات تتخاطب بهذه الإشارات الصوتية الخاصة لتحديد مجاميعها المختلفة، فإنها تكون بذلك "أكبر المجاميع المترابطة والمتعاونة خارج نطاق الأسرة البشرية"، حسب قول "غيرو".
وبعد التعرف الآن على الأصوات المميزة للحيتان المفردة وعشائرها وتسجيل تلك الأصوات، يأمل الباحثون في إعادة تشغيلها أمام الحيتان ليعرفوا ردود فعلها. سيستفيد الباحثون من القيام بذلك من معرفة كيفية فهم الحيتان لقدراتها في التخاطب فيما بينها، وكيف ومتى يتم استعمال أصوات معينة.
كما أن الدراسة تؤكد مرة أخرى على أن كل حوت من حيتان العنبر يلعب دوراً أساسيا داخل عائلته. ومثلنا نحن البشر، فإن العلاقات المعقدة لتلك الحيتان تستند على خبراتها وتجاربها المشتركة.
إن هذه الاكتشافات تدفع فهمنا وإدراكنا للتركيبة المعقدة للحيتان إلى مستوى آخر، حسب قول "لوري مارينو"، وهي خبيرة في طب الأعصاب، وتدافع الآن عن حقوق الحيوان في "مركز كيمالا للدفاع عن الحيوان"، ولم تشارك في الدراسة المذكورة آنفاً.
تماماً مثلنا نحن البشر، فإن للحيتان إشارات اجتماعية مستحدثة تربطها وتوجد على مستويات عدة. فهي تقول لنا إن فيها الأفراد والوحدة الاجتماعية والعشيرة.
وتقول مارينو: "كنا قبل سنوات عديدة خلت لا نزال نعتبر امتلاك الحيتان وغيرها من الحيوانات الأخرى لتقاليد اجتماعية مستحدثة ضرباً من الخيال. أما الآن فنحن نعرف أن لدى الكثير من الحيوانات، بما فيها حيتان العنبر، تقاليد معقدة.
وتضيف: "يمكن حقاً تعريف الأنماط الاجتماعية المستحدثة لدى حيتان العنبر باعتبارها تقاليد بالمعنى الحرفي للكلمة."