أقرأ أيضاً
التاريخ: 12-11-2017
7806
التاريخ: 12-11-2017
9755
التاريخ: 12-11-2017
4608
|
قال تعالى : { مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا (14) أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا (15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا (16) وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا (18) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا (19) لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا } [نوح: 13 - 20].
قال نوح (عليه السلام) لهم على وجه التبكيت {ما لكم} معاشر الكفار {لا ترجون لله وقارا} أي لا تخافون لله عظمة فالوقار العظمة اسم من التوقير وهو التعظيم والرجاء الخوف هنا والمعنى لا تعظمون الله حق عظمته فتوحدوه وتطيعوه عن ابن عباس ومجاهد وقيل معناه ما لكم لا ترجون لله عاقبة عن قتادة أي لا تطمعون في عاقبة لعظمة الله تعالى وقيل معناه ما لكم لا تخافون الله عذابا ولا ترجون منه ثوابا في رواية أخرى عن ابن عباس وقيل معناه ما لكم لا ترجون لله عاقبة الإيمان وتوحدون الله عن الزجاج وقيل معناه ما لكم لا تعتقدون لله إثباتا عن أبي مسلم {وقد خلقكم أطوارا} أي خلقكم طورا نطفة ثم طورا علقة ثم مضغة ثم عظاما ثم كسا العظام لحما ثم أنشأه خلقا آخر نبت له الشعر وكمل له الصورة عن ابن عباس ومجاهد وقتادة وقيل أطوارا أحوالا حالا بعد حال وقيل معناه صبيانا ثم شبانا ثم شيوخا وقيل خلقكم مختلفين في الصفات أغنياء وفقراء وزمناء وأصحاء وطوالا وقصارا والآية محتملة للجميع .
ثم خاطب سبحانه المكلفين منبها لهم على توحيده فقال {أ لم تروا كيف خلق الله سبع سماوات طباقا} أي واحدة فوق الأخرى كالقباب {وجعل القمر فيهن نورا} قيل فيه وجوه {أحدها} أن المعنى وجعل القمر نورا في السماوات والأرض عن ابن عباس قال يضيء ظهره لما يليه من السماوات ويضيء وجهه لأهل الأرض وكذلك الشمس {وثانيها} أن معنى فيهن معهن يعني وجعل القمر معهن أي مع خلق السماوات نورا لأهل الأرض {وثالثها} أن معنى فيهن في حيزهن وإن كان في واحدة منها كما تقول أتيت بني تميم وإنما أتيت بعضهم.
{وجعل الشمس سراجا} أي مصباحا يضيء لأهل الأرض كما كانت الشمس جعل فيها النور للاستضاءة به كانت سراجا فهي سراج العالم كما أن المصباح سراج الإنسان {والله أنبتكم من الأرض نباتا} يعني مبتدأ خلق آدم وآدم خلق من الأرض والناس ولده وهذا كقوله {وبث منهما رجالا كثيرا ونساء} وقيل معناه أنه أنشأ جميع الخلق باغتذاء ما تنبته الأرض ونما فيها وقيل معناه أنبتكم من الأرض بالكبر بعد الصغر وبالطول بعد القصر {ثم يعيدكم فيها} أي في الأرض أمواتا {ويخرجكم} منها عند البعث أحياء {إخراجا} وإنما ذكر المصدر تأكيدا {والله جعل لكم الأرض بساطا} أي مبسوطة ليمكنكم المشي عليها والاستقرار فيها ثم بين أنه إنما جعلها كذلك {لتسلكوا منها سبلا فجاجا} أي طرقا واسعة وقيل طرقا مختلفة عن ابن عباس وقيل سبلا في الصحاري وفجاجا في الجبال وإنما عدد سبحانه هذه الضروب من النعم امتنانا على خلقه وتنبيها لهم على استحقاقه للعبادة خالصة من كل شرك ودلالة لهم على أنه عالم بمصالحهم ومدبر لهم على ما تقتضيه الحكمة فيجب أن لا يقابلوا هذه النعم الجليلة بالكفر والجحود ثم عاد سبحانه إلى ذكر نوح (عليه السلام) بقوله {قال نوح} على سبيل الدعاء {رب إنهم عصوني} فيما أمرتهم به ونهيتهم عنه يعني قومه {واتبعوا من لم يزده ماله وولده إلا خسارا} أي واتبعوا أغنياء قومهم اغترارا بما آتاهم الله من المال والولد فقالوا لوكان هذا رسولا لله لكان له ثروة وغنى وقرىء {ولده} وولده بالضم والفتح فالولد الجماعة من الأولاد والولد الواحد وقيل هما سواء والخسار الهلاك بذهاب رأس المال وقيل إن معناه اتبع الفقراء والسفلة الرؤساء الذين لم يزدهم كثرة المال والأولاد إلا هلاكا في الدنيا وعقوبة في الآخرة {ومكروا} في دين الله {مكرا كبارا} أي كبيرا عظيما عن الحسن وقيل معناه قالوا قولا عظيما عن ابن عباس وقيل اجترءوا على الله وكذبوا رسله عن الضحاك وقيل مكرهم تحريشهم(2) سفلتهم على قتل نوح (عليه السلام) {وقالوا لا تذرن آلهتكم} أي لا تتركوا عبادة أصنامكم.
ثم خصوا أصناما لهم معروفة بعد دخولها في الجملة الأولى تعظيما لها فقالوا {لا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا} وهذه أسماء أصنام كانوا يعبدونها ثم عبدتها العرب فيما بعد عن ابن عباس وقتادة وقيل إن هذه أسماء قوم صالحين كانوا بين آدم ونوح (عليهما السلام) فنشأ قوم بعدهم يأخذون أخذهم في العبادة فقال لهم إبليس لو صورتم صورهم كان أنشط لكم وأشوق إلى العبادة ففعلوا فنشأ بعدهم قوم فقال لهم إبليس إن الذين كانوا قبلكم كانوا يعبدونهم فعبدوهم فمبدأ عبادة الأوثان كان ذلك الوقت عن محمد بن كعب وقيل كان نوح يحرس جسد آدم على جبل بالهند ويحول بينه وبين الكفار لئلا يطوفوا بقبره فقال لهم إبليس إن هؤلاء يفخرون عليكم ويزعمون أنهم بنو آدم دونكم وإنما هو جسد وأنا أصور لكم مثله تطيفون به فنحت خمسة أصنام وحملهم على عبادتها وهي ود وسواع ويعوق ويغوث ونسر.
فلما كان أيام الغرق دفن الطوفان تلك الأصنام وطمها التراب(3) فلم تزل مدفونة حتى أخرجها الشيطان لمشركي العرب فاتخذت قضاعة ودا فعبدوها بدومة الجندل ثم توارثها بنوه الأكابر فالأكابر حتى صارت إلى كلب فجاء الإسلام وهو عندهم وأخذ بطنان من طي يغوث فذهبوا به إلى مراد فعبدوه زمانا ثم أن بني ناجية أرادوا أن ينزعوه منهم ففروا به إلى بني الحرث بن كعب وأما يعوق فكان لكهلان ثم توارثه بنوه الأكبر فالأكبر حتى صار إلى همدان وأما نسر فكان لخثعم يعبدونه وأما سواع فكان لآل ذي الكلاع يعبدونه عن ابن عباس وقيل إن أوثان قوم نوح صارت إلى العرب فكانت ود بدومة الجندل وسواع برهاط لهذيل وكان يغوث لبني غطيف من مراد وكان يعوق لهمدان وكان نسر لآل ذي الكلاع من حمير وكان اللات لثقيف وأما العزى فلسليم وغطفان وجشم ونضر وسعد بن بكر وأما مناة فكانت لفديد وأما إساف ونائلة وهبل فلأهل مكة وكان إساف حيال الحجر الأسود وكانت نائلة حيال الركن اليماني وكان هبل في جوف الكعبة ثمانية عشر ذراعا عن عطا وقتادة والثمالي وقال الواقدي كان ود على صورة رجل وسواع على صورة امرأة ويغوث على صورة أسد ويعوق على صورة فرس ونسر على صورة نسر من الطير.
{وقد أضلوا كثيرا} أي ضل بعبادتها وبسببها كثير من الناس نظيره رب إنهن أضللن كثيرا من الناس وقيل معناه وقد أضل كبراؤهم كثيرا من الناس عن مقاتل وأبي مسلم وعلى هذا فإن الضمير في أضلوا يعود إلى أكابر قوم نوح {ولا تزد الظالمين إلا ضلالا} أي هلاكا كما في قوله {إن المجرمين في ضلال وسعر} وقيل إلا فتنة بالمال والولد وقيل إلا ذهابا عن الجنة والثواب قال البلخي لا تزدهم إلا منعا من الطاعات عقوبة لهم على كفرهم فإنهم إذا ضلوا استحقوا منع الألطاف التي تفعل بالمؤمنين فيطيعون عندها ويمتثلون ولا يجوز أن يفعل بهم الضلال عن الحق والإيمان لأن ذلك لا يجوز في صفة الحكيم تعالى الله عن ذلك.
{مما خطيئاتهم أغرقوا} أي من خطيئاتهم وما مزيدة والتقدير من أجل ما ارتكبوه من الخطايا والكبائر {أغرقوا} على وجه العقوبة {فادخلوا نارا} بعد ذلك ليعاقبوا فيها {فلم يجدوا لهم من دون الله أنصارا} أي لم يجدوا أحدا يمنعهم من عذاب الله وإنما أتى سبحانه بألفاظ المضي على معنى الاستقبال لصدق الوعد به وقال الضحاك أغرقوا فادخلوا نارا في الدنيا في حالة واحدة كانوا يغرقون من جانب ويحترقون في النار من جانب وأنشد ابن الأنباري :
الخلق مجتمع طورا ومفترق *** والحادثات فنون ذات أطوار
لا تعجبن لأضداد إذا اجتمعت *** فالله يجمع بين الماء والنار
____________________
1- مجمع البيان ، الطبرسي ، ج10 ، ص133-139.
2- حرش بين القوم : اغرى بعضهم ببعض.
3- طم الشيء : دفنه.
{ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً وقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً} . يستنكر نوح على قومه ويعجب كيف لا يهابون اللَّه وعظمته ، وهم يعلمون انه خلقهم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة . . وهكذا ينتقل بهم من حال إلى حال حتى الهرم والشيخوخة ، وأيضا وجّه أنظارهم إلى قدرة اللَّه في خلق السماوات والكواكب السيارة ، وقال لهم : {أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً} ؟ . تأمّلوا وتدبروا خلق السماوات وإتقانها ونظامها الذي يدل على وجود الصانع الحكيم . وتقدم مثله في الآية 3 من سورة الملك ، أما السماوات السبع فقد تكلمنا عنها بضرب من التوسع عند تفسير الآية 12 من سورة الطلاق ، فقرة {سبع سماوات ومن الأرض مثلهن} .
وتجدر الإشارة إلى ان قول نوح لقومه : {سَبْعَ سَماواتٍ} يدل على ان قومه كانوا يؤمنون بذلك ، وان الاعتقاد بالسماوات السبع كان في الزمن القديم .
{وجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً} . فيهن أي في مجموعهن . .
وصف سبحانه الشمس بالسراج والقمر بالنور لأن السراج مصدر النور ، والشمس أيضا مصدر لنور القمر ، وأيضا نورها أعم وأنفع من نوره . وتقدم مثله في الآية 5 من سورة يونس ج 4 ص 135 {واللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الأَرْضِ نَباتاً ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها ويُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً} . هذا هو ابن آدم من الأرض خلق ، وعليها يحيا واليها يعود . وتقدم مثله في الآية 55 من سورة طه ج 5 ص 223 {واللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ بِساطاً لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلًا فِجاجاً} . جعل سبحانه في الأرض طرقا واسعة ليسلكها الناس إلى مقاصدهم . وتقدم مثله في الآية 32 من سورة الأنبياء ج 5 ص 274 .
__________________
1- الكاشف ، محمد جواد مغنية ، ج7 ، ص428-429.
قوله تعالى: {ما لكم لا ترجون لله وقارا} استفهام إنكاري والوقار - كما في المجمع، - بمعنى العظمة اسم من التوقير بمعنى التعظيم، والرجاء مقابل الخوف وهو الظن بما فيه مسرة، والمراد به في الآية مطلق الاعتقاد على ما قيل، وقيل: المراد به الخوف للملازمة بينهما.
والمعنى: أي سبب حصل لكم حال كونكم لا تعتقدون أولا تخافون لله عظمة توجب أن تعبدوه.
والحق أن المراد بالرجاء معناه المعروف وهوما يقابل الخوف ونفيه كناية عن اليأس فكثيرا ما يكنى به عنه يقال: لا أرجو فيه خيرا أي أنا آيس من أن يكون فيه خير، والوقار الثبوت والاستقرار والتمكن وهو الأصل في معناه كما صرح به في المجمع، و وقاره تعالى ثبوته واستقراره في الربوبية المستتبع لألوهيته ومعبوديته.
كان الوثنيين طلبوا ربا له وقار في الربوبية لعبدوه فيئسوا منه تعالى فعبدوا غيره وهو كذلك فإنهم يرون أنه تعالى لا يحيط به أفهامنا فلا سبيل للتوجه العبادي إليه، والعبادة أداء لحق الربوبية التي يتفرع عليها تدبير الأمر وتدبير أمور العالم مفوض إلى أصناف الملائكة والجن فهم أربابنا الذين يجب علينا عبادتهم ليكونوا شفعاء لنا عند الله، وأما هو تعالى فليس له إلا الإيجاد إيجاد الأرباب ومربوبيهم جميعا دون التدبير.
والآية أعني قوله: {ما لكم لا ترجون لله وقارا} وما يتلوها إلى تمام سبع آيات مسوقة لإثبات وقاره تعالى في الربوبية وحجة قاطعة في نفي ما لفقوه لوجوب عبادة غيره من الملائكة وغيرهم لاستناد تدبير العالم إليهم، ويتبين به إمكان التوجه العبادي إليه تعالى.
ومحصل الحجة: ما الذي دعاكم إلى نفي ربوبيته تعالى المستتبع للألوهية والمعبودية واليأس عن وقاره؟ وأنتم تعلمون أنه تعالى خلقكم وخلق العالم الذي تعيشون فيه طورا من الخلق لا ينفك عن هذا النظام الجاري فيه، وليس تدبير الكون ومن فيه من الإنسان إلا التطورات المخلوقة في أجزائه والنظام الجاري فيه فكونه تعالى خالقا هو كونه مالكا مدبرا فهو الرب لا رب سواه فيجب أن يتخذ إلها معبودا.
ويتبين به صحة التوجه إليه تعالى بالعبادة فإنا نعرفه بصفاته الكريمة من الخلق والرزق والرحمة وسائر صفاته الفعلية فلنا أن نتوجه إليه بما نعرفه من صفاته.
قوله تعالى: {وقد خلقكم أطوارا} حال من فاعل {لا ترجون} والأطوار جمع طور وهو حد الشيء وحاله التي هو عليها.
ومحصل المعنى - لا ترجون لله وقارا في ربوبية - والحال أنه أنشأكم طورا بعد طور يستعقب طورا آخر فأنشأ الواحد منكم ترابا ثم نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم جنينا ثم طفلا ثم شابا ثم شيخا وأنشأ جمعكم مختلفة الأفراد في الذكورة والأنوثة والألوان والهيئات والقوة والضعف إلى غير ذلك، وهل هذا إلا التدبير فهو مدبر أمركم فهو ربكم.
قوله تعالى: {أ لم تروا كيف خلق الله سبع سماوات طباقا} مطابقة السماوات السبع بعضها لبعض كون بعضها فوق بعض أو تطابقهن وتماثلهن على الاحتمالين المتقدمين في تفسير أوائل سورة الملك.
والمراد بالرؤية العلم، وتوصيف السماوات السبع - والكلام مسوق سوق الحجة - يدل على أنهم كانوا يرون كونها سبعا ويسلمون ذلك فاحتج عليهم بالمسلم عندهم.
وكيف كان فوقوع حديث السماوات السبع في كلام نوح دليل على كونه مأثورا من الأنبياء (عليهم السلام) من أقدم العهود.
قوله تعالى: {وجعل القمر فيهن نورا وجعل الشمس سراجا} الآيات - كما يشهد به سياقها - مسوقة لبيان وقوع التدبير الإلهي على الإنسان بما يفيض عليه من النعم حتى تثبت ربوبيته فتجب عبادته.
وعلى هذا فكون الشمس سراجا هو كونها مضيئة لعالمنا ولولاها لانغمرنا في ظلمة ظلماء، وكون القمر نورا هو كونه منورا لأرضنا بنور مكتسب من الشمس فليس منورا بنفسه حتى يعد سراجا.
وأما أخذ السماوات ظرفا للقمر في قوله: {وجعل القمر فيهن نورا} فالمراد به كما قيل كونه في حيزهن وإن كان في واحدة منها كما تقول: إن في هذه الدور لبئرا وإن كانت في واحدة منها لأن ما كان في إحداهن كان فيهن وكما تقول: أتيت بني تميم وإنما أتيت بعضهم.
قوله تعالى: {والله أنبتكم من الأرض نباتا} أي أنبتكم إنبات النبات وذلك أن الإنسان تنتهي خلقته إلى عناصر أرضية تركبت تركبا خاصا به يغتذي وينمو ويولد المثل، وهذه حقيقة النبات، فالكلام مسوق سوق الحقيقة من غير تشبيه واستعارة.
قوله تعالى: {ثم يعيدكم فيها ويخرجكم إخراجا} الإعادة فيها بالإماتة والإقبار، والإخراج للجزاء يوم القيامة فالآية والتي قبلها قريبتا المعنى من قوله تعالى {فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ} [الأعراف: 25].
وفي قوله: {ويخرجكم} دون أن يقول: ثم يخرجكم إيماء إلى أن الإعادة والإخراج كالصنع الواحد والإعادة مقدمة للإخراج، والإنسان في حالتي الإعادة والإخراج في دار الحق كما أنه في الدنيا في دار الغرور.
قوله تعالى: {والله جعل لكم الأرض بساطا} أي كالبساط يسهل لكم التقلب من جانب إلى جانب، والانتقال من قطر إلى قطر.
قوله تعالى: {لتسلكوا منها سبلا فجاجا} السبل جمع سبيل بمعنى الطريق والفجاج جمع فج بمعنى الطريق الواسعة، وقيل: الطريق الواقعة بين الجبلين.
___________________
1- الميزان ، الطباطبائي ، ج20 ، ص27-30.
ويعود نوح(عليه السلام) مرّة أُخرى لينذرهم، فيقول: {ما لكم لا ترجون للّه وقاراً}(2)، ولا تخافون عقابه وقد خلقكم في مراحل مختلفة : ويقول أيضاً: {وقد خلقكم أطواراً}.
كنتم في البداية نطفة لا قيمة لها، ثمّ صوركم علقة ثمّ مضغة، ثمّ وهبكم الشكل الإنساني، ثمّ ألبسكم لباس الحياة، فوهب لكم الروح والحواس والحركة، وهكذا طويتم المراحل الحنينية المختلفة الواحدة بعد الاُخرى، حتى ولدتكم أُمهاتكم بهيئة الإنسان الكامل، وهكذا تستمر المراحل الأُخرى والمختلفة للمعيشة في الحياة، وأنتم خاضعون دائماً لربوبيته تعالى، وتتجددون دائماً، وتخلقون خلقاً جديداً، فكيف لا تطأطئوا رؤوسكم أمام خالقكم؟
ولستم تتخذون أشكالاً مختلفة من جهة الجسم، بل أنّ الروح هي أيضاً في تغيّر مستمر، لكلّ منكم استعداده الخاص، ففي كل رأس ذوق خاصّ، وفي كل قلب جحّ خاصّ، وكلكم تتغيرون باستمرار، فتنتقل مشاعر وأحاسيس الطفولة إلى أحاسيس الشبيبة، وهذه بدورها إلى الكهولة والشيخوخة، وعلى هذا فإنّه معكم في كلّ مكان هو يهديكم في كل خطوة ويشملكم بلطفه وعنايته، فلم كل هذا الكفران والإستهانة؟!
وقوله تعالى : {أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَوَت طِبَاقاً(15) وَجَعَلَ القَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجاً(16) وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِّنَ الأَرْضِ نَبَاتاً(17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجاً(18) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ بِسَاطاً(19) لِّتَسلُكُواْ مِنْهَا سُبُلاً فِجَاجاً}
خلقكم اللّه من الأرض كالنبات:
كان نوح(عليه السلام) يبيّن للمشركين المعندين حقائق عميقة ومستدلة، إذ كان يأخذ بهم إلى أعماق وجودهم ليرون حقائق هذه الآيات (كما مرّ في الآيات السابقة) ودعاهم إلى ما خلق اللّه من علامات في هذا العالم الكبير، فكان يسير بهم إلى تلك الآفاق(3).
يبدأ أوّلاً بالسماء فيقول: {ألم تروا كيف خلق اللّه سبع سموات طباقاً}(4).
«طباقاً»: مصدر من باب (مفاعله) بمعنى «مطابقة»، وأحياناً تأتي بمعنى وضع الشيء فوق شيء آخر، وتأتي أحياناً أُخرى بمعنى مطابقة ومماثلة شيئين أحدهما مع الآخر، والمعنيان يصدقان هنا.
وما طبق للمعنى الأوّل أنّ السماوات بعضها فوق بعض، وكما قلنا في سابقاً حسب تفسير السموات السبع فإنّ كل ما نراه من الكواكب المتحركة والثابتة بالعين المجرّدة أو غيرها هي من السماء الاُولى، ثمّ تليها السموات الست الأُخرى متطابقة بعضها فوق الأُخرى، ولم يصل علم الإنسان إلى هذه المرتبة فعلاً، ولكن يمكن في المستقبل أن يتطور علم الإنسان فيكشف ما في السموات من عجائب الواحدة بعد الأُخرى(5).
وعلى الإحتمال الثّاني فإنّ القرآن يشير إلى مطابقة وتناسق السماوات السبع في النظم والعظمة والجمال.
ثمّ يضيف: {وجعل القمر فيهنّ نوراً وجعل الشّمس سراجاً}(6).
صحيح أنّ في السماوات السبع مليارات من الكواكب المضيئة والتي هي أكثر ضياءً من الشمس، ولكن ما يهمنا وما يؤثر في حياتنا هي هذه الشمس وكذلك القمر، هذه المنظومة الشمسية التي تضيء الشمس فيها بالنهار والقمر بدوره ينير الليل.
التعبير بالسراج للشمس وبالنور للقمر هو أنّ نور الشمس ينشأ من ذاتها كالسراج، وأمّا نور القمر فإنّه ليس من باطنه بل انعكاس لنور الشمس، ولهذا فإنّ كلمة نور ذات المفهوم العام هي المستخدمة في هذا المورد، ويشاهد اختلاف التعابير في آيات القرآن أيضاً، وقد أوردنا شرحاً مفصلاً في هذا الباب في ذيل الآية (5) من سورة يونس(عليه السلام).
ثمّ يعود ذلك إلى الإنسان فيقول: {واللّه أنبتكم من الأرض نباتاً}(7).
التعبير بـ «الإنبات»، في شأن الإنسان لأسباب، أوّلاً: خلق الإنسان الأوّل من التراب.
ثانياً: إنّ المواد الغذائية التي يتناولها الإنسان وبها ينمو ويحيى هي من الأرض، فهو إمّا يتناول الخضار والحبوب الغذائية أو الفواكه مباشرة، أو بطريق غير مباشر كلحوم الحيوانات.
ثالثاً: هناك تشابه كثير بين الإنسان والنبات، وهناك كثير من القوانين التي يسري حكمها على نمو وتغذية النباتات هي سارية أيضاً على الإنسان.
وهذا التعبير في شأن الإنسان غني بالمعاني، ويدل على أنّ التدبير الإلهي في مسألة الهداية ليس فقط كتدبير وعمل المعلم وحسب، بل هو كعمل الزارع الذي ينثر البذور في محيط جيد يساعدها على النمو، وفي الآية (37) من سورة آل عمران يقول اللّه تعالى بشأن مريم(عليها السلام): {فأنبتها نباتاً حسناً} وكلّ هذا إشارة إلى ذلك المضمون اللطيف.
ثمّ يمضي إلى مسألة المعاد والتي كانت من المسائل المعقدة عند المشركين فيقول: {ثمّ يعيدكم فيها ويخرجكم إخراجاً}
كنتم في البدء تراباً، ثمّ تعودون إلى التراب ثانية، ومن كانت له القدرة على أن يخلقكم من التراب هو قادر على أن يحييكم بعد الموت.
هذا الإنتقال من التوحيد إلى المعاد الذي جاء في سياق هذه الآيات بصورة لطيفة يشير إلى العلاقة القريبة بينهما، وهكذا كان نوح(عليه السلام) يوضح لمخالفيه أمر التوحيد بالإستدلال عن طريق نظام الخلقة ويستدل كذلك بها على المعاد.
ثمّ يعود مرّة أُخرى إلى آيات الآفاق وعلامات التوحيد في هذا العالم الكبير، ويتحدث عن نعم وجود الأرض فيقول: {واللّه جعل لكم الأرض بساطاً}(8).
ليست هي بتلك الخشونة بحيث لا يمكنكم الإنتقال والإستراحة عليها، وليست بتلك النعومة بحيث تغطسون فيها، وتفقدون القدرة على الحركة، ليست حارقة وساخنة بحيث تلقون مشقّة من حرّها، وليست باردة بحيث تتعسر حياتكم فيها، مضافاً إلى ذلك فهي كالبساط الواسع الجاهز المتوفر فيه جميع متطلباتكم المعيشية.
وليست الأراضي المسطحة كالبساط الواسع فحسب، بل بما فيها من الجبال والوديان والشقوق المتداخلة بعضها فوق البعض والتي يمكن العبور من خلالها.
{لتسكنوا فيها سُبلاً فجاجاً}.
«فجاج» على وزن (مزاج)، وهو جمع فج، وبمعنى الوادي الفسيح بين الجبلين، وقيل الطريق الواسعة(9).
وبهذا فإنّ نوح(عليه السلام) يشير في خطابه تارةً إلى العلامات الإلهية في السماوات والكواكب والسماوية، وتارةً أُخرى إلى النعم الإلهية الموجودة في البسيطة، وثالثة الى وجود الإنسان الذي يعتبر بحدّ ذاته دليل على معرفة اللّه تعالى وإثبات المعاد، ولكن لم تؤثر أي من هذه الإنذارات والبشائر والرغائب والإستدلالات المنطقية في قلوب هؤلاء القوم المعاندين الذين استمروا مخالفتهم وكفرهم، وأخذتهم الأنفة عن الانقياد لحميد العاقبة، وسنرى عاقبة هذا العناد في الآيات القادمة.
_________________
1- الامثل ، ناصر مكارم الشيرازي ، ج14 ، ص461-467.
2 ـ «الوقار»: الثقل والعظمة، و«ترجون» من أصل رجاء بمعنى الأمل وهو ملازم للخوف، ومعنى الآية لماذا لا تخضعون لعظمة اللّه تعالى.
3 ـ هذا الخطاب تابع لكلام نوح(عليه السلام)، أو أنّها جمل مستقلة ومعترضة من اللّه تعالى إلى المسلمين، وهو محل بحث بين المفسّرين، والكثير منهم يرجح أن يكون ذلك تابعاً لكلام نوح(عليه السلام)، وسياق الآيات يشير أيضاً إلى ذلك، وإذا ما وردت جملة: (وقال نوح) بعد هذه الآيات فإنّها تشير إلى أنّ نوح(عليه السلام) قد انتهى من كلامه مع الناس وتوجه بعد ذلك إلى اللّه تعالى ليشكو من قومه.
4 ـ «طباقاً»: يحتمل أن يكون مفعول مطلق أوحال.
5 ـ أوضحنا الكلام في التفاسير المختلفة للسماوات السبع في ذيل الآية (29) من سورة البقرة.
6 ـ من هنا أنّ ضمير «فيهنّ» والذي يرجع في الظاهر إلى «السماوات السبع» لا يثير مشكلة لأنّ الخطاب في النور والضياء هولنا، لأجل هذا لا يلزم أن نجعل «في» بمعنى «مع» أو نجعل الضمير «هن» بمعنى «السماء الدنيا» (فتدبّر).
7 ـ يجب أن تلفظ هذه الكلمة حسب القاعدة «إنباتاً» لكن لهذا الآية تقدير هو: «أنبتكم من الأرض فنبتم نباتاً» تفسير (الفخر الرازي وأبو الفتوح الرازي).
8 ـ بساط من أصل بسط بمعنى وبسط الشيء، ولهذا فإنّ كلمة «بساط» تطلق على كل شيء واسع وأحد مصاديقها «البساط».
9 ـ مفردات الراغب، مادة (فج).
|
|
"عادة ليلية" قد تكون المفتاح للوقاية من الخرف
|
|
|
|
|
ممتص الصدمات: طريقة عمله وأهميته وأبرز علامات تلفه
|
|
|
|
|
المجمع العلمي للقرآن الكريم يقيم جلسة حوارية لطلبة جامعة الكوفة
|
|
|