أقرأ أيضاً
التاريخ: 12-11-2017
4607
التاريخ: 12-11-2017
9755
التاريخ: 12-11-2017
7805
|
قال تعالى : {إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (1) قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (2) أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (3) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوكُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (4) قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا (6) وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا (7) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا (8) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا (9) فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا}: [نوح : 1 - 12].
أخبر سبحانه عن نفسه فقال {إنا أرسلنا} أي بعثنا {نوحا} رسولا {إلى قومه أن أنذر قومك من قبل أن يأتيهم عذاب أليم} معناه أرسلنا لينذرهم بالعذاب إن لم يؤمنوا قال الحسن أمره أن ينذرهم عذاب الدنيا قبل عذاب الآخرة ثم حكى أن نوحا امتثل ما أمر الله سبحانه به بأن قال {قال يا قوم} أضافهم إلى نفسه فكأنه قال أنتم عشيرتي يسوؤني ما يسوؤكم {إني لكم نذير مبين} أي مخوف مبين وجوه الأدلة في الوعيد وبيان الدين والتوحيد {أن اعبدوا الله واتقوه} أي اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئا واتقوا معاصيه {وأطيعون} فيما أمركم به لأن طاعتي مقرونة بطاعة الله وطاعة الله واجبة عليكم لمكان نعمه السابقة التي لا توازيها نعمة منعم {يغفر لكم من ذنوبكم} أي فإنكم إن فعلتم ذلك يغفر لكم ذنوبكم ومن مزيدة وقيل إن من هاهنا للتبعيض والمعنى يغفر لكم ذنوبكم السالفة وهي بعض الذنوب التي تضاف إليكم ولما كانت ذنوبهم التي يستأنفونها لا يجوز الوعد بغفرانها على الإطلاق لما يكون في ذلك من الإغراء بالقبيح قيد سبحانه هذا التقييد.
{ويؤخركم إلى أجل مسمى} وفي هذا دلالة على ثبوت أجلين كأنه شرط في الوعد بالأجل المسمى عبادة الله والتقوى فلما لم يقع ذلك منهم اقتطعوا بعذاب الاستيصال قبل الأجل الأقصى بالأجل الأدنى ثم قال {إن أجل الله} يعني الأقصى {إذا جاء لا يؤخر لوكنتم تعلمون} صحة ذلك وتؤمنون به قال الحسن يعني بأجل الله يوم القيامة جعله أجلا للبعث ويجوز أن يكون هذا حكاية عن قول نوح (عليه السلام) لقومه أن يكون إخبارا منه سبحانه عن نفسه {قال} نوح {رب إني دعوت قومي ليلا ونهارا} إلى عبادتك وخلع الأنداد من دونك وإلى الإقرار بنبوتي {فلم يزدهم دعائي إلا فرارا} أي لم يزدادوا بدعائي إياهم إلا فرارا من قبوله ونفارا منه وإدبارا عنه وإنما سمي كفرهم عند دعائه زيادة في الكفر لأنهم كانوا على كفر وضلال فلما دعاهم نوح (عليه السلام) إلى الإقلاع عن ذلك والإقرار به ولم يقبلوه فكفروا بذلك كان ذلك زيادة في الكفر لأن الزيادة هي إضافة الشيء إلى مقدار قد كان حاصلا ولو حصلا جميعا في وقت واحد لم يكن لأحدهما زيادة على الآخر.
{وإني كلما دعوتهم} إلى إخلاص عبادتك {لتغفر لهم} سيئاتهم {جعلوا أصابعهم في آذانهم} لئلا يسمعوا كلامي ودعائي {واستغشوا ثيابهم} أي غطوا بها وجوههم لئلا يروني {وأصروا} أي داموا على كفرهم {واستكبروا استكبارا} أي تكبروا وأنفوا عن قبول الحق والإصرار الإقامة على الأمر بالعزيمة عليه فلما كانوا عازمين على الكفر كانوا مصرين وقيل إن الرجل منهم كان يذهب بابنه إلى نوح فيقول له احذر هذا لا يغوينك فإن أبي قد ذهب بي إليه وأنا مثلك فحذرني مثل ما حذرتك عن قتادة {ثم إني دعوتهم جهارا} أي بأعلى صوتي عن ابن عباس وقيل مجاهرة يرى بعضهم بعضا أي ظاهرا غير خفي {ثم إني أعلنت لهم وأسررت لهم إسرارا} أي دعوتهم في العلانية وفي السر وقيل معناه إني أعلنت جماعة بالدعوة وأسررت جماعة ثم أعلنت للذين أسررت وأسررت للذين أعلنت لهم ومعناه إني سلكت معهم في الدعوة كل مذهب وتلطفت لهم في ذلك غاية التلطف فلم يجيبوا {فقلت استغفروا ربكم} أي اطلبوا منه المغفرة على كفركم ومعاصيكم {إنه كان غفارا} لكل من طلب منه المغفرة فمتى رجعتم عن كفركم وأطعتموه {يرسل السماء عليكم مدرارا} أي كثيرة الدرور بالغيث وقيل إنهم كانوا قد قحطوا وأسنتوا(2) وهلكت أموالهم وأولادهم فلذلك رغبهم في رد ذلك بالاستغفار مع الإيمان والرجوع إلى الله قال الشعبي قحط المطر على عهد عمر بن الخطاب فصعد المنبر ليستسقي فلم يذكر إلا الاستغفار حتى نزل فلما نزل قيل له ما سمعناك استسقيت قال لقد طلبت الغيث بمجاديح السماء(3) التي بها يستنزل القطر ثم قرأ هذه الآية.
{ويمددكم بأموال وبنين} أي يكثر أموالكم وأولادكم الذكور عن عطا {ويجعل لكم جنات} أي بساتين في الدنيا {ويجعل لكم أنهارا} تسقون بها جناتكم قال قتادة علم نبي الله نوح أنهم كانوا أهل حرص على الدنيا فقال هلموا إلى طاعة الله فإن فيها درك الدنيا والآخرة وروى الربيع بن صبيح أن رجلا أتى الحسن فشكا إليه الجدوبة فقال له الحسن استغفر الله وأتاه آخر فشكا إليه الفقر فقال له استغفر الله وأتاه آخر فقال ادع الله أن يرزقني ابنا فقال له استغفر الله فقلنا أتاك رجال يشكون أبوابا ويسألون أنواعا فأمرتهم كلهم بالاستغفار فقال ما قلت ذلك من ذات نفسي إنما اعتبرت فيه قول الله تعالى حكاية عن نبيه نوح إنه قال لقومه {استغفروا ربكم إنه كان غفارا} إلى آخره وروى علي بن مهزيار عن حماد بن عيسى عن محمد بن يوسف عن أبيه قال سأل رجل أبا جعفر (عليه السلام) وأنا عنده فقال له جعلت فداك إني كثير المال وليس يولد لي ولد فهل من حيلة قال نعم استغفر ربك سنة في آخر الليل مائة مرة فإن ضيعت ذلك بالليل فاقضه بالنهار فإن الله يقول {استغفروا ربكم} إلى آخره .
______________________
1- مجمع البيان ، الطبرسي ، ج10 ، ص131-133.
2- أسنت القوم : أجدبوا وأصله من السنة بمعنى الجدب والقحط ، فأبدلوا الواو في الفعل تاءاً ليفرقوا بينه وبين قولهم : أسنى القوم اذا أقاموا سنة في موضع.
3- المجاديح جمع المجدح : نجم من النجوم قيل هو الدبران ، وقيل : هو ثلاثة كواكب كألاثافي وهو عند العرب من الانوار الدالة على المطر ، فجعل الاستغفار مشبها بالأنواء.
{إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ} .
فسّر الشيخ عبد القادر المغربي جزء تبارك ، ونقل فيه عن كتب الأوائل ، وهو يفسر هذه الآيات : ان تاريخ عبادة الأوثان يبتدئ بزمن {انوش بن شيث بن آدم} وان الشرك في زمن نوح قد بلغ الغاية ، فاختاره اللَّه سبحانه لنضال هذا الشرك ، وإنذار المشركين بالهلاك إن أصروا على الضلال . . واسم نوح الراحة ، وبينه وبين آدم جده الأكبر 1056 سنة ، ولما حدث الطوفان كان عمره 600 سنة ، وعاش بعده 350 عاما ، وأدركه حفيده إبراهيم الخليل ، وعاش معه أكثر من نصف قرن ، وبعد أن نجا نوح من الطوفان انصرف إلى الأرض يحرثها ويغرسها . هذا ملخص ما نقله المغربي عن كتب الأوائل ، واللَّه أعلم بخلقه من أنفسهم .
{قالَ يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهً واتَّقُوهُ وأَطِيعُونِ} . أرسل سبحانه نوحا إلى قومه بأمور ثلاثة : الأول أن يتركوا عبادة الأصنام ويعبدوا إلها واحدا . الثاني أن يفعلوا الخير ويتقوا الشر . الثالث أن يطيعوه فيما يأمر وينهى ، وضمن لهم - إن استجابوا - أمرين : الأول {يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ} التي اقترفتموها قبل الايمان لأن الايمان يجبّ ما قبله . أما الذنوب التي ارتكبوها بعد الايمان فإنهم مسؤولون عنها ، وهذا ما تومئ إليه كلمة {من ذنوبكم} .
الأمر الثاني {ويُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوكُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} . إذا آمنتم باللَّه وحده يدرأ عنكم عذاب الاستئصال بالطوفان ونحوه ، ويمهلكم حتى تستوفوا العمر الطبيعي ، ويؤجل حساب من يذنب منكم إلى يوم القيامة ، وإلا عجّل لكم عذاب الاستئصال في الدنيا {لَوكُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} ان اللَّه ليس بغافل عما يعمل الظالمون .
{قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا ونَهاراً فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً} .
ليلا ونهارا أي دائما : دعاهم نوح دعوة الحق ، وألح عليهم حتى {قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا} - 32 هود ولكنه مضى في دعوته ، ومضوا بدورهم في العناد والنفور {وإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ واسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وأَصَرُّوا واسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً} جعلوا أصابعهم في آذانهم أي سدوا مسامعهم عن دعوة الحق ، واستغشوا ثيابهم تغطوا بها كيلا يروا وجه الداعي ، وقد يكون هذا حقيقة ، ويجوز أن يكون تعبيرا مجازيا عن عنادهم وإصرارهم على الضلال ، وأيا كان فإن المعنى واحد ، وهو النفور من دعوة الحق تعاظما على نوح الذي يرونه دونهم منزلة ومقاما فكيف يكونون في عداد أتباعه ، كما جاء في الآية 27 من سورة هود : {وما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ وما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ} .
{ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً} . قال جماعة من المفسرين : ان قول نوح أولا : دعوت قومي ليلا ونهارا ، وقوله ثانيا : دعوتهم جهارا ، وقوله ثالثا : أعلنت وأسررت - يدل على ان دعوته كانت على ثلاث مراتب : ابتدأها في السر ، ثم ثنى بالجهر ، ثم ثلَّث بالإعلان والسر معا . وليس هذا بعيدا عن ظاهر الآيات ، ولكن يجوز أن يكون مراد
نوح من هذا العطف والتكرار انه دعاهم بكل أسلوب واستمر على ذلك بلا ملل وفتور ، ولكن على غير جدوى .
{فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً ويُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وبَنِينَ ويَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ ويَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً} . إذا آمنوا باللَّه وحده وأخلصوا له بالقول والفعل فإن نوحا يضمن لهم على اللَّه سبحانه ان يكفّر عنهم ما سلف من سيئاتهم ، وان يغنيهم من فضله بالأموال والأولاد ، فتفيض السماء عليهم بخيراتها ، والأرض بثمراتها ، ويجمع لهم بين الصحة والأمان والرخاء والهناء مع تكثير النسل .
الايمان والرخاء :
وتسأل : ان هذه الآيات ربطت بين الايمان والتقوى من جهة ، وبين الرخاء والهناء من جهة مع ان العيان يثبت العكس . . وأوضح مثال على ذلك الولايات المتحدة الأمريكية ، فإنها أطغى دولة في الكرة الأرضية ، وأكثرها فسادا واعتداء حتى اتخذت لنفسها مبدأ لا تحيد عنه ، وهومن لم يكن معها - أي عبدا لها – فهو عدوها اللدود . . وكلنا يعلم ما كان لهذه السياسة من ويلات ، فما من دم يسفك أو فساد يظهر في شرق الأرض وغربها إلا وللولايات المتحدة يد فيه بشكل أو بآخر . . وما من خائن لأمته ووطنه إلا ويجد في أحضانها مقاما كريما ، وعرينا أمينا . . ومع هذا فهي أقوى وأغنى دول العالم على الإطلاق ، وكفى شاهدا على ذلك ان دخلها يبلغ 43 من مجموع الانتاج العالمي مع العلم بأن نسبة سكانها عددا إلى نسبة سكان العالم هي 6 فما هو وجه الجمع بين هذا وبين ظاهر الآيات التي ربطت الرخاء بالايمان ؟
الجواب أولا : ان هذه الآيات نزلت في قوم نوح خاصة ، ولا دلالة لها على العموم والشمول كي يتعدى بها إلى غيرهم . . هذا ، إلى ان اللَّه شأنا خاصا في معاملة الأمم التي ينذرها بلسان أنبيائه مباشرة .
ثانيا : ان ثراء الولايات المتحدة من الشيطان لا من الرحمن لأن معظمه من السلب والنهب .
ثالثا : ان هذه الآيات ربطت بين سعادة الدنيا والآخرة معا وبين الايمان لا بينه وبين سعادة الدنيا وحدها : {ولا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً ولَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ} - 178 آل عمران .
رابعا : وما يدريك ان الولايات المتحدة وغيرها من الدول الباغية هي في أمن وأمان ؟ وأي عاقل يأمن الغوائل ؟ . وهل دامت الإمبراطورية الرومانية بل والبريطانية وغيرها وغيرها حتى تدوم غطرسة الولايات المتحدة ومفاسدها ؟ وهذه بشائر الانهيار يتبع بعضها بعضا ، فمن موجات التحرر في العالم كله إلى ثورة الثلاثين مليون زنجي في قلب الولايات المتحدة ، إلى التضخم المالي الذي تداويه بالحروب المحدودة ، ومن سيطرة الصناعة العسكرية إلى تلاعب الصهاينة بالحكام والشيوخ والنواب ، ومن إمبراطورية المخابرات إلى القتل والخطف وإشعال الحريق إلى الحشيش والمخدرات ، ومن الصراع والعداء مع أكثر أهل القارات الخمس إلى رئيس يحمي ويحامي عن اللصوص وسفاكي الدماء . . إلى ما لا نهاية . .
ومستحيل أن يدوم أمن ورخاء لهذا النسيج الغريب العجيب سواء أكان من صنع الولايات المتحدة أم صنع غيرها .
ومن غريب الصدف اني في اليوم الذي كنت أكتب فيه هذه الكلمات قرأت في جريدة الجمهورية المصرية تاريخ 0 - 1970 نقلا عن صحف نيويورك :
ان خمسة آلاف من الرجال والشبان المصابين بداء الأبنة قد تظاهروا عبر شوارع نيويورك يحملون اللافتات مطالبين الحكومة بإصدار قانون يبيح لهم ممارسة الشذوذ الجنسي أسوة بما يباح للنساء من الزواج وبيع أجسامهن بالسوق العمومية . . وفي مجلة النيوزويك تاريخ 12 - 10 - 1970 ان القس {توري باري} الشهير باللواط يدعو إلى انتشار اللواط والمساحقة لأنهما لون من الحب الإلهي ، وقد انتشرت دعوته هذه ، وأصبح لها اتباع كثيرون في أنحاء الولايات المتحدة . وليس من شك ان هؤلاء المأبونين سيخرج منهم شواذ يتولون القيادة وسياسة السلم والحرب ، وأمور العلم والعمل في المجتمع الأمريكي . . وعندئذ يصبح كيان الولايات المتحدة أوهى من بيت العنكبوت .
____________________
1- الكاشف ، محمد جواد مغنية ، ج7 ، ص424-427.
تشير السورة إلى رسالة نوح (عليه السلام) إلى قومه وإجمال دعوته وعدم استجابتهم له ثم شكواه إلى ربه منهم ودعائه عليهم واستغفاره لنفسه ولوالديه ولمن دخل بيته مؤمنا وللمؤمنين والمؤمنات ثم حلول العذاب بهم وإهلاكهم بالإغراق والسورة مكية بشهادة سياق آياتها.
قوله تعالى: {إنا أرسلنا نوحا إلى قومه أن أنذر قومك من قبل أن يأتيهم عذاب أليم} {أن أنذر قومك} إلخ، تفسير لرسالته أي أوحينا إليه أن أنذر {إلخ}.
وفي الكلام دلالة على أن قومه كانوا عرضة للعذاب بشركهم ومعاصيهم كما يدل عليه ما حكي من قوله (عليه السلام) في الآية التالية: {اعبدوا الله واتقوه} وذلك أن الإنذار تخويف والتخويف إنما يكون من خطر محتمل لا دافع له لولا التحذر، وقد أفاد قوله: {من قبل أن يأتيهم عذاب أليم} إنه متوجه إليهم غير تاركهم لولا تحذرهم منه.
قوله تعالى: {قال يا قوم إني لكم نذير مبين أن اعبدوا الله واتقوه وأطيعون} بيان لتبليغه رسالته إجمالا بقوله: {إني لكم نذير مبين} وتفصيلا بقوله: {أن اعبدوا الله} إلخ.
وفي إضافته اليوم إلى نفسه إظهار إشفاق ورحمة أي أنكم قومي يجمعكم وإياي مجتمعنا القومي تسوؤني ما أساءكم فلست أريد إلا ما فيه خيركم وسعادتكم إني لكم نذير إلخ.
وفي قوله: {أن اعبدوا الله} دعوتهم إلى توحيده تعالى في عبادته فإن القوم كانوا وثنيين يعبدون الأصنام، والوثنية لا تجوز عبادة الله سبحانه لا وحده ولا مع غيره، وإنما يعبدون أرباب الأصنام بعبادة الأصنام ليكونوا شفعاء لهم عند الله، ولو جوزوا عبادته تعالى لعبدوه وحده فدعوتهم إلى عبادة الله دعوة لهم إلى توحيده في العبادة.
وفي قوله: {واتقوه} دعوتهم إلى اجتناب معاصيه من كبائر الإثم وصغائره وهي الشرك فما دونه، وفعل الأعمال الصالحة التي في تركها معصية.
وفي قوله: {وأطيعون} دعوة لهم إلى طاعة نفسه المستلزم لتصديق رسالته وأخذ معالم دينهم مما يعبد به الله سبحانه ويستن به في الحياة منه (عليه السلام) ففي قوله: {اعبدوا الله واتقوه وأطيعون} ندب إلى أصول الدين الثلاثة: التوحيد المشار إليه بقوله: {اعبدوا الله} والمعاد الذي هو أساس التقوى والتصديق بالنبوة المشار إليه بالدعوة إلى الطاعة المطلقة.
قوله تعالى: {يغفر لكم من ذنوبكم} مجزوم في جواب الأمر وكلمة {من} للتبعيض على ما هو المتبادر من السياق، والمعنى أن تعبدوه وتتقوه وتطيعوني يغفر لكم بعض ذنوبكم وهي الذنوب التي قبل الإيمان: الشرك فما دونه، وأما الذنوب التي لم تقترف بعد مما سيستقبل فلا معنى لمغفرتها قبل تحققها، ولا معنى أيضا للوعد بمغفرتها إن تحققت في المستقبل أو كلما تحققت لاستلزام ذلك إلغاء التكاليف الدينية بإلغاء المجازاة على مخالفتها.
ويؤيد ذلك ظاهر قوله تعالى: {يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ} [الأحقاف: 31] ، وقوله: {يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ} [إبراهيم: 10] وقوله: { قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38].
وأما قوله تعالى يخاطب المؤمنين من هذه الأمة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [الصف: 10 - 12] فهو وإن كان ظاهرا في مغفرة جميع الذنوب لكن رتبت المغفرة فيه على استمرار الإيمان والعمل الصالح وإدامتهما ما دامت الحياة فلا مغفرة فيه متعلقة بما لم يتحقق بعد من المعاصي والذنوب المستقبلة ولا وعد بمغفرتها كلما تحققت.
وقد مال بعضهم اعتمادا على عموم المغفرة في آية الصف إلى القول بأن المغفور بسبب الإيمان في هذه الأمة جميع الذنوب وفي سائر الأمم بعضها كما هو ظاهر قول نوح لأمته: {يغفر لكم من ذنوبكم} وقول الرسل: كما في سورة إبراهيم {يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم} وقول الجن كما في سورة الأحقاف لقومهم: {يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم}.
وفيه أن آية الصف موردها غير مورد المغفرة بسبب الإيمان فقط كما أشرنا إليه.
على أن آية الأنفال صريحة في مغفرة ما قد سلف، والمخاطب به كفار هذه الأمة.
وذهب بعضهم إلى كون {من} في قوله: {من ذنوبكم} زائدة، ولم تثبت زيادة {من} في الإثبات فهو ضعيف ومثله في الضعف قول من ذهب إلى أن {من} بيانية، وقول من ذهب إلى أنها لابتداء الغاية.
قوله تعالى: {ويؤخركم إلى أجل مسمى إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر لوكنتم تعلمون} تعليق تأخيرهم إلى أجل مسمى على عبادة الله والتقوى وطاعة الرسول يدل على أن هناك أجلين أجل مسمى يؤخرهم الله إليه إن أجابوا الدعوة، وأجل غيره يعجل إليهم لوبقوا على الكفر، وإن الأجل المسمى أقصى الأجلين وأبعدهما.
ففي الآية وعدهم بالتأخير إلى الأجل المسمى إن آمنوا وفي قوله: {إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر} تعليل للتأخير إلى الأجل المسمى إن آمنوا فالمراد بأجل الله إذا جاء مطلق الأجل المقضي المتحتم أعم من الأجل المسمى وغير المسمى فلا راد لقضائه تعالى ولا معقب لحكمه.
والمعنى: أن اعبدوا الله واتقوه وأطيعوني يؤخركم الله إلى أجل مسمى هو أقصى الأجلين فإنكم إن لم تفعلوا ذلك جاءكم الأجل غير المسمى بكفركم ولم تؤخروا فإن أجل الله إذا جاء لا يؤخر، ففي الكلام مضافا إلى وعد التأخير إلى الأجل المسمى إن آمنوا، تهديد بعذاب معجل إن لم يؤمنوا.
وقد ظهر بما تقدم عدم استقامة تفسير بعضهم لأجل الله بالأجل غير المسمى وأضعف منه تفسيره بالأجل المسمى.
وذكر بعضهم: أن المراد بأجل الله يوم القيامة والظاهر أنه يفسر الأجل المسمى أيضا بيوم القيامة فيرجع معنى الآية حينئذ إلى مثل قولنا: إن لم تؤمنوا عجل الله إليكم بعذاب الدنيا وإن آمنتم أخركم إلى يوم القيامة أنه إذا جاء لا يؤخر.
وأنت خبير بأنه لا يلائم التبشير الذي في قوله: {يغفر لكم من ذنوبكم}.
وقوله: {لوكنتم تعلمون} متعلق بأول الكلام أي لوكنتم تعلمون أن لله أجلين وأن أجله إذا جاء لا يؤخر استجبتم دعوتي وعبدتم الله واتقيتموه وأطعتموني هذا فمفعول {تعلمون} محذوف يدل عليه سابق الكلام.
وقيل: إن {تعلمون} منزل منزلة الفعل اللازم، وجواب لو متعلق بأول الكلام، والمعنى: لوكنتم من أهل العلم لاستجبتم دعوتي وآمنتم، أو متعلق بآخر الكلام، والمعنى: لوكنتم من أهل العلم لعلمتم أن أجل الله إذا جاء لا يؤخر.
قوله تعالى: {قال ربي إني دعوت قومي ليلا ونهارا فلم يزدهم دعائي إلا فرارا} القائل هو نوح (عليه السلام) والذي دعا إليه هو عبادة الله وتقواه وطاعة رسوله، والدعاء ليلا ونهارا كناية عن دوامه من غير فتور ولا توان.
وقوله: {فلم يزدهم دعائي إلا فرارا} أي من إجابة دعوتي فالمراد بالفرار التمرد والتأبي عن القبول استعارة، وإسناد زيادة الفرار إلى دعائه لما فيه من شائبة السببية لأن الخير إذا وقع في محل غير صالح قاومه المحل بما فيه من الفساد فأفسده فانقلب شرا، وقد قال تعالى في صفة القرآن: { وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا} [الإسراء: 82].
قوله تعالى: {وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم} إلخ ذكر مغفرته تعالى غاية لدعوته والأصل دعوتهم ليؤمنوا فتغفر لهم} لأن الغرض الإشارة إلى أنه كان ناصحا لهم في دعوته ولم يرد إلا ما فيه خير دنياهم وعقباهم.
وقوله: {جعلوا أصابعهم في آذانهم} كناية عن استنكافهم عن الاستماع إلى دعوته، وقوله: {واستغشوا ثيابهم} أي غطوا بها رءوسهم ووجوههم لئلا يروني ولا يسمعوا كلامي وهو كناية عن التنفر وعدم الاستماع إلى قوله.
وقوله: {وأصروا واستكبروا استكبارا} أي وألحوا على الامتناع من الاستماع واستكبروا عن قبول دعوتي استكبارا عجيبا.
قوله تعالى: {ثم إني دعوتهم جهارا} {ثم} للتراخي بحسب رتبة الكلام والجهار النداء بأعلى الصوت.
قوله تعالى: {ثم إني أعلنت لهم وأسررت لهم إسرارا} الإعلان والإسرار متقابلان وهما الإظهار والإخفاء، وظاهر السياق أن مرجع ضمير لهم في الموضعين واحد فالمعنى دعوتهم سرا وعلانية فتارة علانية وتارة سرا سالكا في دعوتي كل مذهب ممكن وسائرا في كل مسير مرجو.
قوله تعالى: {فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا - إلى قوله - أنهارا} علل أمرهم بالاستغفار بقوله: {إنه كان غفارا} دلالة على أنه تعالى كثير المغفرة وهي مضافا إلى كثرتها منه سنة مستمرة له تعالى.
وقوله: {يرسل السماء عليكم مدرارا} مجزوم في جواب الأمر، والمراد بالسماء السحاب، والمدرار كثير الدرور بالأمطار.
وقوله: {ويمددكم بأموال وبنين} الأمداد إلحاق المدد وهوما يتقوى به الممد على حاجته، والأموال والبنون أقرب الأعضاد الابتدائية التي يستعين بها المجتمع الإنساني على حوائجه الحيوية.
وقوله: {ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا} هما من قسم الأموال غير أنهما لكونهما من أبسط ضروريات المعاش خصا بالذكر.
والآيات - كما ترى - تعد النعم الدنيوية وتحكي عنه (عليه السلام) أنه يعد قومه توافر النعم وتواترها عليهم أن استغفروا ربهم فلمغفرة الذنوب أثر بالغ في رفع المصائب والنقمات العامة وانفتاح أبواب النعم من السماء والأرض أي إن هناك ارتباطا خاصا بين صلاح المجتمع الإنساني وفساده وبين الأوضاع العامة الكونية المربوطة بالحياة الإنسانية وطيب عيشه ونكده.
كما يدل عليه قوله تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} [الروم: 41] ، وقوله: { وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى: 30] ، وقوله: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [الأعراف: 96] ، وقد تقدم في تفسير الآيات ما لا يخلو من نفع في هذا المقام.
______________________
1- المزان ، الطباطبائي ،ج 20 ، ص23-27.
رسالة نوح الأُولى:
قلنا: إنّ هذه السورة تبيّن من أحوال نوح(عليه السلام) وما يرتبط بأمر دعوته، وتعلم السائرين في طريق اللّه تعالى أُموراً مهمّة في إطار الدعوة إلى الحق وبالخصوص في قابل الأُمم المعاندة، وتبدأ أوّلاً بذكر في بعثته(عليه السلام) فيقول تعالى: {إنّا ارسلنا نوحاً الى قومه أن أنذر قومك من قبل أن يأتيهم عذاب أليم}.
من الممكن أن يكون هذا العذاب الأليم هو عذاب الدنيا أو عذاب الآخرة، والأنسب أن يكون الإثنان معاً، وإن كانت القرائن في آخر آيات هذه السورة تشير إلى أن هذا العذاب هو عذاب الدنيا.
التأكيد على الإنذار والترهيب غالباً ما يؤثر تأثيراً بالغاً، مع أنّ الانبياء كانوا منذرين تارةً ومبشرين تارةً آُخرى، كما يتمّ الإعتماد في سائر الدينا على التحذيرات والعقوبات لضمان تطبيق القوانين.
نوح(عليه السلام) الذي كان هومن أُولي العزم، وصاحب أوّل شريعة إلهية، وله دعوة عالمية، جاء إلى قومه بعد صدور هذا الأمر إليه قال: {قال يا قوم إنّي لكم نذير مبين}.
الهدف هو أن تعبدوا اللّه الذي لا إله إلاّ هو، وتتركوا من دونه، وتتقوا وتطيعوا أمري الذي هو أمر اللّه: {أن اعبدوا اللّه واتقوا وأطيعون}.
في الحقيقة أنّ نوحاً(عليه السلام) قد لخّص مضمون دعوته في ثلاث جمل: عبادة اللّه الواحد، والحفاظ على التقوى، وطاعة القوانين والأوامر التي جاء بها من عند اللّه والتي تمثل مجموعة من العقائد والأخلاق والأحكام.
ثمّ ذكر النتائج المهمّة المترتبة على استجابتهم الدعوة في جملتين لترغيبهم فقال: {يغفر لكم من ذنوبكم}.(2)
في الحقيقة أنّ القاعدة المعروفة «الاسلام يجب ما قبله» هي قانون موجود في كل الأديان الإلهية والتوحيدية وليست منحصرة بالإسلام.
ثمّ يضيف: {ويؤخركم إلى أجل مسمّى إنّ أجل اللّه إذا جاء لا يؤخر لوكنتم تعلمون}، يستفاد جيداً من هذا الآية أنّ «الأجل» وموعد عمر الإنسان قسمان، هما: الأجل المسمّى، والأجل النهائي، أو بعبارة أُخرى الأجل الأدنى، والأجل الأقصى أو الأجل المعلق، والأجل الحتمي، القسم الأوّل للأجل قابل للتغير والتبديل، فقد يتدنى ويقل عمر الفرد كثيراً بسبب الذنوب والاعمال السيئة وهذا نوع من أنواع العذاب الإلهي، وبالعكس فإنّ التقوى وحسن العمل والتدبير يمكن أن تكون سبباً لتأخير الأجل، ولكن الأجل النهائي لا يتغير بأي حال من الأحوال، ويمكن توضيح هذا الموضوع بمثال واحد، وهو أنّه ليس باستطاعة الإنسان أن يبقى خالداً، وإذا كانت جميع الأجهزة البدنية تعمل جيداً ففي النهاية سوف يصل شيئاً فشيئاً إلى زمن ينتهي عمره بعجز في القلب، ولكن تطبيق الأوامر الصحية ومجابهة الأمراض يمكن أن يطيل في عمر الإنسان، وفي حالة عدم مراعاة هذه الأُمور فإنّ من المحتمل أن يقلل ذلك من عمر وينهي عمره بسرعة.(3)
وقوله تعالى : {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا (6) وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا (7) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا (8) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا} [نوح: 5 - 9]
استخدام مختلف الوسائل لهدايتهم، ولكن!!!
تتحدث هذا الآيات عن استمرار مهمّة نوح في دعوته قومه ولكن هذه المرّة جاء الحديث على لسانه مخاطباً ربّه وشاكياً إليه أمره معهم بعبارة مأثرة بليغة.
خطاب نوح(عليه السلام) في هذا الإطار يمكن أن يعبّد الطريق لكلّ المبلغين الرساليين، فيقول: {ربّ إنّي دعوت قومي ليلاً ونهاراً}.
وإنّني لم أتوانى لحظة واحدة في إرشادهم وإبلاغ الرسالة لهم، ثمّ يقول: {فلم يزدهم دعائي إلاّ فراراً}.
ومن العجيب أن تكون الدعوة سبباً لفرارهم، ولكن بما أنّ كلّ دعوة تحتاج إلى نوع من الإستعداد وصفاء القلب والتجاذب المتبادل فليس عجيباً أن يكون هنا أثر معاكس في القلوب الخاملة، وبمعنى آخر أنّ أعداء الحق المعاندين عندما يستمعون لدعوة المؤمنين الرساليين يظهرون لهم المقاومة والإصرار على العناد، وهذا ما يبعدهم عن اللّه بصورة أكثر، ويقوي عندهم روح الكفر والنفاق.
وهذا ما أُشير إليه في سورة الإسراء (82): {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا } [الإسراء: 82].
وما نقرأ كذلك في آيات هذا الكتاب السماوي أنّه سبب لهداية المتقين: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2] ولهذا لابدّ أن يكون هناك مرحلة من التقوى في وجود الإنسان وإن كانت ضعيفة، حتى يتهيأ لقبول الحقّ، هذه المرحلة هي مرحلة {الروح الباحثة عن الحقيقة) والإستعداد لتقبل كلمات الحق.
ثمّ إنّ نوحاً(عليه السلام) يضيف: {وإنّي كلّما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكباراً}.
ولكي لا يسمعوا صوت الحق كانوا يضعون أصابعهم في آذانهم، ويلفون ثيابهم حول أنفسهم أو يضعونها على رؤوسهم لئلا تصل أمواج الصوت إلى أدمغتهم! وربّما كانوا يتقنعون لئلا تقع أعينهم على الهيئة الملكوتية لهذا النّبي العظيم، وفي الحقيقة كانوا يصرون على أن تتوقف الآذان عن السماع والعيون عن النظر!
وهذا في الواقع أمر مدهش أن يصل الإنسان إلى هذه المرحلة من العداوة للحق إلى حدّ لا يعطي لنفسه فرصة النظر والسماع والتفكر.
وقد ورد في بعض التفاسير أنّ بعض اُولئك المعاندين كان يذهب بابنه إلى نوح(عليه السلام) فيقول له: إحذر هذا لا يغوينك، فإنّ أبي قد جاء بي إليه وأنا صغير مثلك فحذّرني مثل ما حذّرتك(4)، {حتى أكون ممّا وفى بحق الوصية وحبّ الخير}.
هذا يدل على أنّ نوحاً(عليه السلام) كان مستمراً في دعوته الإلهية طوال عمره الشريف ولعدّة أجيال وكان لا يعرف التعب أبداً.
وكذلك تتضمّن الآية الإشارة إلى أحد الأسباب المهمّة لتعاستهم وهو الغرور والتكبر، لأنّهم كانوا يرون أنفسهم أكبر من أن يتنازلوا لإنسان مثلهم، وإن كان ممثلاً عن اللّه وتقيّاً، ومهما كان قلبه عامراً بالعلم، فكان هذا الغرور والكبر أحد الموانع المهمّة والدائمة في طريق الحق، ونحن نشاهد النتائج المشؤومة لذلك على طول التاريخ في حياة اُناس لا إنمان لهم.
واستمر نوح(عليه السلام) في حديثه عند المقام الإلهي، فيقول: {ثم إنّي دعوتهم جهاراً}.
دعوتهم إلى الإيمان في حلقات عامّة وبصوت جهور، ثمّ لم أكتفي بهذا: {ثمّ إنّي أعلنت لهم وأسررت لهم إسراراً} قال بعض المفسّرين: إنّ نوحاً(عليه السلام) اتّبع في دعوته ثلاثة أساليب مختلفة حتى يستطيع من النفوذ في هذا الجمع المعاند والمتكبر: كان يدعو أحياناً في الخفاء فواجه أربعة أنواع من الرفض (وضع الأصابع في الآذان، تغطية الوجوه بالملابس، الإصرار على الكفر، والاستكبار}.
وكان يدعو أحياناً بالإعلان، وأحياناً اُخرى يستفيد من طريق التعليم العلني والسري ولكن أيّاً من هذه الاُمور لم يكن مؤثراً(5).
من المعلوم أنّ الإنسان إذا ما نهج طريق الباطل إلى حدّ تتعمق في وجوده جذور الفساد وتنفذ في أعماق وجوده حتى تتحول إلى طبيعة ثانية فيه، فإنّه سوف لا تؤثر فيه دعوة الصالحين ولا ينفع معه خطابات رسل اللّه.
وقوله تعالى : {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً(10) يُرْسِلِ السَّمَآءَ عَلَيْكُمْ مِّدْرَاراً(11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَل وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّت وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَراً(12) مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً(13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً}
ثمرة الإيمان في الدينا:
يستمر نوح(عليه السلام) في تبليغه المؤثر لقومه المعاندين العصاة، ويعتمد هذه المرّة على عامل الترغيب والتشجيع، ويوعدهم بانفتاح أبواب الرحمة الإلهية من كل جهة إذا ما تابوا من الشرك والخطايا، فيقول: {فقلت استغفروا ربّكم إنّه كان غفّاراً}.
ولا يطهركم من الذنوب فحسب بل: {يرسل السماء عليكم مدراراً}(6).
والخلاصة: إنّ اللّه تعالى يفيض عليكم بأمطار الرحمة المعنوية، وكذلك بالامطار المادية المباركة.
ومن الملاحظ في سياق هذه الآية أنّه يقول «يرسل السماء» فالسماء تكاد أن يهبط من شدّة هطول الأمطار! وبما أنّها أمطار رحمة وليست نقمة، فلذا لا تسبب خراباً وأضراراً، بل تبعث على الإعمار والبركة والحياة.
ثمّ يضيف: {ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهاراً} وبهذا فإنّه وعدهم بنعمة معنوية كبيرة، وبخمس نعم أُخرى مادية كبيرة، والنعمة المعنوية الكبيرة هي غفران الذنوب والتطهير من درن الكفر والعصيان، وأمّا النعم المادية فهي هطول الأمطار المفيدة والمباركة في حينها، كثرة الأموال، كثرة الأولاد (الثروات الإنسانية)، الحدائق المباركة والأنهار الجارية.
نعم، إنّ الإيمان والتقوى يبعثان على عمران الدنيا والآخرة بشهادة القرآن المجيد، وورد في بعض الرّوايات انّ قوم نوح المعاندين لما امتنعوا من قبول دعوته حلّ عليهم القحط وهلك كثير من أولادهم، وتلفت أموالهم، وأصاب نساءهم العقم، وقلّ عندهنّ الإنجاب، فقال لهم: نوح(عليه السلام): إن تؤمنوا فسيدفع عنكم كل هذه البلايا والمصائب، ولكنّهم ما اتعظوا بذلك واستمروا في غيّهم وطغيانهم حتى حلّ العذاب النهائي.
______________________
1- الامثل ، ناصر مكارم الشيرازي ، ج14 ، 453-461.
2 ـ «من» في هذه الجملة زائدة وللتأكيد، لأنّ الإيمان باللّه يبعث على غفران جميع الذنوب السابقة، هذا ما يرتبط بحق الناس، وأمّا من باب الذنوب وحكم الحرمة أيضاً يكون مشمولاً بالمغفرة، وما احتمل بعض المفسّرين {كالفخر الرازي في التّفسير الكبير والعلاّمة الطباطبائي(قدس سره) في الميزان) من أنّ (من} هنا تبعيضية وهي تخص الذنوب السابقة لا الآتية يبدو بعيداً، لأنّ الذنوب الآتية غير مذكورة في سياق الآية.
3 ـ كان لنا بحث آخر حول الأجل النهائي والأجل المعلق وذلك في ذيل الآية (2) من سورة
الأنعام.
4 ـ مجمع البيان، ج10، ص361.
5 ـ تفسير الفخر الرازي، ج30، ص136.
6 ـ «مدراراً»: من أصل (درّ) على وزن (جرّ) وتعني في الأصل انسكاب الحليب من ثديي
الاُم ويعطي معنى هطول الأمطار، ومدراراً صيغة للمبالغة.
|
|
"عادة ليلية" قد تكون المفتاح للوقاية من الخرف
|
|
|
|
|
ممتص الصدمات: طريقة عمله وأهميته وأبرز علامات تلفه
|
|
|
|
|
المجمع العلمي للقرآن الكريم يقيم جلسة حوارية لطلبة جامعة الكوفة
|
|
|