أقرأ أيضاً
التاريخ: 24-5-2017
2101
التاريخ: 5-11-2017
2094
التاريخ: 9-11-2017
2837
التاريخ: 5-11-2017
2271
|
تبنى الأمويون عن طريق المصانعة والمداراة بالمال ـ طائفة من المسلمين لوثوا ضمائرهم فدسوا ـ على رسول الله حديثا مكذوباً. ولفقوا على المسلمين آنذاك طائفة من القصص والحكايات وأوجدوا مخارج شرعية كثيرة لموبقات الأمويين.
وقد نهى الإسلام عن الكذب في شتى صوره وبخاصة الكذب على الله ورسوله وفي القرآن طائفة كبيرة من الآيات كلها تبدأ بهذا الشكل:
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا [الأنعام/21] الخ (1).
وباستطاعة الباحث المدقق أن يهتدي ـ دون مشقة كبيرة إلى معرفة «الحديث» المفتعل المكذوب، وتحديد زمانه وتعيين الغاية من وضعه. ويصدق الشيء نفسه على الروايات المكذوبة والأخبار الملفقة
والهدف العام من تلك «الأحاديث» والروايات المكذوبة والأخبار الملفقة: خدمة «العرش» الأموي وتثبيت قواعد بنائه.
أما الهدف الخاص فهو ترجيح كفة بعض الأمويين على بعض آخر في حالة النزاع بين أكثر من جهة أموية واحدة تطمح إلى تسنم مركز قيادة المسلمين.
وكان الأمويون أنفسهم يفعلون ذلك أحيانا، وكان أتباعهم يفعلونه أحياناً ثانية، وكان المأجورون من المشتغلين بأمور الدين يدسونه على الدين أحياناً ثالثة.
وإلى القارئ طائفة من ذلك سقناها على سبيل التمثيل لا الحصر.
ولنبدأ بالأحاديث الملفقة أولا:
ذكر البخاري بأسانيده المختلفة عن عبد الله بن عمر «قال رسول الله إنكم سترون بعدي إثرة وأموراً تنكرونها. قالوا فما تأمرنا يا رسول الله؟ قال أدوا أليهم حقهم وسلوا الله حقكم» (2) .
وروى البخاري كذلك باسانيده المختلفة عن عبد الله بن عباس «قال رسول الله من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر عليه فإنه من فارق الجماعة شبراً فمات إلا ميتة جاهلية (3).
وذكر البخاري (4) أيضاً باسانيده المختلفة عن علقمة بن وائل الحضرمي عن أبيه «قال: سأل مسلمة بن زيد الجعفي رسول الله فقال يا نبي الله أرأيت إن قامت علينا أمراء يسألوننا حقهم ويمنعونا حقنا! فما ترى؟ فاعرض عنه. ثم سأله. فاعرض عنه. ثم سأله في الثانية أو الثالثة ـ فجذبه الأشعث بن قيس ـ وقال رسول الله: اسمعوا واطيعوا فإن عليهم ما حملوا وعليكم ما حملتم. وروى البخاري أيضا باسناده عن عجرفة قال «قال سمعت رسول الله يقول انه ستكون هنات وهنات. فان أراد أن يفرق أمر هذه الامة ـ وهي جمع ـ فاضربوه بالسيف كائنا ما كان (5)»
وروى البخاري كذلك باسناده عن أبي سعد الخدري «قال: قال رسول الله إذا بويع لخلفيتين فاقتلوا الآخر منهما (6)»
وما يجري هذا المجرى من «الأحاديث» لا يكاد يقع تحت حصر لكثرته. وجميعه يدعو المسلمين إلى الخضوع لأوامر الحكومة القائمة مندداً بمثيري الفتن والمشتركين فيها . ويتلخص جميعه فيما يلي (7) «ستكون فتن، القاعد فيها خير من القائم، والقائم خير من الماشي، والماشي خير من الساعي، ومن وجد ملجأ أو معاذاً فليعذ به» .
يتضح من «الأحاديث» الآنفة الذكر أن الرسول يدعو أمته ـ والمؤمنين برسالته ـ إلى الانصياع إلى حكامهم حتى وإن خرج أولئك الحكام في تصرفاتهم على مبادئ الإسلام ـ وذلك خوفاً من التفرقة والقطيعة . فكان الرسول في تلك «الاحاديث» يدعو امته الى هدم رسالته للمحافظة على وحدة الصفوف على حساب الدين ـ وهو أمر على جانب كبير من الخطورة والمجازفة.
وإذا كانت وحدة الصفوف هي الهدف الأسمن للنبي ـ دون اهتمام بالمبادئ التي تحدث تلك الوحدة وفقاً لمستلزماتها ـ فلماذا هدم الرسول وحدة صفوف العرب في جاهليتهم وحطم أصنامهم ودك معتقداتهم الوثنية وهي أعز شيء لديهم؟ !
ولو كانت تلك « الاحاديث » سليمة من الناحية التاريخية فلماذا لم يستشهد بها أحد من الصحابة عند وفاة الرسول واختلاف الاراء حول تراثه وخلافته.
ولماذا لم يستشهد بها أحد من المسلمين حين ظهور الخلاف بين بعض المسلمين حول الزكاة في عهد أبي بكر وظهور ما يطلق عليهم إسم «المرتدين»؟
ولماذا لم يستشهد بها المسلمون أثناء الفتنة الكبرى التي أدت إلى مصرع ثالث الخلفاء الراشدين ؟ !
ولماذا لم تتذكرها السيدة عائشة وطلحة والزبير ـ مع مكانتهم من رسول الله فيحجمون على الخروج على الإمام وشق عصا المسلمين ؟
ولماذا لم يستشهد بها أبو موسى الأشعري حينما كان يخذل أهل الكوفة عن نصرة الإمام ؟ . يضاف إلى ذلك أن تلك «الأحاديث» تتناقض هي وكثير من الآيات القرآنية والاحاديث النبوية. كما أنها لا تنسجم مع الذوق الإسلامي وسيرة الرسول.
جاء في سورة البقرة {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة/190]
وفي سورة المائدة {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم .. }
وفي سورة المجادلة { لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو ابناءهم أو اخوانهم وعشيرتهم } .
وفي سورة الممتحنة { يا أيها الذين آمنوا لا تتولوا قوماً غضب الله عليهم} .
أما الاحاديث التي تفند «الاحاديث» الآنفة الذكر فإلى القارئ طرفا منها : ذكر مسلم ابن الحجاج (8) عن ابن مسعود بأسانيده المختلفة « أن رسول الله قال : ما من نبي بعثه الله في امته قبلي إلا وكان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدرون بأمره . ثم أنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون مالا يفعلون ويفعلون مالا يؤمرون. فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن؛ ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن».
وجاء عن أبي سعيد الخدري أنه قال: «سمعت رسول الله يقول: من رأى منهم (9) منكراُ فليغيره بيده. فإن لم يستطع فبلسانه. فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان (10)».
أما القصص والخبار المكذوبة فإلى القارئ طائفة منها تاركين تلمس جوانب الوضع فيها إلى القارئ نفسه. ولنبدأ بقصة نفي العهر والزنى عن هند أم معاوية (11).
تحدث عتبة مع إبنته هند في أحد الأيام حول رمي الناس إياها بالفجور على أثر اتهام زوجها الفاكه إياها بذلك وطلاقه إياها الأمر الذي أدى إلى زواجها بأبي سفيان، وأخبر عتبة إبنته قائلاً إنك إذا كنت زانية فإنني سأدس إلى الفاكه من يقتله فينقطع عنك القالة. فحلفت أنها لا تعرف لنفسها جرما وإنه لكاذب عليها.
فقال عتبة للفاكه إنك قد رميت إبنتي بأمر عظيم فهل لك أن تحاكمني إلى بعض الكهنة؟ فخرج الفاكه في جماعة من بني مخزوم، وخرج عتبة في جماعة من بني عبد مناف وأخرج معه هند ونسوة معها. فلما شارفوا بلاد الكاهن تغيرت حال هند وتنكر أمرها واختطف لونها ، فرأى ذلك أبوها .
فقال لها أبوها: إني أرى ما بك . وما ذاك إلا لمكروه عندك . فهلا كان هذا قبل أن يشتهر عند الناس مسيرنا؟
فقالت: يا أبتي إن الذي رأيت مني ليس لمكروه وعندي ولكني أعلم أنكم تأتون بشراً يخطئ ويصيب ولا آمن أن يسمى ميسما يكون علي عاراً عند نساء مكة .
قال لها فاني سأمتحنه قبل المسألة بأمر .
ثم صفر بفرس له فأدلى ثم أخذ حبة بر فأدخلها في إحليله وشده بسير وتركه. حتى إذا وردوا على الكاهن أكرمهم ونحر لهم. فقال عتبة: إنا جئناك لامر وقد خبأت لك خبيئا اختبرك به. فانظر ما هو؟
فقال: ثمرة في كمرة.
فقال: أبين من هذا؟
قال: حبة بر في إحليل مهر.
قال صدقت. أنظر الآن في امر هذه النسوة . فجعل يدنو من واحدة واحدة منهم ويقول انهضي حتى صار إلى هند فضرب على كتفها وقال: أنهضي غير رفحاء ولا زانية ولتلدن ملكا يقال له معاوية » . ولا ندري كيف اهتدى ذلك الكاهن إلى حبة البر في إحليل المهر !! وإلى هند ـ دون سائر النساء ـ فأثبت «طهرها» وبشرها بغلام إسمه معاوية؟
إن كل ما نستطيع أن نقوله عن هذا « الكاهن » إنه خرافي من نسيج خيال المدافعين عن هند والمعتذرين عن عهرها الذي يذكره مؤرخو المسلمين . وما يصدق على القصة الآنفة الذكر يصدق على زميلتها التي تروى « إسلام » معاوية قبل عام الفتح .
ذكر الواقدي على ما يروي ابن حجر العسقلاني (12) . « أن معاوية أسلم بعد الحديبية وكتم إسلامه حتى اظهره عام الفتح » .
وما ينطبق على ما ذكرناه من الأخبار ينطبق على أخبار أخرى مشابهة وفي مقدمتها الاستدلال بسيماء معاوية ـ وهو في طفولته ـ على سيادته قومه بنظر أعرابي ، وعلى سيادته العرب قاطبة بنظر أمه هند . قال ابن حجر العسقلاني (13) .
« أخرج البغوي من طريق محمد بن سلام الجمحي عن أبان بن عثمان بن عفان قال كان معاوية بمنى ـ وهو غلام مع أمه ـ إذ عثر . فقالت قم لا رفعك الله . قال لها إعرابي لم تقولين هذا ؟ والله إني لأراه سيسود قومه . فقالت لا رفعة الله إن لم يسد إلا قومه (14) » .
ومن أكذب ما قرأناه ـ في معرض الإطراء على معاوية ـ ما ذكر عن أبي هريرة إنه قال سمعت رسول الله يقول « إن الله إئتمن على وحيه ثلاثة : أنا وجبرئيل ومعاوية ».
وذكر الخطيب البغدادي (15) قولا مأثوراً فحواه أن معاوية ابن أبي سفيان ستر أصحاب رسول الله فاذا كشف الرجل الستر اجترئ على ما وراءه »
وذكر ايضاً أنه سمع رجلا يسأل المعافي بن عمران رأيه في المفاضلة بين عمر بن عبد العزيز ، ومعاوية بن أبي سفيان . فغضب المعافي من ذلك غضبا شديداً وقال : لا يقاس بأصحاب رسول الله أحد . معاوية صاحبه ، وصهره ، وكاتبه ، وأمينه على وحي الله ، وقد قال رسول الله . دعوا لي أصحابي وأصهاري فمن سهم فعليه لعنة الله والملائكة والناس اجمعين (16) » .
وعندما أراد معاوية أن يمهد الأمر ـ من بعده ـ لإبنه يزيد لفق دعاة السوء جملة قضايا لتغطية فسقه وفجوره. نذكر منها ما يلي:
ذكر محمد بن عبيد الله بن عمرو العتبي، على ما يروي ابن الأثير (17). «أن معاوية ـ ومعه إمرأته إبنة قرظة ـ نظر إلى يزيد وأمه ترجله. فلما فرغت منه قبلته بين عينيه. فقالت إبنة قرظة لعن الله ساقي أمك.
فقال معاوية: أما والله لما تفرجت عنه وركاها خير مما تفرجت عنه وركاك.
وكان لمعاوية من أبنة قرظة ـ عبد الله وكان أحمق. فقالت: لا والله ولكنك تؤثر هذا عليه. فقال لها سوف أبين لك ذلك. فأمر فدعى له عبد الله. فلما حضر. قال أي بني: إني أردت أن أعطيك ما أنت أهله، ولست بسائل شيئاً إلا أجبتك إليه. فقال: حاجتي أن تشتري لي كلباً فارها وحماراً. فقال اي بني: أنت حمار واشتري لك حماراً! اخرج. ثم أحضر يزيد وقال له مثل قوله لأخيه. فخر ساجداً. ثم قال ـ حين رفع رأسه:
الحمد لله الذي بلغ أمير المؤمنين هذه المدة وأراه هذا الرأي. حاجتي أن تعتقني من النار لأن من ولي أمر الامة ثلاثة أيام أعتقه الله من النار.
فتعقد لي ولاية العهد بعدك، وتوليني العام الصائفة.
وتأذن لي في الحج إذا رجعت، وتوليني الموسم.
وتزيد لأهل الشام كل رجل عشرة دنانير.
فقال معاوية: قد فعلت. وقبل وجهه وقال لامرأته ـ بنت قرظة ـ كيف رأيت؟».
والطريف في القصة الآنفة الذكر ـ عدا تلفيق القول بأن من ولي أمر هذه الامة ثلاثة أيام أعتقه الله من النار.
أن محتويات تلك القصة قد اسندت الى يزيد ابن معاوية ـ قبيل وفاة أبيه وذلك لتحبيبه لأهل الشام تمهيداً لتوليته العرش الأموي بعد وفاة أبيه.
ويؤيد ما ذهبنا إليه أن يزيد طلب من أبيه زيادة عطاء أهل الشام ـ دون غيرهم من المسلمين ، بالاضافة إلى ما كانوا يتمتعون به أثناء حياة أبيه وبخاصة في فترة النزاع مع ابن أبي طالب ليحصل على مؤازرتهم في ترشيحه للخلافة .
ومما يلفت النظر في هذه القصة أن ما ذكر في آخرها يهدم ما ذكر في اولها. فقد نسي واضع القصة أن « يزيد » الذي خر ساجداً بين يدي أبيه وطلب ولاية العهد ليعتقه الله ـ حسب زعمه ـ من النار إلخ .. هو :
يزيد بن معاوية الذي كانت أمه ترجله ـ وعمره ـ في هذه الحال لا يتجاوز السنتين على أحسن الفروض. أي أن واضع القصة نسى أن يزيد بن معاوية هو غير عيسى بن مريم الذي كلم الناس في المهد صبياً. ففي القصة إذن يزيدان:
يزيد بن معاوية الذي ترجله أمه ـ والذي عرفه المسلمون بالفسق، والفجور بعد ذلك و «يزيد» آخر لفق وجوده دعاة السوء ـ قبيل وفاة أبيه أثناء التمهيد لتوليته أمور المسلمين .
ومن الجدير بالذكر أن «يزيد» الوهمي يظهر لنا أحيانا بعد وفاة أبيه كلما آنس أنصار الامويين في ظهوره خدمة للعرش الأموي.
وليزيد الآنف الذكر أخبار مسطورة في بعض كتب الأدب والتاريخ، وله سيرة تناقض سيرة يزيد بن معاوية الذي يعرفه المسلمون. وليزيد الوهمي كذلك خطب تناقض ما هو مأثور عنه.
من ذلك مثلا أن: «يزيد» الوهمي خطب مرة ـ على ما يذكر ابن عبد ربه «العقد الفريد: 2 | 265».
فقال: الحمد لله . أحمده وأستعينه وأؤمن به وأتوكل عليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا . من يهد الله فلا مضل له . ومن يضل فلا هادي له . واشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأن محمدا عبده ورسوله ، اصطفاه لوحيه واختاره لرسالته بكتاب فصله وفضله ، وأعزه وأكرمه ونصره وحفظه . ضرب فيه الأمثال وحلل فيه الحلال وحرم فيه الحرام ، وشرع فيه الدين إعذاراً أو إنذاراً لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسول ، ويكون بلاغاً لقوم عابدين . أوصيكم عباد الله بتقوى الله العظيم الذي ابتدأ الأمور يعلمه وإليه معادها وانقطاع مدتها وتصرم دارها .
ثم إني أحذركم الدنيا فأنها حلوة خفرة حفت بالشهوات ... »
يا للعجب !! يزيد بن معاوية ـ لا يزيد الوهمي ـ يحث الناس على الورع ويزهدهم في الدنيا !! إن الذي لا يرقي إليه الشك بنظرنا هو أن الانسان لو عرض ـ الكلمة المأثورة المارة الذكر مجردة عن توقيع صاحبها ـ على المسلمين في كل مكان لما ترددوا في نسبتها للإمام علي أو الذين يسيرون على نهجه من المسلمين .
ولعل اسم يزيد آخر اسم يرد على الذهن في هذا المضمار .
ومن الأخبار الموضوعة ـ في العهد الاموي « حين اختلف الامويين وانصارهم على « الخليفة » بعد اعتزال معاوية بن يزيد بن معاوية الملك » رؤيا الحصين بن نمير السكوني ، وما اتصل بها من حوادث .
قال الحصين ـ على ما يذكر الطبري (18): إني رأيت في المنام قنديلا معلقاً في السماء، وإن من يمد عنقه إلى الخلافة تناوله. فلم ينله أحد. وتناوله مروان بن الحكم فناله. والله لنستخلفنه ... فلما اجتمع رأيهم للبيعة لمروان بن الحكم قال:
أيها الناس تذكرون عبد الله بن عمر بن الخطاب وهو رجل ضعيف وليس بصاحب أمة محمد الضعيف.
وأما ما يذكر الناس عن عبد الله بن الزبير فانه منافق شق عصا المسلمين. وليس بصاحب محمد المنافق.
وأما مروان فو الله ما كان في الاسلام صدع قط إلا وكان مروان ممن يشعب ذلك الصدع.. وهو الذي قاتل علي بن أبي طالب يوم الجمل».
إن هذه القصة تحمل في ثناياها جملة أمور تستوقف الباحثين. فقد لفق موضوع القنديل المعلق في السماء للتعبير عن أمر الخلافة منوط بالله وان خليفة المسلمين هو نور الله في الارض ليربط هذا الامر ـ بعد ذلك ـ بمروان بن الحكم إيهاما للبسطاء والسذج من المسلمين .
وقد اتهم منافسو مروان بتهم شتى من شأنها ـ بنظر واضع القصة ـ أن تبعدهم عن تسنم خلافة المسلمين. فعبد الله بن عمر ضعيف ـ وليس بصاحب أمة محمد الضعيف ـ في حين أن عثمان بن عفان كان، بنظر الامويين أنفسهم (19)، ضعيفاً.
ووصف واضع القصة عبد الله بن الزبير بالنفاق وأنه شق عصا المسلمين، وليس بصاحب أمة محمد المنافق ـ في حين ان زبير «أبا عبد الله» وطلحة ومعاوية وآخرين كثيرين قد شقوا عصا المسلمين بخروجهم على الامام علي بن أبي طالب.
أما مروان بن الحكم فلم يكن «برأي واضع القصة» في الاسلام صدع قط الا كان مروان ممن يشعبه. في حين أن سيرته ـ وسيرة أبيه قد دلت على نقيض ذلك. ومواقفه من الرسول معروفة، وسيرته في تأليب الناس على عثمان بن عفان أشهر من أن تذكر.
ولا ندري كيف جاز لواضع القصة أن يزعم مع اعترافه بحرب مروان لعلي بن أبي طالب ـ وشقه عصا المسلمين ـ بان مروان ممن يشعب الصدع في الاسلام عند حدوثه!!
ويتعلق بما ذكرناه «من القصص الملفقة لخدمة الامويين» ما رواه ابن الاثير (20) عن ابي زياد انه قال: كان فقهاء المدينة أربعة: سعيد بن المسيب وعروة ابن الزبير وقبيصة بن ذئيب وعبد الملك بن مروان.
وقال الشعبي: ما ذاكرت أحداً إلا وجدت لي الفضل عليه إلا عبد الملك بن مروان فأني ما ذاكرته حديثاً إلا زادني فيه ولا شعراً إلا زادني فيه » .
ويلوح للباحث أن هذا النوع من الكذب كان يظهر أحياناً على لسان الحكام الامويين. فكان عبد الملك بن مروان مثلا يقول ـ عندما حضرته الوفاة عام 86 هـ.
«أخاف الموت في شهر رمضان. فيه ولدت، وفيه فطمت، وفيه جمعت القرآن، وفيه بايع لي الناس» .
ولا ندري: كيف استطاع عبد الملك أن يعرف أنه فطم في شهر رمضان ؟ ! وعمره آنذاك لا يتجاوز السنتين .. على أنه ليس من العسير على الباحث ، مع هذا أن يتلمس دوافع الوضع والكذب في أمثال تلك الامور ؟
الناس إياه بالخلافة لكي ترتفع قيمته بنظر المسلمين لما لشهر رمضان من حرمة في نفوسهم .
أما قضية جمع عبد الملك القرآن فنترك التعليق عليها للقارئ لأننا نعلم أن جمع القرآن قد تم في عهد ابن عفان بعد أن أحرقت جميع الصحائف الاخرى.
فهناك إذن «عبد الملك» آخر غير عبد الملك بن مروان. «عبد الملك» الذي لم يكتف بجمع القرآن فقط بل زاد على ذلك أنه جمعه في رمضان ـ وربما كان صائماً ـ على عادة الامويين...!
ولم يقتصر الكذب الأموي على الامويين أنفسهم بل تعداهم الى إخوانهم في الصراع ضد مبادئ الإسلام. فقد انتشرت قصص كثيرة عن عمرو بن العاص، وزياد بن أبيه ، والحجاج بن يوسف ومن هم على شاكلتهم من ولاة السوء ، لرفع شأنهم بنظر البسطاء من الناس . قال ابن حجر العسقلاني (21) :
« ذكر الزبير بن بكار أن رجلا قال لعمرو بن العاص ما أبطأك عن الاسلام وأنت انت في عقلك .. قال : أنا كنا مع قوم لهم علينا تقدم .. فلما بعث رسول الله فأنكروا عليه لذنبهم . فلما ذهبوا وصار الأمر إلينا نظرنا وتدبرنا فاذا حق بين . فوقع في قلبي الاسلام ...
وقال ابراهيم بن مهاجر عن الشعبي عن قبيصة بن جابر : صحبت عمرو بن العاص فما رأيت رجلا أبين قرآنا ولا أكرم خلقا ولا اشبه سريرة بعلانية منه .
وفي صحيح مسلم من رواية عبد الرحمن بن شماسة قال: لما حضرت عمرو بن العاص الوفاة بكى. فقال له عبد الله بن عمرو ـ ابنه ـ ما يبكيك؟ فذكر أنه كان شديد الحياء من رسول الله لا يرفع طرفه إليه ...
المستهزئ برسول الله الذي نزل فيه أن شانئك هو الأبتر».
عمرو الذي حارب رسول الله يوم أحد وقاوم أصحابه عند النجاشي.
عمرو بن العاص الذي غدر بأبي موسى أثناء التحكيم «كان شديد الحياء من رسول الله» وأبين المسلمين قرانا، وسريرته لا تختلف عن علانيته!!! إنه «عمرو الوهمي» عمرو آخر دون شك (22)، ذلك ما يتصل بعمرو الوهمي.
أما «الحجاج» الوهمي فيظهر في الخطب الموضوعة التالية: «اردعوا هذه الانفس فأنها اسأل شيء إذا أعطيت وأعطى شيء إذا سئلت. فرحم الله أمرا جعل لنفسه خطاما وزماما فقادها بخطامها إلى طاعة الله، وعطفها بزمامها عن معصية الله فإنني رأيت الصبر عن محارم الله أيسر من الصبر على عذاب الله (23).
حقاً إنه لحجاج غريب!! إنه أقرب إلى روح الحسن البصري ومن هم على شاكلته من الزهاد منه الى الحجاج بن يوسف والجلاد السفاك. استمع إلى هذا «الحجاج» يقول:
«إن امرءاً أتت عليه ساعة من عمره لم يذكر فيها ربه ويستغفر ربه من ذنبه ويفكر في ميعاده لجدير أن يطول حزنه ويتضاعف أسفه. إن الله كتب على الدنيا الفناء وعلى الآخرة البقاء (24).
وقد نقلت من أمالي أبي احمد العسكري «خطب» كثيرة لصاحبنا «الحجاج» هذا نموذج منها:
أيها الناس قد أصبحتم في أجل منقوص وعمل محفوظ. رب دائب مطيع، وساع لغيره.
خذوا من أنفسكم لأنفسكم ومن غناكم لفقركم، ومما في أيديكم لما بين أيديكم.
الموت في أعناقكم والنار بين أيديكم والجنة أمامكم. فكأن ما قد مضى من الدنيا لم يكن، وكأن الاموات لم يكونوا.
وكل ما ترونه فهو ذاهب. هذه شمس عاد وثمود وقرون كثيرة بين ذلك.
هذه الشمس التي طلعت على التبابعة والأكاسرة وخزائنهم السائرة بين أيديهم وقصورهم المشيدة. ثم طلعت الشمس على قبورهم.
اين الملوك الأولون؟ اين الجبابرة المتكبرون؟ المحاسب الله والصراط منصوب وجهنم تزفر وتتوقد، وأهل الجنة ينعمون في روضة يحبرون.
جعلنا الله وإياكم من الذين إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صماً وعمياناً (25)
ومن الغريب أن ينتقل الكذب من الأحياء إلى الاموات. وأطرف ما عثرنا عليه في هذا الباب ما رواه ابن عبد ربه (26) عن صديقنا «الحجاج الآنف الذكر حين قال:
«سمع صياح الحجاج في قبره فأتوا إلى يزيد بن أبي مسلم فأخبروه فركب في أهل الشام فوقف على قبره فسمع فقال: يرحمك الله يا أبا محمد!! فما تدع قراءة القرآن حياً وميتاً» .
وهناك نوع آخر من الكذب برع فيه الامويون. بدأه شيخهم معاوية وبلغ الذروة في احكامه ونسجه ولا يختلف هذا النوع من الكذب عن الكذب المنظم الذي تقوم به أجهزة الدعاية الحديثة في كثير من الأقطار.
وليس من غير الممكن أن يتصدى الباحث ـ الذي له متسع من الوقت والولع والجهد ـ لدراسة مقارنة بين أساليب الدعاية عند هتلر وزميله ابن أبي سفيان.
وبقدر ما يتعلق الأمر بأساليب الدعاية التي تبناها معاوية ـ وتقع ضمن هذا الباب التي كانت تهدف إلى تثبيت قواعد حكمه يمكننا أن نقدم للقارئ الامثلة التالية:
ذكر ابراهيم بن سعد بن هلال الثقفي صاحب «كتاب الغارات (27) أن معاوية كتب لقيس أن يدعوا أهل مصر للمطالبة بدم عثمان وأن يبايعوا لمعاوية ثم قال:
«ولك سلطان العراقين إن ظفرنا ما بقيت، ولمن أحببت من أهل بيتك سلطان الحجاز ما دام لي سلطان. وسلني عن غير هذا مما تحب، فإنك لا تسألني شيئاً إلا اتيته، فأراد قيس أن يخادعه فكتب له يماطله. فأجابه معاوية:
أما بعد: فلم أرك تدنو فأعدك سلما، ولم أرك تتباعد فأعدك حربا. أراك كحبل الجزور. وليس مثلي يصانع بالخداع، ولا يخدع بالمكايد ...
فلما قرأ سعد ذلك كتب له.
أما بعد: فالعجب من استسقاطك رأيي. والطمع في أن تسومني ـ لا أباً لغيرك ـ الخروج من طاعة أولى الناس بالامر واقولهم بالحق واهداهم سبيلا، وأقربهم من طاعة أولى الناس بالامر وأقولهم بالحق اهداهم سبيلا، وأقرابهم من رسول الله وتأمرني بالدخول في طاعتك: طاعة أبعد الناس من هذا الامر، وأقولهم بالزور، وأضلهم سبيلا، وأبعدهم عن رسول الله.» فيئس معاوية منه. «فاظهر للناس أن قيسا قد بايعكم فادعوا له. وقرأ لهم كتابه الذي لان فيه وقاربه .
واختلق كتابا نسبه إلى قيس فقرأه على أهل الشام للأمير معاوية بن أبي سفيان من قيس بن سعد .
أما بعد: إن قتل عثمان كان حدثا في الاسلام عظيماً. وقد نظرت لنفسي وديني فلم أر بوسعي مظاهرة قوم قتلوا إمامهم مسلما محرما برا أنقيا. فنستغفر الله لذنوبنا. إلا وأني قد ألقيت لكم بالسلام واحببت الى قتال قتلة إمام الهدى المظلوم. فاطلب مني ما أحببت من الاموال والرجال أعجله إليك » .
وقال ابراهيم بن (28) سعد بن هلال الثقفي صاحب «كتاب الغارات» «حدثني عبد الله بن علي بن محمد بن ابي سيف عن أصحابه أن عليا كتب الى محمد بن أبي بكر كتابا ينظر فيه ويتأدب بأدبه ـ عندما كان واليا على مصر ـ . فلما ظهر عليه عمرو بن العاص وقتله أخذ كتبه فبعث بها إلى معاوية ... فقال معاوية لخاصته أنا لا نقول أن هذا من كتب علي بن أبي طالب . ولكن نقول هذا من كتب أبي بكر التي كانت عند أبنه» .
وروى (29) إبراهيم بن سعد بن هلال الثقفي صاحب «كتاب الغارات» عن محمد ابن عبد الله بن عثمان عن علي بن محمد بن ابي سيف المدائني.
«أن معاوية اقبل يقول لأهل الشام:
أيها الناس أن عليا وجه الاشتر إلى مصر فادعوا الله أن يكفيكموه.. ودس إليه من يسقيه السم. «فكانوا يدعون عليه في كل صلاة. وأقبل الذي سقاه السم إلى معاوية فأخبره بهلاك الاشتر. فقام معاوية في الناس خطيباً فقال:
أما بعد فإنه كان لعلي يدان يمينان. فقطعت إحداهما يوم صفين ـ وهو عمار ابن ياسر ـ والاخرى اليوم ـ وهو مالك الاشتر».
ثم أخبرهم بأن هلاك الاشتر نتج عن دعائهم ربهم عليه في صلاتهم لأنهم حزب الله «وحزب الله هم الغالبون» وهمس في أذن عمرو بأن لله جنوداً من عسل.
وكتب معاوية (30) إلى شرحبيل بن السمط الكندي ـ وهو عدو لجرير بن عبد الله البجلي الذي أرسله علي [عليه السلام] طالبا البيعة له من معاوية ـ أما بعد «فإن جرير بن عبد الله قدم علينا من عند علي بن أبي طالب بأمر. فأقدم علينا. ودعا معاوية يزيد بن أسد وبسر بن أبي ارطاة وعمرو بن سفيان ومخارق بن الحرث الزبيدي وحمزة بن مالك وحابس بن سعد الطائي، وهؤلاء رؤوس قحطان واليمن.
كانوا ثقات عند معاوية، وهم بنو عم شرحبيل بن السمط. فأمرهم أن يلقوه ويخبروه كل على حدة أن عليا هو الذي قتل عثمان.
فلما قدم شرحبيل على معاوية أمر الناس أن يتلقوه ويعظموه. فلما دخل على معاوية تكلم معاوية فقال يا شرحبيل إن جرير بن عبد الله قدم علينا يدعونا إلى بيعة علي وعلي خير الناس لولا أنه قتل عثمان بن عفان. وقد حبست نفسي عليك وإنما أنا رجل من الشام أرضي ما رضوا وأكره ما كرهوا.
فقال شرحبيل: أخرج فانظر. فلقيه هؤلاء النفر المخطئون. فكلهم أخبره أن عليا قتل عثمان. فرجع مغضبا إلى معاوية، فقال يا معاوية: أبى الناس إلا ان عليا قتل عثمان. والله إن بايعت لنخرجنك من شامنا ولنقتلنك .
فقال معاوية : ما كنت لأخالف عليكم . ما أنا إلا رجل من أهل الشام .
وروى ابراهيم بن محمد بن سعد بن هلال الثقفي في « كتاب الغارات » (31) قال كانت غارة الضحاك بن قيس ـ بعد الحكمين وقبل النهروان .
وكتب معاوية لهم نسخة واحدة . فقرئت على الناس : أما بعد فإنا كتبنا كتاباً بيننا وبين علي . وشرطنا شروطا وحكمنا رجلين يحكمان علينا وعليه بحكم الكتاب لا بعدوانه . وجعلنا عهد الله وميثاقه على من نكث العهد ولم يمض الحكم : وإن حكمي الذي كنت حكمته أثبتني وأن حكمه خلعه .
وقد أقبل علينا علي ظالما . ومن نكث فإنما ينكث على نفسه . تجهزوا للحرب بأحسن جهاز . وأعدوا آلة القتال . وأقبلوا خفافاً وثقالا . يسرنا الله وإياكم لصالح الاعمال .
وخطب معاوية في أهل الشام فقال مندداً بخصمه علي . « يا اهل الشام ما ظنكم برجل لم يصلح لأخيه » وذلك عندما فارق عقيل أخاه والتحق بمعاوية في قصته المعروفة
يا اهل الشام « إن أبا لهب ـ المذموم في القرآن باسمه ـ هو عم علي بن أبي طالب فارتاع أهل الشام وشتموا عليا ولعنوه (32) » .
وروى ابراهيم (33) بن محمد بن سعد بن هلال الثقفي صاحب « كتاب الغارات » أن النعمان بن بشير قدم هو وأبو هريرة على علي بن أبي طالب من عند معاوية ـ بعد أبي مسلم الخولاني ـ يسألانه أن يدفع قتلة عثمان الى معاوية ليقيدهم بعثمان لعل الحرب أن تنطفاً ويصطلح الناس .
وإنما أراد معاوية أن يرجع مثل النعمان وأبي هريرة ـ من عند علي ـ إلى الناس وهم لمعاوية عاذرون ولعلي لائمون.
فقال لهما ائتياه فانشداه الله وسلاه بالله لما دفع إلينا قتلة عثمان فإنه قد آواهم ومنعهم . ثم لا حرب بيننا وبينه . فإن أبى فكونوا شهداء عليه. وأقبلا على الناس فأعلماهم ذلك .
وخطب (34) معاوية في اهل الشام ـ عند ما قدم عليه جرير بن عبد الله البجلي طالباً البيعة منه للإمام .
ثم قال : الحمد لله الذي جعل الدعائم للإسلام وأركانا والشرائع للإيمان برهاناً . يتوقد قبسه في الارض المقدسة جعلها الله محل الانبياء والصالحين من عباده فأحلهم أرض الشام ورضيهم لها لما سبق من مكنون علمه من طاعتهم ومناصحتهم خلفاءه والقوام بأمره والذابين عن دينه وحرماته . ثم جعله لهذه الأمة نظاماً في سبيل الخيرات إعلاما يردع الله بهم الناكثين ويجمع بهم ألفة المؤمنين .
أعلى أقوام يوقظون نائمنا ويخيفون آمننا ، ويريدون إراقة دمائنا وإخافة سبلنا . وقد علم الله أنا لا نريد لهم عقاباً ولا نهتك لهم حجابا . جعلهم على ذلك البغي والحسد فنستعين الله عليهم .
أيها الناس قد علمتم أني خليفة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب وأمير المؤمنين عثمان بن عفان عليكم . وإني لم أقم رجلا على خزاية قط . وإني ولي عثمان وقد قتل مظلوماً والله تعالى يقول :
« ومن قتل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل إنه كان منصوراً ، وأنا احب أن تعلموني ذات أنفسكم في قتل عثمان .
فقام أهل الشام فأجابوا إلى الطلب بدم عثمان وبايعوا معاوية على ذلك .
وروى نصر بن مزاحم « في كتاب صفين ( 35) ، عن صالح بن صدقة عن ابن اسحق عن خالد الخزاعي أن عثمان لما قتل وأتى معاوية بكتاب علي يعزله عن الشام صعد المنبر .
وذكر الواقدي (36) أن معاوية خاطب أهل الشام ـ أثناء رجوعه بعد تنازل الحسن ـ فقال : « أيها الناس إن رسول الله قال : إنك ستلي الخلافة من بعدي . فاختر الارض المقدسة . وقد اخترتكم . فالعنوا ابا تراب . فلعنوه .
فلما كان من الغد كتب كتابا ثم جمعهم فقرأه عليهم . وفيه : هذا كتاب كتبه أمير المؤمنين معاوية صاحب وحي الله الذي بعث محمداً نبياً ، وكان أمياً لا يقرأ ولا يكتب فاصطفى له من أهله وزيراُ وكاتباً اميناً فكان الوحي ينزل على محمد وأنا اكتبه . هو لا يعلم ما أكتب . فلم يكن بيني وبين أحد من خلقه .
فقال له الحاضرون كلهم صدقت يا أمير المؤمنين (37) .
وذكر الطبري أن معاوية بذل لسمرة بن جندب مئة ألف درهم حتى يروي أن هذه الآية أنزلت في علي :
« ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام . وإذا تولى سعى في الارض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد » .
وإن الآية الثانية نزلت في ابن ملجم وهي قوله :
«ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله فلم يقبل» . فبذل له مئتي ألف درهم فلم يقبل. فبذل له اربعمائة الف فقبله وروى ذلك (38). وقد حارب معاوية علي بمئة الف لا يفرقون ـ على حد قوله ـ بين الناقة والجمل . وبلغت طاعتهم إياه حداً يفوق الوصف . فقد صلى بهم ـ عند مسيرهم الى صفين ـ الجمعة يوم الأربعاء .
وعندما خرج عبد الله بن علي « في طلب بني مروان » الى الشام ـ وقد ببعضهم الى السفاح حلف هؤلاء للسفاح انهم ما عملوا لرسول قرابة ولا اهل بيت يرثونه غير بني امية . كل ذلك بفضل إتقان معاوية لفن الدعاية على اساس السير على اساس الكذب المنظم .
وفي معرض التحدث عن براعة معاوية في الانتفاع بهذا الفن في شجب خصومه يذكر أحد (39) الرواة « ان معاوية وضع قوما من الصحابة وقوما من التابعين على رواية أخبار قبيحة في علي .. منهم أبو هريرة وعمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة وعروة بن الزبير .
وروى الزهري أن عروة بن الزبير حدثه قال حدثتني عائشة قالت كنت عند رسول الله إذ اقبل العباس وعلي . فقال النبي يا عائشة هذان يموتان على غير قبلتي .
وزعم عروة كذلك أن عائشة حدثته فقالت كنت عند النبي إذ اقبل العباس وعلي . فقال الرسول يا عائشة ان سرك ان تنظري الى رجلين من اهل النار فانظري الى هذين قد طلعا . فاذا العباس وعلي بن أبي طالب » .
«وأبرع ما برع فيه معاوية من ألوان الدهاء القاء الشبهة بين خصومه في زمن كانت فيه هذه الشبهات من ايسر الامور. كان اذا اراد ان يستميل احد البطارقة من دولة الروم ـ فاستعصى عليه ـ كتب له رسالة مودة وثناء وأنفذها مع رسول يحمل إليه الهدايا والرشى كأنها جواب على طلب منه يساوم فيه على المصالحة والغدر برؤسائه من دولة الروم. ويخرج الرسول العربي من طريق متباعد كأنه يتعمد الروغان من العيون والجواسيس. فاذا اعتقله الروم ـ ولابد أن يعتقله لانه يتعرض للإعتقال ويسعى إليه ـ وقعت الشبهة على البطريق المقصود وتعذر الاطمئنان إليه من قومه بعد ذلك وعزلوه وابعدوه ان لم ينكلوا به أشد النكال (40) وحيلة اخرى لجأ إليها معاوية للإيقاع بخصومه هي تدبير مؤامرة اغتيال من يرى اغتياله وسيلة ناجحة في القضاء عليه . فعل ذلك مع الأشتر والحسن بن علي وعبد الرحمن بن خالد بن الوليد .
هذا عدا عن ضربه خصومه ببعضهم فيستغنى ـ على ما يقول العقاد ـ بالوقيعة بينهم عن الايقاع بهم .
ولكن معاوية ـ مع مداهنته وخبثه ـ لم يتردد، إذا استلزمت مصالحه ذلك من الايقاع بخصومه والتنكيل بهم بشكل من القسوة والغلظة قل أن يجدها المرء إلا في الامويين.
_____________
(1) راجع: سورة آل عمران، والأنعام، والأعراف، وهود، والنحل، والكهف، والعنكبوت، والسجدة، والزمر.
(2) صحيح البخاري 8 | 87 .
(3) المصدر نفسه 8 | 87 .
(4) المصدر نفسه 2 | 119 .
(5) صحيح البخاري 2 | 121 .
(6) صحيح البخاري 2 | 122 . ولسنا نعلم من هو الآخر منهما ؟ أهو الذي تدور عليه الدوائر ؟ وقديماً قيل :
الناس من يلق خيراً قائلون له * ما يشتهي ولأم المخفق الهبل
(7) روى ذلك أحمد بن حنبل في مسنده 2 | 282 بإسناده عن أبي هريرة . قال : قال رسول الله :
(8) صحيح مسلم 1 | 38 ـ 39 .
(9) كذا في الأصل المطبوع والصواب : من رأى منكم « الناشر » .
(10) إبراهيم المالكي ، الفتوحات الوهابية ص 261 .
(11) سوف نذكر قصة عهر السيدة هند في مكان آخر من هذه الدراسة كما رواها كبار المؤرخين .
(12) الاصابة في تمييز الصحابة 3 | 412 ـ 413 .
(13) المصدر نفسه 3 | 412 ـ 413 .
(14) ومن الطريف أن نذكر هنا أن تلفيق الأحاديث والقصص لخدمة الامويين لم يقتصر على دعاتهم فقط بل تعداه إلى الامويين أنفسهم . فقد لفق شيخهم معاوية ، كثيراً من القصص أثناء نزاعه مع علي كما سنرى وإلى القارئ نموذجاً من أكاذيبه الاخرى ذكر الجهشياري في كتاب الوزراء والكتاب ص 34 « إن معاوية مر بسعد ـ في طريق مكة بعد صلاة الصبح ـ ومعه أهل الشام فوقف على سعد فسلم عليه . فلم يرد عليه السلام . فقال معاوية لأهل الشام أتدرون من هذا ؟ هذا سعد صاحب رسول الله لا يتكلم حتى تطلع الشمس فبلغ سعدا ذلك فقال ما كان ذلك مني والله على ما قال . ولكن كرهت أن أكلمه » .
(15) تاريخ بغداد 1 | 209 ، 210 .
(16) يلوح أن دعاة معاوية قد نسوا أن هذا « الحديث »على معاوية لا له . فمعاوية هو الذي بدأ بلعن الامام علي بن ابي طالب دون مبرر شرعي وخلافا للقرآن وسيرة النبي والاخلاق الانسانية الرفيعة . فكأن الرسول لم يلعن إلا معاوية في هذا « الحديث » حين قال « دعوا لي أصحابي واصهاري فمن سبهم فعليه لعنة الله » !! ويغلب على ظني أن هذا » الحديث » قد وضع بعد أن بلغ معاوية غايته من سب الامام وأصبحت ظروفه السياسة بحاجة إلى أسلوب آخر غير السب .
(17) الكامل في التاريخ 3 | 317 .
(18) تاريخ الامم والملوك 7 | 38 .
(19) خطب عبد الملك بن مروان يوماً فقال : « لست بالخليفة المستضعف ـ يعني عثمان ـ ولا بالخليفة المداهن ـ يعني معاوية ـ ولا بالخليفة المأفون ـ يعني يزيد » ابن الاثير : الكامل في التاريخ 4 | 41 .
(20) الكامل في التاريخ 3 | 104 أما أرجوزة ابن عبد ربه في وصف سيرة عبد الرحمن الناصر فأشهر من أن تذكر . فقد أغفل اسم علي بن أبي طالب من سلسلة الخلفاء الراشدين واعتبر معاوية رابعهم ثم وصل الدولتين الامويتين ـ في الشام والاندلس ـ ببعضهما كما هو معروف .
(21) الإصابة في تمييز الصحابة : 3 | 2 ـ 3 .
(22) أما كذب عمرو بن العاص نفسه فيتضح بأوضح أشكاله في المثال التالي : ذكر الواقدي في مغازي رسول الله ص 19 أن عاتكة بنت عبد المطلب رأت في المنام « أن راكبا أقبل على بعير حتى وقف بالأبطح ثم صرخ بأعلى صوته يا آل غدر إنفروا إلى مصارعكم ... فاجتمع الناس ... ثم دخل المسجد والناس يتبعونه فصرخ بمثلها ثلاثا . ثم مثل به بعيره على رأس ابي قبيس . ثم صرخ بمثلها ثلاثا. ثم أخذ صخرة من ابي قبيس فأرسلها فأقبلت تهدي حتى اذا كانت بأسفل الجبل انفلقت فما بقي بيت من بيوت مكة ولا دار من دور مكة الا دخلته منها فلقة . فكان عمرو بن العاص يقول لقد رأيت في دارنا فلقة من الصخرة التي انفلقت من أبي قبيس . »
(23) ابن أبي الحديد . شرح نهج البلاغة 1 | 150 .
(24) المصدر نفسه المجلد الاول ص 150 .
(25) شرح نهج البلاغة 1 | 150 .
(26) العقد الفريد : 3 | 257 .
(27) حققه البحاثة السيد الاستاذ السيد جلال المحدث الارموي هذا الكتاب ، وطبع في طهران وأعيد طبعه في الاوفست للمرة الثانية « الناشر » .
(28) بين معاوية ومحمد بن ابي بكر والي الامام على مصر . راجع « شرح نهج البلاغة » لابن أبي الحديد 2 | 28 .
(29) بين معاوية والاشتر أثناء مسيره إلى مصر واليا من قبل الامام . راجع ابن أبي الحديد ، شرح نهج البلاغة 2 | 29 . الطبعة الاولى .
(30) بين معاوية وشرحبيل بن السمط راجع المصدر السابق المجلد الاول ص 139 ـ 140 .
(31) من أساليبه في تهيئة أتباعه للحرب .
(32) ابن أبي الحديد ، شرح نهج البلاغة 1 | 172 .
(33) من أساليبه في إضعاف حجة خصمه ، شرح نهج البلاغة 1 | 213 .
(34) من أساليبه في استمالة أهل الشام : المصدر السابق 1 | 248 ـ 251 .
(35) من أساليبه في استمالة أهل الشام « شرح نهج البلاغة » 1 | 253 ـ 254 .
(36) من أساليبه في استمالة أهل الشام والتنديد بخصومه شرح نهج البلاغة 1 | 361 .
(37) لقد كذب معاوية على الرسول في هذا الكتاب كذبة بشعة . فلقد كان يكتب للرسول بعض رسائله للعرب . ولم يحصل ذلك إلا بعد فتح مكة حين التمس أبوه من النبي أن يشمله بعطفه لينسي الناس مناوئته للنبي . أما كاتب الوحي فهو زيد بن ثابت .
(38) المصدر نفسه ص 361 .
(39) ابن ابي الحديد : شرح نهج البلاغة 1 | 358 .
(40) العقاد : معاوية بن أبي سفيان ص 70 ـ 72 . وقد فعل مثل ذلك مع قيس بن سعد بن عبادة وجرير بن عبد الله البجلي حتى اوقع الريبة منهما في نفس الامام والمقربين إليه وبخاصة الاشتر .
|
|
"عادة ليلية" قد تكون المفتاح للوقاية من الخرف
|
|
|
|
|
ممتص الصدمات: طريقة عمله وأهميته وأبرز علامات تلفه
|
|
|
|
|
المجمع العلمي للقرآن الكريم يقيم جلسة حوارية لطلبة جامعة الكوفة
|
|
|