أقرأ أيضاً
التاريخ: 9-6-2021
2701
التاريخ: 5-11-2017
3497
التاريخ: 7-11-2017
53202
التاريخ: 6-11-2017
4062
|
قال تعالى : {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (91) وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} [الأنعام : 91 ، 92] .
قال تعالى : {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} [الأنعام : 91] .
لما تقدم ذكر الأنبياء والنبوة ، عقبه سبحانه بالتهجين لمن أنكر النبوة ، فقال : {وما قدروا الله حق قدره} أي : ما عرفوا الله حق معرفته ، وما عظموه حق عظمته ، وما وصفوه بما هو أهل أن يوصف به {إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء} أي : ما أرسل الله رسولا ، ولم ينزل على بشر شيئا ، مع أن المصلحة والحكمة تقتضيان ذلك ، والمعجزات الباهرة تدل على بعثة كثير منهم ، ثم أمر سبحانه نبيه صلى الله عليه وآله وسلم فقال {قل} يا محمد لهم {من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى} يعني التوراة ، وإنما احتج بذلك عليهم ، لأن القائل لذلك من اليهود ، ومن قال : إن المعني بالآية مشركو العرب ، قال : احتج عليهم بالأمر الظاهر ، ثم بين أن منزلة محمد في ذلك كمنزلة موسى .
{نورا} أي : يستضاء به في الدين ، كما يستضاء بالنور في الدنيا {وهدى للناس} أي : دلالة يهتدون به {تجعلونه قراطيس} أي : كتبا وصحفا متفرقة . وقال أبو علي الفارسي : معناه تجعلونه ذا قراطيس أي : تودعونه إياها {تبدونها وتخفون كثيرا} أي : تبدون بعضها ، وتكتمون بعضها ، وهو ما في الكتب من صفات النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، والإشارة إليه ، والبشارة به .
{وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم} قيل : إنه خطاب للمسلمين يذكرهم ما أنعم به عليهم عن مجاهد ، وقيل : هو خطاب لليهود أي : علمتم التوراة فضيعتموه ، ولم تنتفعوا به . وقيل : معناه علمتم بالقرآن ما لم تعلموا ، عن الحسن . {قل} يا محمد {الله} أي : الله أنزل ذلك ، وهذا كما أن الانسان إذا أراد البيان والاحتجاج بما يعلم أن الخصم مقر به ، ولا يستطيع دفعه ، ذكر ذلك ، ثم تولى الجواب عنه بما قد علم أنه لا جواب له غيره {ثم ذرهم في خوضهم يلعبون} أي : دعهم وما يختارونه من العناد ، وما خاضوا فيه من الباطل واللعب ، وليس هذا على إباحة ترك الدعاء ، والإنذار ، بل على ضرب من التوعد والتهدد ، كأنه قال : دعهم فسيعلمون عاقبة أمرهم .
- {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} [الأنعام : 92] .
لما احتج سبحانه بإنزال التوراة على موسى عليه السلام ، بين ان سبيل القرآن سبيلها ، فقال : {وهذا كتاب} يعني القرآن {أنزلناه} من السماء إلى الأرض ، لأن جبرائيل عليه السلام أتى به من السماء {مبارك} . وإنما سماه مباركا ، لأنه ممدوح مستسعد به ، فكل من تمسك به نال الفوز ، عن أبي مسلم . وقيل : إن البركة ثبوت الخير على النماء والزيادة ، ومنه {تبارك الله} أي : ثبت له ما يستحق به التعظيم ، لم يزل ولا يزال ، فالقرآن مبارك ، لأن قراءته خير ، والعمل به خير ، وفيه علم الأولين والآخرين ، وفيه مغفرة للذنوب ، وفيه الحلال والحرام . وقيل : البركة : الزيادة . فالقرآن مبارك لما فيه من زيادة البيان على ما في الكتب المتقدمة . لأنه ناسخ لا يرد عليه نسخ لبقائه إلى آخر التكليف .
{مصدق الذي بين يديه} من الكتب (2) ، كالتوراة والإنجيل ، وغيرهما ، عن الحسن . وتصديقه للكتب على وجهين أحدهما : إنه يشهد بأنها حق والثاني : إنه ورد بالصفة التي نطقت بها الكتب المتقدمة . {ولتنذر أم القرى ومن حولها} يعني بأم القرى : مكة ، ومن حولها : أهل الأرض كلهم ، عن ابن عباس . وهو من باب حذف المضاف ، يريد لتنذر أهل أم القرى ، وإنما سميت مكة أم القرى لأن الأرض دحيت من تحتها ، فكأن الأرض نشأت منها . وقيل : لأن أول بيت وضع في الدنيا وضع بمكة ، فكأن القرى تنشأت منها ، عن السدي . وقيل لأن على جميع الناس أن يستقبلوها ، ويعظموها ، لأنها قبلتهم ، كما يجب تعظيم الأم ، عن الزجاج ، والجبائي {والذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون به} أي : بالقرآن ، ويحتمل أن يكون كناية عن محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، لدلالة الكلام عليه {وهم على صلاتهم} أي : على أوقات صلواتهم {يحافظون} أي : يراعونها ليؤدوها فيها ، ويقوموا بإتمام ركوعها ، وسجودها ، وجميع أركانها .
وفي هذه دلالة على أن المؤمن ، لا يجوز أن يكون مؤمنا ببعض ما أوجبه الله ؟ دون بعض ، وفيها دلالة على عظم قدر الصلاة ، ومنزلتها ، لأنه سبحانه خصها بالذكر من بين الفرائض ، ونبه على أن من كان مصدقا بالقيامة وبالنبي صلى الله عليه وآله وسلم ، لا يخل بها ، ولا يتركها .
______________________________
1 . تفسير مجمع البيان ، ج4 ، ص 108-110 .
2 . [المتقدمة] .
{ وما قَدَرُوا اللَّهً حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ } . تدل هذه الآية على انه كان في عهد رسول اللَّه ( صلى الله عليه وآله ) قوم ينكرون الوحي من اللَّه على أحد من الناس : ويقولون ما بعث اللَّه بشرا رسولا . . ولكن اللَّه سبحانه لم يبين من الذين أنكروا وقالوا ذلك ، ومن أجل هذا اختلف المفسرون فيمن هو المعني بقوله تعالى : { إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ } هل المراد بهم مشركو العرب أو يهود الحجاز ؟ .
قال فريق من المفسرين : انهم مشركو العرب . ويرد هذا القول أولا : ان اللَّه أمر رسوله محمدا أن يواجه المنكرين بهذا السؤال : { قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وهُدىً لِلنَّاسِ } . وبديهة ان هذا السؤال انما يتجه لمن يعترف بنبوة موسى والتوراة ، والمعروف ان مشركي العرب لا يعترفون بموسى وتوراته ، وإلا كانوا من أهل الكتاب .
ثانيا : ان اللَّه سبحانه وبّخ المنكرين بقوله : { تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وتُخْفُونَ كَثِيراً } . أي انكم حرفتم التوراة ، فأبديتم ما يتفق مع أهوائكم ، وأخفيتم ما لا يتفق معها ، ومعلوم ان الذين حرفوا التوراة هم اليهود ، لا مشركو العرب .
وذهب فريق آخر من المفسرين إلى أن الذين قالوا ما أنزل اللَّه على بشر من شيء هم اليهود ، واستدلوا بأمرين : الأول ان اللَّه أمر رسوله محمدا أن يرد على من قال هذا بنبوة موسى والتوراة . . وهو رد صحيح ومفحم ، ثم أكد هذا الرد بلفتهم إلى تحريفهم التوراة ، وخاطبهم تعالى موبخا : { تَجْعَلُونَهُ } - أي كتاب التوراة – { قَراطِيسَ تُبْدُونَها وتُخْفُونَ كَثِيراً } .
وهذا القول أقرب إلى ظاهر الآية من القول الأول . { وعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ ولا آباؤُكُمْ } . هذا الخطاب موجه إلى اليهود أيضا ، والمعنى كيف تقولون - أيها اليهود - ما أنزل اللَّه على بشر من شيء ، مع انكم تعتقدون ان موسى بشر ، وان التوراة نزلت عليه ، وقد علمتم منها ما كنتم تجهلونه من قبل أنتم وآباؤكم ، ومن ذلك انكم كنتم تقرؤون في التوراة صفة محمد قبل مبعثه ، ولا تعرفون بالتفصيل من هو المقصود ، ولما بعثه اللَّه ، وعرفتم انه هو المقصود بالذات حرفتم وحذفتم ما يدل عليه مكابرة وعنادا قل الله . هذا جواب عن السؤال السابق ، وهو { قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وهُدىً } . وهذا الجواب هو المتعين ، ولا مفر منه ، لأن اليهود يعترفون بأن التوراة من عند اللَّه ، ومن أجل اعترافهم هذا تقوم الحجة والرد على قولهم : ما أنزل اللَّه على بشر من شيء { ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ } . أي قل الحق - يا محمد - ودع اليهود في باطلهم ، ولا تهتم بعنادهم ومرائهم . . وفي هذا تهديد لهم ووعيد ، كما فيه استخفاف بهم واستهانة .
بعنادهم ومرائهم . . وفي هذا تهديد لهم ووعيد ، كما فيه استخفاف بهم واستهانة .
وتسأل : ان اليهود يعترفون بنبوة موسى ( عليه السلام ) وانزال التوراة عليه ، كما قدمت - إذن - كيف نسب اللَّه إليهم انكار الوحي والبعثة من الأساس ؟ .
الجواب : انهم أنكروا الوحي والبعثة في الظاهر ، دون الواقع عنادا ومكابرة لمحمد ( صلى الله عليه وآله ) : {وجَحَدُوا بِها واسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وعُلُوًّا} [النمل - 14] .
أنبياء اللَّه وعلماء الطبيعة :
وبالمناسبة نشير إلى أن أكثر علماء الطبيعة في هذا العصر ، أو الكثير منهم يؤمنون بوجود اللَّه لأنهم رأوا ان هذا الكون الذي يتعاملون معه يسير وفقا لقوانين ثابتة وصريحة تتحكم به ، ولا تحيد عنه بحال ، ومن أجل هذا أمكن رصدها وقياسها والاستفادة منها ، وهذا يحتم وجود قوة عليا وراء الكون تهندس وتبني وهذه القوة هي اللَّه .
وبتعبير ثان ليس من الضروري ليكون الإنسان عالما بوجود الشيء أن يجربه في المعمل ، ويراه رأي العين ، بل يكفي أن يعلم علما لا يتطرق إليه الشك والاحتمال ، سواء أجاءه هذا العلم والجزم من التجربة والعيان ، أم من الاستنتاج العقلي البديهي . وصاحب الفكر والنظر إذا تأمل هذا الكون تأملا علميا مجردا عن كل شائبة ينتهي حتما إلى العلم بوجود اللَّه . . ولكن علماء الطبيعة الذين آمنوا باللَّه عن علم نفوا أن يكون له رسل من بني الإنسان يوحى إليهم ، وقالوا : ان الطبيعة وحدها هي كتاب اللَّه ، وليس التوراة والإنجيل والقرآن .
ولست أشك ان هؤلاء العلماء لو أعطوا لدراسة القرآن قليلا من الوقت الذي أعطوه لدراسة الطبيعة لاقتنعوا بأن للَّه كتابين : الكون والوحي ، وانه لا غنى للإنسان بأحدهما عن الآخر ، فمن كتاب الكون يعلم ملكوت اللَّه ، ويؤمن به ، ومن كتاب الوحي يعلم شريعة اللَّه التي تنير له طريق الحياة ومدارج التقدم فيها ، وتجنبه المهالك والمشاكل التي تعرقل سيره إلى الأمام .
لقد خلق الإنسان ليعمل في هذه الحياة ، ولا بد لكل عامل من منهج يسير عليه في عمله ، لأن الفوضى لا تؤدي إلى خير ، واللَّه سبحانه خلق الإنسان ، ويعلم سره وجهره ، وقوته وضعفه ، وما ينفعه ويضره ، فيتحتم ، والحال هذه ، أن يكون هو المرجع الأول للمنهج الذي يجب أن يسير عليه في عمله ، تماما كما هو الشأن في مخترع السيارة والطائرة وغيرهما من الأدوات والآلات ، حيث يحتم الرجوع إليه في استعمالها وطريق الاستفادة منها ، لأنه أعلم بما يصلحها ويفسدها ، وليس من شك ان تبليغ المنهج الإلهي لعباده واعلامهم به ينحصر بالأنبياء والرسل ، لأنهم لسان اللَّه وبيانه ، وهذا هو الوحي بالذات . ومن أراد التفصيل فليرجع إلى كتابنا : الإسلام والعقل ، قسم النبوة والعقل .
{ وهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ } . هذا ، إشارة إلى القرآن الكريم ، والمعنى كما أنزلنا التوراة على موسى كذلك أنزلنا هذا القرآن على محمد ( صلى الله عليه وآله ) ، وهو كثير النفع والفائدة لمن علم أحكامه وأسراره ، وعمل بها ، وهو أيضا يصدق الكتب السماوية التي نزلت من قبل على أنبياء اللَّه . قال الإمام علي ( عليه السلام ) : تعلموا القرآن ، فإنه أحسن الحديث ، وتفقهوا فيه ، فإنه ربيع القلوب ، واستشفوا بنوره ، فإنه شفاء الصدور ، وأحسنوا تلاوته ، فإنه أحسن القصص .
{ ولِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى ومَنْ حَوْلَها } . وأم القرى هي مكة ، وسميت بذلك ، لأن فيها أول بيت وضع للناس لعبادة اللَّه . . وزعم بعض المستشرقين ، ومن قبلهم اليهود ان محمدا ( صلى الله عليه وآله ) أرسل للعرب فقط ، واحتجوا بهذه الآية ، وتجاهلوا الآية 107 الأنبياء : {وما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ} . والآية 28 سبأ : {وما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً ونَذِيراً ولكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} . ومصدر القرآن واحد ، وكلامه يفسر بعضه بعضا ، وهاتان الآيتان بيان لقوله تعالى :
{ ولِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى ومَنْ حَوْلَها } وان المراد به أن تبدأ دعوة الإسلام أول ما تبدأ في بلد صاحبها مكة ، حتى إذا صار لها أتباع وأنصار بشروا بها في أرجاء العالم ، كأية دعوة عامة تبتدئ ، حيث تولد ، ثم تنطلق إلى سائر الأقطار .
هذا ، إلى أنه قد ثبت بطريق التواتر ان رسول اللَّه ( صلى الله عليه وآله ) قد كتب إلى جميع الملوك والرؤساء يدعوهم إلى الإسلام ، وفي طليعتهم كسرى ملك الفرس ، وقيصر إمبراطور الروم ، والمستشرقون يعلمون ذلك ، ولكن البعض منهم يكتمون ما يعلمون .
{ والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ } . الضمير في « بِهِ » يعود إلى القرآن . .
وما قرأ القرآن أحد بتجرد وإمعان إلا خرج منه بشيء ، فإن كان مؤمنا باللَّه ورسوله واليوم الآخر ازداد ايمانا ، وإن كان مؤمنا باللَّه فقط آمن بالوحي والبعث ، وان كان مؤمنا باللَّه والبعث دون الوحي آمن بالأنبياء والكتب المنزلة من السماء ، بخاصة نبوة محمد والقرآن ، وان كان كافرا باللَّه آمن به ، لأن القرآن يعرض الدلائل على ذلك ، ويحث على النظر فيها ، وهي بطبعها تؤدي بالباحث المنصف إلى العلم والإيمان {وهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ} . ليكونوا على صلة دائمة وثيقة باللَّه . . وخص الصلاة بالذكر ، دون العبادات لأنها عمود الدين ، وقوام الإيمان ، ومن شأنها ان تردع المصلي الخاشع عن الفحشاء والمنكر .
___________________________
1. تفسير الكاشف ، ج3 ، ص 222-226 .
قوله تعالى : {وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} قدر الشيء وقدره بالتحريك كميته من عظم أو صغر ونحوهما يقال : قدرت الشيء قدرا وقدرته بالتشديد تقديرا إذا بينت كمية الشيء وهندسته المحسوسة ثم توسع فيه فاستعمل في المعاني غير المحسوسة فقيل : قدر فلان عند الناس وفي المجتمع أي عظمته في أعين الناس ووزنه في مجتمعهم وقيمته الاجتماعية .
وإذ كان تقدير الشيء وتحديده بحدود لا ينفك غالبا عن وصفه بأوصافه المبينة لحاله المستتبعة لعرفانه أطلق القدر والتقدير على الوصف وعلى المعرفة بحال الشيء ـ على نحو الاستعارة ـ فيقال قدر الشيء وقدره أي وصفه ، ويقال : قدر الشيء وقدره أي عرفه ، فاللغة تبيح هذه الاستعمالات جميعا .
ولما كان الله سبحانه لا يحيط بذاته المتعالية حس ولا وهم ولا عقل وإنما يعرف معرفة ما بما يليق بساحة قدسه من الأوصاف وينال من عظمته ما دلت عليه آياته وأفعاله صح استعمال القدر فيه تعالى بكل من المعاني السابقة فيقال : [ما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ] أي ما عظموه بما يليق بساحته من العظمة أو ما وصفوه حق وصفه أو ما عرفوه حق معرفته . فالآية بحسب نفسها تحتمل كلا من المعاني الثلاثة أو جميعها بطريق الالتزام لكن الأنسب بالنظر إلى الآيات السابقة الواصفة لهدايته تعالى أنبياءه المستعقبة لإيتائهم الكتاب والحكم والنبوة ، وعنايته الكاملة بحفظ كلمة الحق ونعمة الهداية بين الناس زمانا بعد زمان وجيلا بعد جيل أن تحمل على المعنى الأول فإن في إنكار إنزال الوحي حطا لقدره تعالى وإخراجا له من منزلة الربوبية المعتنية بشئون عباده وهدايتهم إلى هدفهم من السعادة والفلاح .
ويؤيد ذلك ما ورد من نظير اللفظ في قوله تعالى : {وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر : 67] .
وقوله تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ ، ما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج : 74] أي وقوته وعزته وضعف غيره وذلته تقتضيان أن لا يحط قدره ولا يسوى هو وما يدعون من دونه بتسمية الجميع آلهة وأربابا فالأنسب بالآية هو المعنى الأول وإن لم يمتنع المعنيان الآخران ، وأما تفسير {ما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ} بأن المراد : ما أعطوه من القدرة ما هو حقها كما فسره بعضهم فأبعد المعاني المحتملة من مساق الآية .
ولما قيد قوله تعالى : {وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ} بالظرف الذي في قوله : {إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} أفاد ذلك أن اجتراءهم على الله سبحانه وعدم تقديرهم حق قدره إنما هو من حيث إنهم نفوا إنزال الوحي والكتاب منه تعالى على بشر فدل ذلك على أن من لوازم الألوهية وخصائص الربوبية أن ينزل الوحي والكتاب لغرض هداية الناس إلى مستقيم الصراط والفوز بسعادة الدنيا والآخرة فهي الدعوى .
وقد أشار تعالى إلى إثبات هذه الدعوى والحجاج له بقوله : {قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى} إلخ ، وبقوله : {وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ} والأول من القولين احتجاج بكتاب من الكتب السماوية المنزلة على الأنبياء عليهمالسلام الثابتة نبوتهم بالمعجزات الباهرة التي أتوا بها ففيه تمسك بوجود الهداية الإلهية المتصلة المحفوظة بين الناس بالأنبياء عليهمالسلام نوح ومن بعده ، وهي التي وصفها الله تعالى في الآيات السابقة من قوله : {وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ ـ إلى قوله ـ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرى لِلْعالَمِينَ} .
والثاني من القولين احتجاج بوجود معارف وأحكام إلهية بين الناس ليس من شأنها أن تترشح من الإنسان الاجتماعي من حيث مجتمعة بما له من العواطف والأفكار التي تهديه إلى ما يصلح حياته من الغذاء والمسكن واللباس والنكاح وجلب المنافع ودفع المضار والمكاره فهذه الأمور التي في مجرى التمتع بالماديات هي التي يتوخاها الإنسان بحسب طبعه الحيواني ، وأما المعارف الإلهية والأخلاق الفاضلة الطيبة والشرائع الحافظة بالعمل بها لهما فليست من الأمور التي ينالها الإنسان الاجتماعي بشعوره الاجتماعي وأنى للشعور الاجتماعي ذلك ؟ وهو إنما يبعث الإنسان إلى استخدام جميع الوسائل التي يمكنه أن يتوسل بها إلى مآربه في الحياة الأرضية ، ومقاصده في المأكل والمشرب والمنكح والملبس والمسكن وما يتعلق بها ثم يدعوه إلى أن يكسر مقاومة كل ما يقاومه في طريق تمتعه إن قدر على ذلك أو يصطلحه على التعاضد والاشتراك في المنافع ورعاية العدل في توزيعها إن لم يقدر عليه ، وهو سر كون الإنسان اجتماعيا مدنيا كما تبين في أبحاث النبوة في البحث عن قوله تعالى : {كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ} الآية : [البقرة : 213] في الجزء الثاني من الكتاب ، وسنزيده وضوحا إن شاء الله .
وبالجملة فالآية أعني قوله تعالى : {وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ} تدل بما لها من الضمائم على أن من لوازم الألوهية أن تهدي الإنسان إلى مستقيم الصراط ومنزل السعادة بإنزال الكتاب والوحي على بعض أفراده ، وتستدل على ذلك بوجود بعض الكتب المنزلة من الله في طريق الهداية أولا ، وبوجود ما يدل على تعاليم إلهية بينهم لا ينالها الإنسان بما عنده من العقل الاجتماعي ثانيا .
قوله تعالى : {قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً} القراءة الدائرة تجعلونه بصيغة الخطاب والمخاطبون به اليهود لا محالة ، وقرئ {يجعلونه} بصيغة الغيبة ، والمخاطب المسئول عنه بقوله : {مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ إلخ} ، حينئذ اليهود أو مشركو العرب على ما قيل ، والمراد يجعل الكتاب قراطيس وهي جمع قرطاس إما جعله في قراطيس بالكتابة فيها ، وإما جعله نفس القراطيس بما فيها من الكتابة فالصحائف والقراطيس تسمى كتابا كما تسمى الألفاظ المدلول عليها بالكتابة كتابا .
وقوله : {قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى} إلخ . جواب عن قولهم المحكي بقوله تعالى : {إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} والآية وإن لم تعين القائلين بهذا القول من هم ؟ إلا أن الجواب بما فيه من الخصوصية لا يدع ريبا في أن المخاطبين بهذا الجواب هم اليهود فالقائلون : {ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} هم اليهود أيضا ، وذلك أن الآية تحتج على هؤلاء القائلين بكتاب موسى عليه السلام والمشركون لا يعترفون به ولا يقولون بنزوله من عند الله ، وإنما القائلون به أهل الكتاب ، وأيضا الآية تذمهم بأنهم يجعلونه قراطيس يبدونها ويخفون كثيرا ، وهذا أيضا من خصائص اليهود على ما نسبه القرآن إليهم دون المشركين .
على أن قوله بعد ذلك : {وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ} على ظاهر معناه الساذج لا يصلح أن يخاطب به غير اليهود من المشركين أو المسلمين كما تقدم وسيجيء إن شاء الله تعالى .
وأما أن اليهود كانوا مؤمنين بنبوة الأنبياء موسى ومن قبله عليه السلام وبنزول كتب سماوية كالتوراة وغيرها فلم يك يتأتى لهم أن يقولوا : ما أنزل الله على بشر من شيء لمخالفته أصول معتقداتهم فيدفعه : أن يكون ذلك مخالفا للأصل الذي عندهم لا يمنع أن يتفوه به بعضهم تعصبا على الإسلام أو تهييجا للمشركين على المسلمين أو يقول ذلك عن مسألة سألها المشركون عن حال كتاب كان النبي صلى الله عليه وآله يدعي نزوله عليه من جانب الله سبحانه ، وقد قالوا في تأييد وثنية مشركي العرب على أهل التوحيد من المسلمين : [هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً] ، فرجحوا قذارة الشرك على طهارة التوحيد وأساس دينهم التوحيد حتى أنزل الله : {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً} [النساء : 51] .
وقولهم ـ وهو أبين سفها من سابقه ـ اغتياظا على النصارى : إن إبراهيم عليه السلام كان يهوديا حتى نزل فيهم قوله تعالى : {يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ ـ إلى أن قال ـ ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [آل عمران : 67] إلى غير ذلك من أقوالهم المناقضة لأصولهم الثابتة المحكية في القرآن الكريم .
ومن كان هذا شأنه لم يبعد أن ينفي نزول كتاب سماوي على بشر لداع من الدواعي الفاسدة الباعثة له على إنكار ما يستضر بثبوته أو تلقين الغير باطلا يعلم ببطلانه لينتفع به في بعض مقاصده الباطلة .
وأما قول من قال : إن القرآن لم يعتن بأمر أهل الكتاب في آياته النازلة بمكة وإنما كانت الدعوة بمكة قبل الهجرة إلى المشركين للابتلاء بجماعتهم والدار دارهم ، ففيه أن ذلك لا يوجب السكوت عنهم من رأس والدين عام ودعوته شاملة لجميع الناس والقرآن ذكر للعالمين وهم والمشركون جيران يمس بعضهم بعضا دائما وقد جاء ذكر أهل الكتاب في بعض السور المكية من غير دليل ظاهر على كون الآية مدنية كقوله تعالى : {وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} [العنكبوت : 46] وقوله : {وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [النحل : 118] وقد ذكر في سورة الأعراف كثير من مظالم بني إسرائيل مع كون السورة مكية .
ومن المستبعد أن تدوم الدعوة الإسلامية سنين قبل الهجرة وفي داخل الجزيرة طوائف من اليهود والنصارى فلا يصل خبرها إليهم أو يصل إليهم فيسكتوا عنها ولا يقولوا شيئا لها أو عليها وقد هاجر جماعة من المسلمين إلى الحبشة وقرئوا سورة مريم المكية عليهم وفيها قصة عيسى ونبوته .
وأما قول من قال : إن السورة ـ يعني سورة الأنعام ـ إنما نزلت في الاحتجاج على المشركين في توحيد الله سبحانه وعامة الخطابات الواردة فيها متوجهة إليهم فلا مسوغ لإرجاع الضمير في قوله : {إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} إلى اليهود بل المتعين إرجاعه إلى مشركي العرب لأن الكلام في سياق الخبر عنهم ، ولم يجر لليهود ذكر في هذه السورة فلا يجوز أن تصرف الآية عما يقتضيه سياقها من أولها إلى هذا الموضع بل إلى آخرها بغير حجة من خبر صحيح أو عقل فالأرجح قراءة {يجعلونه} إلخ ، بياء الغيبة على معنى أن اليهود يجعلونه فهو حكاية عنهم ذكرت في خطاب مشركي العرب .
وأما مشكلة أن المشركين ما كانوا يذعنون بكون التوراة كتابا سماويا فكيف يحاجون بها فقد أجاب عنه بعضهم : أن المشركين كانوا يعلمون أن اليهود أصحاب التوراة المنزلة على موسى عليه السلام فمن الممكن أن يحاجوا من هذه الجهة .
ففيه : أن سياق السورة فيما تقدم من الآيات وإن كان لمحاجة المشركين لكن لا لأنهم هم بأعيانهم فالبيان القرآني لا يعتني بشخص أو أشخاص لأنفسهم بل لأنهم يستكبرون عن الخضوع للحق وينكرون أصول الدعوة التي هي التوحيد والنبوة والمعاد فالمنكرون لهذه الحقائق أو لبعضها هم المعنيون بالاحتجاجات الموردة فيها فما المانع من أن يذكر فيها بعض هفوات اليهود لو استلزم إنكار النبوة ونزول الكتاب لدخوله في غرض السورة ، ووقوعه في صف هفوات المشركين في إنكار أصول الدين الإلهي وإن كان القائل به من غير المشركين وعبدة الأصنام ، ولعله مما لقنوه بعض المشركين ابتغاء للفتنة فقد ورد في بعض الآثار أن المشركين ربما سألوهم عن حال النبي صلى الله عليه وآله وربما بعثوا إليهم الوفود لذلك .
على أن قوله : {وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ} كما سيأتي لا يصح أن يخاطب به غير اليهود كما لا يصح أن يخاطب غير اليهود بقوله تعالى : {قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ} والقول بأن مشركي العرب كانوا يعلمون أن اليهود هم أصحاب توراة موسى غير مقنع قطعا فإن العلم بأن اليهود أصحاب التوراة لا يصحح الاحتجاج بنزول التوراة من عند الله سبحانه وخاصة مع وصفها بأنها نور وهدى للناس فالاعتقاد بالنزول من عند الله غير العلم بأن اليهود تدعي ذلك والمصحح للخطاب هو الأول دون الثاني .
وأما قراءة {يجعلونه} إلخ ، فالوجه أن تحمل على الالتفات مع إبقاء الخطاب في قوله {مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى} ، وقوله : {وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ} لليهود .
وقد حاول بعضهم دفع الإشكالات الواردة على جعل الخطاب في الآية للمشركين مع تصحيح القراءتين جميعا فقال ما ملخصه : إن الآية نزلت في ضمن السورة بمكة كما قرأها ابن كثير وأبو عمرو ـ يجعلونه قراطيس بصيغة الغيبة ـ محتجة على مشركي مكة الذين أنكروا الوحي استبعادا لأن يخاطب الله البشر بشيء ، وقد اعترفوا بكتاب موسى وأرسلوا الوفد إلى أحبار اليهود مذعنين بأنهم أهل الكتاب الأول العالمون بأخبار الأنبياء .
فهو تعالى يقول لنبيه صلى الله عليه وآله : قل لهؤلاء الذين ما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء كقولهم : أبعث الله بشرا رسولا : {مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً} انقشعت به ظلمات الكفر والشرك الذي ورثته بنو إسرائيل عن المصريين {وَهُدىً لِلنَّاسِ} أي الذين أنزل عليهم بما علمهم من الأحكام والشرائع الإلهية فكانوا على النور والهدى إلى أن اختلفوا فيه ونسوا حظا مما ذكروا به فصاروا باتباع الأهواء {يجعلونه قراطيس يبدونها} فيما وافق {ويخفون كثيرا} مما لا يوافق أهواءهم .
قال : والظاهر أن الآية كانت تقرأ هكذا بمكة وكذا بالمدينة إلى أن أخفى أحبار اليهود حكم الرجم وكتموا بشارة النبي صلى الله عليه وآله وإلى أن قال بعضهم : ما أنزل الله على بشر من شيء كما قال المشركون من قبلهم ـ إن صحت الروايات بذلك ـ فعند ذلك كان غير مستبعد ولا مخل بالسياق أن يلقن الله تعالى رسوله أن يقرأ هذه الجمل بالمدينة على مسمع اليهود وغيرهم بالخطاب لليهود فيقول : {تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً} مع عدم نسخ القراءة الأولى .
قال : وبهذا الاحتمال المؤيد بما ذكر من الوقائع يتجه تفسير القراءتين بغير تكلف ما ، ويزول كل إشكال عرض للمفسرين في تفسيرهما ، انتهى كلامه ملخصا .
وأنت خبير بأن إشكال خطاب المشركين بما لا يعترفون به باق على حاله وكذا إشكال خطاب غير اليهود بقوله : {وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ} على ما أشرنا إليه ، وكذا تخصيصه قوله تعالى : {نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ} باليهود فقط وكذا قوله إن اليهود قالوا في المدينة : {ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} كر على ما فر منه .
على أن قوله : إن الله لقن رسوله أن يقرأ الآية عليهم ويخاطبهم بقوله : {تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً} مما لا دليل عليه فإن أراد بهذا التلقين وحيا جديدا بالخطاب كالوحي الأول بالغيبة كانت الآية نازلة مرتين مرة في ضمن السورة وهي إحدى آياته ومرة في المدينة غير داخلة في آيات السورة ولا جزء منها ، وإن أراد بالتلقين غير الوحي بنزول جبرئيل بها لم تكن الآية آية ولا القراءة قراءة ، وإن أريد به أن الله فهم رسوله نوعا من التفهيم أن لفظ {تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ} إلخ ، النازل عليه في ضمن سورة الأنعام بمكة يسع الخطاب والغيبة جميعا وأن القراءتين جميعا صحيحتان مقصودتان كما ربما يقوله من ينهي القراءات المختلفة إلى قراءة النبي صلى الله عليه وآله أو القراءة عليه ونحوهما ففيه الالتزام بورود جميع الإشكال السابقة كما هو ظاهر .
واعلم أن هذه الأبحاث إنما تتأتى على تقدير كون الآية نازلة بمكة ، وأما على ما وقع في بعض الروايات من أن الآية نزلت بالمدينة فلا محل لأكثرها .
قوله تعالى : {وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ} المراد بهذا العلم الذي علموه ولم يكونوا يعلمونه هم ولا آباؤهم ليس هو العلم العادي بالنافع والضار في الحياة مما جهز الإنسان بالوسائل المؤدية إليه من حس وخيال وعقل فإن الكلام واقع في سياق الاحتجاج مربوط به ولا رابطة بين حصول العلوم العادية للإنسان من الطرق المودعة فيه وبين المدعى وهو أن من لوازم الألوهية أن تهدي الإنسان إلى سعادته وتنزل على بعض أفراده الوحي والكتاب .
وليس المراد بها أن الله أفاض عليكم العلم بأشياء ما كان لكم من أنفسكم أن تعلموا كما يفيده قوله تعالى : {وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ} [النحل : 78] وقوله : {الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ ، عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ} [العلق : 5] ، فإن السياق كما عرفت ينافي ذلك .
فالمراد بالآية تعليم ما ليس في وسع الإنسان بحسب الطرق المألوفة عنده التي جهز بها أن ينال علمه ، وليس إلا ما أوحاه الله سبحانه إلى أنبيائه وحملة وحيه بكتاب أو بغير كتاب من المعارف الإلهية والأحكام والشرائع فإنها هي التي لا تسع الوسائل العادية التي عند عامة الإنسان أن تنالها .
ومن هنا يظهر أن المخاطبين بهذا الكلام أعني قوله : {وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا} إلخ ، ليسوا هم المشركين إذا لم يكن عندهم من معارف النبوة والشرائع الإلهية شيء بين يعرفونه ويعترفون به والذي كانوا ورثوه من بقايا آثار النبوة من أسلاف أجيالهم ما كانوا ليعترفوا به حتى يصح الاحتجاج به عليهم من غير بيان كاف ، وقد وصفهم الله بالجهل في أمثال قوله : {وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْ لا يُكَلِّمُنَا اللهُ} [البقرة : 118] .
فالخطاب متوجه إلى غير المشركين ، وليس بموجه إلى المسلمين أما أولا : فلأن السياق سياق الاحتجاج ، ولو كان الخطاب متوجها إليهم لكان اعتراضا في سياق الاحتجاج من غير نكتة ظاهرة .
وأما ثانيا : فلما فيه من تغيير مورد الخطاب ، والعدول من خطاب المخاطبين بقوله : {مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى} إلخ ، إلى خطاب غيرهم بقوله : {وَعُلِّمْتُمْ} إلخ ، من غير قرينة ظاهرة مع وقوع اللبس فالخطاب لغير المشركين والمسلمين وهم اليهود المخاطبون بصدر الآية .
فقد احتج الله سبحانه على اليهود القائلين : {ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} عنادا وابتغاء للفتنة من طريقين :
أحدهما : طريق المناقضة وهو أنهم مؤمنون بالتوراة وأنها كتاب جاء به موسى عليه السلام نورا وهدى للناس ويناقضه قولهم : {ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} ثم ذمهم على تقطيعها بقطعات يظهرون بعضها ويخفون كثيرا .
وثانيهما : أنكم علمتم ما لم يكن في وسعكم أن تعلموه أنتم من عند أنفسكم بالاكتساب ولا في وسع آبائكم أن يعلموه فيورثوكم علمه وذلك كالمعارف الإلهية والأخلاق الفاضلة والشرائع والقوانين الناظمة للاجتماع والمعدلة له أحسن نظم وتعديل الحاسمة لأعراق الاختلافات البشرية الاجتماعية فإنها وخاصة المواد التشريعية من بينها ليست مما ينال بالاكتساب ، والتي تنال منها من طريق الاكتساب العقلي كالمعارف الكلية الإلهية من التوحيد والنبوة والمعاد والأخلاق الفاضلة في الجملة لا يكفي مجرد ذلك في استقرارها في المجتمع الإنساني ، فمجرد العلم بشيء غير دخوله في مرحلة العمل واستقراره في المستوى العام الاجتماعي ، فحب التمتع من لذائذ المادة وغريزة استخدام كل شيء في طريق التوصل إلى الاستعلاء على مشتهيات النفس والتسلط التام على ما تدعو إليه أهواؤها لا يدع مجالا للإنسان يبحث فيه عن كنوز المعارف والحقائق المدفونة في فطرته ثم يبني ويدوم عليها وفي مسير حياته وخاصة إذا استولت هذه المادية على المجتمع واستقرت في المستوى فإنها تكون لهم ظرفا يحصرهم في التمتعات المادية لا ينفذ في شيء من أقطاره شيء من الفضائل الإنسانية ، ولا يزال ينسى فيه ما بقي من إثارة الفضائل المعنوية الموروثة واحدا بعد واحد حتى يعود مجتمعهم مجتمعا حيوانيا ساذجا كما نشاهده في الظروف الراقية اليوم أنهم توغلوا في المادية واستسلموا للتمتعات الحسية فشغلهم ذلك في أوقاتهم بثوانيها وصرفهم عن الآخرة إلى الدنيا صرفا سلبهم الاشتغال بالمعنويات ومنعهم أي تفكير في ما يسعدهم في حياتهم الحقيقية الخالدة .
ولم يضبط التاريخ فيما ضبطه من أخبار الأمم والملل رجلا من رجال السياسة والحكومة كان يدعو إلى فضائل الأخلاق الإنسانية والمعارف الطاهرة الإلهية ، وطريق التقوى والعبودية بل أقصى ما كانت تدعو إليه الحكومات الفردية الاستبدادية ـ هو أن يتمهد الأمر لبقاء سلطتها واستقامة الأمر لها ، وغاية ما كانت تدعو إليه الحكومات الاجتماعية ـ الديمقراطية وما يشابهها ـ أن ينظم أمر المجتمع على حسب ما يقترحه هوى أكثرية الأفراد أيا ما اقترحه فضيلة أو رذيلة وافق السعادة الحقيقية العقلية أو خالفها غير أنهم إذا خالفوا شيئا من الفضائل المعنوية والكمالات والمقاصد العالية الإنسانية التي بقيت أسماؤها عندهم وألجأتهم الفطرة إلى إعظامها والاحترام لها كالعدل والعفة والصدق وحب الخير ونصح النوع الإنساني والرأفة بالضعيف وغير ذلك فسروها بما يوافق جاري عملهم والدائر من سنتهم كما هو نصب أعيننا اليوم .
وبالجملة فالعقل الاجتماعي والشعور المادي الحاكم في المجتمعات ليس مما يوصل الإنسان إلى هذه المعارف الإلهية والفضائل المعنوية التي لا تزال المجتمعات الإنسانية على تنوعها وتطورها تتضمن أسماء كثيرة منها واحترام معانيها وأين الإخلاد إلى الأرض من الترفع عن المادة والماديات ؟ .
فليست إلا آثارا وبقايا من الدعوة الدينية المنتهية إلى نهضات الأنبياء ومجاهداتهم في نشر كلمة الحق وبث دين التوحيد وهداية النوع الإنساني إلى سعادته الحقيقية في حياته الدنيوية والأخروية جميعا فهي منتهية إلى تعليم إلهي من طريق الوحي وإنزال الكتب السماوية .
فقوله تعالى : {وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ} احتجاج على اليهود في رد قول القائل منهم : {ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} بأن عندكم من العلم النافع ما لم تنالوه من أنفسكم ولا ناله ولا ورثه آباؤكم بل إنما علمتم به من غير هذا الطريق وهو طريق إنزال الكتاب والوحي من قبل الله على بعض البشر فقد أنزل الله على بعض البشر ما علمه وهو المعارف الحقة وشرائع الدين ، وقد كان عند اليهود من هذا القبيل شيء كثير ورثوه من أنبيائهم وبثه فيهم كتاب موسى .
وقد ظهر مما تقدم أن المراد بقوله : {وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا} مطلق ما ينتهي من المعارف والشرائع إلى الوحي والكتاب لا خصوص ما جاء منه في كتاب موسى عليه السلام وإن كان الذي منه عند اليهود هو معارف التوراة وشرائعه خلافا لبعض المفسرين . وذلك أن لفظ الآية لا يلائم التخصيص فقد قيل : {وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا} إلخ ، ولم يقل وعلمتم به أو وعلمكم الله به .
وقد قيل : {وَعُلِّمْتُمْ} إلخ ، من غير فاعل التعليم لأن ذلك هو الأنسب بسياق الاستدلال لأن ذكر الفاعل في هذا السياق أشبه بالمصادرة بالمطلوب فكأنه قيل : إن فيما عندكم علوما لا ينتهي إلى اكتسابكم أو اكتساب آبائكم فمن الذي علمكم ذلك ؟ ثم أجيب عن مجموع السؤالين بقوله : الله عز اسمه .
قوله تعالى : {قُلِ اللهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} لما كان الجواب واضحا بينا لا يداخله ريب ، والجواب الذي هذا شأنه يسوغ للمستدل السائل أن يتكلفه ولا ينتظر المسئول المحتج عليه ، أمر تعالى نبيه صلى الله عليه وآله أن يتصدى هو للجواب فقال : {قُلِ اللهُ} أي الذي أنزل الكتاب الذي جاء به موسى والذي علمكم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم هو الله .
ولما كان القول بأن الله لم ينزل على بشر شيئا من لغو القول وهزله الذي لا يتفوه به إلا خائض لاعب بالحقائق وخاصة إذا كان القائل به من اليهود المعترفين بتوراة موسى والمباهين بالعلم والكتاب أمره بأن يدعهم وشأنهم فقال : {ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} .
قوله تعالى : {وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها} لما نبه على أن من لوازم الألوهية أن ينزل الوحي على جماعة من البشر هم الأنبياء عليهم السلام ، وأن هناك كتابا حقا كالتوراة التي جاء بها موسى ، وأمورا أخرى علمها البشر لا تنتهي إلا إلى وحي إلهي وتعليم غيبي ، ذكر أن هذا القرآن أيضا كتاب إلهي منزل من عنده على حد ما نزل سائر الكتب السماوية ، ومن الدليل على ذلك اشتماله على ما هو شأن كتاب سماوي نازل من عند الله سبحانه .
ومن هنا يظهر أولا : أن الغرض في المقام متعلق بكون القرآن كتابا نازلا من عند الله تعالى دون من نزل عليه ، ولذا قال : كتاب أنزلناه ولم يقل أنزلناه إليك على خلاف موارد أخر كقوله تعالى : {كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ} [ـ ص : 29] وغيره وثانيا : أن الأوصاف المذكورة للكتاب بقوله : [مُبارَكٌ مُصَدِّقُ] إلخ ، بمنزلة الأدلة على كونه نازلا من الله وليست بأدلة فمن أمارات أنه منزل من عند الله أنه مبارك أودع الله فيه البركة والخير الكثير يهدي الناس للتي هي أقوم ، يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ، ينتفع به الناس في دنياهم باجتماع شملهم ، وقوة جمعهم ، ووحدة كلمتهم ، وزوال الشح من نفوسهم ، والضغائن من قلوبهم ، وفشوا الأمن والسلام ، ورغد عيشهم ، وطيب حياتهم وانجلاء الجهل وكل رذيلة عن ساحتهم ، واستظلالهم بمظلة سعادتهم ، وينتفعون به في أخراهم بالأجر العظيم والنعيم المقيم .
ولو لم يكن من عند الله سواء كان مختلفا من عند بشر كشبكة يغر بها الناس فيصطادون أو كان تزويقا نفسانيا أو إلقاء شيطانيا يخيل إلى الذي جاء به أنه وحي سماوي من عند الله وليس من عنده لم تستقر فيه ولا ترتب عليه هذه البركات الإلهية والخير الكثير فإن سبيل الشر لا يهدي سالكه إلا إلى الشر ولن ينتج فساد صلاحا ، وقد قال تعالى : {فَإِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ} [النحل : 37] وقال : {وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ} [الصف : 5] وقال : {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً} [الأعراف : 58] .
ومن أمارات أنه حق أنه مصدق لما بين يديه من الكتب السماوية الحقة النازلة من عند الله .
ومن أمارات ذلك أنه يفي بالغرض الإلهي من خلقه وهو أن يهديهم إلى سعادة حياتهم في الدنيا والآخرة بالإنذار بوسيلة الوحي المنزل من عنده ، وهذا هو الذي يدل عليه قوله : {وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها} فأم القرى هي مكة المشرفة ، والمراد أهلها بدليل قوله : {وَمَنْ حَوْلَها} والمراد بما حولها سائر بلاد الأرض التي يحيط بها أو التي تجاورها كما قيل ، والكلام يدل على عناية إلهية بأم القرى وهي الحرم الإلهي منه بدئ بالدعوة وانتشرت الكلمة .
ومن هذا البيان يظهر : أن الأنسب بالسياق أن يكون قوله : {وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى} وخاصة على قراءة {لينذر} بصيغة الغيبة معطوفا على قوله : {مُصَدِّقُ} بما يشتمل عليه من معنى الغاية ، والتقدير : ليصدق ما بين يديه ولتنذر أم القرى على ما ذكره الزمخشري ، وقيل : إنه معطوف على قوله : {مُبارَكٌ} والتقدير : أنزلناه لتنذر أم القرى ومن حولها .
قوله تعالى : {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ} إلخ ، كأنه تفريع لما عده الله سبحانه من أوصاف هذا الكتاب الذي أنزله أي لما كان هذا الكتاب الذي أنزلناه مباركا ومصدقا لما بين يديه نازلا لغاية إنذار أهل الأرض فالمؤمنون بالآخرة يؤمنون به لأنه يدعو إلى أمن أخروي دائم ويحذرهم من عذاب خالد .
ثم عرف تعالى هؤلاء المؤمنين بالآخرة بما هو من أخص صفات المؤمنين وهو أنهم على صلاتهم وهي عبادتهم التي يذكرون فيها ربهم يحافظون ، وهذه هي الصفة التي ختم الله به صفات المؤمنين التي وصفهم بها في أول سورة المؤمنين إذ قال : {الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ} [المؤمنون : 9] كما بدأ بمعناها في أولها فقال {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ} [المؤمنون : 2] .
وهذا هو الذي يؤيد أن المراد بالمحافظة في هذه الآية هو الخشوع في الصلاة وهو نحو تذلل وتأثر باطني عن العظمة الإلهية عند الانتصاب في مقام العبودية لكن المعروف من تفسيره أن المراد بالمحافظة على الصلاة المحافظة على وقتها .
____________________________
1. تفسير الميزان ، ج7 ، ص 228-238 .
قال تعالى : {وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ قُلِ اللهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} [الأنعام : 91] .
يختلف المفسّرون حول كون هذه الآية واردة بشأن اليهود أو المشركين ، ولمّا لم تكن لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مباحثات مع اليهود في مكّة ، بل بدأت في المدينة ، وهذا السورة مكّية ، لذلك يرى بعضهم أنّ هذه الآية قد نزلت في المدينة ، إلّا أنّها وضعت في هذه السّورة المكية بأمر من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ولهذا في القرآن ما يشابهه .
لاتضاح الحقيقة يجب أن نتعرف أوّلا على تفسير الآية الإجمالي ، ثمّ نبحث عمن تتحدث عنه الآية ، وعمّا تستهدفه .
في البداية تقول الآية : إنّهم لم يعرفوا الله معرفة صحيحة وأنكروا نزول كتاب سماوي على أحد : {وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} .
فيأمر الله رسوله أن {قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ} .
ذلك الكتاب الذي جعلتموه صحائف متناثرة ، تظهرون منه ما ينفعكم وتخفون ما تظنونه يضرّكم : {تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً} .
إنّكم تتعلمون من هذا الكتاب السماوي أمورا كثيرة لم تكونوا أنتم ولا آباؤكم تعلمون عنها شيئا : {وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ} .
وفي ختام الآية يؤمر النّبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يذكر الله وأن يترك أولئك في أباطيلهم وعنادهم ولعبهم : {قُلِ اللهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} .
إذا كانت هذه الآية قد نزلت في المدينة وكان اليهود هم المعنيين بها ، يكون المعنى أنّ جمعا من اليهود كانوا ينكرون نزول كتاب سماوي على الأنبياء .
ولكن هل يمكن أن ينكر اليهود ـ اتباع التّوراة ـ نزول كتاب سماوي ؟ نعم ، وسيزول عجبك إذا علمت المسألة التّالية : لو أمعنا النظر في العهد الجديد (الإنجيل) والعهد القديم (التّوراة والكتب الملحقة بها) نجد أنّ كل هذه الكتب تفتقر إلى المسحة السماوية ، أي أنّها ليست خطابا موجها من الله إلى البشر ، بل إنّها مقولات وردت على ألسنة تلامذة موسى والمسيح عليهما السلام وأتباعهما على شكل سرد لحوادث تاريخية وسير ، والظاهر أنّ اليهود والمسيحيين اليوم لا ينكرون ذلك ، إذ أنّ حكاية موت موسى وعيسى وحوادث كثيرة أخرى وقعت بعدهما وردت في هذه الكتب ، لا باعتبارها تنبؤات عن المستقبل ، بل سردا لحوادث ماضية ، فهل يمكن لكتب مثل هذه أن تكون قد نزلت على موسى وعيسى ؟!
كل ما في الأمر أنّ المسيحيين واليهود يعتقدون أنّ هذه الكتب قد كتبت بأيدي أناس عندهم أخبار عن الوحي ، فاعتبروها كتبا مقدسة خالية من الخطأ ويمكن الاعتماد عليها .
بناء على هذا يتضح لنا لماذا كان هؤلاء ينتابهم العجب لدى سماعهم أسلوب القرآن بشكل خطاب من الله إلى النّبي وإلى عباد الله؟ وكما قرأنا في سبب نزول هذه الآية فإنّهم قد انتابهم العجب فسألوا الرّسول صلى الله عليه وآله وسلم إن كان الله قد أنزل عليه ـ حقا ـ كتاب ، ثمّ أنكروا هذا الأمر كليا ونفوا أن يكون أي كتاب قد نزل على أحد ، حتى على موسى .
غير أنّ الله يردّ عليهم قائلا : إنّكم ـ أنفسكم ـ تعتقدون أن ألواحا ومواضيع قد نزلت على موسى ، أي إنّ الكتاب الذي بين أيديكم وان لم يكن كتابا سماويا إلّا أنّكم تؤمنون ـ على الأقل ـ بأنّ شيئا مثل هذا قد نزل من قبل الله ، وأنتم تظهرون قسما منه وتخفون كثيرا منه : وعلى ذلك فلا يبقى مجال للشك في إمكان إنكار اليهود نزول كتاب سماوي .
أمّا إذا كانت الآية كسائر آيات هذه السّورة تخصّ المشركين ، فيكون المعنى أنّهم أنكروا نزول أي كتاب سماوي لإنكار ونفي دعوة النّبي صلى الله عليه وآله وسلم ، ولكن الله يبيّن لهم منطقيا أنّهم لا يستطيعون إنكار ذلك كليا بالنظر لنزول التّوراة على موسى ، وأنّ المشركين ـ وإن لم يدينوا بدين اليهود ـ كانوا يعتبرون الأنبياء السابقين وإبراهيم ، وموسى أيضا على أقوى احتمال ـ أنبياء في عصورهم وأقاليمهم ، لذلك فهم عند ظهور نبي الإسلام صلى الله عليه وآله وسلم لجأوا إلى أهل الكتاب يبحثون عندهم في كتبهم عن أمارات ودلائل تتنبأ بظهور هذا النّبي ، فلو لم يكونوا يؤمنون بأنّ تلك الكتب نازلة من السماء ، لما لجأوا إليها يطلبون ما طلبوا ، لذلك فهم بعد أن سألوا اليهود ، أظهروا ما كانت فيه مصلحتهم ، وأخفوا ما عداه (كعلامات ظهور النّبي الجديد المذكورة في تلك الكتب) ، وعلى هذا يمكن تطبيق هذه الآية على أقوال مشركي مكّة أيضا .
لكن التّفسير الأوّل أقرب إلى سياق الآية وسبب النّزول وما فيها من ضمائر .
{وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ} [الأنعام : 92] .
تعقيبا على البحث الذي دار في الآيات السابقة حول كتاب اليهود السماوي ، تشير هذه الآية إلى القرآن باعتباره كتابا سماويا آخر ، والواقع أنّ ذكر التّوراة مقدمة لذكر القرآن لإزالة كل عجب وتخوف من نزول كتاب سماوي على فرد من البشر ، فتبدأ بالقول : {وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ} وهو كتاب «مبارك» لأنّه مصدر كل خير وبركة وصلاح وتقدم ، ثمّ إنّه يؤكّد الكتب التي نزلت قبله : {مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} ، والمقصود من أنّ القرآن يصدق الكتب التي بين يديه هو أنّ جميع الإشارات والإمارات التي وردت فيها تنطبق عليه .
وهكذا نجد علامتين على أحقّية القرآن وردتا في عبارتين : الأولى : وجود علامات في الكتب السابقة تخبر عنه ، والثّانية : محتوى القرآن نفسه الذي يضم كل خير وبركة وسعادة ، وبناء على ذلك فصدق القرآن يتجلى في محتواه من جهة ، وفي المستندات التّأريخية من جهة أخرى .
ثمّ يبيّن القرآن هدف نزوله وهو توجيه الإنذار والتحذير لأم القرى (مكّة) والساكنين حولها وتنبيههم إلى مسئولياتهم وواجباتهم : {وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها} (2) .
«الإنذار» اخبار فيه تخويف من ترك الواجبات والمسؤوليات وهذا من أهم أهداف القرآن ، خاصّة بالنسبة للطغاة المعاندين .
وفي الختام تقرر الآية أنّ الذين يعتقدون بيوم القيامة ، يوم الحساب والجزاء ، سيصدقون بهذا الكتاب ، ويؤدون فريضة الصّلاة ولا يفرطون فيها : {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ} .
__________________________
1. تفسير الأمثل ، ج4 ، ص 146-151 .
2. يختلف المفسّرون في الجملة التي يمكن أن نعطف عليها جملة «ولتنذر» ولعلها معطوفة على جملة محذوفة بمعنى «لتبشر» أو مثلها .
|
|
تفوقت في الاختبار على الجميع.. فاكهة "خارقة" في عالم التغذية
|
|
|
|
|
أمين عام أوبك: النفط الخام والغاز الطبيعي "هبة من الله"
|
|
|
|
|
قسم شؤون المعارف ينظم دورة عن آليات عمل الفهارس الفنية للموسوعات والكتب لملاكاته
|
|
|