أقرأ أيضاً
التاريخ: 14-6-2021
7321
التاريخ: 10-6-2021
8715
التاريخ: 27-3-2021
2272
التاريخ: 7-11-2017
3122
|
قال تعالى : {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (25) وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ } [الأنعام : 25 ، 26].
قال تعالى : {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [الأنعام : 25] .
وصف الله سبحانه حالهم ، عند استماع القرآن ، فقال :
{ومنهم} أي : ومن الكفار الذين تقدم ذكرهم {مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ} يريد : يستمعون إلى كلامك . قال مجاهد : يعني قريشا {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا} قد ذكرنا الكلام فيه في سورة البقرة عند قوله {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ}.
وقال القاضي أبو عاصم العامري : أصح الأقوال فيه ما روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يصلي بالليل ، ويقرأ القرآن في الصلاة جهرا ، رجاء أن يستمع إلى قراءته انسان ، فيتدبر معانيه ، ويؤمن به ، فكان المشركون إذا سمعوه آذوه ، ومنعوه عن الجهر بالقراءة ، فكان الله تعالى يلقي عليهم النوم ، أو يجعل في قلوبهم أكنة . ليقطعهم عن مرادهم ، وذلك بعد ما بلغهم مما تقوم به الحجة ، وتنقطع به المعذرة ، وبعد ما علم الله سبحانه أنهم لا ينتفعون بسماعه ، ولا يؤمنون به ، فشبه إلقاء النوم عليهم ، بجعل الغطاء على قلوبهم ، وبوقر آذانهم ، لأن ذلك كان يمنعهم من التدبر ، كالوقر والغطاء . وهذا معنى قوله تعالى : {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا} [الإسراء : 45] ، وهو قول أبي علي الجبائي .
ويحتمل ذلك وجها آخر وهو : إنه تعالى يعاقب هؤلاء الكفار الذين علم أنهم لا يؤمنون بعقوبات يجعلها في قلوبهم ، تكون موانع من أن يفهموا ما يسمعونه ويحتمل أيضا أن يكون سمى الكفر الذي في قلوبهم كنا ، تشبيها ومجازا ، وإعراضهم عن تفهم القرآن وقرأ ، توسعا لأن مع الكفر والإعراض ، لا يحصل الإيمان والفهم ، كما لا يحصلان مع الكن والوقر ، ونسب ذلك إلى نفسه ، لأنه الذي شبه أحدهما بالآخر ، كما يقول أحدنا لغيره ، إذا أثنى على انسان ، وذكر مناقبه : جعلته فاضلا ، وبالضد ، إذا ذكر مقابحه وفسقه ، يقول جعلته فاسقا . وكما يقال : جعل القاضي فلانا عدلا ، وكل ذلك يراد به الحكم عليه بذلك ، والإبانة عن حاله ، كما قال ا لشاعر :
جعلتني باخلا كلا ورب منى إني لأسمح كفأ منك في اللزب (2) ومعناه : سميتني باخلا : {وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا} يريد : وإن يروا كل عبرة ، لم يصدقوا بها ، عن ابن عباس . وقيل : معناه وإن يروا كل علامة ومعجزة دالة على نبوتك ، لا يؤمنوا بها لعنادهم ، عن الزجاج ، ولو أجرى معنى الآية على ظاهرها ، لم يكن لهذا معنى ، لأن من لا يمكنه أن يسمع ويفقه ، لا يجوز أن يوصف بذلك ، وكان لا يصح أن يصفهم بأنهم كذبوا بآياته ، وغفلوا عنها ، وهم ممنوعون عن ذلك .
والذي يزيل الإشكال أنه تعالى قال في وصف بعض الكفار {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا} [لقمان : 7] الآية ، ولو كان في أذنيه وقر مانع عن السماع ، مزيل للقدرة ، لكان لا معنى لقوله {كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا} [لقمان : 7] ، ولكان لا يستحق المذقة لأنه لم يعط آلة السمع ، فكيف يذم على ترك السمع .
{حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ} يعني أنهم إذا دخلوا عليك بالنهار ، يجيئون مجيء مخاصمين مجادلين ، رادين عليك قولك ، ولم يجيؤوا مجيء من يريد الرشاد والنظر ، في الدلالة الدالة على توحيد الله ونبوة نبيه {يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا} أي : ما هذا القرآن {إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} أي : أحاديث الأولين التي كانوا يسطرونها ، عن الضحاك . وقيل : معنى الأساطير : الترهات والبسابس (3) مثل حديث رستم وإسفنديار ، وغيره ، مما لا فائدة فيه ، ولا طائل تحته . وقال بعضهم :
إن جدالهم هذا القول منهم . وقيل : هو مثل قولهم : أتأكلون ما تقتلونه بأيديكم ، ولا تأكلون ما قتله الله تعالى .
{ وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ } [الأنعام : 26] .
ثم كنى عن الكفار الذين تقدم ذكرهم ، فقال : {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ} أي : ينهون الناس عن اتباع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، يتباعدون عنه ، فرارا منه ، عن ابن عباس ، ومحمد بن الحنفية ، والحسن ، والسدي . وقيل : معناه ينهون الناس عن استماع القرآن لئلا يقع في قلوبهم صحته ، ويتباعدونهم عن استماعه ، عن قتادة ، ومجاهد ، واختاره الجبائي ، وقيل : عنى به أبا طالب بن عبد المطلب ، ومعناه يمنعون الناس عن أذى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، ولا يتبعونه ، عن عطا ومقاتل . وهذا لا يصح ، لأن هذه الآية معطوفة على ما تقدمها ، وما تأخر عنها معطوف عليها ، وكلها في ذم الكفار المعاندين للنبي صلى الله عليه وآله وسلم هذا وقد ثبت إجماع أهل البيت عليهم السلام على إيمان أبي طالب ، وإجماعهم حجة ، لأنهم أحد الثقلين اللذين أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالتمسك بهما بقوله : " إن تمسكتم بهما لن تضلوا) ويدل على ذلك أيضا ما رواه ابن عمر : " ان أبا بكر جاء بأبيه أبي قحافة يوم الفتح إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأسلم ، فقال صلى الله عليه وآله وسلم : ألا تركت الشيخ فآتيه وكان أعمى . فقال أبو بكر : أردت أن يأجره الله تعالى ، والذي بعثك بالحق ! لأنا كنت بإسلام أبي طالب ، أشد فرحا مني بإسلام أبي ، ألتمس بذلك قرة عينك . فقال صلى الله عليه وآله وسلم : صدقت " .
وروى الطبري بإسناده أن رؤساء قريش ، لما رأوا ذب أبي طالب عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، اجتمعوا عليه ، وقالوا : جئناك بفتى قريش جمالا وجودا وشهامة ، عمارة بن الوليد ، ندفعه إليك ، وتدفع إلينا ابن أخيك الذي فرق جماعتنا ، وسفه أحلامنا ، فنقتله ! فقال أبو طالب : ما أنصفتموني ! تعطونني ابنكم فأغذوه ، وأعطيكم ابني فتقتلونه ، بل فليأت كل امرئ منكم بولده فأقتله ، وقال :
منعنا الرسول رسول المليك ببيض تلالا كلمع البروق
أذود وأحمي رسول المليك حماية حام عليه شفيق
وأقواله وأشعاره المنبئة عن إسلامه ، كثيرة مشهورة لا تحصى ، فمن ذلك قوله :
ألم تعلموا أنا وجدنا محمدا نبيا كموسى خط في أول الكتب
أليس أبونا هاشم شد أزره وأوصى بنيه بالطعان وبالحرب
وقوله من قصيدة :
وقالوا لأحمد أنت امروء خلوف اللسان ضعيف السبب
ألا إن أحمد قد جاءهم بحق ، ولم يأتهم بالكذب
وقوله في حديث الصحيفة ، وهو من معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم :
وقد كان في أمر الصحيفة عبرة متى ما يخبر غائب القوم يعجب
محا الله منها كفرهم ، وعقوقهم وما نقموا من ناطق الحق معرب
وأمسى ابن عبد الله فينا مصدقا على سخط من قومنا ، غير معتب
وقوله في قصيدة يحض أخاه حمزة على اتباع النبي ، والصبر في طاعته :
صبرا أبا يعلى على دين أحمد وكن مظهرا للدين ، وفقت صابرا
فقد سرني إذ قلت إنك مؤمن فكن لرسول الله في الله ناصرا
وقوله في قصيدة :
أقيم على نصر النبي محمد أقاتل عنه بالقنا والقنابل (4) .
وقوله يحض النجاشي على نصر النبي :
تعلم مليك الحبش أن محمدا وزير لموسى ، والمسيح بن مريم
أتى بهدى مثل الذي أتيا به وكل بأمر الله يهدي ويعصم
وإنكم تتلونه في كتابكم بصدق حديث ، لا حديث المرجم
فلا تجعلوا لله ندا ، وأسلموا وإن طريق الحق ليس بمظلم
وقوله في وصيته ، وقد حضرته الوفاة :
أوصي بنصر النبي الخير مشهده عليا ابني ، وشيخ القوم عباسا
وحمزة الأسد الحامي حقيقته وجعفرا أن يذودوا دونه الناسا
كونوا فدى لكم أمي وما ولدت في نصر أحمد ، دون الناس أتراسا
في أمثال هذه الأبيات مما هو موجود في قصائده المشهورة ، ووصاياه ، وخطبه ، يطول بها الكتاب . على أن أبا طالب لم ينأ عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قط ، بل كان يقرب منه ، ويخالطه ، ويقوم بنصرته ، فكيف يكون المعنى بقوله وينأون عنه {وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ} معناه : ما يهلكون بنهيهم عن قبوله ، وبعدهم عنه ، إلا أنفسهم {وَمَا يَشْعُرُونَ} أي : وما يعلمون إهلاكهم إياها بذلك .
____________________________
1 . تفسير مجمع البيان ، ج4 ، ص 29-33 .
2 . اللزب : الشدة والقحط .
3 . البسابس : الأباطيل .
4 . القنا جمع القناة : الرمح . والقنابل جمع القنبلة : الطائفة من الخيل أو الناس .
{ ومِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وفِي آذانِهِمْ وَقْراً } . خاطب اللَّه نبيه بهذه الآية بعد ما أمره أن يقول للمعاندين ما تقوم به الحجة عليهم ، وبعد أن تحدث عن أحوالهم يوم القيامة ، والمعنى ان فريقا من هؤلاء الجاحدين يستمعون إلى النبي ، وهو يتلو القرآن ، ولكنهم لا ينتفعون به ولا بغيره من الدلائل والبينات ، لأنهم صمموا منذ البداية على العناد والمكابرة ، حتى أعمى هذا التصميم عقولهم عن رؤية الحق ، وأصم آذانهم عن سماعه .
وتسأل : ان الآية بظاهرها ان اللَّه هو الذي أعمى قلوبهم ، وأصم آذانهم ، وعليه فلا يستحقون ذما ولا عقابا ، لأنهم مسيرون غير مخيرين ؟.
الجواب : بما ان قلوب المعاندين لم تفقه القرآن ، وتنتفع به ، وآذانهم لم تستمع إليه سماع فهم وتدبر صح القول مجازا : ان على قلوبهم أغلفة ، وفي آذانهم صمم ، وبما ان اللَّه سبحانه هو الذي خلق القلوب والآذان صحت نسبة الصمم والأغلفة إليه مجازا أيضا ، أما بحسب الأمر والواقع فالمشركون هم المسؤولون ، لأنهم عاندوا الحق عن تصميم وإرادة . . وتقدم الكلام عن ذلك عند تفسير الآية 7 من سورة البقرة ج 1 ص 53 .
وتجدر الإشارة إلى أن هذه الآية تدل بوضوح على ان الإسلام لا يقيس الشيء بما هو في ذاته ، بل بما هو في نتائجه وآثاره ، فالسمع والبصر منفذان للعقل ، والعقل مخطط للعمل ، فإذا لم يتحقق العمل يكون وجود الحواس وعدمها سواء ظاهرة كانت أو غير ظاهرة . وبكلمة ليس في الإسلام داخلي وخارجي ، ولا براني وجوّاني ، فالكل وسيلة إلى منفعة الناس في تدبير معاشهم ، وحل مشاكلهم .
قال الإمام علي ( عليه السلام ) : يدعي بزعمه انه يرجو اللَّه ، كذب والعظيم ، ما باله لا يتبين رجاؤه في عمله ، فكل من رجا عرف رجاؤه في عمله.
{ وإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها } . كشف محمد ( صلى الله عليه وآله ) عن حقيقة المزيفين من أصحاب الجاه والمال ، فاضطربوا وأحسوا بالخطر على مصالحهم ، فلجئوا إلى الأكذوبة الكبرى ، وقالوا عن آيات اللَّه : أساطير الأولين ، وهم على يقين ان هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ، ولكنهم كانوا يلتمسون أوجه الشبهات والمغالطات ، ليصرفوا الناس عن أضاليلهم وأباطيلهم ، تماما كما يفعل اليوم أرباب الأنظمة الفاسدة ، والقوانين الجائرة .
{ وهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ ويَنْأَوْنَ عَنْهُ } . ضميرهم يعود إلى الذين عاندوا الحق حرصا على مصالحهم ، وضمير عنه يعود إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) . . نهى المزيفون عن اتباع محمد ( صلى الله عليه وآله ) وأعرضوا عنه ، بل حاولوا إثارة النقمة عليه ، وجمعوا الجيوش لحربه ، لا لشيء إلا لأنه كشف عن أسوائهم ووبائهم . { وإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وما يَشْعُرُونَ } . أرادوا الكيد للإسلام ونبيه ، فدارت دائرة السوء على رؤوسهم ، حيث هلك بعضهم يوم بدر ، واستسلم آخرون أذلاء صاغرين يوم الفتح . . وهذا مصير كل من لج وتمادى في الغي والعناد .
___________________________
1. تفسير الكاشف ، ج3 ، ص 176-177 .
قوله تعالى : {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ} إلى آخر الآية ، الأكنة جمع كن بكسر الكاف وهو الغطاء الذي يكن فيه الشيء ويغطى ، والوقر هو الثقل في السمع ، والأساطير جمع أسطورة بمعنى الكذب والمين على ما نقل عن المبرد ، وكان أصله السطر وهو الصف من الكتابة أو الشجر أو الناس غلب استعماله فيما جمع ونظم ورتب من الأخبار الكاذبة .
وكان ظاهر السياق أن يقال : يقولون إن هذا إلا أساطير الأولين ، ولعل الإظهار للإشعار بالسبب في هذا الرمي وهو الكفر .
قوله تعالى : {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ} ينهون عنه أي عن اتباعه ، والنأي الابتعاد ، والقصر في قوله : {وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ} من قصر القلب فإنهم كانوا يحسبون أن النهي عنه والنأي عنه إهلاك له وإبطال للدعوة الإلهية ، ويأبى الله إلا أن يتم نوره فهم هم الهالكون من حيث لا يشعرون .
_________________________
1. تفسير الميزان ، ج7 ، ص 44-45 .
حجب لا تقبل الاختراق :
في هذه الآية إشارة إلى الوضع النفسي لبعض المشركين ، فهم لا يبدون أية مرونة تجاه سماع الحقائق ، بل أكثر من ذلك ـ يناصبونها العداء ، ويقذفونها بالتهم ، فيبعدون أنفسهم وغيرهم عنها ، عن هؤلاء تقول الآية : {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً} (2) .
في الواقع كانت عقولهم وأفكارهم منغمسة في التعصب الجاهلي الأعمى ، وفي المصالح المادية والأهواء ، بحيث أصبحت وكأنّها واقعة تحت الأستار والحواجز ، فلا هم يسمعون حقيقة من الحقائق ، ولا هم يدركون الأمور إدراكا صحيحا.
سبق أن قلنا مرارا أنّ نسبة هذه الأمور إلى الله ، إنّما هو إشارة إلى قانون «العلة والمعلول» وخاصية «العمل» ، أي أنّ أثر الاستمرار في الانحراف والإصرار على المعاندة والتشاؤم يظهر في اتصاف نفس الإنسان بهذه المؤثرات ، وفي تحولها إلى مثل المرآة المعوجة التي تعكس صور الأشياء معوجة منحرفة ، لقد أثبتت التجربة أنّ المنحرفين والمذنبين يحسون أوّل الأمر بعدم الرضا عن حالهم ، ولكنّهم يعتادون ذلك بالتدريج ، وقد يصل بهم الأمر إلى اعتبار أعمالهم القبيحة لازمة وضرورية ، وبتعبير آخر : هذا واحد من أنواع العقاب الذي يناله المصّرون على العصيان ومعاداة الحقّ .
وهؤلاء وصلوا حدّا تصفه الآية فتقول : {وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها} ، بل الأكثر من ذلك أنّهم عند ما يأتون إليك ، لا يفتحون نوافذ قلوبهم أمام ما تقول ، ولا يأتون ـ على الأقل ـ بهيئة الباحث عن الحقّ الذي يسعى للعثور على الحقيقة والتفكير فيها ، بل يأتون بروح وفكر سلبيين ، ولا هدف لهم سوى الجدل والاعتراض : {حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ} أنّهم عند سماعهم كلامك الذي يستقي من ينابيع الوحي ويجري على لسانك الناطق بالحقّ ، يبادرون إلى اتهامك بأنّ ما تقوله إنّما هو خرافات اصطنعها أناس غابرون : {يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ}.
الآية التّالية تذكر أنّ هؤلاء لا يكتفون بهذا ، فهم مع ضلالهم يسعون جاهدين للحيلولة دون سلوك الباحثين عن الحقيقة هذا الطريق بما يشيعونه ويروجونه من مختلف الأكاذيب ، ويمنعونهم أن يقتربوا من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ} ، ويبتعدون عنه بأنفسهم : {وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ} (3) ، دون أن يدركوا أنّ من يصارع الحقّ يكن صريعه ، وأخيرا ، وبحسب قانون الخلق الثابت ، يظهر وجه الحقّ من وراء السحب ، وينتصر بماله من قوّة ، ويتلاشى الباطل كما يتلاشى الزبد الطافي على سطح الماء ، وعليه فإنّ مساعيهم سوف تتحطم على صخرة الإخفاق والخيبة وما يهلكون غير أنفسهم ، ولكنّهم لا يدركون الحقيقة : {وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ} .
الصاق تهمة عظيمة بأبي طالب مؤمن قريش :
يتّضح ممّا قيل في تفسير هذه الآية أنّها تتابع الكلام على المشركين المعاندين وأعداء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الألداء ، والضمير «هم» يعود بموجب قواعد الأدب واللغة ـ إلى الذين تتناولهم الآية بالبحث ، أي الكفار المتعصبين الذين لم يدخروا وسعا في إيذاء النّبي صلى الله عليه وآله وسلم ووضع العثرات في طريق الدعوة إلى الإسلام.
ولكن ـ لشديد الأسف ـ نرى بعض المفسّرين من أهل السنة يخالفون جميع قواعد اللغة العربية ، فيقطعون الآية الثّانية من الآية الاولى ويقولون : إنّها نزلت في أبي طالب والد أمير المؤمنين علي عليه السلام .
أنّهم يفسرون الآية هكذا : هناك فريق يدافعون عن رسول الإسلام صلى الله عليه وآله وسلم ولكنّهم في الوقت نفسه يبتعدون عنه : {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ} وهم يستشهدون في توكيد رأيهم ببعض الآيات الأخرى من القرآن ، ممّا سنتناوله في موضعه ، مثل الآية (114) من سورة التوبة والآية (56) من سورة القصص.
لكن جميع علماء الشيعة وجمع من علماء أهل السنة ، ومثل ابن أبي الحديد شارح نهج البلاغة والقسطلاني في «إرشاد الساري» وزيني دحلان في حاشية السيرة الحلبية ، ويعتبرون أبا طالب من مؤمني الإسلام ، وهناك في المصادر الإسلامية الأصيلة دلائل كثيرة على هذا.
ومن يطالع هذه الأدلة يندفع للتساؤل بدهشة : ما السبب الذي حدا ببعضهم إلى كره أبي طالب وتوجيه مثل هذا الاتهام الكبير إليه؟!
كيف يكون هدفا لمثل هذا الاتهام من كان يدافع بكل كيانه ووجوده عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولطالما وقف هو وابنه في مواقع الخطر يدر آن عن حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كل خطر؟!
هنا يرى المحققون المدققون أنّ التيار المناوئ لأبي طالب تيار سياسي ينطلق من عداء «شجرة بني أمية الخبيثة» لمكانة علي عليه السلام .
ذلك لأنّ أبا طالب ليس الوحيد الذي تعرض لمثل هذه الهجمات بسبب قرابته من أمير المؤمنين علي عليه السلام ، بل إنّنا نلاحظ على امتداد تاريخ الإسلام أنّ كل من كان له بأي شكل من الأشكال نوع من القرابة من أمير المؤمنين علي عليه السلام لم ينج من هذه الحملات اللئيمة ، وفي الحقيقة كان ذنب أبي طالب الوحيد أنّه والد الشخصية الإسلامية الكبرى علي عليه السلام.
ونذكر هنا بإيجاز مختلف الأدلة التي تثبت إيمان أبي طالب ، تاركين التفاصيل للكتب المختصة في الموضوع .
1 ـ كان أبو طالب يعلم ، قبل بعثة الرّسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم ، أنّ ابن أخيه سوف يصل إلى مقام النبوة ، فقد كتب المؤرخون أنّه في رحلته مع قافلة قريش إلى الشام اصطحب معه ابن أخيه محمّدا البالغ يومئذ الثّانية عشرة من العمر ، وفي غضون الرحلة رأى منه مختلف الكرامات ، ثمّ عند ما مرّت القافلة بالراهب (بحيرا) الذي أمضى سنوات طوالا في صومعته على طريق القوافل التجارية ، استلف محمّد صلى الله عليه وآله وسلم نظر الراهب الذي راح يدقق في وجهه وملامحه ، ثمّ التفت إلى الجمع سائلا : من منكم صاحب هذا الصبي؟ فأشار الجمع إلى أبي طالب الذي قال له : هذا ابن أخي ، فقال بحيرا : إنّ لهذا الصبي شأنا ، إنّه النّبي الذي أخبرت به وبرسالته الكتب السماوية ، وقد قرأت فيها تفاصيل ذلك كله (4) .
ولقد كان أبو طالب قبل ذلك قد أدرك من الوقائع والقرائن التي رآها من ابن أخيه أنّه سيكون نبي هذه الأمّة.
وبموجب ما يذكره الشهرستاني صاحب «الملل والنحل» وغيره من علماء السنة أنّ سماء مكّة قد جست بركتها عن أهلها سنة من السنين ، فواجه الناس سنة ـ جفاف شديد ، فأمر أبو طالب أنّ يأتوه بابن أخيه محمّد ، فأتوه به وهو رضيع في قماطه ، فوقف تجاه الكعبة ، وفي حالة من التضرع والخشوع أخذ يرمي بالطفل ثلاث مرات إلى أعلى ثمّ يتلقفه وهو يقول : يا ربّ بحق هذا الغلام اسقنا غيثا مغيثا دائما هطلا ، فلم يمض إلّا بعض الوقت حتى ظهرت غمامة من جانب الأفق وغطت سماء مكّة كلّها وهطل مطر غزير كادت معه مكّة أن تغرق.
ثمّ يقول الشهرستاني : هذه الواقعة ، التي تدل على علم أبي طالب بنبوة ابن أخيه ورسالته منذ طفولته تؤكّد إيمانه به ، وهذا أبيات أنشدها أبو طالب بعد ذلك بتلك المناسبة :
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ثمال اليتامى عصمة للأرامل
يلوذ به الهلاك من آل هاشم فهم عنده في نعمة وفواضل
وميزان عدل لا يخيس شعيرة ووزان صدق وزنه غير عائل
إنّ حكاية إقبال قريش على أبي طالب رحمه الله عند الجفاف ، واستشفاع أبي طالب إلى الله بالطفل قد ذكرها غير الشهرستاني عدد آخر من كبار المؤرخين ، وقد أورد العلّامة الاميني قدس سرّه صاحب كتاب «الغدير» هذه الحكاية وذكر أنّه نقلها من «شرح البخاري» و «المواهب اللدنية» و «الخصائص الكبرى» و «شرح بهجة المحافل» و «السيرة الحلبية» و «السيرة النبوية» و «طلبة الطالب» (5) .
2 ـ إضافة إلى كتب التّأريخ المعروفة ، فإنّ بين أيدينا شعرا لأبي طالب جمع في «ديوان أبي طالب» ، ومنه الأبيات التّالية :
والله لن يصلوا إليك بجمعهم حتى أوسد في التراب دفينا
فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة وابشر بذاك وقر منك عيونا
ودعوتني وعلمت أنك ناصحي ولقد دعوت وكنت ثمّ أمينا
ولقد علمت بأنّ دين محمّد من خير أديان البرية دينا
كما قال أيضا :
ألم تعلموا أنا وجدنا محمّدا رسولا كموسى خط في أوّل الكتب
وإنّ عليه في العباد محبّة ولا حيف في من خصّه الله بالحبّ (6)
يذكر ابن أبي الحديد طائفة كبيرة من أشعار أبي طالب (التي يقول عنها ابن شهر آشوب في «متشابهات القرآن» أنّها تبلغ ثلاثة آلاف بيت) ثمّ يقول : إن هذه الأشعار لا تدع مجالا للشك أنّ أبا طالب كان يؤمن برسالة ابن أخيه .
3 ـ ثمّة أحاديث منقولة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تؤكّد شهادته بإيمان عمه الوفي أبي طالب ، من ذلك ما ينقله لنا صاحب كتاب «أبو طالب مؤمن قريش» فيقول : عند ما توفي أبو طالب رثاه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو على قبره ، قائلا : «وا أبتاه ! وا أبا طالباه وا حزناه عليك ! كيف أسلو عليك يا من ربيتني صغيرا ، واجبتني كبيرا ، وكنت عندك بمنزلة العين من الحدقة والروح من الجسد» (7).
وكثيرا ما كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : «ما نالت منّي قريش شيئا أكرهه حتى مات أبو طالب» (8).
4 ـ من المتفق عليه أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد أمر بقطع كل رابطة صحبة له بالمشركين ، وكان ذلك قبل وفاة أبي طالب بسنوات ، وعليه فإنّ ما أظهره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الحبّ والتعلق بأبي طالب يدل على أنّه كان يرى في أبي طالب تابعا لمدرسة التوحيد ، وإلّا فكيف ينهى الآخرين عن مصاحبة المشركين ، ويبقى هو على حبّه العميق لأبي طالب ؟
5 ـ في الأحاديث التي وصلتنا عن أهل البيت عليهم السلام أدلة وافرة على إيمان أبي طالب وإخلاصه ، ولا يسع المجال هنا لذكرها ، وهي أحاديث تستند إلى الاستدلال المنطقي والعقلي ، كالحديث المنقول عن الإمام زين العابدين عليه السلام الذي قال ـ بعد أن سئل عن إيمان أبي طالب وأجاب الإيجاب ـ : «إنّ هنا قوما يزعمون أنّه كافر .. وا عجبا كل العجب ! أيطعنون على أبي طالب أو على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقد نهاه الله أن تقرّ مؤمنة مع كافر في غير آية من القرآن (أي في أكثر من آية) ولا يشك أحد أن فاطمة بنت أسد رضي الله تعالى عنها من المؤمنات السابقات ، فإنّها لم تزل تحت أبي طالب حتى مات أبو طالب رضي الله عنه» (9).
6 ـ وإذا تركنا كل هذا جانبا ، فإننا قد نشك في كل شيء إلّا في حقيقة كون أبي طالب كان على رأس حماة الإسلام ورسول الإسلام ، وكانت حمايته تتعدى الحدود المألوفة بين أبناء العشيرة والعصبيات القبلية ولا يمكن تفسيرها بها.
ومن الأمثلة الحيّة على ذلك حكاية (شعب أبي طالب) يجمع المؤرخون على أنّه عند ما حاصرت قريش النّبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين محاصرة اقتصادية واجتماعية وسياسية شديدة وقطعت علائقها بهم ، ظل أبو طالب الحامي والمدافع الوحيد عنهم مدّة ثلاث سنوات ترك فيها كل أعماله ، وسار ببني هاشم إلى واد بين جبال مكّة يعرف بشعب أبي طالب فعاشوا فيه ، وقد بلغت تضحياته حدا أنّه ، فضلا عن بنائه الأبراج الخاصّة للوقوف بوجه أي هجوم قد تشنه قريش عليهم ، كان في كل ليلة يوقظ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من نومه ويأخذه إلى مضجع آخر يعده له ويجعل ابنه الحبيب إليه عليا عليه السلام في مكانه ، فإذا ما قال له ابنه علي عليه السلام : يا أبة ، إنّ هذا سيوردني موارد الهلكة ، أجابه أبو طالب عليه السلام : ولدي عليك بالصبر ، كل حي إلى ممات ، لقد جعلت فداء ابن عبد الله الحبيب ، فيرد علي عليه السلام : يا أبه ، ما قلت لك ذلك خوفا من الموت في سبيل محمّد صلى الله عليه وآله وسلم ، بل كنت أريدك أن تعلم مدى طاعتي لك واستعدادي للوقوف إلى جانب محمّد صلى الله عليه وآله وسلم (10).
إنّنا نرى أن من يترك التعصب ، ويقرأ ـ بغير تحيز ـ ما كتبه التّأريخ بحروف من ذهب عن أبي طالب ، سيرفع صوته مع صوت ابن أبي الحديد منشدا :
ولو لا أبو طالب وابنه لما مثل الدين شخصا وقاما
فذاك بمكّة آوى وحامى وهذا بيثرب جس الحماما (11) .
________________________
1. تفسير الأمثل ، ج4 ، ص 42-47 .
2. «أكنة» جمع «كنان» وهو كل ستار أو حاجز ، و «الوقر» بمعنى ثقل السمع.
3. «ينأون» من «نأى» بمعنى ايتعد .
4. ملخص ما ورد في سيرة ابن هشام ، ج 1 ، ص 191 ، وسيرة الحلبي ، ج 1 ، ص 131 ، وكتب أخرى.
5. «الغدير» ، ج 7 ، ص 346.
6. هاتان القطعتان وردتا في «خزانة الأدب» و «وتاريخ ابن كثير» و «شرح ابن أبي الحديد» و «فتح الباري» و «بلوغ الارب» و «تاريخ أبي الفداء» و «السيرة النبوية» وغيرها نقلا عن «الغدير» ، ج 8.
7. «شيخ الأباطح» نقلا عن «أبو طالب مؤمن قريش».
8. الطبري ، نقلا عن «أبو طالب مؤمن قريش».
9. كتاب «الحجة» و «الدرجات الرفيعة» نقلا عن «الغدير» ج 8 ، ص 380.
10. الغدير ، ج 7 ، ص 357 ـ 358 بتصرف.
11. الغدير ، ص 86.
|
|
5 علامات تحذيرية قد تدل على "مشكل خطير" في الكبد
|
|
|
|
|
لحماية التراث الوطني.. العتبة العباسية تعلن عن ترميم أكثر من 200 وثيقة خلال عام 2024
|
|
|