المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية

علوم اللغة العربية
عدد المواضيع في هذا القسم 2764 موضوعاً
النحو
الصرف
المدارس النحوية
فقه اللغة
علم اللغة
علم الدلالة

Untitled Document
أبحث عن شيء أخر المرجع الالكتروني للمعلوماتية
{افان مات او قتل انقلبتم على اعقابكم}
2024-11-24
العبرة من السابقين
2024-11-24
تدارك الذنوب
2024-11-24
الإصرار على الذنب
2024-11-24
معنى قوله تعالى زين للناس حب الشهوات من النساء
2024-11-24
مسألتان في طلب المغفرة من الله
2024-11-24

انعقاد الوصية بالأعيان بالكتابة
2023-04-21
الوصف النباتي للنخيل
2023-05-04
حكم الحج وجزاء منكره
7-9-2017
تأثير "بردچمان" Bridgman effect
16-2-2018
العوامل التي تؤدي الىٰ انغلاق القلوب
2024-09-11
لقاح ضد الكوليرا أو الهواء الأصفر (Cholera)
1-3-2016


مقومات الخطاب الإبلاغي  
  
243   01:37 مساءً   التاريخ: 31-8-2017
المؤلف : منقور عبد الجليل
الكتاب أو المصدر : علم الدلالة اصوله ومباحثه في التراث العربي
الجزء والصفحة : ص207– ص222
القسم : علوم اللغة العربية / علم الدلالة / جهود القدامى في الدراسات الدلالية / جهود الآمدي /

 

مقومات الخطاب الإبلاغي:

هذه الوحدات أو عناصر الخطاب(1)، سوف تضطلع بمهمة تمثيل البنية الدلالية على مستوى التركيب اللغوي، إذ يقول الآمدي "ومن اختلاف تركيبات المقاطع الصوتية حدثت الدلائل الكلامية والعبارات اللغوية"(2)، فاللغة بناء على هذا المفهوم تقوم على أساسين أو مستويين: المستوى الأول هو المستوى الفونولوجي، بحيث يحدث التلفظ الأول لمقاطع صوتية تكون ذات دلالة إذا ما كان تركيبها مختلفة أصواته، أما المستوى الثاني فهو المستوى التركيبي حيث يتم إنشاء دلائل كلامية وعبارات لغوية، إن هذا التفصيل في تشكيل الصوت العربي الذي يدخل مع أصوات أخرى مختلفة ليحدُث المقطع، ينم حقيقة عن إلمام عميق بآليات الكلام في اللغة العربية، فهي تتشكل من مقاطع كلامية سميت في الدرس اللساني بالمورفامات المشكَّلة هي الأخرى من أصوات مفردة سميت بالفونامات، وإلى ذات التقسيم اهتدى أندريه مارتينه إلى ما سماه بالتلفظ المزدوج (Double articulation) وهو تحليل يسير باتجاه معاكس لتحليل الآمدي، إذ يقرر مارتينه أن "كلاً من الوحدات الكلامية الحاصلة وفق تلفظ أول هي بدورها ملفوظة

ص207

 

بواسطة وحدات من نوع آخر"(3)، فمارتينه ينطلق في نظريته من المستوى التركيبي (التلفظ الأول) لينتقل إلى المستوى الفونولوجي (التلفظ الثاني) بينما يرى الآمدي أن المقاطع الصوتية واختلاف تركيبات أصواتها تحدث عنه الدلائل الكلامية (المورفامات) والعبارات الصوتية (التركيب اللغوي).

أ-الخبر وأبعاده الدلالية:

إن التركيب اللغوي لا يشكل خطاباً لغوياً إلا ضمن لائحة من الشروط الذاتية والموضوعية وضعها الآمدي في إطار معيارية لقياس محمول الخطاب اللغوي وهو الخبر، ففي باب حقيقة الخبر وأقسامه "يطرح الآمدي قضية القراءة العميقة لبنية الخبر، يقول في ذلك: "أما حقيقة الخبر، فاعلم أولاً أن اسم الخبر يطلق على الإشارات الحالية والدلائل المعنوية، كما في قولهم: عيناك تخبرني بكذا، والغراب يخبر بكذا"(4).

إن الآمدي لا يكتفي بالقراءة المورفولوجية للجملة بل يعرضها عرضاً سيميائياً ظاهراً، فجملة (عيناك تخبرني بكذا) يقع فيها الركن الأسمي (عيناك) كرمز سيميولوجي لدلالة خفية تقوم بدلالة الخبر وقد سمي الآمدي ذلك "إشارة حالية" أو "دليل معنوي" وهو بذلك ينص على أنّ تلك الإشارة السيميولوجية تعد الملمح الأساس الذي يتمظهر فيه انفعال المتكلم.

وقد اعتمد "كاسيير (Kassirer) الرمز السيميولوجي لاستبطان دواخل الإنسان المتكلم حيث ذهب إلى أن الإنسان حيوان رامز، يتمظهر واقعه الدلالي في لائحة من الرموز والدوال"(5)، وقد زحفت (إمبراطورية) الرموز والعلامات شيئاً فشيئاً باسطة سلطتها على عالم الأشياء، فأضحينا نحمل في أذهاننا أشياء كثيرة من العالم الخارجي في شكل علامات لغوية، وقد اعتبر "روبنز (R.H. Robins) ، اللغة الموهبة الأكثر نوعية التي مُنِحَها الإنسان الذي سعى باحثاً عبر تاريخه الفكري الطويل عن بلوغ أفضل معرفة بذاته(6) بواسطة اللغة.

يميز الآمدي في تحديده لمفهوم الخطاب بين التركيب

ص208

 

الخبري والتركيب الكلامي، فالخبر متعلق بالعملية الإسنادية سلباً أو إيجاباً، أما الكلام فمتعلق بقيمة الإفادة ذلك لارتباطه بالإبلاغ، يقول الآمدي معرفاً الخبر: "الخبر عبارة عن اللفظ الدال بالوضع على نسبة معلوم إلى معلوم أو سلبها على وجه يحسن السكوت عليه من غير حاجة إلى إتمام، مع قصد المتكلم به الدلالة على النسبة أو سلبها"(7)، فالمسألة التي كانت مدار خلاف بين العلماء في عصر الآمدي هي حول تحديد مفهوم الخبر، فكان شائعاً عصرئذ التعريف القائل: الخبر ما احتمل الصدق أو الكذب ولكن بعض العلماء ومنهم الآمدي خالف هذا التعريف لوجود جمل خبرية ولكن لا يمكن أن توصف بالصدق أو الكذب كقول أحدهم: "محمد ومسيلمة صادقان في دعوة النبوة" فلا يدخله الصدق وإلا كان مسيلمة صادقاً(8) كذلك الناقل للجملة الخبرية في حاجة إلى تصديق لأن ذلك متوقف على الصدق في الإسناد (إسناد المسند إليه)، فالخبر عند الآمدي إذن تواضع مؤسَّس على النسبة وقصد المتكلم في إثباتها أو سلبها.

إن الاحتكام إلى معيار الصدق والكذب في تحديد قيمة الخبر لا يمكن أن نفصل في جدواه إذا لم نتبين واضحاً مفهوم الصدق والكذب، ولذلك يخصص الآمدي حيزاً مهماً في سبيل تعيين مفهومها يقول في ذلك" إن الخبر ينقسم إلى صادق وكاذب لأنه لا يخلو إما أن يكون مطابقاً للمخبر به أو غير مطابق فإن كان الأول، فهو الصادق وإن كان الثاني فهو الكاذب"(9)، ويعترض الآمدي بناء على ذلك على الجاحظ في تقسيمه الخبر إلى ثلاثة أقسام: صادق وكاذب وما ليس بصادق ولا كاذب، ويؤسس الآمدي اعتراضه على عنصر "القصد" في الخبر".

فإذا انتفى هذا العنصر لا يمكن أن نسمي سياقاً ما خبراً، أما إذا وجد القصد واعتقد المتلقي كذب محتوى الخبر، كان الخبر كاذباً(10) ولذلك لا يخرج السياق الخبري من أمرين لا ثالث لهما: إما أن يكون الخبر صادقاً أو كاذباً بناء على معايير موضوعية تخضع للواقع اللغوي، أو لا يكون السياق خبراً لافتقاده لمقومات وخصائص السياق الخبري منها وعي المتكلم بفحوى الخبر، وقصده من ورائه.

ص209

 

وبذلك يكون الآمدي قد أدرك أهمية سلامة البنية التركيبية وعلاقتها بالكفاية الذاتية التي يمتلكها المتكلم، بحيث يموقع فيها وعيه الكامل بمضمون الخبر الذي ينقله، إذ لا معنى لعدم وضوح الدلالة في بنية الخبر أنه يصح وصفه بالكذب، إذ الخبر قد يخرج من دلالته الحقيقية إلى دلالة مجازية، كما هو عليه بعض آيات القرآن الكريم، فمتعلق ذلك بقصد المتكلم. يشرح ذلك الآمدي بقوله: "وصرف اللفظ عن أحد مدلوليه إلى الآخر لا يكون كاذباً، وسواء كان ذلك اللفظ من قبيل الألفاظ المشتركة أو المجازية ولهذا: فإن من أخبر بلفظ مشترك وأراد به بعض مدلولاته دون البعض كما قال (رأيت عيناً) وأراد به العين الجارية دون الباصرة والعكس فإنه لا يعد كاذباً، وكذلك من أخبر بلفظ هو حقيقة في شيء ومجاز في شيء وأراد جهة المجاز دون الحقيقة، فإنه لا يعد كاذباً وذلك كما لو قال (رأيت أسداً) وأراد به المجمل المجازي دون الحقيقي وهو الإنسان"(11).

إلاّ أن ثنائية الصدق والكذب كمعيارية للحكم على فحوى الخبر، لا تلبث عند الآمدي أن تتحول إلى ثلاثية كان قد انتقضها وعارضها عند الجاحظ، وإن كان ذلك مرتبط بالخبر الشرعي ولكن ينسحب على كل خبر لغوي توافرت فيه شروط تعود إلى متنه ومضمونه وإلى ناقله بالخصوص ومتلقيه والمقام العام الذي يصرف فيه ويبث، يطلعنا الآمدي بتقسيم جديد للخبر فيقول: "إن الخبر ينقسم إلى ما يعلم صدقه وإلى ما يعلم كذبه وإلى ما لا يعلم صدقه ولا كذبه"(12)، والشيء الذي يعتمد في تعيين إثبات أو سلب المضمون الخبري هو طبيعة ناقل الخبر أساساً، والحقيقة أن الإحاطة بعالم ناقل الخبر أو المتكلم أمر لا زال محل بحث عند علماء الدلالة المحدثين، لأن قيمة دلالة التركيب الخبري تضطلع بتحصيلها عدة عوامل تخص التركيب نفسه من سلامة بُناه، وحسن رصف عناصره، وتوظيف متمكن لقواعد سلامة الإسقاط، ثم، وهو أمر مهم، موقع المرسل والمرسل إليه، فناقل الخبر هو المنتج أو المركب للخبر مبنى ومعنى مع وعي ملازم أثناء عملية الإبلاغ.

إن أهم ما قررته الدراسات اللسانية الحديثة في مبحث قيمة الرسالة الإبلاغية، هو وجود مستمع أو متلق مثالي مستعد لاستقبال الرسالة الإبلاغية خال ذهنه من فحواها مسبقاً، وإلى ذات الفكرة يشير الآمدي في حديثه عن الخبر فيقول: "وأما ما يرجع إلى المستمعين، فأن يكون المستمع متأهلاً لقبول العلم بما

ص210

 

أخبر به، غير عالم به قبل ذلك وإلا كان فيه تحصيل الحاصل"(13)، وقد نصت النظرية السياقية والمقامية إلى ذلك التطور الحاصل في مفهوم السياق(14)إذ لم يعد الاقتصار على الجانب اللغوي في إيضاح الدلالة وإنما وجدت جوانب أخرى تنحسم معها الدلالة المقصودة كالوضع والمقام الذي يحيط بالتواصل والحالات السيكولوجية التي تطبع وضع المتلقي خاصة، لقد ذهب بعض العلماء في عصر الآمدي وقبله إلى تحديد معيار العلم بالخبر، إلى تساوي المستمعين في فهم دلالته، إلا أن الآمدي يعترض على ذلك مؤكداً على ضرورة الأخذ بمقام المتلقي وأحواله النفسية، إذ الفعل الدلالي لا ينتج بمعزل عن محيطه النفسي والاجتماعي، إذ لا بد من مراعاة كل ذلك. يقول الآمدي: "ذهب القاضي أبو بكر وأبو الحسين البصري إلى أن كل عدد وقع العلم بخبره في واقعة لشخص، لا بد أن يكون مفيداً للعلم بغير تلك الواقعة لغير ذلك الشخص إذا سمعه، وهذا إنما يصح على إطلاقه إذا كان العلم قد حصل من نفس خبر ذلك العدد مجرداً كما صنف به من القرائن العائدة إلى أخبار المخبرين، وأحوالهم واستقراء السامعين في قوة السماع للخبر والفهم لمداوله مع فرض التساوي في القرائن"(15)، ولكن ذلك غير ممكن فالاستعدادات الذاتية بين جمهور المتلقين متفاوتة وغير متجانسة، يشرح الآمدي ذلك بقوله: "كما اختص به من القرائن التي لا وجود لها في غيره وبتقدير اتحاد الواقعة وقرائنها لا يلزم من حصول العلم بذلك العدد لبعض الأشخاص حصوله لشخص آخر"(16).

ومرد ذلك الاختلاف، إلى مقام كل مستمع النفسي والاجتماعي والثقافي، فالخبر تحيط بهم قيم حافة هامشية ترتد إلى الفرد أو المجتمع وثقافته، وهو ما سمي في النظرية السياقية بالقيم الأسلوبية أو التعبيرية، فالتفاوت الحاصل بين الأشخاص على فهم الخبر يرجع إلى قوة الإدراك والفهم للقرائن، إذ التفاوت فيما بين الناس في ذلك ظاهر جداً، حتى إن منهم من له قوة فهم أدق المعاني وأغمضها في أدنى دقيقة من غير كدّ أو تعب، ومنهم من انتهى في البلادة إلى حد لا قدرة له على فهم أظهر ما يكون من المعاني مع الجد والاجتهاد في ذلك، ومنهم من حاله متوسطة بين الدرجتين وهذا أمر واضح لا مراء فيه"(17).

ص211

 

وما الفهم المتمكن من دلالة الخطاب الخبري إلا تعبير من المتلقي على قوة إدراكه لمختلف القرائن المصاحبة للخبر، ووقوع ذلك موقعاً مجانساً لواقعه النفسي والثقافي والاجتماعي، أما الذي تلكأ في إدراك دلالة ذلك الخطاب مع وضوح قرائنه، فلوجود هوامش في الخطاب لم تكن للمتلقي المرجعية الكافية لفك رموزها والتقاط دلالتها، وبذلك نفسر ميل الآمدي إلى الأخذ بتأويلات الصحابي الراوي لحديث نبوي فيه ألفاظ مجملة وذلك لعلمه أنه ممن أطلعوا على المقام الذي أنتج فيه ذلك الحديث النبوي والقيم الهامشية التي حفت به، يبين الآمدي هذه المسألة فيقول: "فلا نعرف خلافاً في وجوب حمل الخبر على ما حمله الراوي عليه، لأن الظاهر من حال النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا ينطق باللفظ المجمل لقصد التشريع وتعريف الأحكام ويخليه عن قرينة حالية أو مقالية تعين المقصود من الكلام، والصحابي الراوي المشاهد للحال أعرف بذلك من غيره"(18).

وفي معرض تحديده ماهية الخطاب الشرعي، يومئ الآمدي إلى وجوب تكييف الخطاب اللغوي بما يجعل المتلقي يتهيأ لفهم دلالته، ولا يرى الآمدي التعريف القائل بأن الخطاب "هو الكلام الذي يفهم المستمع منه شيئاً"(19) تعريفاً صائباً لكونه أهمل موقع المستمع من هذا الخطاب فهو بذلك يفتقر إلى الإحاطة الشمولية بماهية الخبر الذي يتمظهر في شكل "محمول" يتموقع في بنية الخطاب الدلالية، فنحن إذن إزاء عملية تواصل وإبلاغ وجب توفير كل آلياتها حتى يتم فيها نقل الدلالة إلى السامع من غير لبس في المعنى ولا إبهام، وليحيط السامع بحيثيات الخبر المنقول إليه وما يتصل بناقله لأن ذلك مشمول في احتواء الدلالة الكاملة. يقول عبد السلام المسدي في ذلك: "على أن السامع إذ يقارن بين نظامه الخاص ونظام محدثه يتسنى له الاستدلال على أصل مخاطبه وعلى درجة ثقافته وعلى انتمائه الاجتماعي، كما أن مميزات صوته الطبيعية تعرفه على جنسه وسنه وفصيلته على المستوى الفيزيولوجي النفساني"(20).

وإلى ذات الفكرة يذهب الآمدي مستنداً على أساسين هما قوام كل خطاب موضوع لخبر، ويعني بهما: القصد عند الباث، والاستعداد والتهيؤ عند المتلقي وإذا انتفى أحد هذين الأساسين فقد الخبر قيمته الإبلاغية. يقول الآمدي موضحاً ماهية الخطاب: "والحق أنه اللفظ المتواضع عليه المقصود به إفهام من هو

ص212

 

متهيئ لفهمه، (فاللفظ) احتراز عما وقعت المواضعة عليه من الحركات والإشارات المفهمة (والمتواضع عليه) احتراز عن الألفاظ المهملة، (والمقصود بها الإفهام) احتراز عما ورد على الحد الأول"(21).

إن هذا التعريف بماهية الخطاب اللغوي عند الآمدي ينسجم مع الأداء الوظيفي الذي يقوم به من الفهم والإفهام، وإن أهم وسيلة لتحقيق ذلك هي الألفاظ المنتظمة في سياقات لغوية سليمة، ثم إن إشارة الآمدي إلى اللغة السيميولوجية (وهي الإشارة والرموز والحركات ذات دلالات) دليل قوي على الاهتمام بالمنحى السيميائي العام، والرؤية الشمولية التي كانت تطبع الدرس التراثي عند الآمدي ومعاصريه، إذ تناولوا "اللغة" تناولاً كلياً تحدده قنوات التواصل المتعددة.

ب-الكلام وقيمته الإبلاغية:

لقد ميز البحث الدلالي الحديث بين مفاهيم ثلاثة عدت أسساً في الدراسة المنهجية الحديثة، على نقيض الدرس اللغوي التراثي الذي كان غالباً ما يخلط بينها في الاستعمال وهذه المفاهيم الثلاثة هي: اللغة واللسان والكلام، فاللغة مفهوم كلي عام واللسان مفهوم نمطي نوعي أما الكلام فمفهوم فردي إجرائي، أو كما يشرح ذلك المسدي بقوله: "فمتصور اللغة يجسم صورة القانون ولسان الجماعة يشكل نموذج العرف أما كلام الأفراد فيشخص مثال السلوك(22)، وهو التمثيل الفردي للغة وقد شرح ذلك دي سوسير في كتابه "دروس في اللسانيات العامة" ضمن تلك الثنائيات التي عقدها بين مجموعة من المفاهيم منها: اللغة والكلام، أما نظرة الآمدي إلى الكلام فتتمثل في كونه مركب من الألفاظ وله مظهران: مظهر لساني ومظهر نفسي يقول مبيناً ذلك تحت عنوان: "في تحقيق مفهوم المركب من مفردات الألفاظ، وهو الكلام: اعلم أن اسم الكلام قد يطلق على العبارات الدالة بالوضع تارة، وعلى مدلولها القائم بالنفس تارة، والمقصود ها هنا إنما هو معنى الكلام اللساني دون النفساني"(23).

وظاهر أن الآمدي يميز، ها هنا بين الصيغة في حالتها الإفرادية والصيغة في حالتها التركيبية والتي تتشكل في "الكلام" وبذلك تتضح لدى الآمدي رؤية لسانية متقدمة، في نصّه على القيمة الدلالية التي تكتسبها الألفاظ ضمن "الكلام"

ص213

 

وهو ما تؤكده الدراسات الدلالية الحديثة واللسانية بصفة عامة، حيث أشار سوسير إلى أن القيمة اللغوية للكلمة تكمن في صلتها ببقية الكلمات الأخرى باعتبار السياق الكلامي نسيج متشعب من العناصر والصور، كما يتبدى تمييز الآمدي بين الصورة السمعية والأثر السيكولوجي لها، وذلك بإشارته إلى المدلول القائم بالنفس وعلى أساس ذلك يكون الآمدي قد أشار ضمنياً إلى المثلث اللساني لريشاردز وأوجدن الذي يحدد الجوانب الثلاثة بما سماه دي سوسير "الدليل اللساني (Le signe linguistigue) وهي: الدال (الصورة السمعية)- المدلول (الشيء الخارجي) الأثر السيكولوجي المحتوى الفكري).

إن الكلام النفساني عند الآمدي، ينحصر في تلك المعاني المترددة في النفس، فهي تشكل عوامل دلالية تتمظهر في أشكال لغوية متعددة لسانية وغير لسانية، وإن المقاطع الصوتية التي تدخل في تشكيلها الحروف هي التي تكوّن الكلام اللساني، وإذا انتظمت هذه المقاطع بحيث كانت لها ولأصواتها دلالة كان للكلام قيمة وظيفية أما إذا لم تخضع تلك المقاطع إلى نظام تتشكل وفقه أصواتها كان الكلام تركيباً خالياً من الدلالة، "فالكلام اللساني قد يطلق تارة على ما ألف من الحروف والأصوات من غير دلالة على شيء يسمى مهملاً وإلى ما يدل"(24).

إن مصطلح "الكلام" في التراث المعرفي العربي، كان قد حدد بصورة علمية قد لا تختلف عن تلك التي حددها علماء اللسانيات المحدثون، وظاهر ذلك من خلال تلك الآراء والأفكار التي عرضها الآمدي لعلماء عصره الذين اختلفوا في حصر دقيق لماهية الكلام، فمنهم من عد الكلمة الواحدة المؤلفة من حرفين فصاعداً كلاماً، كما اعتبر بعضهم الكلام هو الأصوات المسموعة الدالة وذلك احتراز من حروف الكتابة فإنها ليست كلاماً، كما تباينت الآراء في اعتبار التركيب غير المنتظم العناصر، كلام، فذهب بعض العلماء إلى أنه كلام لأن عناصره في حالتها الإفرادية ذات دلالة بينما رفض البعض الآخر أن تعد كلاماً لأن السياق العام لا يؤدي دلالة، يقدم الآمدي رأي الأصوليين في ذلك فيقول: "فذهب أكثر الأصوليين إلى أن الكلمة الواحدة، إذا كانت مركبة من حرفين فصاعداً كلام، ولا جرم، قالوا في حده: هو ما انتظم من الحروف المسموعة المميزة المتواضع على استعمالها الصادرة عن مختار واحد"(25).

وفي مقام تصويبه للتراكيب الكلامية، يعتمد الآمدي معيارية الإفادة

ص214

 

في ضرورة وجود قواعد ضابطة تجعل الكلام مفيداً، وهو في ذلك يسوق تعريف الزمخشري للكلام حيث يقول: "الكلام هو المركب من كلمتين أسندت إحداهما إلى الأخرى"(26).

وعلى أساس ذلك يقتضي السياق الكلامي مستويين:

* المستوى الأول: مستوى البنية النحوية التي تتمثل في وجود عملية الإسناد.

* المستوى الثاني: هو مستوى البنية الإبلاغية والتي تتحدد بتوافر عنصر الفائدة في الكلام.

فنلاحظ إذا من خلال قول الآمدي تقاطع علاقتين في إنشاء الكلام:

-   علاقة ذهنية عقلية في ترتيب عناصر العملية الإسنادية بحسب التأليف بين طرفي الإسناد ومراعاة قواعد السلامة النحوية.

-   وعلاقة منطقية في محمول عملية الإسناد، إذ الفائدة الدلالية شرط في عملية الإبلاغ التي يضطلع بها الكلام.

فالآمدي يؤسس نظريته حول الكلام على عنصري الإفادة وحسن الإسناد، فإذا انتفت الإفادة مع وجود الإسناد لا يسمى التركيب كلاماً، وهو ما يؤكد شمولية الاهتمام عند الآمدي- بالوظيفة الأساسية للكلام وهي الإبلاغ، فالنظم الحسن ينشئ الكلام(27) المفيد، يقول الآمدي: "الكلام ما تألف من كلمتين تأليفاً يحسن السكوت عليه"(28).

إن معيار الكلام المؤلف تأليفاً سليماً يتمظهر في القناة السليمة، التي يتم عبرها نقل الرسالة الدلالية ليحصل الإبلاغ، ويتحقق التواصل حيث يكون مقياس ذلك هو سكوت المتخاطبين عن لغة الرسالة، وقواعدها، وآلياتها، تعبيراً منهم أن التأليف صحيح في تركيبه واتساق عناصره.

ج- الخطاب الإبلاغي وأنماطه:

لم يتناول الآمدي الخطاب اللغوي من زاوية دلالته الآنية عندما يوظف للاتصال والإبلاغ، وإنما كذلك من زاوية دلالته الزمانية. وإن ذلك متعلق بالكلام

ص215

 

المكتوب وفي هذا السياق قدم الآمدي خطاب النهي على أنه لا يفيد التكرار والدوام وإنما يفيد الدلالة على المرة الواحدة في حالته العادية أما إذا دل على الدوام كان ذلك لوجود قرينة يقول في ذلك: "النهي حيث ورد غير مراد به الدوام، يجب أن يكون ذلك لقرينه"(29).

وقد تدخل الخطاب اللغوي عناصر تعدل في دلالته العامة التي تتعرض للتخصيص بفعل أدوات لفظية، كالاستثناء والشرط والصفة، وقد دار جدال بين جمهور العلماء في مسائل تتعلق بتخصيص الخطاب بإحدى أدوات التخصيص، هل يكون العموم في المخصص حقيقة أو مجازاً؟ بمعنى هل اللفظ العام المستغرق للجنس يجوز حمله على البعض؟ بعدما يعرض الآمدي آراء العلماء في هذه المسألة يتقدم برأيه فيقول: "والمختار تفريعاً على القول بالعموم أنه يكون مجازاً في المستبقى واحداً كان أو جماعة، وسواء كان المخصص متصلاً أو منفصلاً، عقلياً أو لفظياً، باستثناء أو شرط أو تقييد بصفة"(30)، إن فعل "التخصيص" لا يتحقق إلا في خطاب يتصور فيه العموم أما الخطاب الخالي من العموم فلا يمكن تخصيصه" لأن التخصيص على ما عرف، صرف اللفظ عن جهة العموم إلى جهة الخصوص وما لا عموم فيه لا يتصور فيه هذا الصرف وأما ما يتصور فيه الشمول والعموم فيتصور فيه التخصيص"(31).

وقد خصص علماء اللغة المحدثون مباحث هامة تناولوا من خلالها موضوع تغير الدلالة وعاينوا مظاهرها كالانحطاط والرقي، والتضييق والتوسيع وغير ذلك من المظاهر(32)، إلا أن علماء الأصول كانوا أعمق في تناول تغير الدلالة، ذلك أن من مظاهر الخطاب اللغوي الأكثر وروداً في التوظيف اللغوي العام هو الوعي بالآليات المحددة لشمولية الدلالة أو لخصوصيتها، فإذا كان حمل اللفظ على جميع محامله في الخطاب اللغوي يستند إلى خلو الخطاب من أدوات التخصيص، فإن تعيين محمول مخصوص يرجع إلى وجود إحدى هذه الأدوات، ولذلك انبرى الآمدي يعرف هذه الأدوات مستنداً في ذلك على تقديم الأمثلة ومناقشتها فيقول في الاستثناء: "الاستثناء، عبارة عن لفظ متصل بجملة لا يستقل بنفسه دال بحرف (إلا) أو أخواتها، على أن مدلوله غير مراد مما اتصل به ليس بشرط ولا

ص216

 

صفة ولا غاية"(33)، فالاستثناء طريق من طرق التخصيص في اللفظ العام، ونحوياً يعرف بأنه إخراج حكم ما بعد إلا وأخواتها عن حكم ما قبلها، وبذلك تتضح دلالة الخطاب اللغوي اعتماداً على هذا الوعي ببنية التركيب، ومن طرق تضييق الدلالة كذلك الشرط وله طرائق ثلاث: الشرط العقلي والشرط الشرعي والشرط اللغوي، فتحقيق دلالة التركيب الشرطي مرتبط بدلالة التزام بين الشرط والمشروط يقول الآمدي محدداً أقسام الشرط: "وهو منقسم (أي الشرط) إلى شرط عقلي كالحياة للعلم والإرادة وإلى شرعي كالطهارة للصلاة والإحصان للرجم وإلى لغوي وصيغه كثيرة وهي: إن الخفيفة وإذا ومن وما ومهما وحيثما وأينما وإذما"(34).

إن السياق الذي يتضمن التركيب الشرطي يحمل دلالات إضافية لا يكون المتلقي على علم بها، لولا وجود الشرط، ولذلك يسوق الآمدي مثالاً ينص على أن التخصيص بالشرط قد أخرج من الدلالة العامة دلالة خاصة، ولولاه لأدى الخطاب دلالة الشمول والتعميم، يقول الآمدي في ذلك: "إنه (أي الشرط) يخرج منه ما لا يعلم خروجه دونه كقوله: (أكرم بَنِي تميم إن دخلوا الدار) فإنه يخرج منه حالة عدم دخول الدار، ولولا الشرط لعم الإكرام جميع الأحوال، ولم يكن العلم بعدم الإكراه حالة عدم دخول الدار حاصلاً لنا فكان مخصصاً للعموم"(35).

ومثل الشرط هناك طريق التخصيص بالصفة وهي تأتي بعد اللفظ العام فتخصصه، وتخرج الدلالة الخاصة من الدلالة العامة، كما تعد (الغاية) إحدى أدوات التخصيص وتضييق دلالة الخطاب العامة وصيغها معلومة في اللغة وهي: إلى وحتى وما كان في معناهما من الحروف والأدوات، وأثر الغاية في دلالة التركيب أنها تحد الحكم ولا تتركه مطلقاً، والغاية نوعان: غاية زمانية وغاية مكانية يقول الآمدي:

"قولـه" أكرم ببني تميم أبداً إلى أن يدخلوا الدار"، فإن دخول الدار يقتضي اختصاص الإكرام بما قيل الدخول وإخراج ما بعد الدخول عن عموم اللفظ ولولا ذلك لعم الإكرام حالة ما بعد الدخول"(36).

بهذا الوعي العميق لآليات تضييق الخطاب يحلل الآمدي مفهوم الحدث الإبلاغي الذي تتحكم فيه شبكة شديدة التركيب من العناصر والأدوات والصيغ

ص217

 

والقواعد. إن أدوات التخصيص الأربعة (الاستثناء الشرط- الصفة- الغاية) تعد إحدى الطرق المنهجية الدقيقة التي وظفها الآمدي في تعامله مع النص القرآني، ومن ثمة أضحى الخطاب اللغوي يخضع لقيود شكلية تتحكم في سياقه المضموني فبدت تلك القيود معايير تعتمد لاستنباط الحكم الصحيح، ولا يمكن أن نسعى إلى تأسيس وعي دلالي ما لم نكن على دراية عميقة بمقتضيات التواصل والإبلاغ، ومع كل إنتاج كلامي للباث توضع قواعد للتركيب وأخرى للدلالة، لا تخلق خلقاً بل تنقل من حيز القوة إلى حيز الفعل، إن المشكِّل للخطاب اللغوي (الباث) يعد المركز الذي تجمع إليه كل فعاليات الحدث الإبلاغي، فله القدرة على "استفزاز" المتلقي أو السامع، وحمله على الدخول في عالمه الدلالي الذي هو مصدر تشكل الخطاب بأنساقه وأنماطه وصيغه، يقول ميشال فوكو، إن المؤلف ليس هو الذي يتحدث أو ينطق أو يكتب نصاً بل المؤلف كمبدأ تجميع الخطاب، كوحدة وأصل لدلالات الخطاب، وكبؤرة لتناسقها"(37).

إن تشكيل الخطاب اللغوي بمراعاة تشابك عناصره الداخلية والخارجية، يقتضي أن يقوم الباث أو المؤلف باختيار ألفاظه ثم يركبها وفق معيار النحو والبيان آخذاً لحظة إبداعه للخطاب، مقتضى حال المخاطب وقدرته ليس على فهم الرسالة الإبلاغية فحسب، بل وعلى تبني مضمونها بفك أنماطها الذاتية وسننها العلامية، وقد أشار الآمدي في مبحث تخصيص الخطاب، إلى أدوات التخصيص غير اللفظية وعنى بها الدليل العقلي والدليل الحسي وهي من الأدلة المنفصلة كونها أدلة خارجة عن بنية الخطاب وترتد إلى استعداد المتلقي المثالي، على إخراج بعض الدلالات الخاصة من دلالات الخطاب العامة بقدرته العقلية والحسية(38).

ومن ضمن أنماط الخطاب الإبلاغي يشير الآمدي إلى خطاب "الأمر" وهو يتعلق بالدلالة التركيبية التي يشرف على تعيينها السياق، وعدّ قسماً من أقسام الكلام سواء في نمطه الفونولوجي أو نمطه الخطي، إن صيغة الأمر لا تنعقد دلالتها إلا بتوافر قرائن منها ما يعود للآمر وهي تشمل القصد في إحداث الأمر، ومنها ما يعود إلى المأمور(39) وهو الامتثال للأمر إلا أن الآمدي لا يرى شرط

ص218

 

الامتثال للأمر قرينة محددة لصيغه، فالمأمور قد يتخذ من خطاب الأمر موقفاً إيجابياً وقد يكون موقفه سلبياً، بعدم الامتثال، وتحديد الآمدي لهذه المسألة ينم عن وعي كبير بجوهر العملية الإبلاغية والتواصلية يقول شارحاً ذلك: "إن الأمر الذي هو مدلول الصيغة إما أن يكون هو الصيغة أو غير الصيغة، فإن كان هو نفس الصيغة، كان الكلام متهافتاً من حيث إن حاصله يرجع إلى أن الصيغة دالة على الصيغة، والدال غير المدلول، وإن كان هو غير الصيغة، فيمتنع أن يكون الأمر هو الصيغة"(40).

إن الآمدي يحصر الأمر في الطلب على جهة الاستعلاء، ويعترض على تفسيره بالصيغة والإرادة لأن ذلك أدخل في تعريف الأمر، بما هو أخفى منه، ومع ذلك لم يحسم الآمدي الخلاف حول حد الأمر واكتفى بحصر ما اتفق العلماء بشأنه من كون الأمر قسماً من كلام العرب، أما ما بقي فهو محل نزاع لفظي، وقد ارتأى الآمدي إنهاء هذا الخلاف العلمي بهذا الشكل، لأن الأمر إذا أدى دلالته من غير لبس أو غموض بناء على توافر عناصره، فقد استوفى حده. يقول مبيناً هذا الأمر: "إجماع العقلاء منعقد على أن الأمر قسم من أقسام الكلام وأنه واقع موجود لا ريب فيه، وقد بينا امتناع تفسيره بالصيغة والإرادة بما سبق. فما وراء ذلك هو المعنى بالطلب، والنزاع في تسميته بالطلب بعد الموافقة على وجوده، فأيل إلى خلاف لفظي(41)، وواضح أن الآمدي وظيفي في تحليله، فهو يعتمد أساساً على معيار الاستعمال الوظيفي(42) ولا يكتفي بالتنظير المجرد، فهو يرى أن الأمر يدل دلالة الحقيقة على الطلب حتى ولو كان مجرداً من القرائن الدالة على ذلك، وقد يتعلل البعض على صرف دلالته من الحقيقة إلى وجود عرف لغوي (استثنائي) من هذا الانزلاق الدلالي للأمر من الطلب إلى دلالات أخرى كالإباحة والتعجيز والتهديد وما إلى ذلك مما هو ميسر في كتب البلاغة العربية، فبعد أن بين الآمدي أن صيغة (افعل) إذا وردت في الخطاب وجاءت قرائن تدل على أنها للطلب، كانت كذلك، ولا يمكن أن نصرفها إلى دلالات أخرى، يرد على العلماء الذين ذهبوا إلى أن الأمر قد يخرج لدلالات أخرى لعرف طارئ فيقول: "فإن قيل: يحتمل أن يكون ذلك بناء على عرف طارئ على الوضع اللغوي، كما في لفظ الدابة والغائط قلنا جواب الأول أن الأصل عدم العرف الطارئ،

ص219

 

وبقاء الوضع الأصلي على حاله"(43).

إن خطاب الأمر هو شكل من أشكال العقد الواعي بين الباث والمتلقي، فالباث للرسالة الدلالية التي يحملها خطاب الأمر يستجيب لمنبهات تحمله إلى صوغ أسلوب إبلاغي يحاول من خلاله أن يدفع المتلقي لا إلى فهم الرسالة الإبلاغية، بل وإلى تقمص مضمونها والاستجابة لخطابها بكيفية إيجابية، هذا ما تقرَّر في الدرس الدلالي الحديث حول نظام الإبلاغ في الخطاب، وفي هذا المجال يربط الآمدي دلالة الأمر بالاستجابة لصيغتها فتلك هي مفهومها مطلقاً أما الدلالة على الترك واتخاذ الموقف السلبي من فحواها فله أسلوبه الخاص وهو خطاب النهي، كما لا يمكن أن نتصور أن المتلقي سيرضخ لسلطة الخطاب الأمري وإنما سيتحرك في مساحة من الاختيار فيها الندب والواجب، إذ قد يماشي المتلقي الباث للخطاب في أمره وقد يخالفه. يشرح ذلك الآمدي بقولـه: "إن المكلف إذا نظر فظهر لـه أن الأمر للندب فقد أمن من الضرر وحصل مقصود الأمر"، إن تحقق مضمون خطاب الأمر يستدعي معرفة عميقة بآليات صياغته، خاصة وأن المتلقي مدعو إلى إحداث نقلة نوعية لهذا الخطاب تدل على استيعاب سليم لدلالته بعد تحليل لنظامه العلامي، ولذلك طرحت قديماً مسألة وجود القرائن التي تعيّن الدلالة في أسلوب الأمر، وبالتالي اقتضاء الأمر التكرار والدوام أو المرة الواحدة، فالآمدي يميل إلى دلالة الأمر على المرة الواحدة إذا كان الأسلوب عرياً من القرائن الصارفة واحتمال التكرار في وجود القرائن. يقول موضحاً ذلك: "والمختار أن المرة الواحدة لا بد منها في الامتثال وهو معلوم قطعاً، والتكرار محتمل فإن اقترن به قرينة أشعرت بإرادة المتكلم التكرار حمل عليه، وإلا كان الاقتصار على المرة الواحدة كافياً"(44)، كما يذهب الآمدي إلى أن سياق خطاب الأمر ينبغي أن يراعى فيه الاستغراق الزمني، لأن عليه يتوقف تحديد دلالة الأمر على التكرار أو المرة الواحدة، معنى ذلك أن الاستغراق في الأمر مجاله الزمني لا متناهٍ بينما المرة الواحدة مجالها الزمني ضيق محدد بفترة معينة، ويقابل ذلك الآمدي بين دلالة الفور ودلالة التراخي في خطاب الأمر، وهي مسألة من الأهمية بمكان خاصّة وأنها ذات صلة بالتعامل اللغوي الإنساني(45)، إن دلالة الأمر على الفور والتحقيق الآني لمضمونها متعلق بوجود قرينة أو أكثر دالة على ذلك في

ص220

 

الخطاب، أما دلالة التراخي فلا تحتاج إلى قرينة. يحدد ذلك الآمدي بقوله: "فمن قال بالتراخي لا يحتاج إلى دليل آخر، لأن مقتضى الأمر المطلق عند تخيير المأمور في إيقاع الفعل في أي وقت شاء من ذلك الوقت، ومن قال بالفور فلا بد له من دليل ثاني الحال"(46).

إن أهم ما انصب حوله اهتمام علماء اللغة المحدثون، هو البحث في كل مستويات الحدث اللغوي من مرحلة ميلاده إلى مرحلة بلوغه وظيفته ثم بتحقيق مردوده عندما يولّد رد الفعل المنشود وبذلك تناولوا اللغة في مظاهرها الثلاثة: المظهر الأدائي والمظهر الإبلاغي ثم المظهر التواصلي، وفي إطار ذلك بحثوا طواعية الرمز اللغوي لكي يكون له معادل موضوعي في واقع الاستعمال اللغوي، وأكدوا أن لا انفصال في الزمن بين قيام الرمز وحصول دلالته عند متقبله(47).

إلا أن الآمدي كان أعمق تحليلاً في نصه على عامل الزمن، في تحقيق دلالة خطاب الأمر الذي هو نمط من أنماط المنظومة اللسانية، التي تتكون من رموز لغوية دالة، ومن ذلك فإن خفيت القرينة المحددة للدلالة الزمنية لخطاب الأمر وألبس على المتلقي تحديد الغاية، كان مخيراً بين الفور والتراخي. يشير إلى ذلك الآمدي فيقول: "قولهم بالتعجيل أحوط للمكلف (يعني القول بالفور) قلنا الاحتياط إنما هو بإتباع المكلف ما أوجبه ظنه، فإن ظن الفور، وجب عليه إتباعه، وإن ظن التراخي وجب عليه إتباعه"(48).

إن اللفظ الغطاء الذي يشرف على مدلولات جزئية تشكل حقلاً دلالياً يخضع لروابط علائقية تشترك في الدلالة الكلية التي لا تتموقع في عالم الأعيان وإنما محلها عالم الأذهان، فمثلاً لفظ (البيع) هو لفظ ينضوي تحته حقل من المدلولات الجزئية كالبيع بالتقسيط، والبيع الغرر وما إلى ذلك من أشكال البيوع المشروعة أو المحرمة، فإذا نص خطاب الأمر على اللفظ الكلي فهل إتيان المأمور لمعنى جزئي منه هو تحقيق للخطاب أم لا؟ لقد أسس الآمدي بناء على هذه الرؤية نظرته للتدليل على أن طلب وقوع فعل الأمر لا يكون إلا بالجزئيات، الواقعة في عالم الأعيان، ولا يكون بالدلالة الكلية لأنه لا وجود لها إلا في عالم الأذهان، فإذا ورد سياق الأمر مجرداً من قرينة صارفة لدلالته وكان فهم المتلقي لدلالته المطلقة، صح الفهم وصدق الموقف وهي رؤية تبناها بعض علماء الدلالة

ص221

 

المحدثين وتفرعت عندهم إلى مسائل مختلفة من ذلك افتراض وجود دلالة العوالم الممكنة عند فريجة (Possible world semantics) وإن كان قد قوبل بالانتقاد الشديد من قبل علماء عصره(49)، وهذه الفكرة تبلورت عند غريمارس في ذلك التشاكل الحاصل بين السمات المعنوية الصغرى (Semes) والسمات الصوتية الصغرى(50) (Phemes) في هذا النحو يقدم الآمدي مثالاً توضيحياً حول اقتضاء الأمر للدلالة الجزئية، فيقول: "وإن سلم أن الأمر متعلق بالمعنى الكلي المشترك وهو المسمى بالبيع، فإذا أتى المأمور ببعض الجزئيات كالبيع بالغبن الفاحش، فقد أتى بما هو مسمى البيع المأمور به الموكل فيه، فوجب أن يصح نظر إلى مقتضى صيغة الأمر المطلق بالبيع، وإن قيل بالبطلان، فلا يكون ذلك لعدم دلالة الأمر به، بل لدليل معارض"(51).

والحقيقة أن هذه الرؤية الآمدية تعد ذات أهمية بالغة لمستوى التواصل بين باث ينتظم الخطاب في ذهنه قبل انتظامه في ألفاظه وبين متلقٍ له مرجعيته الذاتية يستطيع وفقها تفكيك الخطاب وإدراك دلالته، إلا أن الآمدي- كما هو شأن معظم علماء الدلالة واللسانيات المحدثين- يركز على ناقل الخطاب (الباث) الذي يملك وعياً لغوياً يجعله يكيف خطابه الإبلاغي حسب أصناف الناس المتلقين للخطاب، ومع ذلك يتحمل نسبة كبيرة مما قد تتعرض له رسالته الإبلاغية من تحويل أو تحوير في فهم مضمونها الدلالي.

إن الحدث الإبلاغي بتجلياته على مستوى التركيب والتنسيق وعلى مستوى النمط التنظيمي لعناصره شكل في كتاب "الإحكام" المحور الأساسي الذي انتظمت في دائرته تلك الأحكام اللغوية التي أجراها الآمدي مجرى السنن والقوانين المتحكمة في أي إنتاج كلامي، وقد أبان ذلك التحليل المستوفي لجوانب الخطاب قدرة النظام اللغوي العربي على احتواء التنظيمات الخاصة بصرف الدلالات إلى أوجهها الصحيحة. كما أوضح الآمدي أن لا مناص لعالم الأصول المشتغل في حقل الفقه من أدوات لغوية دقيقة تقع من حقله هذا، موقع المنطق من الفلسفة.. ونحن على يقين أن دراسة النظام الإبلاغي كما حدده الآمدي بكل آلياته ومتعلقاته، يستحق مجالاً خاصاً تستجلى من خلاله تلك القواعد العميقة المجردة التي تقف وراء هذا التناسق المعياري الدقيق لمنظومة الخطاب.

ص222

_______________________

([1]) يعني: الاسم والفعل والحرف.

(2) المصدر نفسه، ج1، ص 19.

(3) ميشان زكريا، الألسنية، علم اللغة الحديث، ص 32.

(4) الإحكام في أصول الأحكام، ج2، ص 3.

(5) د. عبد القادر الفاسي القهري، اللسانيات واللغة العربية، ص 381.

(6) Breve histoire de la linguistique de platon a chomsky P. 249-250.

(7) الإحكام في أصول الأحكام، ج2، ص 9.

(8) المصدر السابق، ج2، ص 6.

(9) المصدر نفسه، ج2، ص10.

(0[1]) انظر نظرية الوضعية المنطقية ومذهب (شليك) في الحكم على صدق القضية (الجملة) وربطه بالتحقيق التجريبي في فصل (النظريات الدلالية الحديثة) ص 78.

(1[1]) المصدر السابق، ج2، ص11-12.

(2[1]) المصدر نفسه، ج2، ص 12.

(3[1]) المصدر نفسه، ج2، ص 25.

(4[1]) انظر النظرية السياقية في مبحث النظريات الدلالية الحديثة، ص 70.

(5[1]) المصدر نفسه، ج2، ص 30-31.

(6[1]) المصدر نفسه، ج2، ص32.

(7[1]) المصدر نفسه والصفحة نفسها.

(8[1]) المصدر نفسه، ج2، ص 115.

(9[1]) المصدر نفسه، ج 2، ص 95.

(20) اللسانيات وأسسها المعرفية، ص 75-76.

([1]2) الإحكام في أصول الأحكام، ج1، ص 95.

(22) اللسانيات وأسسها المعرفية، ص 86.

(23) الإحكام في أصول الأحكام، ج1، ص 71.

(24) المصدر السابق،. ج1، ص 71.

(25) المصدر نفسه، ج1، ص 72.

(26) المصدر نفسه، ج1، ص 72.

(27) انظر في ذلك في الفصل السابق، نظرية النظم عند الجرجاني، ص 119.

(28) المصدر نفسه، ج1، ص 73.

(29) المصدر نفسه، ج 2، ص 194.

(30) المصدر نفسه، ج2، ص 228.

(31) المصدر نفسه، ج2، ص 287.

(32) إبراهيم أنيس، انظر ذلك في كتاب دلالة الألفاظ، ص 152 إلى 167.

(33) الإحكام في أصول الأحكام، ج2، ص 287.

(34) المصدر السابق، ج 2، ص 309.

(35) المصدر نفسه، ج2، ص 10.

(36) المصدر نفسه، ج2، ص 313.

(37) ميشال فوكو، نظام الخطاب، ص 19.

(38) انظر الإحكام، ج2، ص 315.

(39) انظر في ذلك النظرية السياقية التي أعطت للمتلقي دوراً في ربط الخطاب بالمقام، فالقول البحث عن مقامه غالباً ما يستعصي عن التأويل، ص 70.

(40) المصدر السابق، ج2، ص 140.

(41) المصدر نفسه، ج2، ص 145.

(42) وهذا ما يؤكده رائد المدرسة التجريدية "إدوارد ساميير" في كتابه اللغة- ص 34-37.

(43) الإحكام في أصول الأحكام، ج2، ص 144.

(44) المصدر نفسه، ج 2، ص 155.

(45) د. كمال محمد بشر، انظر دور الكلمة في اللغة في المقدمة، ص 6 من كتاب (ستيفن أولمن).

(46) الإحكام في أصول الأحكام، ج2، ص 159.

(47) د. عبد السلام المسدي، انظر في ذلك اللسانيات وأسسها المعرفية، ص 64، ص 81.

(48) الإحكام في أصول الأحكام، ج2، ص 169.

(49) انظر اللسانيات واللغة العربية د. الفاسي، ص 381.

(50) انظر فصل ماهية الدلالة عند المحدثين (غريمارس)، ص 30.

(51) الإحكام في أصول الأحكام، ج 2، ص 184.




هو العلم الذي يتخصص في المفردة اللغوية ويتخذ منها موضوعاً له، فهو يهتم بصيغ المفردات اللغوية للغة معينة – كاللغة العربية – ودراسة ما يطرأ عليها من تغييرات من زيادة في حروفها وحركاتها ونقصان، التي من شأنها إحداث تغيير في المعنى الأصلي للمفردة ، ولا علاقة لعلم الصرف بالإعراب والبناء اللذين يعدان من اهتمامات النحو. واصغر وحدة يتناولها علم الصرف تسمى ب (الجذر، مورفيم) التي تعد ذات دلالة في اللغة المدروسة، ولا يمكن أن ينقسم هذا المورفيم الى أقسام أخر تحمل معنى. وتأتي أهمية علم الصرف بعد أهمية النحو أو مساويا له، لما له من علاقة وطيدة في فهم معاني اللغة ودراسته خصائصها من ناحية المردة المستقلة وما تدل عليه من معانٍ إذا تغيرت صيغتها الصرفية وفق الميزان الصرفي المعروف، لذلك نرى المكتبة العربية قد زخرت بنتاج العلماء الصرفيين القدامى والمحدثين ممن كان لهم الفضل في رفد هذا العلم بكلم ما هو من شأنه إفادة طلاب هذه العلوم ومريديها.





هو العلم الذي يدرس لغة معينة ويتخصص بها – كاللغة العربية – فيحاول الكشف عن خصائصها وأسرارها والقوانين التي تسير عليها في حياتها ومعرفة أسرار تطورها ، ودراسة ظواهرها المختلفة دراسة مفصلة كرداسة ظاهرة الاشتقاق والإعراب والخط... الخ.
يتبع فقه اللغة من المنهج التاريخي والمنهج الوصفي في دراسته، فهو بذلك يتضمن جميع الدراسات التي تخص نشأة اللغة الانسانية، واحتكاكها مع اللغات المختلفة ، ونشأة اللغة الفصحى المشتركة، ونشأة اللهجات داخل اللغة، وعلاقة هذه اللغة مع أخواتها إذا ما كانت تنتمي الى فصيل معين ، مثل انتماء اللغة العربية الى فصيل اللغات الجزرية (السامية)، وكذلك تتضمن دراسة النظام الصوتي ودلالة الألفاظ وبنيتها ، ودراسة أساليب هذه اللغة والاختلاف فيها.
إن الغاية الأساس من فقه اللغة هي دراسة الحضارة والأدب، وبيان مستوى الرقي البشري والحياة العقلية من جميع وجوهها، فتكون دراسته للغة بذلك كوسيلة لا غاية في ذاتها.





هو العلم الذي يهتم بدراسة المعنى أي العلم الذي يدرس الشروط التي يجب أن تتوفر في الكلمة (الرمز) حتى تكون حاملا معنى، كما يسمى علم الدلالة في بعض الأحيان بـ(علم المعنى)،إذن فهو علم تكون مادته الألفاظ اللغوية و(الرموز اللغوية) وكل ما يلزم فيها من النظام التركيبي اللغوي سواء للمفردة أو السياق.