المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية

القرآن الكريم وعلومه
عدد المواضيع في هذا القسم 17393 موضوعاً
تأملات قرآنية
علوم القرآن
الإعجاز القرآني
قصص قرآنية
العقائد في القرآن
التفسير الجامع
آيات الأحكام

Untitled Document
أبحث عن شيء أخر
عدة الطلاق
2024-09-28
{وان عزموا الطلاق فان الله سميع عليم}
2024-09-28
الايمان في القلوب
2024-09-28
{نساؤكم حرث لكم}
2024-09-28
عقوبة جريمة الاختلاس في القانون اللبناني
2024-09-28
عقوبة جريمة الاختلاس في القانون العراقي
2024-09-28

الأفعال التي تنصب مفعولين
23-12-2014
صيغ المبالغة
18-02-2015
اولاد الامام الحسين (عليه السلام)
3-04-2015
الجملة الإنشائية وأقسامها
26-03-2015
معاني صيغ الزيادة
17-02-2015
انواع التمور في العراق
27-5-2016


تفسير آية (155-159) من سورة النساء  
  
3771   03:30 مساءً   التاريخ: 27-2-2017
المؤلف : اعداد : المرجع الإلكتروني للمعلوماتية
الكتاب أو المصدر : تفاسير الشيعة
الجزء والصفحة : ......
القسم : القرآن الكريم وعلومه / التفسير الجامع / حرف النون / سورة النساء /


أقرأ أيضاً
التاريخ: 14-2-2017 7548
التاريخ: 10-11-2016 8065
التاريخ: 3-2-2017 3447
التاريخ: 13-2-2017 7867


قال تعالى : { فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (155) وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا (156) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (158) وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا} [النساء : 155-159].

 

تفسير مجمع البيان
- ذكر الطبرسي في تفسير هذه الآيات (1) :

ذكر سبحانه أفعالهم القبيحة ، ومجازاته إياهم بها ، فقال {فَبِمَا نَقْضِهِمْ} ، أي : فبنقض هؤلاء الذين تقدم ذكرهم ووصفهم {نَقْضِهِمْ} أي : عهودهم التي عاهدوا الله عليها أن يعملوا بها في التوراة {وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ} أي : جحودهم بأعلام الله ، وحججه ، وأدلته التي احتج بها عليهم في صدق أنبيائه ورسله {وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ} بعد قيام الحجة عليهم بصدقهم {بِغَيْرِ حَقٍّ} أي : بغير استحقاق منهم لذلك ، بكبيرة أتوها ، أو خطيئة استوجبوا بها القتل ، وقد قدمنا القول في أمثال هذا ، وإنه إنما يذكر على سبيل التوكيد ، فإن قتل الأنبياء لا يمكن إلا أن يكون بغير حق ، وهو مثل قوله : {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ} ، والمعنى أن ذلك لا يكون البتة عليه برهان {وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ} مضى تفسيره في سورة البقرة {بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} قد شرحنا معنى الختم والطبع ، عند قوله {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} .

{فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا} أي : لا يصدقون قوله إلا تصديقا قليلا ، وإنما وصفه بالقلة ، لأنهم لم يصدقوا بجميع ما كان يجب عليهم التصديق به ، ويجوز أن يكون الاستثناء من الذين نفى عنهم الإيمان ، فيكون المعنى : إلا جمعا قليلا ، فكأنه سبحانه علم أنه يؤمن من جملتهم جماعة قليلة فيما بعد ، فاستثناهم من جملة من أخبر عنهم ، أنهم لا يؤمنون به . قال جماعة من المفسرين ، مثل قتادة ، وغيره ، وذكر بعضهم أن الباء في قوله {فَبِمَا نَقْضِهِمْ} يتصل بما قبله . والمعنى : فأخذتهم الصاعقة بظلمهم ، وبنقضهم ميثاقهم ، وبكفرهم ، وبكذا ، وبكذا ، فتبع الكلام بعضه بعضا ، وقال الطبري : إن معناه منفصل مما قبله ، يعني : فبهذه الأشياء لعناهم ، وغضبنا عليهم . فترك ذكر ذلك لدلالة قوله {بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} على معنى ذلك ، لان من طبع على قلبه ، فقد لعن وسخط عليه . قال : وإنما قال ذلك لان الذين أخذتهم الصاعقة ، كانوا على عهد موسى ، والذين قتلوا الأنبياء ، والذين رموا مريم بالبهتان العظيم ، وقالوا : قتلنا عيسى ، كانوا بعد موسى بزمان طويل . ومعلوم أن الذين أخذتهم الصاعقة ، لم يكن ذلك عقوبة على رميهم مريم بالبهتان ، ولا على قولهم : {إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ} . فبان بذلك أن الذين قالوا هذه المقالة ، غير الذين عوقبوا بالصاعقة . وهذا الكلام إنما يتجه على قول من قال : إنه يتصل بما قبله ، ولا يتجه على قول الزجاج . وهذا أقوى ، لأنه إذا أمكن إجراء الكلام على ظاهره ، من غير تقدير حذف ، فالأولى أن يحمل عليه .

وقوله {وَبِكُفْرِهِمْ} أي : بجحود هؤلاء لعيسى {وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا} أي : أعظم كذب وأشنعه ، وهو رميهم إياها بالفاحشة ، عن ابن عباس ، والسدي . قال الكلبي : " مر عيسى برهط ، فقال بعضهم لبعض : " قد جاءكم الساحر ابن الساحرة ، والفاعل ابن الفاعلة " فقذفوه بأمه ، فسمع ذلك عيسى ، فقال : اللهم أنت ربي خلقتني ولم آتهم من تلقاء نفسي ، اللهم العن من سبني ، وسب والدتي !

فاستجاب الله دعوته فمسخهم خنازير " .

{وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ} يعني : قول اليهود : {إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ} حكاه الله تعالى عنهم ، أي : رسول الله في زعمه ، وقيل : إنه من قول الله سبحانه ، لا على وجه الحكاية عنهم ، وتقديره : الذي هو رسولي {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} واختلفوا في كيفية التشبيه : فروي عن ابن عباس أنه قال : لما مسخ الله تعالى الذين سبوا عيسى وأمه بدعائه ، بلغ ذلك يهوذا وهو رأس اليهود ، فخاف أن يدعو عليه ، فجمع اليهود ، فاتفقوا على قتله ، فبعث الله تعالى جبرائيل يمنعه منهم ، ويعينه عليهم . وذلك معنى قوله {وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ} ، فاجتمع اليهود حول عيسى ، فجعلوا يسألونه فيقول لهم : يا معشر اليهود! إن الله تعالى يبغضكم ، فساروا إليه ليقتلوه ، فأدخله جبرائيل في خوخة البيت الداخل لها روزنة في سقفها ، فرفعه جبرائيل إلى السماء ، فبعث يهوذا رأس اليهود رجلا من أصحابه اسمه طيطانوس ، ليدخل عليه الخوخة فيقتله ، فدخل فلم يره ، فأبطأ عليهم ، فظنوا أنه يقاتله في الخوخة ، فألقى الله عليه شبه عيسى . فلما خرج على أصحابه ، قتلوه وصلبوه . وقيل : ألقى عليه شبه وجه عيسى ، ولم يلق عليه شبه جسده ، فقال بعض القوم : إن الوجه وجه عيسى ، والجسد جسد طيطانوس . وقال بعضهم : إن كان هذا طيطانوس فأين عيسى؟ وإن كان هذا عيسى ، فأين طيطانوس؟ فاشتبه الأمر عليهم . وقال وهب بن منبه : أتى عيسى ومعه سبعة من الحواريين في بيت ، فأحاطوا بهم ، فلما دخلوا عليهم ، صيرهم الله كلهم على صورة عيسى ، فقالوا لهم : سحرتمونا ، ليبرزن لنا عيسى ، أو لنقتلنكم جميعا ! فقال عيسى لأصحابه : من يشري نفسه منكم اليوم بالجنة؟ فقال رجل منهم اسمه سرجس : أنا . فخرج إليهم ، فقال : أنا عيسى . فأخذوه ، وقتلوه ، وصلبوه ، ورفع الله عيسى من يومه ذلك ، وبه قال قتادة ، ومجاهد ، وابن إسحاق .

وإن اختلفوا في عدد الحواريين ، ولم يذكر أحد غير وهب ، أن شبهه ألقي على جميعهم ، بل قالوا : ألقي شبهه على واحد ، ورفع عيسى من بينهم . قال الطبري :

وقول وهب أقوى ، لأنه لو ألقي الشبه على واحد منهم ، مع قول عيسى : " أيكم يلقى شبهي فله الجنة " ثم رأوا عيسى رفع من بينهم . قال الطبري : لما اشتبه عليهم ، ولما اختلفوا فيه ، وإن جاز أن يشتبه على أعدائهم من اليهود الذين ما عرفوه ، لكن ألقي الشبه على جميعهم ، وكانوا يرون كل واحد منهم بصورة عيسى ، فلما قتل أحدهم ، اشتبه الحال عليهم .

وقال أبو علي الجبائي : إن رؤساء اليهود أخذوا إنسانا ، فقتلوه وصلبوه ، على موضع عال ، ولم يمكنوا أحدا من الدنو إليه ، فتغيرت حليته ، وقالوا : قد قتلنا عيسى ، ليوهموا بذلك على عوامهم ، لأنهم كانوا أحاطوا بالبيت الذي فيه عيسى ، فلما دخلوه ، كان عيسى قد رفع من بينهم ، فخافوا أن يكون ذلك سببا لإيمان اليهود به ، ففعلوا ذلك . والذين اختلفوا فيه هم غير الذين صلبوه ، وإنما باقي اليهود .

وقيل : إن الذي دلهم عليه ، وقال : هذا عيسى ، أحد الحواريين ، أخذ على ذلك ثلاثين درهما ، وكان منافقا ، ثم إنه ندم على ذلك ، واختنق حتى قتل نفسه ، وكان اسمه بودس زكريا بوطا ، وهو ملعون في النصارى .

وبعض النصارى يقول : إن بودس زكريا بوطا ، هو الذي شبه لهم ، فصلبوه ، وهو يقول : لست بصاحبكم! أنا الذي دللتكم عليه! وقيل : إنهم حبسوا المسيح ، مع عشرة من أصحابه ، في بيت ، فدخل عليهم رجل من اليهود ، فألقى الله تعالى عليه شبه عيسى ، ورفع عيسى ، فقتلوا الرجل ، عن السدي .

{وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ} قيل : يعني بذلك عامتهم ، لأن علماءهم علموا أنه غير مقتول ، عن الجبائي . وقيل : أراد بذلك جماعة اختلفوا ، فقال بعضهم : قتلناه ، وقال بعضهم : لم نقتله . {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ} أي : لم يكن لهم بمن قتلوه علم ، لكنهم اتبعوا ظنهم ، فقتلوه ظنا منهم ، أنه عيسى ، ولم يكن به ، وإنما شكوا في ذلك ، لأنهم عرفوا عدة من في البيت ، فلما دخلوا عليهم ، وفقدوا واحدا منهم ، التبس عليهم أمر عيسى ، وقتلوا من قتلوه على شك منهم في أمر عيسى ، هذا على قول من قال : لم يتفرق أصحابه ، حتى دخل عليهم اليهود . وأما من قال : تفرق أصحابه عنه ، فإنه يقول : كان اختلافهم في أن عيسى هل كان فيمن بقي ، أو كان فيمن خرج ، اشتبه الأمر عليهم . وقال الحسن : معناه فاختلفوا في عيسى ، فقالوا مرة هو عبد الله ، ومرة هو ابن الله ، ومرة هو الله . وقال الزجاج : معنى اختلاف النصارى فيه أن منهم من ادعى أنه إله لم يقتل ، ومنهم من قال قتل .

{وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا} اختلف في الهاء في {قَتَلُوهُ} فقيل : إنه يعود إلى الظن ، أي : ما قتلوا ظنهم يقينا ، كما يقال : ما قتله علما ، عن ابن عباس ، وجويبر .

ومعناه : ما قتلوا ظنهم الذي اتبعوه في المقتول الذي قتلوه ، وهم يحسبونه عيسى ، يقينا أنه عيسى ، ولا أنه غيره ، لكنهم كانوا منه على شبهة . وقيل : إن الهاء عائد إلى عيسى ، يعني : ما قتلوه يقينا ، أي : حقا ، فهو من باب تأكيد الخبر ، عن الحسن أراد أن الله تعالى نفى عن عيسى القتل ، على وجه التحقيق واليقين . {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} يعني : بل رفع الله عيسى إليه ، ولم يصلبوه ، ولم يقتلوه ، وقد مر تفسيره في سورة آل عمران عند قوله : {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} . {وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} معناه : لم يزل الله سبحانه منتقما من أعدائه ، حكيما في أفعاله وتقديراته ، فاحذروا أيها السائلون محمدا أن ينزل عليكم كتابا من السماء ، حلول عقوبة بكم ، كما حل بأوائلكم في تكذيبهم رسله ، عن ابن عباس .

وما مر في تفسير هذه الآية من أن الله ألقى شبه عيسى على غيره ، فإن ذلك من مقدور الله بلا خلاف بين المسلمين فيه ، ويجوز أن يفعله الله سبحانه على وجه التغليظ للمحنة ، والتشديد في التكليف ، وإن كان ذلك خارقا للعادة ، فإنه يكون معجزا للمسيح ، كما روي أن جبرائيل كان يأتي نبينا في صورة دحية الكلبي .

ومما يسأل عن هذه الآية أن يقال : قد تواترت اليهود والنصارى ، مع كثرتهم ، وأجمعت على أن المسيح قد قتل ، وصلب ، فكيف يجوز عليهم أن يخبروا عن الشيء بخلاف ما هو به ؟ ولو جاز ذلك ، فكيف يوثق بشيء من الأخبار ؟ والجواب : إن هؤلاء دخلت عليهم الشبهة ، كما أخبر الله سبحانه عنهم بذلك ، فلم يكن اليهود يعرفون عيسى بعينه ، وإنما أخبروا أنهم قتلوا رجلا . قيل لهم : إنه عيسى ، فهم في خبرهم صادقون ، وإن لم يكن المقتول عيسى ، وإنما اشتبه الأمر على النصارى ، لان شبه عيسى ألقي على غيره ، فرأوا من هو على صورته مقتولا مسلوبا ، فلم يخبر أحد من الفريقين إلا عما رآه ، وظن أن الأمر على ما أخبر به ، فلا يؤدي ذلك إلى بطلان الأخبار بحال .

{وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا} [النساء : 159] .

ثم أخبر تعالى أنه لا يبقى أحد منهم إلا ويؤمن به ، فقال : {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} اختلف فيه على أقوال أحدها : إن كلا الضميرين يعودان إلى المسيح ، أي : ليس يبقى أحد من أهل الكتاب ، من اليهود والنصارى ، إلا ويؤمنن بالمسيح ، قبل موت المسيح ، إذا أنزله الله إلى الأرض ، وقت خروج المهدي ، في آخر الزمان ، لقتل الدجال ، فتصير الملل كلها ملة واحدة ، وهي ملة الإسلام الحنيفية دين إبراهيم ، عن ابن عباس ، وأبي مالك ، والحسن ، وقتادة ، وابن زيد ، وذلك حين لا ينفعهم الإيمان . واختاره الطبري قال : " والآية خاصة لمن يكون منهم في ذلك الزمان " .

وذكر علي بن إبراهيم في تفسيره أن أباه حدثه ، عن سليمان بن داود المنقري ، عن أبي حمزة الثمالي ، عن شهر بن حوشب قال : قال الحجاج بن يوسف : آية من كتاب الله قد أعيتني قوله {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} الآية ، والله !

إني لآمر باليهودي والنصراني ، فيضرب عنقه ، ثم أرمقه بعيني ، فما أراه يحرك شفتيه ، حتى يحمل . فقلت : أصلح الله الأمير! ليس على ما أولت . قال : فكيف هو ؟ قلت : إن عيسى بن مريم ينزل قبل يوم القيامة إلى الدنيا ، ولا يبقى أهل ملة يهودي ، أو نصراني ، أو غيره ، إلا وآمن به قبل موت عيسى ، ويصلي خلف المهدي . قال : ويحك أنى لك هذا؟ ومن أين جئت به ؟ قال : قلت : حدثني به الباقر محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليه السلام . قال : جئت والله بها من عين صافية . فقيل لشهر : ما أردت بذلك ؟ قال : أردت أن أغيظه . وذكر أبو القاسم البلخي مثل ذلك . وضعف الزجاج هذا الوجه قال : إن الذين يبقون إلى زمن عيسى من أهل الكتاب ، قليل ، والآية تقتضي عموم إيمان أهل الكتاب ، إلا أن (2) جميعهم يقولون : إن عيسى الذي ينزل في آخر الزمان نحن نؤمن به . وثانيها : إن الضمير في به يعود إلى المسيح ، والضمير في موته يعود إلى الكتابي ، ومعناه : لا يكون أحد من أهل الكتاب ، يخرج من دار الدنيا ، إلا ويؤمن بعيسى قبل موته ، إذا زال تكليفه ، وتحقق الموت ، ولكن لا ينفعه الإيمان حينئذ ، وإنما ذكر اليهود والنصارى لان جميعهم مبطلون : اليهود بالكفر به ، والنصارى بالغلو في أمره ، وذهب إليه ابن عباس في رواية أخرى ، ومجاهد ، والضحاك ، وابن سيرين ، وجويبر ، قالوا : ولو ضربت رقبته لم تخرج نفسه حتى يؤمن . وثالثها : أن يكون المعنى :

ليؤمنن بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم قبل موت الكتابي ، عن عكرمة ، ورواه أيضا أصحابنا ، وضعف الطبري هذا الوجه بأن قال : " لو كان ذلك صحيحا ، لما جاز إجراء أحكام الكفار عليهم ، إذا ماتوا " . وهذا لا يصح لان إيمانهم بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم إنما يكون في حال زوال التكليف ، فلا يعتد به ، وإنما ضعف هذا القول ، من حيث لم يجر ذكر لنبينا صلى الله عليه وآله وسلم ها هنا ، ولا ضرورة توجب رد الكناية إليه ، وقد جرى ذكر عيسى ، فالأولى أن يصرف ذلك إليه .

{وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا} يعني : عيسى يشهد عليهم بأنه قد بلغ رسالات ربه ، وأقر على نفسه بالعبودية ، وأنه لم يدعهم إلى أن يتخذوه إلها ، عن قتادة ، وابن جريج . وقيل : يشهد عليهم بتصديق من صدقه ، وتكذيب من كذبه ، عن أبي علي الجبائي .

وفي هذه الآية دلالة على أن كل كافر يؤمن عند المعاينة ، وعلى أن إيمانه ذلك غير مقبول ، كما لم يقبل إيمان فرعون في حال اليأس عند زوال التكليف ، ويقرب من هذا ما رواه الإمامية أن المحتضرين من جميع الأديان ، يرون رسول الله وخلفاءه عند الموت ، ويروون في ذلك عن علي عليه السلام أنه قال للحارث الهمداني :

يا حار همدان من يمت يرني *             من مؤمن أو منافق قبلا

يعرفني طرفه وأعرفه *                      بعينه واسمه وما فعلا

فإن صحت هذه الرواية فالمراد برؤيتهم في تلك الحال : العلم بثمرة ولايتهم وعداوتهم ، على اليقين ، بعلامات يجدونها من نفوسهم ، ومشاهدة أحوال يدركونها .

كما قد روي أن الإنسان إذا عاين الموت ، أري في تلك الحالة ما يدله على أنه من أهل الجنة ، أو من أهل النار .

______________________________

1 . تفسير مجمع البيان ، ج3 ، ص 231-237 .

2 . [تحمل أن] .

 

 

تفسير الكاشف
- ذكر محمد جواد مغنيه في تفسير هذه الآيات (1) :

{ فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ } . أي لعناهم بسبب نقضهم الميثاق الذي التزموا به ، وأبرموه على أنفسهم ، وهو أن يؤمنوا ويعملوا بما جاءهم به موسى ( عليه السلام ) . . ثم غيّروا وبدّلوا ، وحرّموا ما أحل اللَّه ، وحللوا ما حرم . { وكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللَّهِ } . وهي الحجج والدلائل على نبوة عيسى ومحمد ( صلى الله عليه وآله ) . { وقَتْلِهِمُ الأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ } كزكريا ويحيى بعد ان قامت الأدلة على نبوّتهما . { وقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ } . أي مغطاة لا يصل إليها شيء من دعوة محمد ( صلى الله عليه وآله ) ، قالوا هذا للرسول الأعظم تيئيسا له من إيمانهم بنبوته ، واستجابتهم إلى دعوته . { بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ } . جملة معترضة بين المعطوفات ، جاءت للرد على قولهم :

{ قُلُوبُنا غُلْفٌ } والمعنى ليست قلوبكم غلفا بطبيعتها ، وإنما كفركم بمحمد وتماديكم في الغي والضلال هو الذي جعلها صلدة كالحجارة ، أو أشد قسوة .

وبعد ان بلغت قلوبهم مبلغا لا تنفتح معه للحق بحال أصبحوا كمن خلقهم اللَّه بلا قلوب ، وبهذا الاعتبار صحت نسبة الطبع عليها إلى اللَّه سبحانه . ( أنظر تفسير الآية 7 من صورة البقرة ، ج 1 ص 53 ) . { فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا } .

كعبد اللَّه بن سلام ، وثعلبة بن سعية ، وأسد بن عبيد اللَّه وغيرهم . { وبِكُفْرِهِمْ وقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً } . كرر سبحانه نسبة الكفر إلى اليهود ثلاث مرات : الأولى بمناسبة ذكره لجحودهم آيات اللَّه وقتلهم الأنبياء . الثانية بمناسبة قولهم : قلوبنا غلف . الثالثة عند ذكره لقولهم على مريم المنكر الذي لا يقوله إلا اليهود الذين تناصرهم أمريكا « المسيحية » وتزودهم بالسلاح ليعتدوا على القدس ، وينتهكوا الشعائر الدينية التي يقدسها المسيحيون والمسلمون ، بخاصة الكنائس ومقابر المسيحيين (2) .

{ وقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ } . وصفوه برسول اللَّه تهكما به وبدعوته .{ وما قَتَلُوهُ وما صَلَبُوهُ ولكِنْ شُبِّهً لَهُمْ } . لما صمم اليهود على قتل السيد المسيح ألقى اللَّه شبهه على أحد المجرمين المستحقين للقتل ، وقيل : ان هذا المجرم هو يهوذا الذي قاد الحملة ضد عيسى ، فأخذه اليهود ، وعذبوه وصلبوه معتقدين انه السيد المسيح ، وبعد الصلب فقدوا صاحبهم ، فارتبكوا وتحيروا ، وقالوا : ان كان المصلوب عيسى فأين صاحبنا ؟ وان كان المصلوب صاحبنا فأين عيسى ؟ .

{ وإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ } . اختلف اليهود والنصارى في السيد المسيح ( عليه السلام ) ، ووقفوا منه موقفين متناقضين ، فقال اليهود : هو ابن زنا .

وقال النصارى هو ابن اللَّه . وأيضا قال اليهود : صلبناه ، ودفن تحت الأرض إلى غير رجعة . وقال النصارى : انه صلب ودفن ، ولكنه قام من تحت التراب ، ورجع إلى الدنيا بعد ثلاثة أيام . . فرد اللَّه سبحانه على الجميع بقوله :

{ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ } . والظن لا يغني عن الحق شيئا ، والحق اليقين الذي لا ريب فيه هو ما أنبأنا اللَّه به في قوله : { وما قَتَلُوهُ يَقِيناً بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ } . هذه هي الحقيقة رفع إلى اللَّه تعالى ، لا قتل ولا صلب .

وهنا تتوارد الأسئلة : كيف حصل الرفع ؟ ومتى ؟ قبل صلب الشبيه ، أو بعده ؟ وهل الرفع كان بالروح فقط ، أو بها وبالجسد ؟ وهل رفع إلى السماء الثانية أو الثالثة ، أو غيرها ؟ وما ذا يصنع هناك ؟ وهل ينزل قبيل الساعة إلى الأرض ؟ إلى غير ذلك من الأسئلة التي أجاب عنها القصاصون بما يشبه الأساطير .

والقرآن الكريم لم يتعرض لشيء من ذلك من قريب أو بعيد ، وكل ما دلت عليه آياته ان السيد المسيح لم يقتل ولم يصلب ، وان اللَّه رفعه إليه ، وان الذي قتل أو صلب شخص آخر ، تخيل القتلة انه المسيح ، ولا شيء في القرآن أكثر من ذلك ، ونحن لا نخرج عن نصوصه في مثل هذا الموضوع إلا بحديث متواتر . .

بل لا نهتم بهذه الأسئلة وأجوبتها ما دمنا غير مسؤولين عنها ، ولا مكلفين بها .

وسبق أن تعرضنا لما قيل في المسيح عند تفسير الآية 58 من سورة آل عمران ، فقرة الاختلاف في عيسى .

وللتفكيه ننقل هذه الأسطورة عن بعض التفاسير ، تقول الأسطورة : ان اللَّه رفع عيسى إليه ، وكساه حلة من نور ، وأنبت له جناحين من ريش ، ومنعه من الطعام والشراب ، وصيره من الملائكة يطير معهم حول العرش ، وجعل فيه طبيعتين : ناسوتية ، وملائكية . .

{ وإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ } . أي ما أحد من أهل الكتاب الا ويؤمن بعيسى قبل أن يموت ذلك الأحد من أهل الكتاب ، فضمير به يعود على عيسى ، وضمير موته يعود على أحد ، والمراد بأهل الكتاب اليهود والنصارى . . وقد جاء في بعض الروايات ان كل إنسان عند ما يعاني سكرة الموت ينكشف له الحق عما كان يعتقده في دار الدنيا ، وهذه الآية تشهد بالصحة لتلك الروايات ، حيث دلت بظاهرها على ان كل كتابي يهوديا كان أو نصرانيا لا بد أن يؤمن إيمانا صحيحا بعيسى بعد سكرة الموت ، فاليهودي الذي كان يقول عن عيسى : انه ساحر وابن فاعلة يعدل عن ذلك ، ويؤمن بأنه نبي مرسل ، وان أمه صدّيقة ، والنصراني الذي كان يقول : انه ابن اللَّه ، وثالث ثلاثة يؤمن بأنه عبد من عباد اللَّه المخلصين .

وليس هذا بمحال في نظر العقل ، وقد أخبر به الوحي ، وكل ما أخبر به الوحي ، ولم ينكره العقل وجب التصديق به على كل من يؤمن باللَّه واليوم الآخر ، أما من لا يؤمن إلا بما يقع تحت المجهر فلا يصدق - قطعا - وعليه أن لا يصدق من يقول له : لك عقل وروح ووعي وعاطفة . . لأنها لا تقع تحت المجهر ، ولا تنالها المعدات والآلات بالاختبار والتحليل ، وصدق من قال : من فقد الإيمان باللَّه فقد نفسه .

وتسأل : وأية جدوى من الإخبار بأن الحق ينكشف لأهل الكتاب عند سكرة الموت ، مع العلم أنهم في هذه الحال يعجزون عن ادراك ما فات ؟ .

الجواب : الغرض من ذلك هو الحث على المبادرة إلى تصحيح إيمانهم قبل أن تجتمع عليهم حسرة الفوت وسكرة الموت ، تماما كالغرض من الإخبار عن الجنة والنار .

{ ويَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً } . يشهد غدا عيسى ( عليه السلام ) على اليهود بأنهم ناصبوه العداء كفرا وعنادا لما جاءهم به من اللَّه ، ويشهد على النصارى بأنهم غالوا فيه غلوا تجاوزوا ما أمرهم به من عبادة اللَّه وحده ، { ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهً رَبِّي ورَبَّكُمْ } [المائدة : 117] . . وكل نبي ، وطليعتهم محمد ( صلى الله عليه وآله ) ، يشهد على من زاغ وانحرف من أمته عما جاءهم به وبلَّغهم إياه . {ويَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ } [النحل : 89] .

___________________________

1. تفسير الكاشف ، ج2 ، ص 484-487 .

2. أكتب هذه الكلمات يوم 28 - 4 - 1968 ، وإسرائيل تعتزم إقامة عرض عسكري كبير في مدينة القدس المحتلة يوم 2 - 5 - 68 ، على الرغم من قرار مجلس الأمن الذي أصدره بالإجماع على إلغاء هذا العرض .

 

تفسير الميزان
- ذكر الطباطبائي في تفسير هذه الآيات (1) :

قوله تعالى : { فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ } ، الفاء للتفريع والمجرور متعلق بما سيأتي بعد عدة آيات ـ يذكر فيها جرائمهم ـ من قوله { حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ } والآيات مسوقة لبيان ما جازاهم الله به من وخيم الجزاء الدنيوي والأخروي ، وفيها ذكر بعض ما لم يذكر من سننهم السيئة أولا.

وقوله { فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ } تلخيص لما ذكر منهم من نقض المواثيق ولما لم يذكر من المواثيق المأخوذة منهم.

وقوله { وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللهِ } تلخص لأنواع من الكفر كفروا بها في زمن موسى عليه ‌السلام وبعده قص القرآن كثيرا منها ، ومن جملتها الموردان المذكوران في صدر الآيات أعني قوله { فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً } ، وقوله { ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ } وإنما قدما في الصدر ، وأخرا في هذه الآية لأن المقامين مختلفان فيختلف مقتضاهما فإن صدر الآيات متعرض لسؤالهم تنزيل كتاب من السماء و، ذكر سؤالهم أكبر من ذلك وعبادتهم العجل أنسب به وألصق ، وهذه الآية وما بعدها متعرضة لمجازاتهم في قبال أعمالهم بعد ما كانوا أجابوا دعوة الحق وذكر أسباب ذلك والابتداء بذكر نقض الميثاق أنسب في هذا المقام وأقرب.

وقوله { وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ } يعني بهم زكريا ويحيى وغيرهما ممن ذكر القرآن قتلهم إجمالا من غير تسمية.

وقوله { وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ } جمع أغلف أي في أغشية تمنعها عن استماع الدعوة النبوية ، وقبول الحق لو دعيت إليه ، وهذه كلمة ذكروها يريدون بها رد الدعوة ، وإسناد عدم إجابتهم للدعوة إلى الله سبحانه كأنهم كانوا يدعون أنهم خلقوا غلف القلوب ، أو أنهم جعلوا بالنسبة إلى دعوة غير موسى كذلك من غير استناد ذلك إلى اختيارهم وصنعهم .

ولذلك رد الله سبحانه عليهم بقوله { بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً } فبين أن إباء قلوبهم عن استماع الدعوة الحقة مستند إلى صنع الله لكن لا كما يدعون أنهم لا صنع لهم في ذلك بل إنما فعل ذلك بهم في مقابل كفرهم وجحودهم للحق ، وكان أثر ذلك أن هذا القوم لا يؤمنون إلا قليل منهم .

وقد تقدم الكلام في هذا الاستثناء ، وأن هذه النقمة الإلهية إنما نزلت بهم بقوميتهم ومجتمعهم ، فالمجموع من حيث المجموع مكتوب عليهم النقمة ، ومطبوع على قلوبهم محال لهم أن يؤمنوا بأجمعهم ، ولا ينافي ذلك إيمان البعض القليل منهم .

قوله تعالى : { بِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً } وهو قذفها عليه ‌السلام في ولادة عيسى بالزنا ، وهو كفر وبهتان معا وقد كلمهم عيسى في أول ولادته وقال : { إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا } : ( مريم. 30 ) .

قوله تعالى : { وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ } قد تقدم في قصص عيسى عليه ‌السلام في سورة آل عمران أنهم اختلفوا في كيفية قتله صلبا وغير صلب فلعل حكايته تعالى عنهم دعوى قتله أولا ثم ذكر القتل والصلب معا في مقام الرد والنفي لبيان النفي التام بحيث لا يشوبه ريب فإن الصلب لكونه نوعا خاصا في تعذيب المجرمين لا يلازم القتل دائما ، ولا يتبادر إلى الذهن عند إطلاق القتل ، وقد اختلف في كيفية قتله فمجرد نفي القتل ربما أمكن أن يتأول فيه بأنهم ما قتلوه قتلا عاديا ، ولا ينافي ذلك أن يكونوا قتلوه صلبا فلذلك ذكر تعالى بعد قوله { وَما قَتَلُوهُ } قوله { وَما صَلَبُوهُ } ليؤدي الكلام حقه من الصراحة ، وينص على أنه عليه ‌السلام لم يتوف بأيديهم لا صلبا ولا غير مصلوب ، بل شبه لهم أمره فأخذوا غير المسيح عليه ‌السلام مكان المسيح فقتلوه أو صلبوه ، وليس من البعيد عادة ، فإن القتل في أمثال تلك الاجتماعات الهمجية والهجمة والغوغاء ربما أخطأ المجرم الحقيقي إلى غيره وقد قتله الجنديون من الروميين ، وليس لهم معرفة بحاله على نحو الكمال فمن الممكن أن يأخذوا مكانه غيره ، ومع ذلك فقد وردت روايات أن الله تعالى ألقى شبهه على غيره فأخذ وقتل مكانه .

وربما ذكر بعض محققي التاريخ أن القصص التاريخية المضبوطة فيه عليه ‌السلام والحوادث المربوطة بدعوته وقصص معاصريه من الحكام والدعاة تنطبق على رجلين اثنين مسميين بالمسيح ـ وبينهما ما يزيد على خمسمائة سنة ـ : المتقدم منهما محق غير مقتول ، والمتأخر منهما مبطل مصلوب ، وعلى هذا فما يذكره القرآن من التشبيه هو تشبيه المسيح عيسى بن مريم رسول الله بالمسيح المصلوب. والله أعلم.

وقوله { وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ } أي اختلفوا في عيسى أو في قتله { لَفِي شَكٍّ مِنْهُ } أي في جهل بالنسبة إلى أمره { ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ } وهو التخمين أو رجحان ما بحسب ما أخذه بعضهم من أفواه بعض .

وقوله { وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً } أي ما قتلوه قتل يقين أو ما قتلوه أخبرك خبر يقين ، وربما قيل : إن الضمير في قوله { وَما قَتَلُوهُ } راجع إلى العلم أي ما قتلوا العلم يقينا. وقتل العلم لغة تمحيضه وتخليصه من الشك والريب ، وربما قيل : إن الضمير يعود إلى الظن أي ما محضوا ظنهم وما تثبتوا فيه ، وهذا المعنى على تقدير ثبوته معنى غريب لا يحمل عليه لفظ القرآن .

قوله تعالى : { بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً } وقد قص الله سبحانه هذه القصة في سورة آل عمران فقال : { إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ } : ( آل عمران : 55 ) فذكر التوفي ثم الرفع .

وهذه الآية بحسب السياق تنفي وقوع ما ادعوه من القتل والصلب عليه فقد سلم من قتلهم وصلبهم ، وظاهر الآية أيضا أن الذي ادعي إصابة القتل والصلب إياه ، وهو عيسى عليه ‌السلام بشخصه البدني هو الذي رفعه الله إليه ، وحفظه من كيدهم فقد رفع عيسى بجسمه وروحه لا أنه توفي ثم رفع روحه إليه تعالى فهذا مما لا يحتمله ظاهر الآية بمقتضى السياق فإن الإضراب الواقع في قوله { بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ } لا يتم بمجرد رفع الروح بعد الموت الذي يصح أن يجامع القتل والموت حتف الأنف.

فهذا الرفع نوع التخليص الذي خلصه الله به وأنجاه من أيديهم سواء كان توفي عند ذلك بالموت حتف الأنف أو لم يتوف حتف الأنف ولا قتلا وصلبا بل بنحو آخر لا نعرفه أو كان حيا باقيا بإبقاء الله بنحو لا نعرفه فكل ذلك محتمل .

وليس من المستحيل أن يتوفى الله المسيح ويرفعه إليه ويحفظه ، أو يحفظ الله حياته على نحو لا ينطبق على العادة الجارية عندنا فليس يقصر عن ذلك سائر ما يقتصه القرآن الكريم من معجزات عيسى نفسه في ولادته وحياته بين قومه ، وما يحكيه من معجزات إبراهيم وموسى وصالح وغيرهم ، فكل ذلك يجري مجرى واحدا يدل الكتاب العزيز على ثبوتها دلالة لا مدفع لها إلا ما تكلفه بعض الناس من التأويل تحذرا من لزوم خرق العادة وتعطل قانون العلية العام ، وقد مر في الجزء الأول من هذا الكتاب استيفاء البحث عن الإعجاز وخرق العادة.

وبعد ذلك كله فالآية التالية لا تخلو عن إشعار أو دلالة على حياته عليه ‌السلام وعدم توفيه بعد.

قوله تعالى : { وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً }. { إِنْ } نافية والمبتدأ محذوف يدل عليه الكلام في سياق النفي ، والتقدير : وإن أحد من أهل الكتاب إلا ليؤمنن ، والضمير في قوله { بِهِ } وقوله { يَكُونُ } راجع إلى عيسى ، وأما الضمير في قوله { قَبْلَ مَوْتِهِ } ففيه خلاف.

فقد قال بعضهم : إن الضمير راجع إلى المقدر من المبتدأ وهو أحد ، والمعنى : وكل واحد من أهل الكتاب يؤمن قبل موته بعيسى أي يظهر له قبيل الموت عند الاحتضار أن عيسى كان رسول الله صلى ‌الله‌ عليه ‌وآله وعبده حقا وإن كان هذا الإيمان منه إيمانا لا ينتفع به ، ويكون عيسى شهيدا عليهم جميعا يوم القيامة سواء آمنوا به إيمانا ينتفع به أو إيمانا لا ينتفع به كمن آمن به عند موته .

ويؤيده أن إرجاع ضمير { قَبْلَ مَوْتِهِ } إلى عيسى يعود إلى ما ورد في بعض الأخبار أن عيسى حي لم يمت ، وأنه ينزل في آخر الزمان فيؤمن به أهل الكتاب من اليهود والنصارى ، وهذا يوجب تخصيص عموم قوله { وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ } من غير مخصص ، فإن مقتضى الآية على هذا التقدير أن يكون يؤمن بعيسى عند ذلك النزول من السماء الموجودون من أهل الكتاب دون المجموع منهم ، ممن وقع بين رفع عيسى ونزوله فمات ولم يدرك زمان نزوله ، فهذا تخصيص لعموم الآية من غير مخصص ظاهر.

وقد قال آخرون : إن الضمير راجع إلى عيسى عليه ‌السلام والمراد به إيمانهم به عند نزوله في آخر الزمان من السماء ، استنادا إلى الرواية كما سمعت .

هذا ما ذكروه ، والذي ينبغي التدبر والإمعان فيه هو أن وقوع قوله { وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً } في سياق قوله { وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً } ظاهر في أن عيسى شهيد على جميعهم يوم القيامة كما أن جميعهم يؤمنون به قبل الموت ، وقد حكى سبحانه قول عيسى في خصوص هذه الشهادة على وجه خاص ، فقال عنه : { وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } : ( المائدة : 117 ) .

فقصر عليه ‌السلام شهادته في أيام حياته فيهم قبل توفيه ، وهذه الآية أعني قوله : { وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ } (إلخ) تدل على شهادته على جميع من يؤمن به فلو كان المؤمن به هو الجميع كان لازمه أن لا يتوفى إلا بعد الجميع ، وهذا ينتج المعنى الثاني ، وهو كونه عليه ‌السلام حيا بعد ، ويعود إليهم ثانيا حتى يؤمنوا به. نهاية الأمر أن يقال : إن من لا يدرك منهم رجوعه إليهم ثانيا يؤمن به عند موته ، ومن أدرك ذلك آمن به إيمانا اضطرارا أو اختيارا.

على أن الأنسب بوقوع هذه الآية : { وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ } فيما وقع فيه من السياق أعني بعد قوله تعالى { وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ ـ إلى أن قال ـ بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً } أن تكون الآية في مقام بيان أنه لم يمت وأنه حي بعد إذ لا يتعلق ببيان إيمانهم الاضطراري وشهادته عليهم في غير هذه الصورة غرض ظاهر .

فهذا الذي ذكرناه يؤيد كون المراد بإيمانهم به قبل الموت إيمانهم جميعا به قبل موته عليه ‌السلام .

لكن هاهنا آيات أخر لا تخلو من إشعار بخلاف ذلك كقوله تعالى : { إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ } : ( آل عمران : 55 ) حيث يدل على أن من الكافرين بعيسى من هو باق إلى يوم القيامة ، وكقوله تعالى : { وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً } حيث إن ظاهره أنه نقمة مكتوبة عليهم ، فلا يؤمن مجتمعهم بما هو مجتمع اليهود أو مجتمع أهل الكتاب إلى يوم القيامة .

بل ظاهر ذيل قوله { وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ } حيث إن ذيله يدل على أنهم باقون بعد توفي عيسى عليه ‌السلام.

لكن الإنصاف أن الآيات لا تنافي ما مر فإن قوله { وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ } لا يدل على بقائهم إلى يوم القيامة على نعت أنهم أهل الكتاب .

وكذا قوله تعالى : { بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ } (الآية) إنما يدل على أن الإيمان لا يستوعبهم جميعا ، ولو آمنوا في حين من الأحيان شمل الإيمان منهم قليلا من كثير. على أن قوله { وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ } لو دل على إيمانهم به قبل موته فإنما يدل على أصل الإيمان ، وأما كونه إيمانا مقبولا غير اضطراري فلا دلالة له على ذلك .

وكذا قوله { فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ } (الآية) مرجع الضمير فيه إنما هو الناس دون أهل الكتاب أو النصارى بدليل قوله تعالى في صدر الكلام : { وَإِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ } الآية : ( المائدة : 116 ) ، ويدل على ذلك أيضا أنه عليه ‌السلام من أولي العزم من الرسل مبعوث إلى الناس كافة ، وشهادته على أعمالهم تعم بني إسرائيل والمؤمنين به وغيرهم .

وبالجملة ، الذي يفيده التدبر في سياق الآيات وما ينضم إليها من الآيات المربوطة بها هو أن عيسى عليه ‌السلام لم يتوف بقتل أو صلب ولا بالموت حتف الأنف على نحو ما نعرفه من مصداقه ـ كما تقدمت الإشارة إليه ـ وقد تكلمنا بما تيسر لنا من الكلام في قوله تعالى { يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ } : ( آل عمران : 55 ) في الجزء الثالث من هذا الكتاب .

ومن غريب الكلام في هذا الباب ما ذكره الزمخشري في الكشاف : أنه يجوز أن يراد أنه لا يبقى أحد من جميع أهل الكتاب إلا ليؤمنن به على أن الله يحييهم في قبورهم في ذلك الزمان ، ويعلمهم نزوله ، وما أنزل له ، ويؤمنون به حين لا ينفعهم إيمانهم ، وهذا قول بالرجعة .

وفي معنى الآية بعض وجوه رديئة أخرى :

منها : ما يظهر من الزجاج أن ضمير قوله { قَبْلَ مَوْتِهِ } يرجع إلى الكتابي وأن معنى قوله { وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ } أن جميعهم يقولون : إن عيسى الذي يظهر في آخر الزمان نحن نؤمن به .

وهذا معنى سخيف فإن الآيات مسوقة لبيان دعواهم قتل عيسى عليه ‌السلام وصلبه والرد عليهم دون كفرهم به ولا يرتبط ذلك باعترافهم بظهور مسيح في آخر الزمان يحيي أمر شعب إسرائيل حتى يذيل به الكلام.

على أنه لو كان المراد به ذلك لم يكن حاجة إلى ذكر قوله : { قَبْلَ مَوْتِهِ } لارتفاع الحاجة بدونه ، وكذا قوله { وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً } لأنه على هذا التقدير فضل من الكلام لا حاجة إليه .

ومنها : ما ذكره بعضهم أن المراد بالآية : وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن بمحمد قبل موت ذلك الكتابي .

وهذا في السخافة كسابقه فإنه لم يجر لمحمد صلى ‌الله‌ عليه ‌وآله ذكر في سابق الكلام حتى يعود إليه الضمير . ولا أن المقام يدل على ذلك ، فهو قول من غير دليل. نعم ، ورد هذا المعنى في بعض الروايات مما سيمر بك في البحث الروائي التالي لكن ذلك من باب الجري كما سنشير إليه وهذا أمر كثير الوقوع في الروايات كما لا يخفى على من تتبع فيها .

__________________________

1. تفسير الميزان ، ج5 ، ص 112-118 .

 

تفسير الأمثل
- ذكر الشيخ ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذه الآيات (1) :

نماذج أخرى من ممارسات اليهود العدوانية :

تشير هذه الآيات إلى نماذج أخرى من انتهاكات بني إسرائيل وممارساتهم العدوانية التي واجهوا بها أنبياء الله.

فالآية الأولى تشير إلى قيام اليهود بنقض العهود ، وإلى ارتداد بعضهم وكفرهم بآيات الله وقتلهم للأنبياء ، بحيث استوجبوا غضب الله والحرمان من رحمته وحرمانهم من قسم من نعم الله الطاهرة.

فقد أنكر هؤلاء آيات الله وكفروا بها بعد نقضهم للعهد واتّبعوا بذلك سبيل الضلال ولم يكتفوا بهذا الحدّ ، بل تمادوا في غيّهم ، فارتكبت أياديهم الآثمة جريمة كبرى ، إذ عمدوا إلى قتل الهداة والقادة إلى طريق الحق من أنبياء الله ، إيغالا منهم في اتباع طريق الباطل والابتعاد عن طريق الحق.

لقد كان هؤلاء اليهود بدرجة من العناد والصلف والوقاحة ، بحيث كانوا يواجهون كلام الأنبياء بالسخرية والاستهزاء ، ووصل بهم الأمر إلى أن يقولوا بكل صراحة أنّ قلوبهم تغطيها حجب عن سماع وقبول قول الأنبياء! تقول الآية الأولى من الآيات الأربع الأخيرة :{فَبِما نَقْضِهِمْ (2) مِيثاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ ...} .

وهنا يؤكّد القرآن الكريم أنّ قلوب هؤلاء مختومة حقا ، بحيث لا ينفذ إليها أي حقّ ، وسبب ذلك هو كفرهم وانعدام الإيمان لديهم ، فهم لا يؤمنون لعنادهم وصلفهم إلّا القليل منهم.

وقد تجاوز هؤلاء المجرمون الحدّ ، فالصقوا بمريم العذراء الطاهرة تهمة شنيعة وبهتانا عظيما ، هي أمّ لأحد أنبياء الله الكبار ، وذلك لأنّها حملت به بإذن الله دون أن يمسها رجل ، تقول الآية في هذا المجال : {وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً}.

وقد تباهي هؤلاء الجناة وافتخروا بقتلهم الأنبياء ، وزعموا أنّهم قتلوا المسيح عيسى بن مريم رسول الله ، تقول الآية : {وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ ...} ولعل هؤلاء كانوا يأتون بعبارة «رسول الله» استهزاء ونكاية ، وقد كذبوا بدعواهم هذه في قتل المسيح ، فهم لم يقتلوه ولم يصلبوه ، بل صلبوا شخصا شبيها بعيسى المسيح عليه ‌السلام ، وإلى هذه الواقعة تشير الآية بقولها : {وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ ...} .

وأكّدت الآية أنّ الذين اختلفوا في أمر المسيح عليه ‌السلام كانوا ـ هم أنفسهم ـ في شك من أمرهم ، فلم يكن أحدهم يؤمن ويعتقد بما يقول ، بل كانوا يتبعون الأوهام والظن ، تقول الآية : {وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ ...}.

وقد بحث المفسّرون حول موضوع الخلاف الوارد في هذه الآية ، فاحتمل بعضهم أن يكون الخلاف حول منزلة ومقام المسيح عليه ‌السلام حيث اعتبره جمع من المسيحيين ابنا لله ، ورفض البعض الآخر ـ كاليهود ـ كونه نبيّا ، وإن كل هؤلاء كانوا على خطأ من أمرهم .

وقد يكون المقصود بالخلاف هو موضوع كيفية قتل المسيح عليه ‌السلام حيث قال البعض بأنّه قتل ، وقال آخرون بأنّه لم يقتل ، ولم يكن أي من هاتين الطائفتين ليثق بقول نفسه.

أو لعل الذين ادعوا قتل المسيح وقعوا في شك من هذا الأمر لعدم معرفتهم بالمسيح عليه ‌السلام ، فاختلفوا في الذي قتلوه هل كان هو المسيح ، أو هو شخص غيره ...؟! ويأتي القرآن ليؤكّد هنا بأن هؤلاء لم يقتلوا المسيح أبدا ، بل رفعه الله إليه ، والله هو القادر على كل شيء ، وهو الحكيم لدى فعل أي شيء ، تقول الآية : {وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً}.

أسطورة الصّليب ؟

يؤكّد القرآن الكريم في الآية المارة الذكر على أنّ المسيح عليه ‌السلام لم يقتل ولم يصلب ، بل اشتبه الأمر على اليهود فظنوا أنّهم صلبوه ، وهم لم يقتلوه أبدا!

أمّا الأناجيل الأربعة الموجودة اليوم في متناول أيدينا فهي كلها تقول بأنّ المسيح عليه ‌السلام قد صلب وقتل على هذه الصورة ، وقد جاء هذا القول في الفصول الأخيرة من هذه الأناجيل الأربعة «متى ـ لوقا ـ مرقس ـ يوحنا» وبصورة تفصيلية.

والمسيحيون اليوم يعتقدون بهذا الأمر بصورة عامّة ، ومسألة الصلب أو قتل المسيح عليه ‌السلام تعتبر اليوم أحد أهم المسائل الأساسية للديانة المسيحية ، ونحن نعلم أنّ المسيحيين اليوم لا يعتبرون المسيح عليه ‌السلام مجرّد نبي أرسل لهداية وإرشاد البشرية ، بل يعتقدون بأنّه «ابن الله» من أركان الثالوث المقدس لديهم ، ويزعمون بأنّ هدف مجيء المسيح إلى هذا العالم ليكون قربانا يفتدي بنفسه مقابل الخطايا والآثام التي يرتكبها البشر.

فيقولون : إنّه جاء ليضحي بنفسه من أجل ذنوبهم وخطاياهم ، وقد صلب وقتل ليغسل بدمه ذنوب البشر ، ولينقذ البشرية من العقاب ، ولذلك فهم يعتقدون بأنّ طريق الخلاص والنجاة من العذاب والعقاب هو الإيمان بهذا الموضوع.

ومن هذا المنطلق فهم ـ أحيانا ـ يدعون المسيحية بدين «الإنقاذ» أو دين «الفداء» ويسمّون المسيح عليه ‌السلام بـ «المنقذ» أو «المخلص» أو «الفادي».

واعتمادهم المفرط على الصليب واتخاذه شعارا لأنفسهم إنّما يرتكز على قضية القتل والصلب هذه .

كانت تلك نبذة عن عقيدة المسيحيين حول مصير المسيح عليه‌ السلام.

أمّا المسلمون فلا يشك أحدهم ببطلان وزيف هذه العقيدة ، والسبب هو أنّ المسيح عيسى بن مريم عليه ‌السلام ، كان نبيّا كسائر أنبياء الله أوّلا ، ولم يكن هو الله ولا ابن الله ، لأن الله واحد أحد فرد صمد لا شبيه ولا مثيل ولا زوج له ولا ولد.

وثانيا : إنّ مسألة الفداء والتضحية من أجل خطايا الآخرين ، تعتبر مسألة بعيدة عن المنطق كل البعد ، فكل إنسان يؤاخذ بجريرته وعمله ، وإنّ طريق النجاة والخلاص يكون في الإيمان والعمل الصالح فقط .

وثالثا : إنّ عقيدة الفداء من أجل الخطايا تعتبر خير مشجع على الفساد وممارسة الذنوب ، وتؤدي بالبشرية إلى التلوث والهلاك.

وحين تلاحظ أن القرآن يؤكّد على قضية عدم صلب المسيح عليه ‌السلام مع أنّ هذه القضية تظهر للعيان وكأنّها مسألة اعتيادية بسيطة ، من أجل دحض عقيدة الفداء الخرافية بشدّة ، لمنع المسيحيين من الإيغال في هذا الإعتقاد الفاسد ، ولكي يؤمنوا بأنّ طريق الخلاص والنجاة إنّما هو في أعمالهم هم أنفسهم وليس في ظل الصليب.

رابعا : هناك قرائن موجودة تثبت وهن وضعف قضية الإعتقاد بصلب المسيح عليه ‌السلام هي :

١ ـ المعروف أنّ الأناجيل الأربعة المتداولة في الوقت الحاضر ، والتي تشهد بصلب المسيح عليه ‌السلامـ كانت قد دوّنت بعده بسنين طويلة ، وقد دوّنها حواريوه أو التالون من أنصاره عليه ‌السلام ـ وهذه حقيقة يعترف بها حتى المؤرخون المسيحيون.

كما نعرف أيضا أنّ حواري المسيح عليه ‌السلام قد هربوا حين هجم الأعداء عليه ، والأناجيل نفسها تشهد بهذا الأمر (3) وعلى هذا الأساس فإنّ هؤلاء الحواريين قد تلقفوا مسألة صلب عيسى المسيح عليه ‌السلام من أفواه الناس الآخرين ، ولم يكونوا حاضرين أثناء تنفيذ عملية الصلب ، وقد أدت التطورات التي حصلت آنذاك إلى تهيئة الأجواء المساعدة للاشتباه بشخص آخر وصلبه بدل المسيح عليه ‌السلام ، وسنوضح هذا الأمر فيما يلي من حديثنا.

٢ ـ إنّ العامل الآخر الذي يجعل من الاشتباه بشخص آخر بدل المسيح عليه ‌السلام أمرا محتملا هو أنّ المجموعة التي كلّفت بالقبض على عيسى المسيح عليه ‌السلام والتي ذهبت إلى بستان «جستيماني» هذه المجموعة كانت تتشكل من أفراد الجيش الرومي الذين كانوا منهمكين في أمور عسكرية ، فهم لم يكونوا يعرفون اليهود ولغتهم وتقاليدهم ، كما لم يميزوا بين حواري المسيح عليه ‌السلام وبين المسيح نفسه.

٣ ـ تذكر الأناجيل أن الهجوم على مقر عيسى المسيح عليه ‌السلام قد تمّ ليلا ، وبديهي أنّ ظلام الليل يعتبر خير ستار للشخص المطلوب ليتخفى به ويهرب ، وليقع شخص آخر في أيدي المهاجمين.

٤ ـ يستنتج من نصوص جميع الأناجيل أنّ المقبوض عليه قد اختار الصمت أمام «بيلاطيس» الحاكم الرومي لبيت المقدس ـ آنذاك ـ ولم يتفوه إلّا بالقليل دفاعا عن نفسه ويستبعد كثيرا أن يقع عيسى المسيح عليه ‌السلام في خطر كهذا ولا يدافع عن نفسه بما يستحقه الدفاع عن النفس ، وهو المعروف بالفصاحة والبلاغة والشجاعة والشهامة.

ألا يحتمل في هذا المجال أن يكون شخص آخر ـ كـ «يهوذا الأسخربوطي» الذي خان ووشى بعيسى المسيح عليه ‌السلام وكان يشبهه كثيرا ـ قد وقع هو بدل المسيح في الأسر وأنّه لهول الموقف قد استولى عليه الخوف والرعب ، فعجز عن الدفاع عن نفسه أو التحدث أمام الجلادين بشيء.

نقرأ في الأناجيل أنّ «يهوذا الأسخربوطي» لم يظهر بعد حادثة الصّلب أبدا، وأنّه ـ كما تقول هذه الأناجيل ـ قد قتل نفسه وانتحر (4).

٥ ـ لقد بيّنا أنّ حواري المسيح عليه ‌السلام ـ وكما ذكرت الأناجيل ـ قد هربوا حين أحسوا بالخطر يحدق بهم ، كما هرب واختفى الأنصار الآخرون ، وأخذوا يراقبون الأوضاع عن بعد ، بحيث أصبح الشخص المقبوض عليه وحيدا بين الجنود الرومان ، ولم يكن أي من أصحابه قريبا منه ، ولذلك لا يستبعد ولا يبدو غريبا أن يقع خطأ أو سهو في تشخيص هوية الشخص المقبوض عليه.

٦ ـ ونقرأ في الأناجيل ـ أيضا ـ أنّ الشخص المصلوب قد اشتكى من ربه  (وليس لربّه) لأنّه ـ بحسب قوله ـ قد جفاه وتركه بأيدي الأعداء ليقتلوه (5)!

فلو صدقنا مقولة أنّ المسيح جاء لهذه الدنيا ليصلب ولينقذ بصلبه البشرية من عواقب خطاياهم وآثامهم ، فلا يليق لمن يحمل هدفا ساميا كهذا الهدف أن يصدر منه هذا الكلام ، وهذا دليل على أن الشخص المصلوب لم يكن المسيح نفسه ، بل كان إنسانا ضعيفا وجبانا ، وعاجزا ، ومثل هذا الإنسان يمكن أن يصدر منه كلام كالذي سبق ، لا يمكن أن يكون هذا الإنسان هو المسيح عليه ‌السلام (6).

٧ ـ لقد نفت بعض الأناجيل الموجودة مثل إنجيل «برنابا» قضية صلب المسيح عليه ‌السلام (وهذا الإنجيل هو غير الأناجيل الأربعة التي يقبلها المسيحيون) كما أنّ بعضا من الطوائف المسيحية أبدت شكوكها حول قضية الصلب (7) وقد ذهب بعض الباحثين إلى أبعد من هذا ، فادعوا بأن التاريخ قد ذكر شخصين باسم «عيسى» أحدهما عيسى المصلوب والآخر هو عيسى غير المصلوب وبينهما فاصل زمني يقدر بخمسمائة عام (8).

كانت تلك مجموعة من القرائن المؤيدة لقول القرآن الكريم في قضية الشبه الحاصل في قتل أو صلب المسيح عليه ‌السلام .

* * *

{وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً} [النساء : 159] .

هنالك احتمالان في تفسير هذه الآية ، وكل واحد منهما جدير بالملاحظة من جوانب متعددة :

١ ـ إنّ الآية تؤكّد أنّ أي إنسان يمكن أن لا يعتبر من أهل الكتاب ما لم يؤمن قبل موته بالمسيح عليه ‌السلام حيث تقول : {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ ...). وأن هذا الأمر يتمّ حين يشرف الإنسان على الموت وتضعف صلته بهذه الدنيا ، وتقوى هذه الصلة بعالم ما بعد الموت ، وترفع عن عينيه الحجب فيرى بعد ذلك الكثير من الحقائق ويدركها ، وفي هذه اللحظة يرى المسيح بعين بصيرته ويؤمن به ، فالذين أنكروا نبوته يؤمنون به ، والذين وصفوه بالألوهية يدركون في تلك اللحظة خطأهم وانحرافهم.

وبديهي أنّ مثل هذا الإيمان لا ينفع صاحبه ، كما أنّ فرعون والأقوام الأخرى وأقوام استولى عليهم العذاب ، فقالوا : آمنا فلم ينفعهم إيمانهم أبدا ، فالأجدر بالإنسان أن يؤمن قبل أن تدركه لحظة العذاب عند الموت ، حين لا ينفع الإيمان صاحبه.

وتجدر الإشارة ـ هنا ـ إلى أنّ الضمير في عبارة «قبل موته» يعود لأهل الكتاب بناء على التّفسير الذي ذكرناه.

٢ ـ قد يكون المقصود في الآية هو أنّ جميع أهل الكتاب يؤمنون بعيسى المسيح قبل موته ، فاليهود يؤمنون بنبوته والمسيحيون يتخلون عن الإعتقاد بربوبية المسيح عليه ‌السلام ، ويحدث هذا ـ طبقا للروايات الإسلامية ـ حين ينزل المسيح عليه ‌السلام من السماء لدى ظهور المهدي المنتظر عجل الله تعالى فرجه ، وواضح أن عيسى المسيح سيعلن في مثل هذا اليوم انضواءه تحت راية الإسلام ، لأن الشريعة السماوية التي جاء بها إنّما نزلت قبل الإسلام ، ولذلك فهي منسوخة به.

وبناء على هذا التّفسير فإن الضمير في عبارة «قبل موته» يعود إلى عيسى المسيح عليه ‌السلام .

وقد نقل عن النّبي محمّد صلى ‌الله ‌عليه ‌وآله ‌وسلم قوله : «كيف بكم إذا نزل فيكم ابن مريم وإمامكم منكم» (9) وطبيعي أنّ هذا التّفسير يشمل اليهود والمسيحيين الموجودين في زمن ظهور المهدي المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف ، ونزول عيسى المسيح عليه ‌السلام من السماء.

وجاء في تفسير «علي بن إبراهيم» نقلا عن «شهر بن حوشب» إنّ الحجاج ذكر يوما أن هناك آية في القرآن قد أتبعته كثيرا وهو حائر في معناها ، فسأله «شهر» عن الآية ، فقال الحجاج : إنّها آية {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ ...} وذكر أنّه قتل يهودا ومسيحيين ولم يشاهد فيهم أثرا لمثل هذا الإيمان.

فأجابه «شهر» بأنّ تفسيره للآية لم يكن تفسيرا صحيحا ، فاستغرب الحجاج وسأل عن التّفسير الصحيح للآية.

فأجاب «شهر» بأنّ تفسير الآية هو أن المسيح ينزل من السماء قبل نهاية العالم ، فلا يبقى يهودي أو غير يهودي إلّا ويؤمن بالمسيح قبل موته ، وأن المسيح سيقيم الصّلاة خلف المهدي المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف .

فلما سمع الحجاج هذا الكلام قال لـ «شهر» ويلك من أين جئت بهذا التّفسير؟ فأجابه «شهر» بأنّه قد سمعه من محمّد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم‌ السلام.

وعند ذلك قال الحجاج : «والله جئت بها من عين صافية» (10).

وتقول الآية في الختام : {وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً} أي شهادة المسيح عليه ‌السلام على قومه بأنّه قد بلّغهم رسالة الله ولم يدعهم لاتّخاذه إلها من دون الله ، بل دعاهم إلى الإقرار بربوبية الله الواحد القهار.

سؤال :

وقد يعترض البعض بأنّ المسيح عليه ‌السلام ـ كما جاء في الآية (١١٧) من سورة المائدة ـ إنّما يقصر شهادته على الزمن الذي كان هو موجودا فيه بين قومه ويتنصل عن الشهادة بالنسبة للأزمنة التي جاءت بعده ، وذلك بدلالة الآية التي جاءت على لسانه وهي تقول : {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} لكن الآية التي هي موضوع بحثنا الآن تدل على أنّ المسيح عليه ‌السلام يشهد على الجميع يوم القيامة ، سواء أولئك الذين كانوا في عصره وزمانه أو الذين لم يكونوا في ذلك الزمان.

الجواب :

والجواب على هذا الاعتراض هو أنّنا لو أمعنا النظر في مضمون الآيتين المذكورتين ، لرأينا أنّهما تدلان على أنّ الآية الأخيرة التي هي موضوع البحث ـ تتحدث عن الشهادة حول تبليغ الرسالة ونفي الألوهية عن المسيح عليه ‌السلام بينما الآية (١١٧) من سورة المائدة تشهد على أعمال أولئك القوم.

فالآية الأخيرة تذكر أنّ عيسى المسيح عليه ‌السلام سيشهد على جميع الذين نسبوا له الألوهية ، سواء من كانوا في زمانه أو من جاءوا بعد ذلك الزمان ، وأن المسيح عليه ‌السلام يؤكّد أنّه لم يدع هؤلاء القوم إلى مثل هذا الأمر أبدا ، بينما الآية (١١٧) من سورة المائدة تذكر على لسان المسيح عليه ‌السلام أنّه علاوة على الدعوة لرسالته بالأسلوب الصحيح ، فهو قد حال طيلة فترة بقائه بين قومه ـ دون انحرافهم ، إلّا أنّهم انحرفوا بعده ونسبوا له الألوهية في زمن لم يكن هو موجودا بينهم ، ليشهد على أعمالهم وليحول دون انحرافهم .

__________________

1. تفسير الأمثل ، ج3 ، ص 361-369 .

2. إن عبارة «فبما نقضهم» من ناحية الإعراب جار ومجرور ، ويجب أن يكون لها عامل محذوف قد يكون تقديره «لعناهم» أو جملة «حرمنا عليهم» الواردة في الآية (١٦٠) التالية ، وعلى هذا الأساس فإن ما ورد في هذا الإطار يكون بمثابة جملة معترضة ، تضفي في مثل هذه الحالة جمالا أكثر على الكلام القرآني البليغ.

3. لقد ترك الحواريون المسيح عليه ‌السلام في ذلك الوقت وهربوا كلهم ... (من إنجيل متى، الإصحاح ٢٦ الجملة ٥٧).

4. إنجيل متى ، الإصحاح ٣٧ ، الجملة ٦.

5. إنجيل متى ـ الإصحاح ٢٧ ، الجملتان ٤٦ و ٤٧.

6. لقد اقتبسنا عددا من القرائن المذكورة أعلاه من كتاب «بطل الصليب».

7. تفسير المنار ، الجزء السابع ، ص ٣٤.

8. الميزان ، الجزء الثّالث ، ص ٣٤٥.

9. مسند أحمد ، وصحيح البخاري ، وصحيح مسلم ، وسنن البيهقي ، كما جاء في تفسير الميزان .

10. تفسير البرهان ، الجزء الأوّل ، ص ٤٢٦.

 




وهو تفسير الآيات القرآنية على أساس الترتيب الزماني للآيات ، واعتبار الهجرة حدّاً زمنيّاً فاصلاً بين مرحلتين ، فكلُّ آيةٍ نزلت قبل الهجرة تُعتبر مكّيّة ، وكلّ آيةٍ نزلت بعد الهجرة فهي مدنيّة وإن كان مكان نزولها (مكّة) ، كالآيات التي نزلت على النبي حين كان في مكّة وقت الفتح ، فالمقياس هو الناحية الزمنيّة لا المكانيّة .

- المحكم هو الآيات التي معناها المقصود واضح لا يشتبه بالمعنى غير المقصود ، فيجب الايمان بمثل هذه الآيات والعمل بها.
- المتشابه هو الآيات التي لا تقصد ظواهرها ، ومعناها الحقيقي الذي يعبر عنه بـ«التأويل» لا يعلمه الا الله تعالى فيجب الايمان بمثل هذه الآيات ولكن لا يعمل بها.

النسخ في اللغة والقاموس هو بمعنى الإزالة والتغيير والتبديل والتحوير وابطال الشي‏ء ورفعه واقامة شي‏ء مقام شي‏ء، فيقال نسخت الشمس الظل : أي ازالته.
وتعريفه هو رفع حكم شرعي سابق بنص شرعي لا حق مع التراخي والزمان بينهما ، أي يكون بين الناسخ والمنسوخ زمن يكون المنسوخ ثابتا وملزما بحيث لو لم يكن النص الناسخ لاستمر العمل بالسابق وكان حكمه قائما .
وباختصار النسخ هو رفع الحكم الشرعي بخطاب قطعي للدلالة ومتأخر عنه أو هو بيان انتهاء امده والنسخ «جائز عقلا وواقع سمعا في شرائع ينسخ اللاحق منها السابق وفي شريعة واحدة» .