المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية

القرآن الكريم وعلومه
عدد المواضيع في هذا القسم 16642 موضوعاً
تأملات قرآنية
علوم القرآن
الإعجاز القرآني
قصص قرآنية
العقائد في القرآن
التفسير الجامع
آيات الأحكام

Untitled Document
أبحث عن شيء أخر

الأفعال التي تنصب مفعولين
23-12-2014
صيغ المبالغة
18-02-2015
الجملة الإنشائية وأقسامها
26-03-2015
اولاد الامام الحسين (عليه السلام)
3-04-2015
معاني صيغ الزيادة
17-02-2015
انواع التمور في العراق
27-5-2016


تفسير آية (8-20) من سورة البقرة  
  
5029   02:57 مساءً   التاريخ: 11-2-2017
المؤلف : اعداد : المرجع الإلكتروني للمعلوماتية
الكتاب أو المصدر : تفاسير الشيعة
الجزء والصفحة : .......
القسم : القرآن الكريم وعلومه / التفسير الجامع / حرف الباء / سورة البقرة /


قال تعالى : {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ (12) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ (13) وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (16) مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (17) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18) أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (19) يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [البقرة: 8 - 20].

 

تفسير مجمع البيان
- ذكر الطبرسي في تفسير  في هذه الآيات (1) :

بين الله تعالى حالهم (الكافرين)  فأخبر سبحانه أنهم يقولون صدقنا بالله و ما أنزل على رسوله من ذكر البعث فيظهرون كلمة الإيمان و كان قصدهم أن يطلعوا على أسرار المسلمين فينقلوها إلى الكفار أو تقريب الرسول إياهم كما كان يقرب المؤمنين ثم نفى عنهم الإيمان فقال { وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ}  و في هذا تكذيبهم فيما أخبروا عن اعتقادهم من الإيمان و الإقرار بالبعث فبين أن ما قالوه بلسانهم مخالف لما في قلوبهم و هذا يدل على فساد قول من يقول الإيمان مجرد القول .

معنى قوله {يخادعون الله} أي يعملون عمل المخادع لأن الله تعالى لا يصح أن يخادعه من يعرفه و يعلم أنه لا يخفى عليه خافية و هذا كما تقول لمن يزين لنفسه ما يشوبه بالرياء في معاملته ما أجهله يخادع الله و هو أعلم به من نفسه أي يعمل عمل المخادع و هذا يكون من العارف و غير العارف و قيل المعنى يخادعون رسول الله لأن طاعته طاعة الله و معصيته معصية الله فحذف المضاف و أقيم المضاف إليه مقامه و هذا كقوله تعالى و إن يريدوا أن يخدعوك و المفاعلة قد تقع من واحد كقولهم عافاه الله و عاقبت اللص و طارقت النعل فكذلك يخادعون إنما هو من واحد فمعنى يخادعون يظهرون غير ما في نفوسهم و قوله « والذين آمنوا » أي و يخادعون المؤمنين بقولهم إذا رأوهم قالوا آمنا و هم غير مؤمنين أو بمجالستهم و مخالطتهم إياهم حتى يفشوا إليهم أسرارهم فينقلوها إلى أعدائهم و التقية أيضا تسمى خداعا فكأنهم لما أظهروا الإسلام و أبطنوا الكفر صارت تقيتهم خداعا من حيث أنهم نجوا بها من إجراء حكم الكفر عليهم و معنى قوله {وما يخدعون إلا أنفسهم } أنهم و إن كانوا يخادعون المؤمنين في الظاهر فهم يخادعون أنفسهم لأنهم يظهرون لها بذلك أنهم يعطونها ما تمنت و هم يوردونها به العذاب الشديد فوبال خداعهم راجع إلى أنفسهم { و ما يشعرون} أي ما يعلمون أنه يرجع عليهم بالعذاب فهم في الحقيقة إنما خدعوا أنفسهم كما لو قاتل إنسان غيره فقتل نفسه جاز أن يقال أنه قاتل فلانا و لم يقتل إلا نفسه و قوله {وما يشعرون } يدل على بطلان قول أصحاب المعارف لأنه تعالى أخبر عنهم بالنفاق و بأنهم لا يعلمون ذلك .

{ في قلوبهم مرض} المراد بالمرض في الآية الشك و النفاق بلا خلاف و إنما سمي الشك في الدين مرضا لأن المرض هو الخروج عن حد الاعتدال فالبدن ما لم تصبه آفة يكون صحيحا سويا و كذلك القلب ما لم تصبه آفة من الشك يكون صحيحا و قيل أصل المرض الفتور فهو في القلب فتوره عن الحق كما أنه في البدن فتور الأعضاء و تقدير الآية في اعتقاد قلوبهم الذي يعتقدونه في الله و رسوله مرض أي شك حذف المضاف و أقيم المضاف إليه مقامه و قوله {فزادهم الله مرضا } قيل فيه وجوه ( أحدها ) أن معناه ازدادوا شكا عند ما زاد الله من البيان بالآيات و الحجج إلا أنه لما حصل ذلك عند فعله نسب إليه كقوله تعالى في قصة نوح (عليه السلام) « لم يزدهم دعائي إلا فرارا » لما ازدادوا فرارا عند دعاء نوح (عليه السلام) نسب إليه و كذلك قوله {وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ } [التوبة: 125] الآيات لم تزدهم رجسا و إنما ازدادوا رجسا عندها ( وثانيها ) ما قاله أبو علي الجبائي أنه أراد في قلوبهم غم بنزول النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) المدينة و بتمكنه فيها و ظهور المسلمين و قوتهم فزادهم الله غما بما زاده من التمكين و القوة و أمده به من التأييد و النصرة ( و ثالثها ) ما قاله السدي إن معناه زادتهم عداوة الله مرضا و هذا في حذف المضاف مثل قوله تعالى {فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر: 22] أي من ترك ذكر الله ( و رابعها ) أن المراد في قلوبهم حزن بنزول القرآن بفضائحهم و مخازيهم فزادهم الله مرضا بأن زاد في إظهار مقابحهم و مساويهم و الإخبار عن خبث سرائرهم و سوء ضمائرهم و سمي الغم مرضا لأنه يضيق الصدر كما يضيقه المرض ( و خامسها ) ما قاله أبو مسلم الأصفهاني أن ذلك على سبيل الدعاء عليهم كقوله تعالى { ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ } [التوبة: 127] فكأنه دعاء عليهم بأن يخليهم الله و ما اختاروه و لا يعطيهم من زيادة التوفيق و الألطاف ما يعطي المؤمنين فيكون خذلانا لهم و هو في الحقيقة إخبار عن خذلان الله إياهم و إن خرج في اللفظ مخرج الدعاء عليهم ثم قال {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [البقرة: 10] و هو عذاب النار {بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [البقرة: 10] أي بتكذيبهم الله و رسوله فيما جاء به من الدين أو بكذبهم في قولهم {آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة: 8] .

المراد {وإذا قيل} للمنافقين{ لا تفسدوا في الأرض} بعمل المعاصي و صد الناس عن الإيمان على ما روي عن ابن عباس أو بممالأة الكفار فإن فيه توهين الإسلام على ما قاله أبو علي أو بتغيير الملة و تحريف الكتاب على ما قاله الضحاك { قالوا إنما نحن مصلحون} و هو يحتمل أمرين أحدهما أن الذي يسمونه فسادا هو عندنا صلاح لأنا إنما نفعل ذلك كي نسلم من الفريقين و الآخر أنهم جحدوا ذلك و قالوا أنا لا نعمل بالمعاصي و لا نمالىء الكفار و لا نحرف الكتاب و كان ذلك نفاقا منهم كما قالوا{ آمنا بالله} و لم يؤمنوا. ثم قال إلا أنهم أي اعلموا أن هؤلاء المنافقين الذين يعدون الفساد صلاحا {هم المفسدون} وهذا تكذيب من الله تعالى لهم {ولكن لا يشعرون} أي لا يعلمون أن ما يفعلونه فساد و ليس بصلاح و لو علموا ذلك لرجي صلاحهم و قيل لا يعلمون ما يستحقونه من العقاب و هذه الآية تدل على بطلان مذهب أصحاب المعارف لقوله {لا يعلمون} و إنما جاز تكليفهم و إن لم يشعروا أنهم على ضلال لأن لهم طريقا إلى العلم بذلك .

المراد بالآية {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ} [البقرة: 13] وإذا قيل للمنافقين صدقوا بمحمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) و ما أنزل عليه كما صدقه أصحابه و قيل كما صدق عبد الله بن سلام و من آمن معه من اليهود قالوا أ نصدق كما صدق الجهال ثم كذبهم الله تعالى و حكم عليهم بأنهم هم الجهال في الحقيقة لأن الجاهل إنما يسمى سفيها لأنه يضيع من حيث يرى أنه يحفظ فكذلك المنافق يعصي ربه من حيث يظن أنه يطيعه و يكفر به من حيث يظن أنه يؤمن به .

{وإذا لقوا الذين آمنوا} يعني أن المنافقين إذا رأوا المؤمنين { قالوا آمنا}  أي صدقنا نحن بما أنزل على محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) كما صدقتم أنتم و { إذا خلوا إلى شياطينهم} قيل رؤساؤهم من الكفار عن ابن عباس و قيل هم اليهود الذين أمروهم بالتكذيب و روي عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) أنهم كهانهم {قالوا إنا معكم} أي على دينكم {إنما نحن مستهزءون} أي نستهزىء بأصحاب محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) و نسخر بهم في قولنا آمنا .

{اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } قيل في معنى الآية و تأويلها وجوه أحدها أن يكون معنى {الله يستهزىء بهم} يجازيهم على استهزائهم و العرب تسمي الجزاء على الفعل باسمه و في التنزيل و جزاء سيئة سيئة مثلها و إن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به و قال عمرو بن كلثوم :

ألا لا يجهلن أحد علينا  *** فنجهل فوق جهل الجاهلينا

 

وإنما جاز ذلك لأن حكم الجزاء أن يكون على المساواة (وثانيها) أن يكون معنى استهزاء الله تعالى بهم تخطئته إياهم و تجهيله لهم في إقامتهم على الكفر و إصرارهم على الضلال و العرب تقيم الشيء مقام ما يقاربه في معناه قال الشاعر :

إن دهرا يلف شملي بجمل *** لزمان يهم بالإحسان

وقال آخر :

كم أناس في نعيم عمروا *** في ذري ملك تعالى فبسق

سكت الدهر زمانا عنهم *** ثم أبكاهم دما حين نطق

 

والدهر لا يوصف بالسكوت و النطق و الهم و إنما ذكر ذلك على الاستعارة و التشبيه (وثالثها ) أن يكون معنى الاستهزاء المضاف إليه تعالى أن يستدرجهم و يهلكهم من حيث لا يعلمون و قد روي عن ابن عباس أنه قال في معنى الاستدراج أنهم كلما أحدثوا خطيئة جدد الله لهم نعمة و إنما سمي هذا الفعل استهزاء لأن ذلك في الظاهر نعمة و المراد به استدراجهم إلى الهلاك و العقاب الذي استحقوه بما تقدم من كفرهم (ورابعها ) أن معنى استهزائه بهم أنه جعل لهم بما أظهروه من موافقة أهل الإيمان ظاهر أحكامهم من الموارثة و المناكحة و المدافنة و غير ذلك من الأحكام و إن كان قد أعد لهم في الآخرة أليم العقاب بما أبطنوه من النفاق فهو سبحانه كالمستهزىء بهم من حيث جعل لهم أحكام المؤمنين ظاهرا ثم ميزهم منهم في الآخرة ( وخامسها ) ما روي عن ابن عباس أنه قال يفتح لهم و هم في النار باب من الجنة فيقبلون من النار إليه مسرعين حتى إذا انتهوا إليه سد عليهم و فتح لهم باب آخر في موضع آخر فيقبلون من النار إليه مسرعين حتى إذا انتهوا إليه سد عليهم فيضحك المؤمنون منهم فلذلك قال الله عز و جل : {فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ} [المطففين: 34] و هذه الوجوه الذي ذكرناها يمكن أن تذكر في قوله تعالى : {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ } [الأنفال: 30] و {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ } [النساء: 142] و أما قوله {وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } [البقرة: 15] ففيه وجهان : ( أحدهما ) أن يريد أن يملي لهم ليؤمنوا و هم مع ذلك متمسكون بطغيانهم و عمههم و الآخر أنه يريد أن يتركهم من فوائده و منحه التي يؤتيها المؤمنين ثوابا لهم و يمنعها الكافرين عقابا لهم كشرح الصدر و تنوير القلب فهم في طغيانهم أي كفرهم و ضلالهم يعمهون أي يتحيرون لأنهم قد أعرضوا عن الحق فتحيروا و ترددوا .

وأشار إلى من تقدم ذكرهم من المنافقين فقال : {أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى} قال ابن عباس أخذوا الضلالة و تركوا الهدى و معناه استبدلوا الكفر بالإيمان و متى قيل كيف قال ذلك و إنما كانوا منافقين و لم يتقدم نفاقهم إيمانا فنقول للعلماء فيه وجوه ( أحدها ) أن المراد باشتروا استحبوا و اختاروا لأن كل مشتر مختار ما في يدي صاحبه على ما في يديه عن قتادة ( و ثانيها ) أنهم ولدوا على الفطرة كما جاء في الخبر فتركوا ذلك إلى الكفر فكأنهم استبدلوه به ( و ثالثها ) أنهم استبدلوا بالإيمان الذي كانوا عليه قبل البعثة كفرا لأنهم كانوا يبشرون بمحمد و يؤمنون به (صلى الله عليه وآله وسلّم) فلما بعث كفروا به فكأنهم استبدلوا الكفر بالإيمان عن الكلبي و مقاتل و قوله {فما ربحت تجارتهم} أي خسروا في استبدالهم الكفر بالإيمان و العذاب بالثواب و قوله : {وما كانوا مهتدين} أي مصيبين في تجارتهم كأصحاب محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) و قيل أراد سبحانه أن ينفي عنهم الربح و الهداية فإن التاجر قد يخسر و لا يربح و يكون على هدى فإن قيل كيف قال {فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ } [البقرة: 16] في موضع ذهبت فيه رءوس أموالهم فالجواب أنه ذكر الضلالة و الهدى فكأنه قال طلبوا الربح فلم يربحوا و هلكوا و المعنى فيه أنه ذهبت رءوس أموالهم و يحتمل أن يكون ذكر ذلك على التقابل و هو أن الذين اشتروا الضلالة بالهدى لم يربحوا كما أن الذين اشتروا الهدى بالضلالة ربحوا .

{مثلهم}  أي مثل هؤلاء المنافقين لما أظهروا الإيمان و أبطنوا الكفر {كمثل الذي استوقد} أي أوقد نارا أو كمثل الذي طلب الضياء بإيقاد النار في ليلة مظلمة فاستضاء بها و استدفأ و رأى ما حوله فاتقى ما يحذر و يخاف و أمن فبينا هو كذلك إذا طفئت ناره فبقي مظلما خائفا متحيرا كذلك المنافقون لما أظهروا كلمة الإيمان و استناروا بنورها و اعتزوا بعزها فناكحوا المسلمين و وارثوهم و أمنوا على أموالهم و أولادهم فلما ماتوا عادوا إلى الظلمة و الخوف و بقوا في العذاب و ذلك معنى قوله { فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ } و هذا هو المروي عن ابن عباس و قتادة و الضحاك و السدي و كان يجب في حق النظم أن يكون اللفظ فلما أضاءت ما حوله أطفأ الله ناره ليشاكل جواب لما معنى هذه القضية و لكن لما كان إطفاء هذه النار مثلا لإذهاب نورهم أقيم إذهاب النور مقام الإطفاء و حذف جواب لما إيجازا و اختصارا لدلالة الكلام عليه كما قال أبو ذؤيب :

دعاني إليها القلب إني لأمره (2) *** مطيع فما أدري أ رشد طلابها.

 

وتقديره أرشد أم غي طلابها فحذف للإيجاز و معنى إذهاب الله نورهم هو أن الله تعالى يسلبهم ما أعطوا من النور مع المؤمنين في الآخرة و ذلك قوله تعالى فيما أخبر عنهم {انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا } [الحديد: 13] و قيل في معنى إذهاب نور المنافقين وجه آخر و هو اطلاع الله المؤمنين على كفرهم فقد ذهب منهم نور الإسلام بما أظهر الله من كفرهم و قال سعيد بن جبير و محمد بن كعب و عطا الآية نزلت في اليهود و انتظارهم خروج النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) و إيمانهم به و استفتاحهم به على مشركي العرب فلما خرج كفروا به و ذلك أن قريظة و النضير و بني قينقاع قدموا من الشام إلى يثرب حين انقطعت النبوة من بني إسرائيل و أفضت إلى العرب فدخلوا المدينة يشهدون لمحمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) بالنبوة وأن أمته خير الأمم و كان يغشاهم رجل من بني إسرائيل يقال له عبد الله بن هيبان قبل أن يوحى إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) كل سنة فيحضهم على طاعة الله عز و جل و إقامة التوراة و الإيمان بمحمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) و يقول إذا خرج فلا تفرقوا عليه و انصروه و قد كنت أطمع أن أدركه ثم مات قبل خروج النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) فقبلوا منه ثم لما خرج النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) كفروا به فضرب الله لهم هذا المثل .

قال قتادة {صم} لا يسمعون الحق {بكم} لا ينطقون به {عمي} لا يبصرونه فهم لا يرجعون عن ضلالتهم و لا يتوبون و إنما شبههم الله بالصم لأنهم لم يحسنوا الإصغاء إلى أدلة الله تعالى فكأنهم صم و إذا لم يقروا بالله و برسوله فكأنهم بكم و إذا لم ينظروا في ملكوت السماوات و الأرض فكأنهم عمي لما لم تصل إليهم منفعة هذه الأعضاء فكأنهم ليس لهم هذه الأعضاء .

و هذا يدل على أن معنى الختم و الطبع ليس على وجه الحيلولة بينهم و بين الإيمان لأنه جعل الفهم بالكفر و استثقالهم للحق بمنزلة الصم و البكم و العمي مع صحة حواسهم و كذلك قوله طبع الله على قلوبهم و أضلهم و أصمهم و أعمى أبصارهم و أزاغ الله قلوبهم فإن جميع ذلك إخبار عما أحدثوه عند امتحان الله إياهم و أمره لهم بالطاعة و الإيمان لا أنه فعل بهم ما منعهم به عن الإيمان و هذا كما قيل في المثل حبك الشيء يعمي و يصم قال مسكين الدارمي :

أعمى إذا ما جارتي خرجت *** حتى يواري جارتي الخدر

و تصم عما كان بينهما *** أذني و ما في سمعها وقر

و في التنزيل {وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ } [الأعراف: 198] و قوله {فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ } [البقرة: 18] يحتمل أمرين أحدهما أنه على الذم و الاستبطاء عن ابن عباس و الثاني أنهم لا يرجعون إلى الإسلام عن ابن مسعود .

{أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (19) يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }  

مثل هؤلاء المنافقين في جهلهم و شدة تحيرهم {كصيب } أي كأصحاب مطر {من السماء} أي منزل من السماء « فيه » أي في هذا المطر أو في السماء لأن المراد بالسماء السحاب فهو مذكر {ظلمات} لأن السحاب يغشي الشمس بالنهار و النجوم بالليل فيظلم الجو « و رعد » قيل إن الرعد صوت ملك يزجر السحاب و قيل الرعد هو ملك موكل بالسحاب يسبح روي ذلك عن ابن عباس و مجاهد و هو المروي عن أئمتنا (عليهم السلام) و قيل هو ريح تختنق تحت السماء رواه أبو الجلد عن ابن عباس و قيل هو صوت اصطكاك أجرام السحاب و من قال أنه ملك قدر فيه صوت كأنه قال فيه ظلمات و صوت رعد لأنه روي أنه يزعق الراعي بغنمه و قوله {و برق} قيل أنه مخاريق الملائكة من حديد تضرب به السحاب فتنقدح عنه النار عن علي (عليه السلام) و قيل أنه سوط من نور يزجر به الملك السحاب عن ابن عباس و قيل هو مصع ملك من مجاهد و المصاع المجالدة بالسيوف و غيرها قال الأعشى :

إذا هن نازلن أقرانهن *** كان المصاع بما في الجؤن

وقيل أنه نار تنقدح من اصطكاك الأجرام و في تأويل الآية و تشبيه المثل أقوال ( أحدها ) أنه شبه المطر المنزل من السماء بالقرآن و ما فيه من الظلمات بما في القرآن من الابتلاء و ما فيه من الرعد بما في القرآن من الزجر و ما فيه من البرق بما فيه من البيان و ما فيه من الصواعق بما في القرآن من الوعيد آجلا و الدعاء إلى الجهاد عاجلا عن ابن عباس ( و ثانيها ) أنه مثل للدنيا شبه ما فيها من الشدة و الرخاء بالصيب الذي يجمع نفعا و ضررا و أن المنافق يدفع عاجل الضرر و لا يطلب آجل النفع ( و ثالثها ) أنه مثل للإسلام لأن فيه الحياة كما في الغيث الحياة و شبه ما فيه من الظلمات بما في إسلامهم من إبطان الكفر و ما فيه من الرعد بما في الإسلام من فرض الجهاد و خوف القتل و بما يخافونه من وعيد الآخرة لشكهم في دينهم و ما فيه من البرق بما في إظهار الإسلام من حقن دمائهم و مناكحتهم و موارثتهم و ما فيه من الصواعق بما في الإسلام من الزواجر بالعقاب في العاجل و الآجل و يقوي ذلك ما روي عن الحسن أنه قال مثل إسلام المنافق كصيب هذا وصفه ( و رابعها ) ما روي عن ابن مسعود و جماعة من الصحابة أن رجلين من المنافقين من أهل المدينة هربا من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) فأصابهما المطر الذي ذكره الله تعالى فيه رعد شديد و صواعق و برق و كلما أضاء لهما الصواعق جعلا أصابعهما في آذانهما مخافة أن تدخل الصواعق في آذانهما فتقتلهما و إذا لمع البرق مشيا في ضوئه و إذا لم يلمع لم يبصرا فأقاما فجعلا يقولان يا ليتنا قد أصبحنا فنأتي محمدا فنضع أيدينا في يديه فأصبحا فأتياه فأسلما و حسن إسلامهما فضرب الله شأن هذين الرجلين مثلا لمنافقي المدينة و أنهم إذا حضروا النبي جعلوا أصابعهم في آذانهم فرقا من كلام النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) أن ينزل فيهم شيء كما كان ذانك الرجلان يجعلان أصابعهما في آذانهما و كلما أضاء لهم مشوا فيه يعني شيء كما كان ذانك الرجلان يجعلان أصابعهما في آذانهما و كلما أضاء لهم مشوا فيه يعني إذا كثرت أموالهم و أصابوا غنيمة أو فتحا مشوا فيه و قالوا دين محمد صحيح و « إذا أظلم عليهم قاموا » يعني إذا هلكت أموالهم و أصابهم البلاء قالوا هذا من أجل دين محمد فارتدوا كما قام ذانك الرجلان إذا أظلم البرق عليهما و قوله {وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ} يحتمل وجوها .

 ( أحدها ) أنه عالم بهم فيعلم سرائرهم و يطلع نبيه على ضمائرهم عن الأصم ( و ثانيها ) أنه قادر عليهم لا يستطيعون الخروج عن قدرته قال الشاعر :

أحطنا بهم حتى إذا ما تيقنوا *** بما قد رأوا مالوا جميعا إلى السلم

أي قدرنا عليهم ( و ثالثها ) ما روي عن مجاهد أنه جامعهم يوم القيامة يقال أحاط بكذا إذا لم يشذ منه شيء و منه أحاط بكل شيء علما أي لم يشذ عن علمه شيء (ورابعها ) أنه مهلكهم يقال أحيط بفلان فهو محاط به إذا دنا هلاكه قال سبحانه و أحيط بثمره أي أصابه ما أهلكه و قوله {إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ} [يوسف: 66] معناه أن تهلكوا جميعا .

{يكاد البرق يخطف أبصارهم}  المراد يكاد ما في القرآن من الحجج النيرة يخطف قلوبهم من شدة إزعاجها إلى النظر في أمور دينهم كما أن البرق يكاد يخطف أبصار أولئك {كلما أضاء لهم مشوا فيه}  لاهتدائهم إلى الطريق بضوء البرق كذلك المنافقون كلما دعوا إلى خير و غنيمة أسرعوا و إذا وردت شدة على المسلمين تحيروا لكفرهم و وقفوا كما وقف أولئك في الظلمات متحيرين و قيل إذا آمنوا صار الإيمان لهم نورا فإذا ماتوا عادوا إلى ظلمة العقاب و قيل هم اليهود لما نصر المسلمون ببدر قالوا هذا الذي بشر به موسى فلما نكبوا بأحد وقفوا و شكوا و قوله {و لو شاء الله لذهب بسمعهم و أبصارهم} إنما خص السمع و البصر بالذكر لما جرى من ذكرهما في الآيتين فقال {و لو شاء الله } أذهبهما من المنافقين عقوبة لهم على نفاقهم و كفرهم و هذا وعيد لهم بالعقاب كما قال في الآية الأولى {والله محيط بالكافرين} و قوله { بسمعهم}  مصدر يدل على الجمع أو واحد موضوع للجمع كقول الشاعر :

كلوا في بعض بطنكم تعيشوا *** فإن زمانكم زمن خمص

 أي بطونكم و المعنى و لو شاء الله لأظهر على كفرهم فأهلكهم و دمر عليهم لأنه على كل شيء قدير و هو مبالغة القادر و قيل إن قوله سبحانه { إن الله على كل شيء قدير} عام فهو قادر على الأشياء كلها على ثلاثة أوجه على المعدومات بأن يوجدها و على الموجودات بأن يفنيها و على مقدور غيره بأن يقدر عليه و يمنع منه و قيل هو خاص في مقدوراته دون مقدور غيره فإن مقدورا واحدا بين قادرين لا يمكن أن يكون لأنه يؤدي إلى أن يكون الشيء الواحد موجودا معدوما و لفظة كل قد يستعمل على غير عموم نحو قوله تعالى {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا } [الأحقاف: 25].

__________________________

1- مجمع البيان ، الطبرسي ، ج1 ، ص98-120.

2- وفي جملة من النسخ  : ((عصاني اليها القلب اني لأمرها)).

تفسير الكاشف
 - ذكر محمد جواد مغنية في تفسير  في هذه الآيات (1) :

ذكر سبحانه المؤمنين أولا ، وهم الذين أخلصوا للحق قلبا وقالبا ، وثنّى بالكافرين الذين محضوا الكفر باطنا وظاهرا ، والآن جاء دور المنافقين الذين تظاهروا بالإيمان ، وما هم بمؤمنين ، وكفر هؤلاء أخبث الكفر ، وأبغضه إلى اللَّه ، ولذا أطنب بأوصافهم ، وما يؤول إليه حالهم بثلاث عشرة آية بينما اقتصر في وصف الكافرين على آيتين ، بل أنزل سورة خاصة بالمنافقين . . وهذه الآيات واضحة الدلالة ، لا تقبل التأويل ، ولا تحتاج إلى تفسير ، تماما كقوله سبحانه : {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة: 282] .

من هو المنافق ؟

كل منا يريد أن يكون شيئا مذكورا عند الناس ، وعلى الأقل ان لا ينتقدوه في تصرفاته ، ولا يتناولوه بالذم في ألسنتهم ، بخاصة إذا كان نجاحه في عيشه ومهنته يتوقف على ثقة الناس به . . ومن أجل هذا ينبغي الشك والريب في دخيلة كل انسان من هذا النوع ، وان لم يبد من أمره ما يريب . . انه معرّض دائما للخداع والرياء حرصا على مصلحته ، ولو لا اطلاق الدليل لاستثنيته من قاعدة « حمل فعل المسلم على الصحة » (2) .

ومهما يكن ، فان كل من يؤثر الاستخفاء من الناس ، ويتظاهر بما ليس فيه ، ويخشى أن ينكشف الستر عن حقيقته فهو كذاب منافق ، ومراء مخادع ،

حتى ولو حاز على ثقة الناس أجمعين ، بل ان هذه الثقة تضاعف من جريمته ، وتكون وبالا عليه عند اللَّه ، والناس أيضا إذا انكشفت عنه حجب الخداع .

وتسأل : إذا اعتقد الناس ان فعلا من الأفعال محرم ، واعتقد شخص بينه وبين اللَّه انه مباح لا ضمير فيه ، وتعاطاه في الخفاء خوفا من كلام الناس ، فهل يعد منافقا ومرائيا ، ثم هل يجب عليه أن يبين لهم ما يعتقد ، ويكون مسؤولا لو سكت عن خطأهم ؟ .

الجواب : لا بأس عليه في فعل ما يعتقد بإباحته ، ولا يعد من المنافقين والمراءين ما دام مرتاح الضمير ، لأن تكليفه الخاص يرتبط بوجدانه ، وليس بوجدان الناس . . بل يعذر في الخطأ ، إذ لا جرم ولا عيب في الخطأ ، أما بيان الحقيقة فيجب عليه من باب الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، لأن المفروض انه خطأ في معرفة الحكم ، لا في تشخيص الموضوع (3) .

والآيات التي نحن بصددها تحدثت عن المنافقين الذين قامت الحجة عليهم بنبوة محمد ( صلى الله عليه واله وسلم ) ، واثبات الحق ، ومع ذلك أصروا على الإنكار عنادا وتمردا ، كما قامت على المشركين الذين عاندوا وحاربوا ، والفرق ان المشركين أعلنوا معاندتهم للحق ، وقالوا بجرأة وصراحة : لا نتبع الحق لأن الفقراء اتبعوه واعتنقوه :

{قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ } [الشعراء: 111]. أما المنافقون فإنهم رفضوا الحق لهذا السبب أو لمثيله ، ولكنهم آثروا العناد ، وأظهروا التسليم جبنا وخداعا فكانوا أسوأ حالا من الكافرين ، حيث لاءم هؤلاء بين ظاهرهم وباطنهم ، وصدّقوا في إعلان الكفر والعناد ، تماما كمن يشرب الخمر على قارعة الطريق ، وخالف المنافقون بين ما أضمروا وأظهروا ، كالسفاح يلبس مسوح القديسين .

ولا دلالة لهذا الخداع إلا ان المنافق لا وازع له من دين أو عقل ، ولا من حق أو عدل ، ولا يتحرك ضميره لشيء ما دام بعيدا عن أعين الناس ، ومن كان هذا شأنه فمن الصعب ان يؤوب إلى خير . ولذا نعت اللَّه المنافقين في هذه الآيات بالخديعة والغفلة ومرض القلب والسفه والغرور ومتابعة الهوى والخبث والإصرار على الضلالة . . ونعتهم الناس بالطابور الخامس ، وبالعملاء الأدنياء ، وبالمفسدين والمراءين ، وهم موجودون في هذا العصر ، كما وجدوا في عهد الرسول وقبله ، وسيوجدون في الأجيال الآتية ، ولكنهم ملعونون أينما وجدوا ، حتى وهم في قبورهم ، وان نجحوا فإلى حين ، أما نجاح الصادقين المخلصين فإلى آخر يوم .

ومن طريف ما قرأته عن المنافقين قول محي الدين المعروف بابن عربي في الجزء الرابع من الفتوحات المكية : « ما أحسن ما قال تعالى : { يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ} فإنهم مجبولون على النسيان ، ولا يستخفون من اللَّه الذي لا يضل ولا ينسى ، وكان الأولى لو صح عكس القضية » .

ومعنى هذه العبارة ان المنافق لو تدبر أمره ، وكان على شيء من الفكر والعقل لوجب ان يخفي جرائمه ونقائصه عن اللَّه - لو أمكن - لا عن الناس ، لأن الناس لا يملكون له نفعا ولا ضرا ، والذي في يده النفع والضر هو وحده . .

هذا ، إلى أن الناس ينسون ما يرونه من السيئات والموبقات ، فيتكلمون على صاحبها ، وينالون منه بعض الوقت ، ثم ينسون ويسكتون ، كأن لم يكن شيء . .

وقد شاهدنا الكثير ممن ارتكب العظائم ، وافتضح بها لدى الملأ ، حتى توارى من سوء فعلته . . ثم ظهر للناس ، وجالسوه ، وتعاملوا معه ، كأي بريء ونزيه . . وربما منحوه ثقتهم ، واختاروه للمناصب العامة ، بل قد يتولى منصبا دينيا مقدسا لا يتولاه الا نبي أو وصي نبي . وبالإضافة إلى ان الناس ينسون فإنهم يمدحون ويذمون تبعا للغرض والهوى ، فيجدر بالعاقل أن يخاف اللَّه ، ولا يخاف الناس ، وان يكون رقيبا على نفسه ، فيجنبها ما يستحي منه ، ولا يحب أن يعرف به ، ويؤاخذ عليه . ولا أحد أجبن ممن يعمل في السر ما يستحي منه في العلانية .

________________________

1- الكاشف ، محمد جواد مغنية ، ج1 ،ص55-56.

2- لقد تسالم الفقهاء على قاعدة ، اسموها حمل فعل المسلم على الصحة ، ومثالها : ان ترى شخصا يشرب مائعا ، ولا تدري : هل هو حلال او حرام ، او علمت بانه حرام ، وشككت : هل يشرب به للتداوي، او جاهلا بالتحريم ، او يشربه من غير عذر ؟ .. فعليك ان تحمله على الصحة ، حتى يثبت العكس.

3- اذا رأيت انسانا يأكل الخنزير –مثلا- وهو يعلم بأنه حرام ، ولكن لا يعلم بحكمه وتحريمه فعليك ان ترشده الى حكم الله ، وتبين له انه حرام ، اما اذا كان يعلم بالحكم ، ولكنه يعتقد ان هذا اللحم هو لحم غنم فلا عليك البيان ، لانه معذور ، والاول يسمى جاهلا بالحكم والثاني جاهلا .

 

تفسير الميزان
- ذكر الطباطبائي في تفسير  في هذه الآيات (1) :

قوله تعالى: { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ...} [البقرة: 8، 20] إلى آخر الآيات، الخدعة نوع من المكر، والشيطان هو الشرير و لذلك سمي إبليس شيطانا.

و في الآيات بيان حال المنافقين، و سيجيء إن شاء الله تفصيل القول فيهم في سورة المنافقين و غيرها.

وقوله تعالى: {مثلهم كمثل الذي استوقد نارا} "إلخ" مثل يمثل به حالهم، أنهم كالذي وقع في ظلمة عمياء لا يتميز فيها خير من شر و لا نافع من ضار فتسبب لرفعها بسبب من أسباب الاستضاءة كنار يوقدها فيبصر بها ما حولها فلما توقدت و أضاءت ما حولها أخمدها الله بسبب من الأسباب كريح أو مطر أو نحوهما فبقي فيما كان عليه من الظلمة و تورط بين ظلمتين: ظلمة كان فيها و ظلمة الحيرة و بطلان السبب.

وهذه حال المنافق، يظهر الإيمان فيستفيد بعض فوائد الدين باشتراكه مع المؤمنين في مواريثهم و مناكحهم و غيرهما حتى إذا حان حين الموت و هو الحين الذي فيه تمام الاستفادة من الإيمان ذهب الله بنوره و أبطل ما عمله و تركه في ظلمة لا يدرك فيها شيئا و يقع بين الظلمة الأصلية و ما أوجده من الظلمة بفعاله.

وقوله تعالى: {أو كصيب من السماء} إلخ، الصيب هو المطر الغزير، و البرق معروف ، و الرعد هو الصوت الحادث من السحاب عند الإبراق، و الصاعقة هي النازلة من البروق.

وهذا مثل ثان يمثل به حال المنافقين في إظهارهم الإيمان، أنهم كالذي أخذه صيب السماء و معه ظلمة تسلب عنه الأبصار و التمييز، فالصيب يضطره إلى الفرار و التخلص، و الظلمة تمنعه ذلك ، والمهولات من الرعد و الصاعقة محيطة به فلا يجد مناصا من أن يستفيد بالبرق و ضوئه و هو غير دائم و لا باق متصل كلما أضاء له مشى و إذا أظلم عليه قام.

وهذه حال المنافق فهو لا يحب الإيمان و لا يجد بدا من إظهاره، و لعدم المواطاة بين قلبه و لسانه لا يستضيء له طريقه تمام الاستضاءة، فلا يزال يخبط خبطا بعد خبط و يعثر عثرة بعد عثرة فيمشي قليلا و يقف قليلا و يفضحه الله بذلك و لو شاء الله لذهب بسمعه و بصره فيفتضح من أول يوم.

________________________

1- الميزان ، الطباطبائي ، ج1 ، ص 51.

تفسير الامثل
- ذكر الشيخ ناصر مكارم الشيرازي في تفسير  في هذه الآيات (1) :

هذه الآيات تبين ـ باختصار وعمق ـ الخصائص الروحية للمنافقين وأعمالهم.

الإسلام واجه في عصر انبثاق الرسالة مجموعة لم تكن تملك الإخلاص اللازم للإيمان، ولا القدرة اللازمة للمعارضة.

هذه المجموعة المذبذبة المصابة بازدواج الشخصية توغّلت في أعماق المسلمين، وشكّلت خطراً كبيراً على الإسلام والمسلمين. كان تشخيصهم صعباً لأنهم متظاهرون بالإسلام، غير أن القرآن بيّن بدقة مواصفاتهم وأعطى للمسلمين في كل القرون والأعصار معايير حيّة لمعرفتهم.

الآيات المذكورة قبلها بيّنت في مطلعها الخط العام للنفاق والمنافقين: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَاهُمْ بِمُؤْمِنينَ}.

هؤلاء يعتبرون عملهم المذبذب هذا نوعاً من الشطارة والدهاء {يُخَادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا} بينما لا يشعر هؤلاء أنهم يسيئون بعملهم هذا إلى أنفسهم، ويبدّدون بانحرافهم هذا طاقاتهم، ولا يجنون من ذلك إلاّ الخسران والعذاب الإلهي. {وَمَا يَخْدَعُونَ إلاّ أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ}.

في الآية التالية يبيّن القرآن أن النفاق في حقيقته نوع من المرض. الإنسان السالم له وجه واحد فقط، وفي ذاته انسجام تام بين الروح والجسد، لأن الظاهر والباطن، والروح والجسم، يكمل أحدهما الآخر. إذا كان الفرد مؤمناً فالإيمان يتجلى في كل وجوده، وإذا كان منحرفاً فظاهره وباطنه يدلان على انحرافه.

وازدواجية الجسم والروح مرض آخر وعلّة إضافية. إنه نوع من التضاد والإنفصال في الشخصية الإنسانية: {في قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ}.

وبما أنّ سنّة الله في الكون اقتضت أن يتيسّر الطريق لكل سالك، وأن تتوفر سبل التقدّم لكل من يجهد في وضع قدمه على طريق. وبعبارة اُخرى: إن تكريس أعمال الإنسان وأفكاره في خط معين، تدفعه نحو الإنغماس والثبات في ذلك الخط فقد أضاف القرآن قوله: {فَزَادَهُمُ اللهُ مَرَضاً}.

وبما أن الكذب رأس مال المنافقين، يبرّرون به ما في حياته من متناقضات، ولهذا أشار القرآن في ختام الآية إلى هذه الحقيقة: {وَلَهُمْ عَذَابٌ ألِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ}.

ثم تستعرض الآيات خصائص المنافقين، وتذكر أوّلا أنهم يتشدّقون بالإصلاح، بينما هم يتحركون على خط التخريب والفساد: {وَإِذَا قَيِلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ، قَالُوا: إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ. أَلاّ إِنَّهُمْ هُمُ المُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لاَ يَشْعُرُونَ}.

ذكرنا سابقاً أنّ الإنسان، لو تمادى في الغيّ والضلال، يفقد قدرة التشخيص، بل تنقلب لديه الموازين، ويصبح الذنب والإثم جزءً من طبيعته. والمنافقون أيضاً بإصرارهم على انحرافهم يتطبّعون بخط النفاق، وتتراءى لهم أعمالهم بالتدريج وكأنهم أعمال إصلاحية، وتغدو بصورة طبيعة ثانية لهم.

علامتهم الاُخرى: إعتدادهم بأنفسهم واعتقادهم أنهم ذووا عقل وتدبير، وأن المؤمنين سفهاء وبسطاء: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ، قَالُوا: أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ؟!!}.

وهكذا تنقلب المعايير لدى هؤلاء المنحرفين، فيرون الإنصياع للحق وإتباع الدعوة الإلهية سفاهة، بينما يرون شيطنتهم وتذبذبهم تعقّلا ودراية!! غير أن الحقيقة عكس ما يرون: {أَلاّ إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لاَ يَعْلَمُونَ}.

أليس من السفاهة أن لا يضع الإنسان لحياته خطاً معيناً، ويبقى يتلوّن بألوان مختلفة؟! أليس من السفاهة أن يضيّع الإنسان وحدة شخصيته، ويتجه نحو إزدواجية الشخصية وتعدّد الشخصيات في ذاته، ويهدر بذلك طاقاته على طريق التذبذب والتآمر والتخريب، وهو مع ذلك يعتقد برجاحة عقله؟!

العلامة الثالثة لهؤلاء، هي تلوّنهم بألوان معينة تبعاً لما تفرضه عليهم مصالحهم، فهم انتهازيون يظهرون الولاء للمؤمنين ولأعدائهم من الشياطين: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا: آمَنَّا، وَإِذَا خَلَوا إِلى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا: إنّا مَعَكُمْ، إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهزِءُونَ}!.

يؤكدون لشياطينهم أنهم معهم، وأن ولاءهم للمؤمنين ظاهري، هدفه الإستهزاء.

وبلهجة قويّة حاسمة يردّ القرآن الكريم على هؤلاء ويقول: {اللهُ يَسْتَهْزِيءُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ في طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ}(2).

الآية الأخيرة توضّح المصير الأسود المظلم لهؤلاء المنافقين، وخسارتهم في سيرتهم الحياتية الضّالة: {اُولئكَ الّذِينَ اشتَرَوا الضَّلالَةَ بِالهُدى فَمَا رَبِحَتْ تِجارَتُهُم وَمَا كَانُوا مُهتَدِينَ}.

_____________________

1- الامثل ، ناصر مكارم الشيرازي ، ج1 ، ص79 ..93.

2- يعمهون، من «العَمَه» أي التردّد في الأمر، وأيضاً بمعنى عمي القلب والبصيرة بسبب التحيّر (راجع: مفردات الراغب، وتفسير المنار، وقاموس اللغة).

 




وهو تفسير الآيات القرآنية على أساس الترتيب الزماني للآيات ، واعتبار الهجرة حدّاً زمنيّاً فاصلاً بين مرحلتين ، فكلُّ آيةٍ نزلت قبل الهجرة تُعتبر مكّيّة ، وكلّ آيةٍ نزلت بعد الهجرة فهي مدنيّة وإن كان مكان نزولها (مكّة) ، كالآيات التي نزلت على النبي حين كان في مكّة وقت الفتح ، فالمقياس هو الناحية الزمنيّة لا المكانيّة .

- المحكم هو الآيات التي معناها المقصود واضح لا يشتبه بالمعنى غير المقصود ، فيجب الايمان بمثل هذه الآيات والعمل بها.
- المتشابه هو الآيات التي لا تقصد ظواهرها ، ومعناها الحقيقي الذي يعبر عنه بـ«التأويل» لا يعلمه الا الله تعالى فيجب الايمان بمثل هذه الآيات ولكن لا يعمل بها.

النسخ في اللغة والقاموس هو بمعنى الإزالة والتغيير والتبديل والتحوير وابطال الشي‏ء ورفعه واقامة شي‏ء مقام شي‏ء، فيقال نسخت الشمس الظل : أي ازالته.
وتعريفه هو رفع حكم شرعي سابق بنص شرعي لا حق مع التراخي والزمان بينهما ، أي يكون بين الناسخ والمنسوخ زمن يكون المنسوخ ثابتا وملزما بحيث لو لم يكن النص الناسخ لاستمر العمل بالسابق وكان حكمه قائما .
وباختصار النسخ هو رفع الحكم الشرعي بخطاب قطعي للدلالة ومتأخر عنه أو هو بيان انتهاء امده والنسخ «جائز عقلا وواقع سمعا في شرائع ينسخ اللاحق منها السابق وفي شريعة واحدة» .