المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية

القرآن الكريم وعلومه
عدد المواضيع في هذا القسم 17761 موضوعاً
تأملات قرآنية
علوم القرآن
الإعجاز القرآني
قصص قرآنية
العقائد في القرآن
التفسير الجامع
آيات الأحكام

Untitled Document
أبحث عن شيء أخر المرجع الالكتروني للمعلوماتية
{افان مات او قتل انقلبتم على اعقابكم}
2024-11-24
العبرة من السابقين
2024-11-24
تدارك الذنوب
2024-11-24
الإصرار على الذنب
2024-11-24
معنى قوله تعالى زين للناس حب الشهوات من النساء
2024-11-24
مسألتان في طلب المغفرة من الله
2024-11-24



تفسير الاية (153-157) من سورة البقرة  
  
8164   05:36 مساءً   التاريخ: 14-2-2017
المؤلف : اعداد : المرجع الإلكتروني للمعلوماتية
الكتاب أو المصدر : تفاسير الشيعة
الجزء والصفحة : .......
القسم : القرآن الكريم وعلومه / التفسير الجامع / حرف الباء / سورة البقرة /

تفسير الاية (153-157) من سورة البقرة

قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153) وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ (154) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة: 154 - 157].

 

تفسير مجمع البيان
- ذكر الطبرسي في تفسير  هذه الآيات (1) :

قد مضى تفسير قوله {استعينوا بالصبر والصلاة}  فيما مضى يخاطب المؤمنين فيقول {استعينوا بالصبر} أي بحبس النفس عما تشتهيه من المقبحات وحملها على ما تنفر منه من الطاعات وإلى هذا المعنى أشار أمير المؤمنين (عليه السلام) في قوله الصبر صبران صبر على ما تكره وصبر عما تحب وبالصلاة لما فيها من الذكر والخشوع لله وتلاوة القرآن الذي يتضمن ذكر الوعد والوعيد والهدى والبيان وما هذه صفته يدعو إلى الحسنات ويزجر عن السيئات.

 واختلف في أن الاستعانة بهما على ما ذا فقيل على جميع الطاعات فكأنه قال استعينوا بهذا الضرب من الطاعة على غيره من الطاعات وقيل على الجهاد في سبيل الله وقوله {إن الله مع الصابرين} فيه وجهان (أحدهما) أن معناه أنه معهم بالمعونة والنصرة كما يقال السلطان معك فلا تبال من لقيت (والآخر) أن المراد هو معهم بالتوفيق والتسديد أي يسهل عليهم أداء العبادات والاجتناب من المقبحات ونظيره قوله سبحانه ويزيد الله الذين اهتدوا هدى ولا يجوز أن يكون مع هنا بمعنى الاجتماع في المكان لأن ذلك من صفات الأجسام تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا وفي الآية دلالة على أن في الصلاة لطفا للعبد لأنه سبحانه أمرنا بالاستعانة بها ويؤيده قوله سبحانه {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ } [العنكبوت: 45].

وقوله : { وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ}:

 لما أمر الله سبحانه بالصبر والصلاة للازدياد في القوة بهما على الجهاد قال {ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات} فنهى أن يسمى من قتل في الجهاد أمواتا {بل أحياء} أي بل هم أحياء وقيل فيه أقوال (أحدها) وهو الصحيح أنهم أحياء على الحقيقة إلى أن تقوم الساعة وهو قول ابن عباس وقتادة ومجاهد وإليه ذهب الحسن وعمرو بن عبيد وواصل بن عطاء واختاره الجبائي والرماني وجميع المفسرين (والثاني) أن المشركين كانوا يقولون إن أصحاب محمد يقتلون نفوسهم في الحروب بغير سبب ثم يموتون فيذهبون فأعلمهم الله أنه ليس الأمر على ما قالوه وأنهم سيحيون يوم القيامة ويثابون عن البلخي ولم يذكر ذلك غيره و( الثالث ) معناه لا تقولوا هم أموات في الدين بل هم أحياء بالطاعة والهدى ومثله قوله سبحانه {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ } [الأنعام: 122] فجعل الضلال موتا والهداية حياة عن الأصم و( الرابع ) أن المراد أنهم أحياء لما نالوا من جميل الذكر والثناء كما روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) من قوله هلك خزان الأموال والعلماء باقون ما بقي الدهر أعيانهم مفقودة وآثارهم في القلوب موجودة والمعتمد هو القول الأول لأن عليه إجماع المفسرين ولأن الخطاب للمؤمنين وكانوا يعلمون أن الشهداء على الحق والهدى وأنهم ينشرون ويحيون يوم القيامة فلا يجوز أن يقال لهم {ولكن لا تشعرون} من حيث أنهم كانوا يشعرون ذلك ويقرون به ولأن حمله على ذلك يبطل فائدة تخصيصهم بالذكر ولو كانوا أيضا أحياء بما حصل لهم من جميل الثناء لما قيل أيضا ولكن لا تشعرون لأنهم كانوا يشعرون ذلك ووجه تخصيص الشهداء بكونهم أحياء وإن كان غيرهم من المؤمنين قد يكونون أحياء في البرزخ أنه على جهة التقديم للبشارة بذكر حالهم ثم البيان لما يختصون به من أنهم يرزقون كما في الآية الأخرى يرزقون فرحين بما أتاهم الله من فضله.

 فإن قيل نحن نرى جثث الشهداء مطروحة على الأرض لا تنصرف ولا يرى فيها شيء من علامات الأحياء فالجواب أن على مذهب من يقول بالإنسان من أصحابنا أن الله تعالى يجعل لهم أجساما كأجسامهم في دار الدنيا يتنعمون فيها دون أجسامهم التي في القبور فإن النعيم والعذاب إنما يحصل عنده إلى النفس التي هي الإنسان المكلف عنده دون الجثة .

ويؤيد ذلك ما رواه الشيخ أبو جعفر في كتاب تهذيب الأحكام مسندا إلى علي بن مهزيار عن القاسم بن محمد عن الحسين بن أحمد عن يونس بن ظبيان قال كنت عند أبي عبد الله (عليه السلام) جالسا فقال ما يقول الناس في أرواح المؤمنين قلت يقولون في حواصل طير خضر في قناديل تحت العرش فقال أبوعبد الله سبحان الله المؤمن أكرم على الله أن يجعل روحه في حوصلة طائر أخضر يا يونس المؤمن إذا قبضه الله تعالى صير روحه في قالب كقالبه في الدنيا فيأكلون ويشربون فإذا قدم عليهم القادم عرفوه بتلك الصورة التي كانت في الدنيا .

وعنه عن ابن أبي عمير عن حماد عن أبي بصير قال سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن أرواح المؤمنين فقال في الجنة على صور أبدانهم لو رأيته لقلت فلان فأما على مذهب من قال من أصحابنا إن الإنسان هذه الجملة المشاهدة وإن الروح هو النفس المتردد في مخارق الحيوان وهو أجزاء الجو فالقول إنه يلطف أجزاء من الإنسان لا يمكن أن يكون الحي حيا بأقل منها يوصل إليها النعيم وإن لم تكن تلك الجملة بكمالها لأنه لا معتبر بالأطراف وأجزاء السمن في كون الحي حيا فإن الحي لا يخرج بمفارقتها من كونه حيا وربما قيل بأن الجثة يجوز أن تكون مطروحة في الصورة ولا تكون ميتة فتصل إليها اللذات كما أن النائم حي وتصل إليه اللذات مع أنه لا يحس ولا يشعر بشيء من ذلك فيرى في النوم ما يجد به السرور والالتذاذ حتى أنه يود أن يطول نومه فلا ينتبه وقد جاء في الحديث أنه يفسح له مد بصره ويقال له نم نومة العروس .

وقوله {ولكن لا تشعرون} أي لا تعلمون أنهم أحياء وفي هذه الآية دلالة على صحة مذهبنا في سؤال القبر وإثابة المؤمن فيه وعقاب العصاة على ما تظاهرت به الأخبار وإنما حمل البلخي الآية على حياة الحشر لإنكاره عذاب القبر .

{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ}:

لما بين سبحانه ما كلف عباده من العبادات عقبه ببيان ما امتحنهم به من فنون المشقات فقال {ولنبلونكم} أي ولنختبرنكم ومعناه نعاملكم معاملة المختبر ليظهر المعلوم والخطاب لأصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) عن عطاء والربيع ولو قيل أنه خطاب لجميع الخلق لكان أيضا صحيحا {بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال} أي بشيء من الخوف وشيء من الجوع وشيء من نقص الأموال فأوجز وإنما قال من الخوف على وجه التبعيض لأنه لم يكن مؤبدا وإنما عرفهم سبحانه ذلك ليوطنوا أنفسهم على المكاره التي تلحقهم في نصرة النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) لما لهم فيها من المصلحة فأما سبب الخوف فكان قصد المشركين لهم بالعداوة وسبب الجوع تشاغلهم بالجهاد في سبيل الله عن المعاش واحتياجهم إلى الإنفاق فيه وقيل للقحط الذي لحقهم والجدب الذي أصابهم وسبب نقص الأموال الانقطاع بالجهاد عن العمارة ونقص الأنفس بالقتل في الحروب مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) وقيل نقص الأموال بهلاك المواشي {والأنفس} بالموت وقوله {والثمرات} قيل أراد ذهاب حمل الأشجار بالجوانح وقلة النبات وارتفاع البركات وقيل أراد به الأولاد لأن الولد ثمرة القلب وإنما قال ذلك لاشتغالهم بالقتال عن عمارة البستان وعن مناكحة النسوان فيقل نزل البساتين وحمل البنات والبنين ووجه الابتلاء بهذه الأشياء ما تقتضيه الحكمة من الألطاف ودقائق المصالح والأغراض و يدخره سبحانه لهم ما يرضيهم به من جلائل الأعواض وقيل في وجه اللطف في ذلك قولان ( أحدهما ) أن من جاء من بعدهم إذا أصابهم مثل هذه الأمور علموا أنه لا يصيبهم ذلك لنقصان درجة وحط مرتبة فإن قد أصاب ذلك من هو أعلى درجة منهم وهم أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) ( والآخر ) أن الكفار إذا شاهدوا المؤمنين يتحملون المشاق في نصرة الرسول وموافقتهم له وتنالهم هذه المكاره فلا يتغيرون في قوة البصيرة ونقاء السريرة علموا أنهم إنما فعلوا ذلك لعلمهم بصحة هذا الدين وكونهم من معرفة صدقه على اليقين فيكون ذلك داعيا لهم إلى قبول الإسلام والدخول في جملة المسلمين وقوله {وبشر الصابرين} أي أخبرهم بما لهم على الصبر في تلك المشاق والمكاره من المثوبة الجزيلة والعاقبة الجميلة .

وقوله : { الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة: 156، 157].

يصف عز اسمه الصابرين فقال {الذين إذا أصابتهم مصيبة} أي نالتهم نكبة في النفس أو المال فوطنوا أنفسهم على ذلك احتسابا للأجر {قالوا إنا لله} هذا إقرار بالعبودية أي نحن عبيد الله وملكه {وإنا إليه راجعون} هذا إقرار بالبعث والنشور أي نحن إلى حكمه نصير ولهذا قال أمير المؤمنين (عليه السلام) إن قولنا {إنا لله} إقرار على أنفسنا بالملك وقولنا {وإنا إليه راجعون} إقرار على أنفسنا بالهلك وإنما كانت هذه اللفظة تعزية عن المصيبة لما فيها من الدلالة على أن الله تعالى يجبرها إن كانت عدلا وينصف من فاعلها إن كانت ظلما وتقديره إنا لله تسليما لأمره ورضاء بتدبيره وإنا إليه راجعون ثقة بأنا نصير إلى عدله وانفراده بالحكم في أموره .

وفي الحديث من استرجع عند المصيبة جبر الله مصيبته وأحسن عقباه وجعل له خلفا صالحا يرضاه وقال (عليه السلام) من أصيب بمصيبة فأحدث استرجاعا وإن تقادم عهدها كتب الله له من الأجر مثل يوم أصيب وروى الصادق (عليه السلام) عن آبائه عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) قال أربع من كن فيه كتبه الله من أهل الجنة من كانت عصمته شهادة أن لا إله إلا الله ومن إذا أنعم الله عليه النعمة قال الحمد لله ومن إذا أصاب ذنبا قال أستغفر الله ومن إذا أصابته مصيبة قال {إنا لله وإنا إليه راجعون}.

 وقوله {أولئك} إشارة إلى الذين وصفهم من الصابرين {عليهم صلوات من ربهم} أي ثناء جميل من ربهم وتزكية وهو بمعنى الدعاء لأن الثناء يستحق دائما ففيه معنى اللزوم كما أن الدعاء يدعى به مرة بعد مرة ففيه معنى اللزوم وقيل بركات من ربهم عن ابن عباس وقيل مغفرة من ربهم {ورحمة} أي نعمة عاجلا وآجلا فالرحمة النعمة على المحتاج وكل أحد يحتاج إلى نعمة الله في دنياه وعقباه {وأولئك هم المهتدون} أي المصيبون طريق الحق في الاسترجاع وقيل إلى الجنة والثواب وكان عمر بن الخطاب إذا قرأ هذه الآية قال نعم العدلان ونعمت العلاوة .

____________________

1- مجمع البيان ، الطبري ، ج1 ،ص435-442.

تفسير الكاشف
- ذكر محمد جواد مغنية في تفسير  هذه الآيات (1) :

 

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ والصَّلاةِ إِنَّ اللَّهً مَعَ الصَّابِرِينَ} . جاء في تفسير المنار : (ان الصبر ذكر في القرآن سبعين مرة . . وهذا يدل على عظم أمره ، وقد جعل التواصي به في سورة العصر مقرونا بالتواصي بالحق ، إذ لا بد للداعي إلى الحق منه) .

واشتط صاحب البحر المحيط ، حيث قال : ان الصبر والصلاة ركنا الإسلام . .

وذهل عن حديث : بني الإسلام على خمس (2) . . وليس الصبر منها ، كما ذهل عن ان التكاليف الاسلامية منها مولوية الزامية يلحظ فيها الصدور من الأعلى إلى الأدنى ، ويحاسب المكلف ويعاقب غدا على مخالفتها ، كالأمر بالصلاة ووفاء الدين ، وما إليهما . . ومنها تكاليف ارشادية وردت لمجرد النصيحة أشبه بالأمر من المساوي ، لا يعاقب المكلف على تركها ، كالأمر بالنظافة ، وغسل اليد قبل الأكل ، والنهي عن إدخال الطعام على الطعام ، ونحو ذلك . . والأمر بالصبر من هذا النوع يراد به مجرد الإرشاد والنصيحة ، وأين هذا من أركان الدين التي يستوجب تركها الخروج عن الدين ؟

ثم ان الصبر لا يحمد لذاته ، ومن حيث هو، وانما يحمد ويحسن إذا كان وسيلة لغاية نبيلة ، كالصبر في الجهاد المقدس ، والصبر على الفقر والعوز من أجل العلم وتحصيله ، والصبر على المكاره من أجل العيال . وتربية الأطفال ، أو لإغاثة ملهوف ، والصبر على كلمة من سفيه دفعا للشر ، أو على فقد عزيز لا يرده الجزع والهلع ، بل يزداد المصاب تفاقما ، قال أمير المؤمنين ( ع ) : من عظَّم صغار المصائب ابتلاه اللَّه بكبارها ، أي ان تفاقم الجزع يوقع الرجل المصاب في ما هو أشد وأعظم . . وقيل لبزرجمهر : ما لك أيها الحكيم لا تأسف على ما فات ، ولا تفرح بما هو آت ؟ . . فقال : ان الفائت لا يتلافى بالعبرة ، والآتي لا يستدام بالحبرة . . وقال آخر : لا أقول لشيء كان ليته لم يكن ، ولا لشيء لم يكن ليته كان . .

وقد يكون الصبر قبيحا مذموما ، كالصبر على الجوع مع القدرة على العمل ، وعلى الاضطهاد . . ففي هذه الحال يحسن الصبر في كفاح الظالم ونضاله .

وتسأل : ما هي المناسبة بين الصلاة والصبر ، حتى قرنا معا في آية واحدة ؟ .

الجواب : ان معنى الصبر توطين النفس على احتمال المكاره ، ويحتاج هذا إلى الثقة باللَّه ، والايمان بأنه {مع الصابرين} . . وليس من شك ان الصلاة تؤكد هذه الثقة ، وتثبت هذا الايمان . . بالإضافة إلى ان مناجاة اللَّه سبحانه تخفف من وطأة المصاب .

{ولا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ ، ولكِنْ لا تَشْعُرُونَ} .

ونظير هذه الآية قوله تعالى : {ولا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} . ومعلوم ان كل من يفارق هذه الحياة يرجع إلى ربه لا محالة صالحا كان أو طالحا ، شهيدا أو غير شهيد ، سوى ان الصالح ينتقل من حياة أدنى إلى حياة أعلى ، والطالح بالعكس . . وخص الشهيد بالذكر اما للتنبيه على مكانته عند اللَّه ترغيبا في الاستشهاد ، واما لما نقل عن ابن عباس من ان الآية نزلت فيمن قتلوا يوم بدر ، وهم 14 من المهاجرين ، و8 من الأنصار ، فقيل مات فلان وفلان ، فنزلت الآية : ولا تقولوا الخ . . وهذا غير بعيد ، لأنّ لا تقولوا أموات ، تشعر بذلك .

ومهما يكن ، فان الذي يجب أن نؤمن به هوان من استشهد دفاعا عن

الإسلام ، أوعن أي شيء ينطبق عليه الحق والعدل والانسانية فإنه ينتقل من عالم الشهادة إلى عالم الغيب ، ويحيا هناك حياة طيبة ، وانه يمتاز عند اللَّه عمن مات حتف أمه ، قال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : والذي نفس ابن أبي طالب بيده لألف ضربة بالسيف أهون عليّ من ميتة على فراش . . أما حقيقة حياة الشهيد بعد الموت ، وما هو الرزق الذي يتنعم به فأمر لا نعرفه ، ولا نبحث عنه ، لأننا غير مكلفين بمعرفته .

ثمن الجنة :

{ولَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ والْجُوعِ ونَقْصٍ مِنَ الأَمْوالِ والأَنْفُسِ والثَّمَراتِ وبَشِّرِ الصَّابِرِينَ}. ما اتبع الحق واحد الا دفع ثمنه من نفسه ، أو أهله ، أو ماله ، وكلما عظم الحق عظم الثمن المرير ، ولولا هذا لم يكن لأنصار الحق من فضل ، ولأتبع الناس ، كل الناس الحق . . وبهذا نجد تفسير الحديث الشريف : (البلاء موكل بالمؤمن . . وان أشد الناس بلاء الأنبياء ، ثم الذين يلونهم الأمثل فالأمثل) . . وأيضا بلاء الأنبياء يأتي على قدر منزلتهم ، قال الرسول الأعظم (صلى الله عليه واله وسلم) : ما أوذي نبي بمثل ما أوذيت . وقال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ان الحق ثقيل مريء ، والباطل خفيف وبيء . . وكفى شاهدا قوله تعالى :

{أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ ولَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ والضَّرَّاءُ} [البقرة 214] .

وتدل هذه الآية على ان الجنة محرمة إلا على من ضحى في سبيل اللَّه ، ولا تنحصر التضحية في ميدان القتال ، وجهاد أهل الشرك والكفر ، بل إن أيّ مكروه يتحمله الإنسان من أجل الدفاع عن الحق والعدل لهو تضحية في سبيل اللَّه ، وثمن لدخول الجنة ، حتى ولوكان الدفاع بكلمة يجابه بها مبطلا ، ويناصر محقا .

بعد أن باشرت بكتابة التفسير تكوّن عندي يقين لا يشوبه ريب بأن الجنة محرمة إلا على من أوذي ، وتحمل صابرا ، ولو شيئا من الضغط والبلاء في سبيل الحق والعدل ، وعلى الأقل أن يكبح نفسه عما تميل إليه من المحرمات ، أو يحملها على بذل ما لا تجود به طوعا ، أو يجهد نفسه من أجل غيره ، ولو

كان الغير والدا ، أو ولدا . والمعيار أن يتحمل المشاق بصبر في سبيل مرضاة اللَّه سبحانه ، اما ان يدخل الجنة على (البارد المستريح) كما يقول أهل جبل عامل فبعيد كل البعد .

{الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ } . ومعنى انا للَّه الاعتراف له بالملك والعبودية ، ومعنى انا إليه راجعون الإقرار بالبعث بعد الموت .

ثم ان التمحيص بالبلاء هو المحك الذي يظهر الإنسان على حقيقته ، فالمؤمن العاقل لا يخرج عن دينه عند نزول المصيبة ، ولا يتفوه بكلمة الكفر والسفه والجهل ، بل يصبر ولا يذهب البلاء بعقله وإيمانه ، أما ضعيف العقل والايمان فيستولي عليه الشيطان ، ويذهب به كل مذهب من الكفر والشتم والبذاءة ، وينحدر إلى هوة الرذالة والسفالة ، وخير ما قيل في ذلك قول سيد الشهداء الحسين بن علي يوم الطفّ : الناس عبيد الدنيا ، والدين لعق على ألسنتهم يحوطونه ما درت معايشهم ، فإذا محصوا بالبلاء قلّ الديانون .

{أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ ورَحْمَةٌ} . الصلاة من اللَّه التكريم وعلو المنزلة ، ورحمته تعالى لعبيده الرفق بهم ، والهداية إلى خيرهم ، والانعام عليهم .

وفي الحديث : ما من مسلم يصاب بمصيبة فيفزع إلى أمر اللَّه بقوله : إنا للَّه وإنا إليه راجعون ، اللهم عندك احتسب مصيبتي ، فأجرني فيها وعوضني خيرا منها ، إلا آجره اللَّه عليها وعوضه خيرا منها .

أنواع أجر الصابرين :

ذكر بعض المفسرين ان اللَّه سبحانه أعطى للصابرين ثمانية أنواع من الأجر والكرامة .

1 - المحبة ، قال تعالى : {واللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} – [آل عمران 146 ].

2 - النصر ، قال سبحانه : {إِنَّ اللَّهً مَعَ الصَّابِرِينَ} - البقرة 153 .

3 - غرفات الجنة : {أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا} - الفرقان 75 .

4 - الأجر الجزيل : {إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ} - الزمر 10 .

5 - البشارة : {وبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} - البقرة 55 .

6 و7 - الصلاة والرحمة : {أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ ورَحْمَةٌ} - البقرة 157 .

8 - الهداية : {وأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} - البقرة 157 .

______________________

1- الكاشف ، محمد جواد مغنية ، ج1 ، ص240-244.

2-  وهذا هو الحديث : بني الإسلام على خمس : شهادة ان لا إله الا اللَّه ، وان محمدا رسول اللَّه ، وأقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وصوم رمضان ، وحج البيت من استطاع إليه سبيلا .

 

تفسير الميزان
- ذكر الطباطبائي في تفسير  هذه الآيات (1) :

خمس آيات متحدة السياق، متسقة الجمل، ملتئمة المعاني، يسوق أولها إلى آخرها ويرجع آخرها إلى أولها، وهذا يكشف عن كونها نازلة دفعة غير متفرقة، وسياقها ينادي بأنها نزلت قبيل الأمر بالقتال وتشريع حكم الجهاد، ففيه ذكر من بلاء سيقبل على المؤمنين، ومصيبة ستصيبهم، ولا كل بلاء ومصيبة، بل البلاء العمومي الذي ليس بعادي الوقوع مستمر الحدوث، فإن نوع الإنسان كسائر الأنواع الموجودة في هذه النشأة الطبيعية لا يخلو في أفراده من حوادث جزئية يختل بها نظام الفرد في حياته الشخصية: من موت ومرض وخوف وجوع وغم وحرمان، سنة الله التي جرت في عباده وخلقه، فالدار دار التزاحم، والنشأة نشأة التبدل والتحول، ولن تجد لسنة الله تحويلا ولن تجد لسنة الله تبديلا.

والبلاء الفردي وإن كان شاقا على الشخص المبتلى بذلك، مكروها، لكن ليس مهولا مهيبا تلك المهابة التي تتراءى بها البلايا والمحن العامة، فإن الفرد يستمد في قوة تعقله وعزمه وثبات نفسه من قوى سائر الأفراد، وأما البلايا العامة الشاملة فإنها تسلب الشعور العمومي وجملة الرأي والحزم والتدبير من الهيأة المجتمعة، ويختل به نظام الحياة منهم، فيتضاعف الخوف وتتراكم الوحشة ويضطرب عندها العقل والشعور وتبطل العزيمة والثبات، فالبلاء العام والمحنة الشاملة أشق وأمر، وهو الذي تلوح له الآيات.

ولا كل بلاء عام كالوباء والقحط بل بلاء عام قربتهم منها أنفسهم، فإنهم أخذوا دين التوحيد، وأجابوا دعوة الحق، وتخالفهم فيه الدنيا وخاصة قومهم، وما لهؤلاء هم إلا إطفاء نور الله، واستيصال كلمة العدل، وإبطال دعوة الحق، ولا وسيلة تحسم مادة النزاع وتقطع الخلاف غير القتال، فسائر الوسائل كإقامة الحجة وبث الفتنة، وإلقاء الوسوسة والريبة وغيرها صارت بعد عقيمة غير منتجة، فالحجة مع النبي والوسوسة والفتنة والدسيسة ما كانت تؤثر أثرا تطمئن إليه أعداء الدين فلم يكن عندهم وسيلة إلا القتال والاستعانة به على سد سبيل الحق، وإطفاء نور الدين اللامع المشرق.

هذا من جانب الكفر، والأمر من جانب الدين أوضح، فلم يكن إلى نشر كلمة التوحيد، وبث دين الحق، وحكم العدل، وقطع دابر الباطل وسيلة إلا القتال، فإن التجارب الممتدة من لدن كان الإنسان نازلا في هذه الدار يعطي أن الحق إنما يؤثر إذا أميط الباطل، ولن يماط إلا بضرب من أعمال القدرة والقوة.

وبالجملة ففي الآيات تلويح إلى إقبال هذه المحنة بذكر القتل في سبيل الله، وتوصيفه بوصف لا يبقى فيه معه جهة مكروهة، ولا صفة سوء، وهو أنه ليس بموت بل حياة، وأي حياة! فالآيات تستنهض المؤمنين على القتال، وتخبرهم أن أمامهم بلاء ومحنة لن تنالوا مدارج المعالي، وصلاة ربهم ورحمته، والاهتداء بهدايته إلا بالصبر عليها، وتحمل مشاقها، ويعلمهم ما يستعينون به عليها، وهو الصبر والصلاة، أما الصبر: فهو وحدة الوقاية من الجزع واختلال أمر التدبير، وأما الصلاة: فهي توجه إلى الرب، وانقطاع إلى من بيده الأمر، وأن القوة لله جميعا.

قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين} الآية، قد تقدم جملة من الكلام في الصبر والصلاة في تفسير قوله: { وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة: 45] والصبر من أعظم الملكات والأحوال التي يمدحها القرآن، ويكرر الأمر به حتى بلغ قريبا من سبعين موضعا من القرآن حتى قيل فيه: {إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [لقمان: 17] ، وقيل: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ } [فصلت: 35] ، وقيل: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10].

والصلاة: من أعظم العبادات التي يحث عليها في القرآن حتى قيل فيها: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ } [العنكبوت: 45] ، وما أوصى الله في كتابه بوصايا إلا كانت الصلاة رأسها وأولها.

ثم وصف سبحانه الصبر بأن الله مع الصابرين المتصفين بالصبر، وإنما لم يصف الصلاة، كما في قوله تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ} [البقرة: 45] ، لأن المقام في هذه الآيات، مقام ملاقات الأهوال، ومقارعة الأبطال، فالاهتمام بأمر الصبر أنسب بخلاف الآية السابقة، فلذلك قيل: إن الله مع الصابرين، وهذه المعية غير المعية التي يدل عليه قوله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ } [الحديد: 4] ، فإنها معية الإحاطة والقيمومة، بخلاف المعية مع الصابرين، فإنها معية إعانة فالصبر مفتاح الفرج.

قوله تعالى: {ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون} الآية، ربما يقال: إن الخطاب مع المؤمنين الذين آمنوا بالله ورسوله واليوم الآخر وأذعنوا بالحياة الآخرة، ولا يتصور منهم القول ببطلان الإنسان بالموت، بعد ما أجابوا دعوة الحق وسمعوا شيئا كثيرا من الآيات الناطقة بالمعاد، مضافا إلى أن الآية إنما تثبت الحياة بعد الموت في جماعة مخصوصين، وهم الشهداء المقتولون في سبيل الله، في مقابل غيرهم من المؤمنين، وجميع الكفار، مع أن حكم الحياة بعد الموت عام شامل للجميع فالمراد بالحياة بقاء الاسم، والذكر الجميل على مر الدهور، وبذلك فسره جمع من المفسرين.

ويرده أولا: أن كون هذه حياة إنما هو في الوهم فقط دون الخارج، فهي حياة تخيلية ليس لها في الحقيقة إلا الاسم، ومثل هذا الموضوع الوهمي لا يليق بكلامه، وهو تعالى يدعو إلى، الحق ويقول: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ } [يونس: 32] ، وأما الذي سأله إبراهيم في قوله {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ} [الشعراء: 84] ، فإنما يريد به بقاء دعوته الحقة، ولسانه الصادق بعده، لا حسن ثنائه وجميل ذكره بعده فحسب.

نعم هذا القول الباطل، والوهم الكاذب إنما يليق بحال الماديين، وأصحاب الطبيعة، فإنهم اعتقدوا: مادية النفوس وبطلانها بالموت ونفوا الحياة الآخرة ثم أحسوا باحتياج الإنسان بالفطرة إلى القول ببقاء النفوس وتأثرها بالسعادة والشقاء، بعد موتها في معالي أمور، لا تخلو في الارتقاء إليها من التفدية والتضحية، لا سيما في عظائم العزائم التي يموت ويقتل فيها أقوام ليحيا ويعيش آخرون، ولوكان كل من مات فقد فات لم يكن داع للإنسان وخاصة إذا اعتقد بالموت والفوت أن يبطل ذاته ليبقى ذات آخرين، ولا باعث له أن يحرم على نفسه لذة الاستمتاع من جميع ما يقدر عليه بالجور ليتمتع آخرون بالعدل، فالعاقل لا يعطي شيئا إلا ويأخذ بدله وأما الإعطاء من غير بدل، والترك من غير أخذ، كالموت في سبيل حياة الغير، والحرمان في طريق تمتع الغير فالفطرة الإنسانية تأباه، فلما استشعروا بذلك دعاهم جبر هذا النقص إلى وضع هذه الأوهام الكاذبة، التي ليس لها موطن إلا عرصة الخيال وحظيرة الوهم، قالوا إن الإنسان الحر من رق الأوهام والخرافات يجب عليه أن يفدي بنفسه وطنه، أوكل ما فيه شرفه، لينال الحياة الدائمة بحسن الذكر وجميل الثناء، ويجب عليه أن يحرم على نفسه بعض تمتعاته في الاجتماع ليناله الآخرون، ليستقيم أمر الاجتماع والحضارة، ويتم العدل الاجتماعي فينال بذلك حياة الشرف والعلاء.

وليت شعري إذا لم يكن إنسان، وبطل هذا التركيب المادي، وبطل بذلك جميع خواصه، ومن جملتها الحياة والشعور، فمن هو الذي ينال هذه الحياة وهذا الشرف؟ ومن الذي يدركه ويلتذ به؟ فهل هذا إلا خرافة؟.

وثانيا: أن ذيل الآية – وهو قوله تعالى: {ولكن لا تشعرون} ، - لا يناسب هذا المعنى، بل كان المناسب له أن يقال: بل أحياء ببقاء ذكرهم الجميل، وثناء الناس عليهم بعدهم، لأنه المناسب لمقام التسلية وتطييب النفس.

وثالثا: أن نظيرة هذه الآية - وهي تفسرها - وصف حياتهم بعد القتل بما ينافي هذا المعنى، قال تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169] ، إلى آخر الآيات ومعلوم أن هذه الحياة حياة خارجية حقيقية ليست بتقديرية.

ورابعا: أن الجهل بهذه الحياة التي بعد الموت ليس بكل البعيد من بعض المسلمين في أواسط عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فإن الذي هو نص غير قابل للتأويل إنما هو البعث للقيامة، وأما ما بين الموت إلى الحشر - وهي الحياة البرزخية - فهي وإن كانت من جملة ما بينه القرآن من المعارف الحقة، لكنها ليست من ضروريات القرآن، والمسلمون غير مجمعين عليه بل ينكره بعضهم حتى اليوم ممن يعتقد كون النفس غير مجردة عن المادة وأن الإنسان يبطل وجوده بالموت وانحلال التركيب، ثم يبعثه الله إلى القضاء يوم القيامة، فيمكن أن يكون المراد بيان حياة الشهداء في البرزخ لمكان جهل بعض المؤمنين بذلك، وإن علم به آخرون.

وبالجملة: المراد بالحياة في الآية الحياة الحقيقية دون التقديرية، وقد عد الله سبحانه حياة الكافر بعد موته هلاكا وبوارا في مواضع من كلامه، كقوله تعالى: {وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ} [إبراهيم: 28] ، إلى غير ذلك من الآيات، فالحياة حياة السعادة، والإحياء بهذه الحياة المؤمنون خاصة كما قال: {وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت: 64] ، وإنما لم يعلموا، لأن حواسهم مقصورة على إدراك خواص الحياة في المادة الدنيوية، وأما ما وراءها فإذا لم يدركوه لم يفرقوا بينه وبين الفناء فتوهموه فناء، وما توهمه الوهم مشترك بين المؤمن والكافر في الدنيا، فلذلك قال: في هذه الآية، {بل أحياء ولكن لا تشعرون} أي: بحواسكم، كما قال في الآية الأخرى: {لهي الحيوان لو كانوا يعلمون}، أي باليقين كما قال تعالى: {كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ } [التكاثر: 5، 6] .

فمعنى الآية - والله أعلم - ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات، ولا تعتقدوا فيهم الفناء والبطلان كما يفيده لفظ الموت عندكم، ومقابلته مع الحياة، وكما يعين على هذا القول حواسكم فليسوا بأموات بمعنى البطلان، بل أحياء ولكن حواسكم لا تنال ذلك ولا تشعر به، وإلقاء هذا القول على المؤمنين - مع أنهم جميعا أو أكثرهم عالمون ببقاء حياة الإنسان بعد الموت، وعدم بطلان ذاته - إنما هو لإيقاظهم وتنبيههم بما هو معلوم عندهم، يرتفع بالالتفات إليه الحرج عن صدورهم، والاضطراب والقلق عن قلوبهم إذا أصابتهم مصيبة القتل، فإنه لا يبقى مع ذلك من آثار القتل عند أولياء القتيل إلا مفارقة في أيام قلائل في الدنيا وهو هين في قبال مرضاة الله سبحانه وما ناله القتيل من الحياة الطيبة، والنعمة المقيمة، ورضوان من الله أكبر، وهذا نظير خطاب النبي بمثل قوله تعالى: {الحق من ربك فلا تكونن من الممترين} الآية، مع أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) أول الموقنين بآيات ربه، ولكنه كلام كني به عن وضوح المطلب، وظهوره بحيث لا يقبل أي خطور نفساني لخلافه.

نشأة البرزخ

فالآية تدل دلالة واضحة على حياة الإنسان البرزخية، كالآية النظيرة لها وهي قوله: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169] ، والآيات في ذلك كثيرة.

ومن أعجب الأمر ما ذكره بعض الناس في الآية: أنها نزلت في شهداء بدر، فهي مخصوصة بهم فقط، لا تتعداهم إلى غيرهم هذا، ولقد أحسن بعض المحققين: من المفسرين في تفسير قوله: {واستعينوا بالصبر والصلاة} الآية، إذ سئل الله تعالى الصبر على تحمل أمثال هذه الأقاويل.

وليت شعري ما ذا يقصده هؤلاء بقولهم هذا؟ وعلى أي صفة يتصورون حياة شهداء بدر بعد قتلهم مع قولهم: بانعدام الإنسان بعد الموت والقتل، وانحلال تركيبه وبطلانه؟ أ هو على سبيل الإعجاز: باختصاصهم من الله بكرامة لم يكرم بها النبي الأكرم وسائر الأنبياء والمرسلين والأولياء المقربين، إذ خصهم الله ببقاء وجودهم بعد الانعدام، فليس ذلك بإعجاز بل إيجاد محال ضروري الاستحالة، ولا إعجاز في محال، ولو جاز عند العقل إبطال هذا الحكم على بداهتها لم يستقم حكم ضروري فما دونه؟ أم هو على نحو الاستثناء في حكم الحس بأن يكون الحس مخطئا في أمر هؤلاء الشهداء؟ فهم أحياء يرزقون بالأكل والشرب وسائر التمتعات - وهم غائبون عن الحس - وما ناله الحس من أمرهم بالقتل وقطع الأعضاء وسقوط الحس وانحلال التركيب فقد أخطأ في ذلك من رأس، فلو جاز على الحس أمثال هذه الأغلاط فيصيب في شيء ويغلط في آخر من غير مخصص بطل الوثوق به على الإطلاق، ولوكان المخصص هو الإرادة الإلهية احتاج تعلقها إلى مخصص آخر، والإشكال – وهو عدم الوثوق بالإدراك على حاله، فكان من الجائز أن نجد ما ليس بواقع واقعا والواقع ليس بواقع، وكيف يرضى عاقل أن يتفوه بمثل ذلك؟ وهل هو إلا سفسطة؟.

وقد سلك هؤلاء في قولهم هذا مسلك العامة من المحدثين، حيث يرون أن الأمور الغائبة عن حواسنا مما يدل عليه الظواهر الدينية من الكتاب والسنة، كالملائكة وأرواح المؤمنين وسائر ما هومن هذا القبيل موجودات مادية طبيعية، وأجسام لطيفة تقبل الحلول والنفوذ في الأجسام الكثيفة، على صورة الإنسان ونحوه، يفعل جميع الأفعال الإنسانية مثلا، ولها أمثال القوى التي لنا غير أنها ليست محكومة بأحكام الطبيعة: من التغير والتبدل والتركيب وانحلاله، والحياة والموت الطبيعيتين، فإذا شاء الله تعالى ظهورها ظهرت لحواسنا، وإذا لم يشأ أو شاء أن لا تظهر لم تظهر، مشية خالصة من غير مخصص في ناحية الحواس، أو تلك الأشياء.

وهذا القول منهم مبني على إنكار العلية والمعلولية بين الأشياء، ولو صحت هذه الأمنية الكاذبة بطلت جميع الحقائق العقلية، والأحكام العلمية، فضلا عن المعارف الدينية ولم تصل النوبة إلى أجسامهم اللطيفة المكرمة التي لا تصل إليها يد التأثير والتأثر المادي الطبيعي، وهو ظاهر.

فقد تبين بما مر: أن الآية دالة على الحياة البرزخية، وهي المسماة بعالم القبر، عالم متوسط بين الموت والقيامة، ينعم فيه الميت أو يعذب حتى تقوم القيامة.

ومن الآيات الدالة عليه - وهي نظيرة لهذه الآية الشريفة - قوله تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (170) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 169 - 171] ، وقد مر تقريب دلالة الآية على المطلوب، ولو تدبر القائل باختصاص هذه الآيات بشهداء بدر في متن الآيات لوجد أن سياقها يفيد اشتراك سائر المؤمنين معهم في الحياة، والتنعم بعد الموت.

ومن الآيات قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون: 99، 100] والآية ظاهرة الدلالة على أن هناك حياة متوسطة بين حياتهم الدنيوية وحياتهم بعد البعث، ...

ومن الآيات قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا (21) يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ} [الفرقان: 21، 22] ومن المعلوم أن المراد به أول ما يرونهم وهو يوم الموت كما تدل عليه آيات أخر { لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا (22) وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (23) أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا (24) وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا (25) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا } [الفرقان: 22 - 26] ، ودلالتها ظاهرة... .

ومن الآيات قوله تعالى: {قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ} [غافر: 11] ، فهنا إلى يوم البعث – وهو يوم قولهم هذا - إماتتان وإحياءان، ولن تستقيم المعنى إلا بإثبات البرزخ، فيكون إماتة وإحياء في البرزخ وإحياء في يوم القيامة، ولوكان أحد الإحيائين في الدنيا والآخر في الآخرة لم يكن هناك إلا إماتة واحدة من غير ثانية، وقد مر كلام يتعلق بالمقام في قوله تعالى: { كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ } [البقرة: 28] فارجع.

ومن الآيات قوله تعالى: {وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ} [غافر: 45] ، إذ من المعلوم أن يوم القيامة لا بكرة فيه ولا عشي فهو يوم غير اليوم.

والآيات التي تستفاد منها هذه الحقيقة القرآنية، أو تومئ إليها كثيرة، كقوله تعالى: {تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [النحل: 63] ، إلى غير ذلك.

تجرد النفس

ويتبين بالتدبر في الآية، وسائر الآيات التي ذكرناها حقيقة أخرى أوسع من ذلك، وهي تجرد النفس، بمعنى كونها أمرا وراء البدن وحكمها غير حكم البدن وسائر التركيبات الجسمية، لها نحو اتحاد بالبدن تدبرها بالشعور والإرادة وسائر الصفات الإدراكية، والتدبر في الآيات السابقة الذكر يجلي هذا المعنى فإنها تفيد أن الإنسان بشخصه ليس بالبدن، لا يموت بموت البدن، ولا يفنى بفنائه، وانحلال تركيبه وتبدد أجزائه، وأنه يبقى بعد فناء البدن في عيش هنيء دائم، ونعيم مقيم، أوفي شقاء لازم، وعذاب أليم، وأن سعادته في هذه العيشة، وشقاءه فيها مرتبطة بسنخ ملكاته وأعماله، لا بالجهات الجسمانية والأحكام الاجتماعية.

فهذه معان تعطيها هذه الآيات الشريفة، وواضح أنها أحكام تغاير الأحكام الجسمانية، وتتنافى الخواص المادية الدنيوية من جميع جهاتها، فالنفس الإنسانية غير البدن.

ومما يدل عليه من الآيات قوله تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى } [الزمر: 42] ، والتوفي والاستيفاء هو أخذ الحق بتمامه وكماله، وما تشتمل عليه الآية: من الأخذ والإمساك والإرسال ظاهر في المغايرة بين النفس والبدن.

ومن الآيات قوله تعالى: {وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ (10) قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ } [السجدة: 10، 11] ، ذكر سبحانه شبهة من شبهات الكفار المنكرين للمعاد، وهو أنا بعد الموت وانحلال تركيب أبداننا تتفرق أعضاؤنا، وتبدد أجزاؤنا، وتتبدل صورنا فنضل في الأرض، ويفقدنا حواس المدركين، فكيف يمكن أن نقع ثانيا في خلق جديد؟ وهذا استبعاد محض، وقد لقن تعالى على رسوله: الجواب عنه، بقوله: {قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم} الآية، وحاصل الجواب أن هناك ملكا موكلا بكم هو يتوفاكم ويأخذكم، ولا يدعكم تضلوا وأنتم في قبضته وحفاظته، وما تضل في الأرض إنما هو أبدانكم لا نفوسكم التي هي المدلول عليها بلفظ كم فإنه يتوفاكم.

ومن الآيات قوله تعالى: { وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ} [السجدة: 9] ، ذكره في خلق الإنسان ثم قال تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي } [الإسراء: 85] ، فأفاد أن الروح من سنخ أمره، ثم عرف الأمر في قوله تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } [يس: 82، 83] فأفاد أن الروح من الملكوت، وأنها كلمة كن ثم عرف الأمر بتوصيفه بوصف آخر بقوله: {وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} [القمر: 50] ، والتعبير بقوله: {كلمح بالبصر} يعطي أن الأمر الذي هو كلمة كن موجود دفعي الوجود غير تدريجية، فهو يوجد من غير اشتراط وجوده وتقييده بزمان أو مكان، ومن هنا يتبين أن الأمر - ومنه الروح شيء غير جسماني ولا مادي فإن، الموجودات المادية الجسمانية من أحكامها العامة أنها تدريجية الوجود، مقيدة بالزمان والمكان، فالروح التي للإنسان ليست بمادية جسمانية، وإن كان لها تعلق بها.

وهناك آيات تكشف عن كيفية هذا التعلق، فقد قال تعالى: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ } [طه: 55] ، وقال تعالى: {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ} [الرحمن: 14] وقال تعالى {وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ} [السجدة: 7، 8] ، ثم قال: سبحانه وتعالى {ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ } [المؤمنون: 14] ، فأفاد أن الإنسان لم يكن إلا جسما طبيعيا يتوارد عليه صور مختلفة متبدلة، ثم أنشأ الله هذا الذي هو جسم جامد خامد خلقا آخر ذا شعور وإرادة، يفعل أفعالا: من الشعور والإرادة والفكر والتصرف في الأكوان، والتدبير في أمور العالم بالنقل والتبديل والتحويل إلى غير ذلك مما لا يصدر عن الأجسام والجسمانيات، فلا هي جسمانية، ولا موضوعها الفاعل لها.

فالنفس بالنسبة إلى الجسم الذي ينتهي أمره إلى إنشائها – وهو البدن الذي تنشأ منه النفس - بمنزلة الثمرة من الشجرة والضوء من الدهن بوجه بعيد، وبهذا يتضح كيفية تعلقها بالبدن ابتداعا، ثم بالموت تنقطع العلقة، وتبطل المسكة، فهي في أول وجودها عين البدن، ثم تمتاز بالإنشاء منه، ثم تستقل عنه بالكلية فهذا ما تفيده الآيات الشريفة المذكورة بظهورها: وهناك آيات كثيرة تفيد هذه الحقيقة بالإيماء والتلويح، يعثر عليها المتدبر البصير، والله الهادي.

قوله تعالى: {ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات}، لما أمرهم الله بالاستعانة بالصبر والصلاة، ونهاهم عن القول بموت من يقتل منهم في سبيل الله بل هم أحياء بين لهم السبب الذي من أجله خاطبهم بما خاطب، وهو أنهم سيبتلون بما لا يتمهد لهم المعالي ولا يصفو لهم الأمر في الحياة الشريفة، والدين الحنيف إلا به، وهو الحرب والقتال، لا يدور رحى النصر والظفر على مرادهم إلا أن يتحصنوا بهذين الحصنين ويتأيدوا بهاتين القوتين، وهما الصبر والظفر، ويضيفوا إلى ذلك ثالثا وهو خصلة ما حفظها قوم إلا ظفروا بأقصى مرادهم وحازوا الغاية القصوى من كمالهم، واشتد بأسهم وطابت نفسهم، وهو الإيمان بأن القتيل منهم غير ميت ولا فقيد، وأن سعيهم بالمال والنفس غير ضائع ولا باطل، فإن قتلوا عدوهم فهم على الحياة، وقد أبادوا عدوهم وما كان يريده من حكومة الجور والباطل عليهم - وإن قتلهم عدوهم فهم على الحياة - ولم يتحكم الجور والباطل عليهم، فلهم إحدى الحسنيين على أي حال.

وعامة الشدائد التي يأتي بها هو الخوف والجوع ونقص الأموال والأنفس فذكرها الله تعالى، وأما الثمرات فالظاهر أنها الأولاد، فإن تأثير الحرب في قلة النسل بموت الرجال والشبان أظهر من تأثيره في نقص ثمرات الأشجار، وربما قيل: إن المراد ثمرات النخيل، وهي التمر والمراد بالأموال غيرها وهي الدواب من الإبل والغنم.

قوله تعالى: {وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون}، أعاد ذكر الصابرين ليبشرهم أولا، ويبين كيفية الصبر بتعليم ما هو الصبر الجميل ثانيا، ويظهر به حق الأمر الذي يقضي بوجوب الصبر – وهو ملكه تعالى للإنسان - ثالثا، ويبين جزاءه العام – وهو الصلاة والرحمة والاهتداء - رابعا فأمر تعالى نبيه أولا بتبشيرهم، ولم يذكر متعلق البشارة لتفخيم أمره فإنها من الله سبحانه فلا تكون إلا خيرا وجميلا، وقد ضمنها رب العزة، ثم بين أن الصابرين هم الذين يقولون: كذا وكذا عند إصابة المصيبة، وهي الواقعة التي تصيب الإنسان، ولا يستعمل لفظ المصيبة إلا في النازلة المكروهة، ومن المعلوم أن ليس المراد بالقول مجرد التلفظ بالجملة من غير حضور معناها بالبال، ولا مجرد الإخطار من غير تحقق بحقيقة معناها، وهي أن الإنسان مملوك لله بحقيقة الملك، وأن مرجعه إلى الله سبحانه وبه يتحقق أحسن الصبر الذي يقطع منابت الجزع والأسف، ويغسل رين الغفلة.

بيانه أن وجود الإنسان وجميع ما يتبع وجوده، من قواه وأفعاله قائم الذات بالله الذي هو فاطره وموجده فهو قائم به مفتقر ومستند إليه في جميع أحواله من حدوث وبقاء غير مستقل دونه، فلربه التصرف فيه كيف شاء وليس للإنسان من الأمر شيء إذ لا استقلال له بوجه أصلا فله الملك في وجوده وقواه وأفعاله حقيقة.

ثم إنه تعالى ملكه بالإذن نسبة ذاته، ومن هناك يقال: للإنسان وجود، وكذا نسبة قواه وأفعاله ومن هناك يقال: للإنسان قوى كالسمع والبصر، ويقال: للإنسان أفعال كالمشي والنطق، والأكل والشرب، ولولا الإذن الإلهي لم يملك الإنسان ولا غيره من المخلوقات نسبة من هذه النسب الظاهرة، لعدم استقلال في وجودها من دون الله أصلا.

وقد أخبر سبحانه: أن الأشياء سيعود إلى حالها قبل الإذن ولا يبقى ملك إلا لله وحده، قال تعالى: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر: 16] ، وفيه رجوع الإنسان بجميع ما له ومعه إلى الله سبحانه.

فهناك ملك حقيقي هو لله سبحانه لا شريك له فيه، لا الإنسان ولا غيره، وملك ظاهري صوري كملك الإنسان نفسه وولده وماله وغير ذلك وهو لله سبحانه حقيقة، وللإنسان بتمليكه تعالى في الظاهر مجازا، فإذا تذكر الإنسان حقيقة ملكه تعالى، ونسبه إلى نفسه فوجد نفسه ملكا طلقا لربه، وتذكر أيضا أن الملك الظاهري فيما بين الإنسان ومن جملتها ملك نفسه لنفسه وماله وولده سيبطل فيعود راجعا إلى ربه وجد أنه بالآخرة لا يملك شيئا أصلا لا حقيقة ولا مجازا، وإذا كان كذلك لم يكن معنى للتأثر عن المصائب الموجبة للتأثر عند إصابتها، فإن التأثر إنما يكون من جهة فقد الإنسان شيئا مما يملكه، حتى يفرح بوجدانه، ويحزن بفقدانه، وأما إذا أذعن واعتقد أنه لا يملك شيئا لم يتأثر ولم يحزن، وكيف يتأثر من يؤمن بأن الله له الملك وحده يتصرف في ملكه كيف يشاء؟.

الأخلاق

اعلم أن إصلاح أخلاق النفس وملكاتها في جانبي العلم والعمل، واكتساب الأخلاق الفاضلة، وإزالة الأخلاق الرذيلة إنما هو بتكرار الأعمال الصالحة المناسبة لها ومزاولتها، والمداومة عليها، حتى تثبت في النفس من الموارد الجزئية علوم جزئية، وتتراكم وتنتقش في النفس انتقاشا متعذر الزوال أو متعسرها، مثلا إذا أراد الإنسان إزالة صفة الجبن واقتناء ملكة الشجاعة كان عليه أن يكرر الورود في الشدائد والمهاول التي تزلزل القلوب وتقلقل الأحشاء، وكلما ورد في مورد منها وشاهد أنه كان يمكنه الورود فيه وأدرك لذة الإقدام وشناعة الفرار و التحذر انتقشت نفسه بذلك انتقاشا بعد انتقاش حتى تثبت فيها ملكة الشجاعة، وحصول هذه الملكة العلمية وإن لم يكن في نفسه بالاختيار لكنه بالمقدمات الموصلة إليه كما عرفت اختياري كسبي.

إذا عرفت ما ذكرناه علمت أن الطريق إلى تهذيب الأخلاق واكتساب الفاضلة منها أحد مسلكين: المسلك الأول: تهذيبها بالغايات الصالحة الدنيوية، والعلوم والآراء المحمودة عند الناس كما يقال: إن العفة وقناعة الإنسان بما عنده والكف عما عند الناس توجب العزة والعظمة في أعين الناس والجاه عند العامة، وإن الشره يوجب الخصاصة والفقر، وإن الطمع يوجب ذلة النفس المنيعة، وإن العلم يوجب إقبال العامة والعزة والوجاهة والأنس عند الخاصة، وإن العلم بصر يتقي به الإنسان كل مكروه، ويدرك كل محبوب وإن الجهل عمى، وإن العلم يحفظك وأنت تحفظ المال، وإن الشجاعة ثبات يمنع النفس عن التلون والحمد من الناس على أي تقدير سواء غلب الإنسان أو غلب عليه بخلاف الجبن والتهور، وإن العدالة راحة النفس عن الهمم المؤذية، وهي الحياة بعد الموت ببقاء الاسم وحسن الذكر وجميل الثناء والمحبة في القلوب.

وهذا هو المسلك المعهود الذي رتب عليه علم الأخلاق، والمأثور من بحث الأقدمين من يونان وغيرهم فيه.

ولم يستعمل القرآن هذا المسلك الذي بناؤه على انتخاب الممدوح عند عامة الناس عن المذموم عندهم، والأخذ بما يستحسنه الاجتماع وترك ما يستقبحه، نعم ربما جرى عليه كلامه تعالى فيما يرجع بالحقيقة إلى ثواب أخروي أو عقاب أخروي كقوله تعالى: {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ } [البقرة: 150] دعا سبحانه إلى العزم والثبات، وعلله بقوله: {لئلا يكون} ، وكقوله تعالى: {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا} [الأنفال: 46] ، دعا سبحانه إلى الصبر وعلله بأن تركه وإيجاد النزاع يوجب الفشل وذهاب الريح وجرأة العدو، وقوله تعالى {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [الشورى: 43] ، دعا إلى الصبر والعفو، وعلله بالعزم والإعظام.

المسلك الثاني: الغايات الأخروية، وقد كثر ذكرها في كلامه تعالى كقوله سبحانه {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة: 111] ، وقوله تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } [الزمر: 10] ، وقوله تعالى: {إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [إبراهيم: 22] ، وقوله تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ} [البقرة: 257] ، وأمثالها كثيرة على اختلاف فنونها.

ويلحق بهذا القسم نوع آخر من الآيات كقوله تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحديد: 22]  فإن الآية دعت إلى ترك الأسى والفرح بأن الذي أصابكم ما كان ليخطئكم وما أخطأكم ما كان ليصيبكم لاستناد الحوادث إلى قضاء مقضي وقدر مقدر، فالأسى والفرح لغولا ينبغي صدوره من مؤمن يؤمن بالله الذي بيده أزمة الأمور كما يشير إليه قوله تعالى: "ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه" فهذا القسم من الآيات أيضا نظير القسم السابق الذي يتسبب فيه إلى إصلاح الأخلاق بالغايات الشريفة الأخروية، وهي كمالات حقيقية غير ظنية يتسبب فيه إلى إصلاح الأخلاق بالمبادئ السابقة الحقيقية من القدر والقضاء والتخلق بأخلاق الله والتذكر بأسماء الله الحسنى وصفاته العليا ونحو ذلك.

فإن قلت: التسبب بمثل القضاء والقدر يوجب بطلان أحكام هذه النشأة الاختيارية، وفي ذلك بطلان الأخلاق الفاضلة، واختلال نظام هذه النشأة الطبيعية، فإنه لو جاز الاستناد في إصلاح صفة الصبر والثبات وترك الفرح والأسى كما استفيد من الآية السابقة إلى كون الحوادث مكتوبة في لوح محفوظ، ومقضية بقضاء محتوم أمكن الاستناد إلى ذلك في ترك طلب الرزق، وكسب كل كمال مطلوب، والاتقاء عن كل رذيلة خلقية وغير ذلك، فيجوز حينئذ أن نقعد عن طلب الرزق، والدفاع عن الحق، ونحو ذلك بأن الذي سيقع منه مقضي مكتوب، وكذا يجوز أن نترك السعي في كسب كل كمال، وترك كل نقص بالاستناد التي حتم القضاء وحقيقة الكتاب، وفي ذلك بطلان كل كمال.

قلت: قد ذكرنا في البحث عن القضاء، ما يتضح به الجواب عن هذا الإشكال، فقد ذكرنا ثم أن الأفعال الإنسانية من أجزاء علل الحوادث، ومن المعلوم أن المعاليل والمسببات يتوقف وجودها على وجود أسبابها وأجزاء أسبابها، فقول القائل: إن الشبع إما مقضي الوجود، وإما مقضي العدم، وعلى كل حال فلا تأثير للأكل غلط فاحش، فإن الشبع فرض تحققه في الخارج لا يستقيم إلا بعد فرض تحقق الأكل الاختياري الذي هو أحد أجزاء علله، فمن الخطأ أن يفرض الإنسان معلولا من المعاليل، ثم يحكم بإلغاء علله أو شيء من أجزاء علله.

فغير جائز أن يبطل الإنسان حكم الاختيار الذي عليه مدار حياته الدنيوية، وإليه تنتسب سعادته وشقاؤه، وهو أحد أجزاء علل الحوادث التي تلحق وجوده من أفعاله أو الأحوال والملكات الحاصلة من أفعاله، غير أنه كما لا يجوز له إخراج إرادته واختياره من زمرة العلل، وإبطال حكمه في التأثير، كذلك لا يجوز له أن يحكم بكون اختياره سببا وحيدا، وعلة تامة إليه تستند الحوادث، من غير أن يشاركه شيء آخر من أجزاء العالم والعلل الموجودة فيه التي في رأسها الإرادة الإلهية فإنه يتفرع عليه كثير من الصفات المذمومة كالعجب والكبر والبخل، والفرح والأسى، والغم ونحو ذلك.

يقول الجاهل: أنا الذي فعلت كذا وتركت كذا فيعجب بنفسه أو يستكبر على غيره أو يبخل بماله – وهو جاهل بأن بقية الأسباب الخارجة عن اختياره الناقص، وهي ألوف وألوف لولم يمهد له الأمر لم يسد اختياره شيئا، ولا أغنى عن شيء - يقول الجاهل: لو أني فعلت كذا لما تضررت بكذا، أولما فات عني كذا، وهو جاهل بأن هذا الفوت أو الموت يستند عدمه - أعني الربح أو العافية، أو الحياة - إلى ألوف وألوف من العلل يكفي في انعدامها - أعني في تحقق الفوات أو الموت - انعدام واحد منها، وإن كان اختياره موجودا، على أن نفس اختيار الإنسان مستند إلى علل كثيرة خارجة عن اختيار الإنسان فالاختيار لا يكون بالاختيار.

فإذا عرفت ما ذكرنا وهو حقيقة قرآنية يعطيها التعليم الإلهي كما مر، ثم تدبرت في الآيات الشريفة التي في المورد وجدت أن القرآن يستند إلى القضاء المحتوم والكتاب المحفوظ في إصلاح بعض الأخلاق دون بعض.

فما كان من الأفعال أو الأحوال والملكات يوجب استنادها إلى القضاء والقدر إبطال حكم الاختيار فإن القرآن لا يستند إليه، بل يدفعه كل الدفع كقوله تعالى: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ } [الأعراف: 28].

وما كان منها يوجب سلب استنادها إلى القضاء إثبات استقلال اختيار الإنسان في التأثير، وكونه سببا تاما غير محتاج في التأثير، ومستغنيا عن غيره، فإنه يثبت استناده إلى القضاء ويهدي الإنسان إلى مستقيم الصراط الذي لا يخطىء بسالكه، حتى ينتفي عنه رذائل الصفات التي تتبعه كإسناد الحوادث إلى القضاء كي لا يفرح الإنسان بما وجده جهلا، ولا يحزن بما فقده جهلا كما في قوله تعالى: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور: 33] ، فإنه يدعو إلى الجود بإسناد المال إلى إيتاء الله تعالى، وكما في قوله تعالى: { وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [البقرة: 3] ، فإنه يندب إلى الإنفاق بالاستناد إلى أنه من رزق الله تعالى، وكما في قوله تعالى: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (6) إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الكهف: 6، 7] ، نهى رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن الحزن والغم استنادا إلى أن كفرهم ليس غلبة منهم على الله سبحانه بل ما على الأرض من شيء أمور مجعولة عليها للابتلاء والامتحان إلى غير ذلك.

وهذا المسلك أعني الطريقة الثانية في إصلاح الأخلاق طريقة الأنبياء، ومنه شيء كثير في القرآن، وفيما ينقل إلينا من الكتب السماوية.

وهاهنا مسلك ثالث مخصوص بالقرآن الكريم لا يوجد في شيء مما نقل إلينا من الكتب السماوية، وتعاليم الأنبياء الماضين سلام الله عليهم أجمعين، ولا في المعارف المأثورة من الحكماء الإلهيين، وهو تربية الإنسان وصفا وعلما باستعمال علوم ومعارف لا يبقى معها موضوع الرذائل، وبعبارة أخرى إزالة الأوصاف الرذيلة بالرفع لا بالدفع.

وذلك كما أن كل فعل يراد به غير الله سبحانه فالغاية المطلوبة منه إما عزة في المطلوب يطمع فيها، أو قوة يخاف منها ويحذر عنها، لكن الله سبحانه يقول: {إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} [يونس: 65] ، ويقول: { أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} [البقرة: 165] ، والتحقق بهذا العلم الحق لا يبقى موضوعا لرياء، ولا سمعة، ولا خوف من غير الله ولا رجاء لغيره، ولا ركون إلى غيره، فهاتان القضيتان إذا صارتا معلومتين للإنسان تغسلان كل ذميمة وصفا أو فعلا عن الإنسان وتحليان نفسه بحلية ما يقابلها من الصفات الكريمة الإلهية من التقوى بالله، والتعزز بالله وغيرهما من مناعة وكبرياء واستغناء وهيبة إلهية ربانية.

وأيضا قد تكرر في كلامه تعالى: {أن الملك لله}، وأن {له ملك السماوات والأرض} وأن {له ما في السماوات والأرض} وقد مر بيانه مرارا، وحقيقة هذا الملك كما هو ظاهر لا تبقى لشيء من الموجودات استقلالا دونه، واستغناء عنه بوجه من الوجوه فلا شيء إلا وهو سبحانه المالك لذاته ولكل ما لذاته، وإيمان الإنسان بهذا الملك وتحققه به يوجب سقوط جميع الأشياء ذاتا ووصفا وفعلا عنده عن درجة الاستقلال، فهذا الإنسان لا يمكنه أن يريد غير وجهه تعالى، ولا أن يخضع لشيء، أو يخاف أو يرجو شيئا، أو يلتذ أو يبتهج بشيء، أو يركن إلى شيء أو يتوكل على شيء أو يسلم لشيء أو يفوض إلى شيء، غير وجهه تعالى، وبالجملة لا يريد ولا يطلب شيئا إلا وجهه الحق الباقي بعد فناء كل شيء، ولا يعرض إعراضا ولا يهرب إلا عن الباطل الذي هو غيره الذي لا يرى لوجوده وقعا ولا يعبأ به قبال الحق الذي هو وجود باريه جل شأنه.

وكذلك قوله تعالى: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [طه: 8] ، وقوله: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام: 102] ، وقوله: " {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} [السجدة: 7] ، وقوله: {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ } [طه: 111] وقوله: {كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ } [البقرة: 116] ، وقوله: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ } [الإسراء: 23] ، وقوله: {أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [فصلت: 53] ، وقوله: {أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ} [فصلت: 54] ، وقوله: {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى} [النجم: 42].

ومن هذا الباب الآيات التي نحن فيها وهي قوله تعالى: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة: 155، 156] إلى آخرها فإن هذه الآيات وأمثالها مشتملة على معارف خاصة إلهية ذات نتائج خاصة حقيقية لا تشابه تربيتها نوع التربية التي يقصدها حكيم أخلاقي في فنه، ولا نوع التربية التي سنها الأنبياء في شرائعهم، فإن المسلك الأول كما عرفت مبني على العقائد العامة الاجتماعية في الحسن والقبح والمسلك الثاني مبني على العقائد العامة الدينية في التكاليف العبودية ومجازاتها، وهذا المسلك الثالث مبني على التوحيد الخالص الكامل الذي يختص به الإسلام على مشرعه وآله أفضل الصلاة هذا.

فإن تعجب فعجب قول بعض المستشرقين من علماء الغرب في تاريخه الذي يبحث فيه عن تمدن الإسلام، وحاصله: أن الذي يجب للباحث أن يعتني به هو البحث عن شئون المدنية التي بسطتها الدعوة الدينية الإسلامية بين الناس من متبعيها، والمزايا والخصائص التي خلفها وورثها فيهم من تقدم الحضارة وتعالي المدنية، وأما المعارف الدينية التي يشتمل عليها الإسلام فهي مواد أخلاقية يشترك فيها جميع النبوات، ويدعو إليها جميع الأنبياء هذا.

وأنت بالإحاطة بما قدمناه من البيان تعرف سقوط نظره، وخبط رأيه فإن النتيجة فرع لمقدمتها، والآثار الخارجية المترتبة على التربية إنما هي مواليد ونتائج لنوع العلوم والمعارف التي تلقاها المتعلم المتربي، وليسا سواء قول يدعو إلى حق نازل وكمال متوسط وقول يدعو إلى محض الحق وأقصى الكمال، وهذا حال هذا المسلك الثالث، فأول المسالك يدعو إلى الحق الاجتماعي، وثانيها يدعو إلى الحق الواقعي والكمال الحقيقي الذي فيه سعادة الإنسان في حياته الآخرة، وثالثها يدعو إلى الحق الذي هو الله، ويبني تربيته على أن الله سبحانه واحد لا شريك له، وينتج العبودية المحضة، وكم بين المسالك من فرق!.

وقد أهدى هذا المسلك إلى الاجتماع الإنساني جما غفيرا من العباد الصالحين، والعلماء الربانيين، والأولياء المقربين رجالا ونساء، وكفى بذلك شرفا للدين.

على أن هذا المسلك ربما يفترق عن المسلكين الآخرين بحسب النتائج، فإن بناءه على الحب العبودي، وإيثار جانب الرب على جانب العبد ومن المعلوم أن الحب والوله والتيم ربما يدل الإنسان المحب على أمور لا يستصوبه العقل الاجتماعي الذي هو ملاك الأخلاق الاجتماعية، أوالفهم العام العادي الذي هو أساس التكاليف العامة الدينية، فللعقل أحكام، وللحب أحكام، وسيجيء توضيح هذا المعنى في بعض الأبحاث الآتية إن شاء الله تعالى.

قوله تعالى: {أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون} الآية.

التدبر في الآية يعطي أن الصلاة غير الرحمة بوجه، ويشهد به جمع الصلاة وإفراد الرحمة، وقد قال تعالى: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا } [الأحزاب: 43] ، والآية تفيد كون قوله: {وكان بالمؤمنين رحيما}، في موقع العلة لقوله: { هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ } [الأحزاب: 43] ، والمعنى أنه إنما يصلي عليكم، وكان من اللازم المترقب ذلك، لأن عادته جرت على الرحمة بالمؤمنين، وأنتم مؤمنون فكان من شأنكم أن يصلي عليكم حتى يرحمكم، فنسبة الصلاة إلى الرحمة نسبة المقدمة إلى ذيلها وكالنسبة التي بين الالتفات والنظر، والتي بين الإلقاء في النار والإحراق مثلا، وهذا يناسب ما قيل في معنى الصلاة: إنها الانعطاف والميل، فالصلاة من الله سبحانه انعطاف إلى العبد بالرحمة ومن الملائكة انعطاف إلى الإنسان بالتوسط في إيصال الرحمة، ومن المؤمنين رجوع ودعاء بالعبودية وهذا لا ينافي كون الصلاة بنفسها رحمة ومن مصاديقها، فإن الرحمة في القرآن على ما يعطيه التدبر في مواردها هي العطية المطلقة الإلهية، والموهبة العامة الربانية، كما قال تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ } [الأعراف: 156] ، وقال تعالى: {وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ} [الأنعام: 133] ، فالإذهاب لغناه والاستخلاف والإنشاء لرحمته، وهما جميعا يستندان إلى رحمته كما يستندان إلى غناه فكل خلق وأمر رحمة، كما أن كل خلق وأمر عطية تحتاج إلى غنى، قال تعالى: {وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا} [الإسراء: 20] ، ومن عطيته الصلاة فهي أيضا من الرحمة غير أنها رحمة خاصة، ومن هنا يمكن أن يوجه جمع الصلاة وإفراد الرحمة في الآية.

قوله تعالى: {وأولئك هم المهتدون}، كأنه بمنزلة النتيجة لقوله: أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة، ولذلك جدد اهتداءهم جملة ثانية مفصولة عن الأولى، ولم يقل: صلوات من ربهم ورحمة وهداية، ولم يقل: وأولئك هم المهديون بل ذكر قبولهم للهداية بالتعبير بلفظ الاهتداء الذي هو فرع مترتب على الهداية، فقد تبين أن الرحمة هدايتهم إليه تعالى، والصلوات كالمقدمات لهذه الهداية واهتداءهم نتيجة هذه الهداية، فكل من الصلاة والرحمة والاهتداء غير الآخر وإن كان الجميع رحمة بنظر آخر.

فمثل هؤلاء المؤمنين في ما يخبره الله من كرامته عليهم مثل صديقك تلقاه وهو يريد دارك، ويسأل عنها يريد النزول بك فتلقاه بالبشر والكرامة، فتورده مستقيم الطريق وأنت معه تسيره، ولا تدعه يضل في مسيره حتى تورده نزلة من دارك وتعاهده في الطريق بمأكله ومشربه، وركوبه وسيره، وحفظه من كل مكروه يصيبه فجميع هذه الأمور إكرام واحد لأنك إنما تريد إكرامه، وكل تعاهد تعاهد وإكرام خاص، والهداية غير الإكرام، وغير التعاهد، وهو مع ذلك إكرام فكل منها تعاهد، وكل منها هداية وكل منها إكرام خاص، والجميع إكرام.

فالإكرام الواحد العام بمنزلة الرحمة، والتعاهدات في كل حين بمنزلة الصلوات، والنزول في الدار بمنزلة الاهتداء.

والإتيان بالجملة الاسمية في قوله: وأولئك هم المهتدون، والابتداء باسم الإشارة الدال على البعيد، وضمير الفصل ثانيا وتعريف الخبر بلام الموصول في قوله: المهتدون كل ذلك لتعظيم أمرهم وتفخيمه - والله أعلم.

________________________

1- الميزان ، الطباطبائي ، ج1 ، ص285-302.

 

تفسير الامثل
- ذكر الشيخ ناصر مكارم الشيرازي في تفسير  هذه الآيات (1) :

{يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَوةِ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّبِرِينَ(153) وَلاَ تَقُولُوا لِمَن يُقْتَلُ فِى سَبِيلِ اللهِ أَمْوَتٌ بَلْ أَحْيَآءٌ وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ...}

الشّهداء أحياء

الآيات السابقة عرضت مفاهيم التعليم والتربية والذكر والشكر، وهي مفاهيم ذات معنى واسع جداً، وتتضمن أغلب التعاليم الدينية، وفي الآية الاُولى من آيتي بحثنا دار الحديث حول الصبر الذي لا تتحقق المفاهيم السابقة بدونه.

تقول الآية أوّلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاة}.

واجهوا المشاكل والصعاب بهاتين القوتين، فالنصر حليفكم: {إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابرِينَ}.

خلافاً لما يتصور بعض النّاس «الصَّبْر» لا يعني تحمل الشقاء وقبول الذلة والإستسلام للعوامل الخارجية، بل الصبر يعني المقاومة والثبات أمام جميع المشاكل والحوادث.

لذلك قال علماء الأخلاق إن الصبر على ثلاث شعب:

الصبر على الطّاعة: أي المقاومة أمام المشاكل التي تعتري طريق الطاعة.

الصبر على المعصية: أي الثبات أمام دوافع الشهوات العادية وارتكاب المعصية.

الصبر على المصيبة: أي الصمود أمام الحوادث المرّة وعدم الإنهيار وترك الجزع والفزع.

قلّما كرر القرآن موضوعاً وأكد عليه كموضوع «الصبر»، ففي سبعين موضعاً قرآنياً تقريباً دار الحديث عن الصبر. بينها عشرة تختص بالنّبي(صلى الله عليه وآله وسلم).

تاريخ العظماء يؤكد أن أحد عوامل انتصارهم ـ بل أهمها ـ صبرهم واستقامتهم. والأفراد الفاقدون لهذه الصفة سرعان ما ينهزمون وينهارون. ويمكن القول أن دور هذا العامل في تقدم الأفراد والمجتمعات يفوق دور الإمكانات والكفاءات والذكاء ونظائرها.

من هنا طرح القرآن هذا الموضوع بعبارات مؤكدة كقوله تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10] .

وفي موضع آخر يقول سبحانه بعد أن ذكر الصبر أمام الحوادث: {إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [لقمان: 17] .

من خصائص الصبر أن بقية الفضائل لا يكون لها قيمة بدونه، لأن السند والرصيد في جميعها هو الصبر، لذلك يقول أمير المؤمنين علي(عليه السلام): «وَعَلَيْكُمْ بِالصَّبْرِ فَإِنَّ الصَّبْرَ مِنَ الإِيْمَانِ كَالرَّأسِ مِنَ الْجَسَدِ، وَلاَ خَيْرَ في جَسَد لاَ رَأْسَ مَعَهُ وَلاَ فِي إِيمَان لاَ صَبْرَ مَعَهُ»(2).

الروايات الإسلامية ذكرت أن أسمى مراحل الصبر ضبط النفس تتجلّى في مقاومة الانسان عند توفّر وسائل المعاصي والذنوب.

الآية التي يدور حولها بحثنا تؤكد للجماعة المسلمة الثائرة في صدر الإسلام خاصة أن الأعداء يحيطونهم من كل حدب وصوب، وتأمرهم أن يستعينوا بالصبر أمام الحوادث، فنتيجة ذلك استقلال الشخصية و الإِعتماد على النفس والثّقة بالذات في كنف الإيمان بالله. وتاريخ الإسلام يشهد بوضوح أن هذا الأصل كان أساس كل الإنتصارات.

الموضوع الآخر الذي أكدت عليه الآية أعلاه باعتباره السند الهام إلى جانب الصبر هو «الصلاة». وروي أن عليّاً(عليه السلام): «كَانَ إِذَا أَهالَهُ أَمْرٌ فَزِعٌ قَامَ إِلى الصَّلاَةِ ثُمَّ تَلاَ هذِهِ الآية: (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ ...)(3).

ولا عجب في ذلك، فالإِنسان حين يرى نفسه أمام عواصف المشاكل المضنية، ويحسّ بضعفه في مواجهتها، يحتاج إلى سند قوي لا متناه يعتمد عليه. والصلاة تحقق الإرتباط بهذا السند، وتخلق الطمأنينة الروحية اللازمة لمواجهة التحديات.

فالآية أعلاه تطرح مبدأين هامّين: الأوّل ـ الإعتماد على الله، ومظهره الصلاة، والآخر ـ الإعتماد على النفس، وهو الذي عبرت عنه الآية بالصبر.

وبعد ذكر الصبر والإستقامة تتحدث الآية التالية عن خلود الشهداء، الذين يجسّدون أروع نماذج الصابرين على طريق الله.

تقول الآية: {وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتٌ} ثم تؤكد هذا المفهوم ثانية بالإستدراك {بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لاَ تَشْعُرُونَ}.

في كل حركة ـ أساساً ـ تنزوي مجموعة محبّة للعافية، وتبتعد عن الاُمّة الثائرة، ولا تكتفي هي بالتقاعس والتكاسل، بل تسعى إلى تثبيط عزائم الآخرين وبثّ الرخوة والتماهل في المجتمع. وما أن تظهر حادثة مؤلمة حتى يعربون عن أسفهم وينقمون على الحركة التي أدت إلى هذه الحادثة، غافلين أن كل هدف مقدس يحتاج إلى تضحيات، وتلك سنة كونية.

القرآن الكريم يتحدث عن مثل هذه الفئة كراراً ويؤنّبهم بشدّة.

ثمة أفراد من هؤلاء كانوا يتظاهرون بالتأسف والتألم على (موت) شهيد من شهداء الإسلام في المعركة، ويبعثون بذلك القلق والاضطراب في النفوس.

والله سبحانه يرد على هذه الأقاويل السامة بالكشف عن حقيقة كبرى هي إن الذين يضحون بأنفسهم في سبيل الله ليسوا بأموات ... هؤلاء أحياء ... ويتمتعون بنعم الله ورضوانه، لكن البشر المحدودين في عالم الحسّ لا يدركون هذه الحقائق.

وقوله : {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ } [البقرة: 155 - 157]

الدّنيا دار اختبار إلهي

بعد ذكر مسألة الشهادة في سبيل الله، والحياة الخالدة للشّهداء، ومسألة الصبر والشكر ... وكلّها من مظاهر الإختبار الإلهي، تعرضت هذه الآية للإختبار الإلهي العام، ولمظاهره المختلفة، باعتباره سنة كونية لا تقبل التغيير {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْء مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْض مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنْفُسِ وَالَّثمَرَاتِ}.

ولما كان الإنتصار في هذه الإختبارات، لا يتحقق إلاّ في ظل الثبات والمقاومة، قالت الآية بعد ذلك {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ}.

فالصابرون هم الذين يستطيعون أن يخرجوا منتصرين من هذه الإمتحانات، لا غيرهم.

الآية التالية تعرّف الصابرين وتقول: {أَلَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصيبَةٌ قَالوا: إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيُهِ رَاجِعُونَ}.

الإقرار التام بالعبودية المطلقة لله، يعلمنا أن لا نحزن على ما فاتنا، لأنه سبحانه مالكنا ومالك جميع ما لدينا من مواهب، إن شاء منحنا إيّاها، وإن استوجبت المصلحة أخذها منا، وفي المنحة والمحنة مصلحة لنا.

والإلتفات المستمر إلى حقيقة عودتنا إلى الله سبحانه، يشعرنا بزوال هذه الحياة، وبأن نقص المواهب المادية ووفورها غرض زائل، ووسيلة لارتقاء الإنسان على سلم تكامله، فاستشعار العبودية والعودة في عبارة {إنَا للهِ وَإِنّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} له الأثر الكبير في تعميق روح المقاومة والإستقامة والصبر في النفس.

واضح أن المقصود من قول هذه العبارة ليس ترديدها باللسان فقط، بل استشعار هذه الحقيقة، والإلتفات إلى ما تنطوي عليه من توحيد وإيمان.

وآخر آية في بحثنا هذا، تتحدث عن الألطاف الإلهية الكبرى، التّي تشمل الصابرين الصامدين المتخرجين بنجاح من هذه الإمتحانات الإلهية: {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ}(4).

هذه الصلوات والرحمة تجعل هؤلاء على بصيرة من أمرهم، في مسيرتهم الحياتية المحفوفة بالمزالق والأخطار، لذلك تقول الآية: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ}.

وبهذه العبارات المختصرة المقتضبة، يطرح القرآن مسألة الامتحان الكبير بأبعاده المختلفة، وعوامل النجاح فيه ونتائجه.

___________________

1- الامثل ، ناصر مكارم الشيرازي ، ج1 ، ص359-365.

2 ـ نهج البلاغة، الكلمات القصار، رقم 82.

3 ـ الكافي، نقلا عن الميزان، ج 1، ص 154.

4 ـ قيل إن الصّلوات هنا ألوان التكريم والتأييد ورفعة المقام، وعن ابن عباس أنّها غفران الذنوب (المنار، ج 2، ص 40)، وواضح أن الصّلوات لها مفهوم واسع يشمل هذه الاُمور وسائر النعم الإلهية.

 




وهو تفسير الآيات القرآنية على أساس الترتيب الزماني للآيات ، واعتبار الهجرة حدّاً زمنيّاً فاصلاً بين مرحلتين ، فكلُّ آيةٍ نزلت قبل الهجرة تُعتبر مكّيّة ، وكلّ آيةٍ نزلت بعد الهجرة فهي مدنيّة وإن كان مكان نزولها (مكّة) ، كالآيات التي نزلت على النبي حين كان في مكّة وقت الفتح ، فالمقياس هو الناحية الزمنيّة لا المكانيّة .

- المحكم هو الآيات التي معناها المقصود واضح لا يشتبه بالمعنى غير المقصود ، فيجب الايمان بمثل هذه الآيات والعمل بها.
- المتشابه هو الآيات التي لا تقصد ظواهرها ، ومعناها الحقيقي الذي يعبر عنه بـ«التأويل» لا يعلمه الا الله تعالى فيجب الايمان بمثل هذه الآيات ولكن لا يعمل بها.

النسخ في اللغة والقاموس هو بمعنى الإزالة والتغيير والتبديل والتحوير وابطال الشي‏ء ورفعه واقامة شي‏ء مقام شي‏ء، فيقال نسخت الشمس الظل : أي ازالته.
وتعريفه هو رفع حكم شرعي سابق بنص شرعي لا حق مع التراخي والزمان بينهما ، أي يكون بين الناسخ والمنسوخ زمن يكون المنسوخ ثابتا وملزما بحيث لو لم يكن النص الناسخ لاستمر العمل بالسابق وكان حكمه قائما .
وباختصار النسخ هو رفع الحكم الشرعي بخطاب قطعي للدلالة ومتأخر عنه أو هو بيان انتهاء امده والنسخ «جائز عقلا وواقع سمعا في شرائع ينسخ اللاحق منها السابق وفي شريعة واحدة» .