أقرأ أيضاً
التاريخ: 4-9-2016
902
التاريخ: 10-8-2016
760
التاريخ: 18-8-2016
857
التاريخ: 5-9-2016
945
|
لا شبهة - أولا - في أن المقدار من العنوان [الإجمالي] المتعلق للقطع غير قابل لردعه، إذ في هذا المقدار لا ميز بينه وبين القطع بعنوانه التفصيلي في نظر العقل، فلا محيص في نظر العقل من الحركة نحو الجامع المعلوم في ظرف له الأثر الملازم لوجود الأثر على فرض انطباقه على كل واحد من الطرفين، وإلا فلو فرض [الأثر] لأحد الطرفين دون الآخر، صدق بأن الجامع بما هو جامع لا أثر له، وإنما الأثر لبعض أفراده، ففي مثل هذه الصورة لا حكم للعقل بالحركة على وفق قطعه بالجامع كما لا يخفى.
وحيث عرفت ذلك فنقول: إن لازم حكم العقل بنحو التنجيز بالحركة على وفق ما تعلق به القطع من العنوان الإجمالي تنجز ما يحكي العنوان عنه بنحو [التنجيز] بحيث لم يكن قابلا لردعه، لأوله إلى ردع قطعه.
ولقد عرفت أن ردع القطع بما هو قطع غير معقول [لدى] العقل، وحينئذ، فلو انطبق المقطوع على كل واحد من الطرفين فقد انطبق عليه ما تنجز عليه حكمه بنحو [التنجيز]، ولازمه إباء ما انطبق عليه هذا المقطوع عن ورود الترخيص على خلافه أيضا، لأن ترخيصه في ظرف انطباق العنوان الإجمالي عليه مساوق ردع نفس العنوان، وهو خلف. وحينئذ مع احتمال انطباق المعلوم على كل واحد من الطرفين يستحيل مجئ الترخيص على كل واحد [منهما] ولو مع عدم معارضته للآخر، لأن الترخيص المزبور في ظرف انطباق الواقع ينافي التنجز للعنوان المنطبق عليه، ففي الحقيقة مرجع هذا الترخيص إلى الترخيص في محتمل المعصية وهو كمقطوعها محال.
وبعد هذا البيان لا يبقى مجال دعوى الفرق بين الموافقة القطعية ومخالفتها بأن مرتبة الحكم الظاهري في [طرف الموافقة محفوظة]، فلا قصور لشمول أدلة الترخيص الظاهري لها بخلاف [طرف] المخالفة القطعية، فإن مرتبة الحكم الظاهري [ليست محفوظة] فيه، وبذلك أيضا يمتاز القطع الإجمالي عن التفصيلي. وتوضيح فساد الدعوى المزبورة بأن ما افيد إنما يتم على فرض قابلية المحل للترخيص، وإنما [القصور] في شمول الدليل، لفقد الموضوع، وأما لو كان عمدة المانع احتمال انطباق ما هو متنجز - بنحو التنجيز - عليه فيستحيل مجئ الترخيص ولو مع وجود الجهل الذي هو موضوعه، وحينئذ، فحفظ مرتبة الحكم الظاهري في [طرف الموافقة] لا يجدي، إذ ليس المانع مجرد وجود الحكم الواقعي كي باختلاف المرتبة يجمع بينه وبين الحكم الظاهري، بل عمدة المانع تنجزه بقطعه [تنجيزا] بضميمة احتمال انطباقه على المورد. وأغرب من هذا البيان [ما قيل (1)] في وجه التفكيك بين الموافقة القطعية ومخالفتها، بأنه من المعلوم ورود الترخيص على أحد الطرفين بحيث لا يجب الموافقة القطعية في موارد قيام أمارة على تعيين المعلوم في أحد الطرفين الملازم للترخيص في ترك الآخر ظاهريا، وهكذا في صورة قيام أصل مثبت للتكليف في أحد الطرفين أو امارة مثبتة غير معينة، [فإنه] لا شبهة حينئذ في عدم وجوب الطرف الآخر، وذلك شاهد جزمي - أيضا - على عدم علية القطع الإجمالي في [طرف] الموافقة القطعية، بخلافه في المخالفة القطعية. وتوضيح الضعف: هو أن الغرض من علية القطع للموافقة القطعية، عدم صلاحية ورود الترخيص بمحض احتمال الانطباق من جهة الجزم [بتنجيزية] حكم العقل بتنجز مقطوعه. وأما مع قيام الأمارة على تعيين المصداق فلا شبهة في أن العقل يكتفي في امتثال معلومه بإتيان مصداقه ولو ظاهريا [وجعليا]، كما هو الشأن في العلوم التفصيلية، إذ علية العلم التفصيلي لا تقتضي أيضا أزيد من لزوم موافقة المعلوم ولو بمصداقه الجعلي، ولذا ربما يحرز مصداقه بقاعدة التجاوز أو الفراغ، ومع ذلك لا يكتفي العقل بمحتمل المصداقية، بل يحكم حكما تنجيزيا بلزوم تحصيل القطع بالموافقة.
ولئن شئت قلت: الغرض من علية القطع بالحكم تفصيليا أم إجماليا عليته في حكم العقل بالاشتغال، وأما في مرتبة الفراغ، فيكتفي العقل بالفراغ الأعم من الوجداني أو الجعلي. نعم، لا يكتفي بمحض احتمال الفراغ، ولذا لا يقنع العقل بإتيان ما يحتمل فيه فقد الشرط بلا قيام أمارة أو أصل محرز لشرطه. وحينئذ لا مجال لقياس مورد قيام الأمارة على التعيين بصورة عدمه. وبالجملة: همنا في العلم الإجمالي ليس بأزيد من العلم التفصيلي، فكما أن معنى علية العلم التفصيلي اقتضاؤه تحصيل الموافقة الأعم من [الوجدانية والجعلية] وعدم قناعة العقل بتحصيل محتمل الموافقة ومشكوك الفراغ، كذلك معنى علية القطع الإجمالي - أيضا - ليس إلا هذا المقدار، وحينئذ لا يبقى مجال إلحاق صورة الشك بالفراغ بصورة قيام الأمارة على تعيين المصداق. وإلى هذا المعنى - أيضا - نظرهم من أن الاشتغال اليقيني يقتضي الفراغ اليقيني، أعم من الوجداني والجعلي.
وأما صورة قيام الاصول المثبتة في أحد الطرفين، فهو - أيضا - بملاحظة صيرورته سببا لانحلال العلم المانع عن تأثير العلم في مرتبة الاشتغال، فلا [تكاد] حينئذ [تنتهي] النوبة إلى مقام الفراغ، كي لا يكتفي العقل بمحتمل الفراغ. وحينئذ لا يبقى مجال الاستشهاد بأمثال هذه الموارد في جواز مجئ الترخيص في أحد طرفي العلم الإجمالي عند عدم تعيين المعلوم في أحد الطرفين، كما لا يخفى. ومن هذه البيانات ظهر المرام من علية العلم الإجمالي لتحصيل القطع بحصول المعلوم وجدانا، كما في [الموافقة] القطعية أو جعليا، كما في موارد جعل البدل، ولو بقيام أمارة على تعيين المعلوم في أحد الطرفين. ولازم ذلك: عدم اكتفاء العقل بإتيان أحد الطرفين، ولو بترخيص من الشرع بلا جعل بدل، لعدم صلاحية الترخيص الشرعي لرفع [إلزام] العقل بتحصيل الفراغ في ظرف الجزم بالاشتغال، كما هو الشأن في العلوم التفصيلية، كما هو ظاهر. ثم إن الأغرب من [التقريبين] في وجه التفكيك بين الموافقة القطعية ومخالفته دعوى اخرى، وهي: إن من البديهي أن العلم الإجمالي بالجامع لا يكاد يسري إلى الطرفين، بل هو قائم بنفس الجامع في ظرف انحفاظه عن خصوصية الطرفين ومجردا عنها، وليس حال العلم بمثله كسائر الآثار السارية إلى الحصص المحفوظة في ضمن أفراده، بل أفراد ما تعلق به العلم عارية عن صفة المعلومية بجميع شؤونه - وحينئذ - فكل فرد من هذا الجامع بشراشر وجوده تحت الشك - وحينئذ - فبعد ما لم يسر إليها العلم، فلا يكاد يسري إليها التنجز الذي هو من شؤون العلم، بل التنجز - أيضا - يقف على ما هو معلوم. ولازم ذلك: عدم قصور لدى العقل في جواز ترك كل واحد، لعدم تمامية البيان بالنسبة إليه. نعم، لا يرخص في تركهما، لانتهائه إلى ترك الجامع الذي تم فيه البيان، حسب الفرض.
ومرجع هذا التقريب إلى تجويز ترك الموافقة القطعية، ولو لم يكن في البين ترخيص من قبل الشرع. ولازمه: عدم احتياجه في جواز ارتكاب أحد الطرفين إلى فرض عدم المعارضة بين الأصلين، وربما لا يلتزم به جملة من القائلين بجواز ترك الموافقة عند عدم المعارضة بين الأصلين. ومرجع ذلك: - في الحقيقة - إلى نفي اقتضاء العلم أزيد من [حرمة] المخالفة القطعية، ولم يلتزم به مشهورهم، إذ هم معترفون باقتضاء العلم للموافقة، غاية الأمر: يدعون بقابليته لمنع المانع، لولا معارضة [أحد] الأصلين للآخر. وعلى أي حال، لا يخلو هذا التقريب - أيضا - عن الضعف، وذلك بأن العلم بالجامع، وإن لم يسر إلى الأفراد، ولكن التنجز الذي هو نتيجته قائم بالجامع وتابع له في قابلية السراية إلى ما انطبق عليه الجامع بلا وقوفه بنفس الجامع، غاية الأمر: القطع به سبب قيام التنجز على موضوعه، ومجرد عدم قابلية السبب للسراية لا يوجب عدم سراية مسببه تبعا لموضوعه. وبعبارة اخرى نقول: إن وجه عدم سراية العلم إلى الطرفين، إنما هو من جهة قيام العلم بنفس الصورة الإجمالية المباينة مع الصور التفصيلية للطرفين، فلا يسري اليهما، بخلاف التنجز، فإنه من تبعات واقع التكليف، فمع احتمال وجوده في أيهما يتبعه تنجزه، فيصير كل منهما - حينئذ - محتمل التنجز الملازم لاحتمال الضرر فيه، فيصير موضوع [حكم] العقل بدفع الضرر المحتمل، لا [بقبح] العقاب، إذ يكتفي العقل في بيان واقع التكليف بالعلم، ولو بصورته الإجمالية، فلذا كان العلم المزبور - لولا الترخيص - يقتضي الموافقة القطعية، غاية الأمر نحن نقول: إن هذا الاقتضاء تنجيزي في ظرف عدم تعيين المصداق وغير قابل للترخيص، لاقتضاء الاشتغال اليقيني الفراغ اليقيني، ولا يكتفي بالفراغ المحتمل [تنجيزا] بنحو لا يقبل الترخيص من قبل الشرع، كما هو الشأن في العلوم [التفصيلية]. ولازمه: عدم جواز ترك الموافقة ولو لم يكن تعارض بين الأصلين، كما هو الشأن في فرض جريان قاعدة الطهارة [في] طرف، والاستصحاب في الآخر. وتوهم عدم جعل الطهارتين في [طرف] القاعدة مسلم لو كانا [عرضيين]. وأما بنحو الطولية وإناطة أحدهما بعدم الآخر فلا بأس به، وذلك - أيضا - لو لم نقل بأن المجعول واحد، وأن الطريق إلى جعله ظهوران طوليان في عموم القاعدة وأدلة الاستصحاب. هذا مع أن لازم قابلية اقتضاء العلم لمنع المانع عند جريان الاستصحابين مثلا في الطرفين الالتزام [بالتخيير] في الارتكاب، لا التساقط، لأن الأمر - حينئذ - يدور بين تخصيص العموم الملازم لسقوطهما أو تقييد إطلاق كل واحد بعدم ارتكاب الآخر. والتقييد أولى من التخصيص، كما لا يخفى. وحينئذ، لا مجال للفرار من هذا المحذور إلا دعوى تنجزية حكم العقل عند الاشتغال بعدم الاكتفاء بالشك بالفراغ، كما هو الشأن في العلوم التفصيلية، فتدبر. ثم إن من أظرف الكلام توهم إجراء الأصل في أحد الطرفين، وكشف جعل الآخر بدلا عن الواقع، إذ فساده غني عن البيان، إذ الغرض من جعل الآخر بدلا عن الواقع، إن كان جعله مصداقا للمعلوم، فشأن الاصول ليس ذلك، وإن كان الغرض بدليته عن الواقع في ظرف موافقته ولو لم يكن مصداقا جعليا له [فالعقل] لا يكتفي بذلك، إذ هم العقل بعد الاشتغال ليس إلا تحصيل مصداق ما في الذمة الذي هو المفرغ لها، هذا. مع أن اليقين بالبدلية هو المفرغ [لدى] العقل، لاقتضاء الاشتغال الفراغ اليقيني، فما لم يحرز البدلية أو الانحلال لا يجوز الترخيص في الطرف، وحينئذ كيف يعقل إحراز ذلك بعموم دليل الترخيص؟ فهل هذا إلا دور مصرح؟ نعم، ربما يرد في بعض الفروض مثل هذا الاشكال، وهو: ما لو كان التكليف في أحد الطرفين مشروطا بعدم التكليف في الآخر، فإنه لا إشكال عندهم في جريان استصحاب العدم في الطرف الآخر، وبه يثبت التكليف في طرفه، مع أن المورد تحت العلم الإجمالي بأحد التكليفين المستلزم لعدم جريان الاصل النافي قبل إحراز المصداق أو الانحلال، وحينئذ كيف يحرز الأصل المثبت بعموم الأصل النافي في الطرف الآخر. ولكن يمكن الفرار عنه بإمكان كون النظر في الأصل النافي إلى مجرد إحراز موضوع المثبت ووسيلة لجريان المثبت، بلا نظر منه إلى إثبات عذر فيه، وأن العذر إنما يثبت بجريان المثبت، وكأن في المقام نحو حيلة لإثبات الاصول المثبتة ببركة الأصل النافي، كما أنه لو بنينا على حجية الاصول المثبتة أمكن إجراء هذه الحيلة في جميع الموارد، ولكنه كما ترى. ثم إنه قد توهم في الشرع موارد ينتهي الأمر فيها إلى جواز المخالفة القطعية، ولكل توجيه [تعرضوا له] في المطولات، [فراجع (2)].
[الكلام في التجري] :
بقي التنبيه على أمر خاتمة للمرام: وهو أن مخالفة المقطوع إجمالا [أو] تفصيلا، هل [توجب] - عقلا - استحقاق العقوبة ولو لم يصادف [قطعه] الواقع أم لا [توجب] الاستحقاق إلا عند المصادفة؟ وعلى فرض عدم الاستحقاق، هل يبقى مجال لحكم الشرع بالحرمة مولويا أم لا؟ بعد الجزم بعدم [المجال] لإعمال الجهة المولوية من الشرع، على فرض استقلال العقل بالاستحقاق، كما هو الشأن في باب الإطاعة، فهنا مقامان:
[حكم العقل باستحقاق العقاب على التجري] : المقام الأول في بيان حكم العقل بالاستحقاق أو عدمه: فقد يقال إن الالتزام باستحقاق العقوبة على العمل المزبور ملازم لمبغوضيته، ولو بهذا العنوان الثانوي لدى المولى، وذلك ملازم لانقلاب الواقع عما هو عليه من المحبوبية، فيصير محبوب المولى مبغوضا له، بمحض تخلف قطع عبده عن الواقع، والوجدان السليم يأبى عن ذلك. مضافا إلى عدم التفات القاطع إلى مخالفة قطعه كي يصير موضوع حكم العقل باستحقاقه. وقد يستشكل في الوجه الأول: بأن هذه المبغوضية في رتبة متأخرة عن الجهل بواقع مرام المولى، وبديهي أنه لا [تضاد] مع ما هو محفوظ في الواقع كي يوجب الانقلاب، كما هو الشأن في كل أمارة على خلاف الواقع، لما سيجيء بيانه في مقام دفع شبهة ابن قبة في كلية جعل الطرق.
وفيه أن ذلك كذلك لو كانت مصلحة الذات - أيضا - غير مقتضية لحفظ المرام، حتى في مرتبة الجهل به، كما هو شأن خطابه الآبي عن شمول مرتبة الجهل بنفسه. وأما مع إطلاق قيام المصلحة بالذات، فهي مقتضية لحفظه حتى في رتبة الجهل بخطابه. غاية الامر: الخطاب الواقعي لما كان آبيا عن الشمول لها، فلا محيص في حفظه من خطاب آخر متوجه إليه في ظرف الجهل المزبور، وحينئذ، ربما اقتضت مصلحة التسهيل أو جهة اخرى، الاغماض عن حفظه في ظرف الجهل بخطابه، كما هو الشأن في موارد جعل الطرق أو الترخيصات الظاهرية الأصلية. ولكن هذا المقدار لا يوجب إلا [قصور] إرادته عن الشمول لهذه المرتبة. وأما مرتبة محبوبيته الملازمة لإطلاق المصلحة فهي باقية على [حالها]، وحينئذ في هذه المرتبة، إن لم يكن فيه جهة مبغوضية في البين - كما هو الشأن في موارد الأوامر الطرقية وكلية الترخيصات الشرعية - فلا إشكال فيه. وأما إذا كان في هذه المرتبة - أيضا - [قد] انطبق عليه عنوان مبغوض كالتجري مثلا، يلزم حينئذ انقلاب حال المولى بمحض تخلف طريق عبده، والوجدان يأبى عن ذلك أيضا. وحينئذ ليس لك مجال دعوى رفع التضاد بمحض عدم مضادة الترخيص الظاهري مع الارادة الفعلية الواقعية [التي هي] مضمون خطابه. كما أنه ليس لك - أيضا - قياس المقام بباب جعل الطرق، وحينئذ لا مجال لتصديق العقل مع إطلاق المصلحة في حفظ الذات وحبه [لها] مبغوضية العمل المزبور بعنوانه الثانوي المنظور. نعم الذي يسهل الخطب هو أن هذا الإشكال إنما يجري في فرض الكلام في عنوان مقطوع المبغوضية، ولكن كلماتهم آبية عن الشمول لهذا العنوان، بل مركز بحثهم عنوان التجري المنتزع عن الذات في الرتبة المتأخرة [بنفسها] عن الأمر به، [قبال] العنوان السابق المنتزع عن الذات المحفوظ في رتبة واحدة [المتأخرة] عن الواقع بعنوانه لا بنفسه (3)، فإن في هذه الصورة ترى الذات في مرتبة تأثير الإرادة والمحبة، ومن البديهي ان هذه المرتبة مرتبة سقوطهما لا ثبوتهما، وليس هنا - أيضا - للمصلحة تأثير في الاشتياق، إذ بفعلية التأثير [تنعزل] عن التأثير، وإنما [تأثيرها متمحض بقبل] فعلية التأثير، ولذا نقول: إن في مرتبة الإطاعة لا يكون الأمر موجودا حتى بمباديه، وما يرى من وجود الأمر - حين الإطاعة - فإنما هو بحسب الزمان، وإلا بحسب الرتبة الإرادة والاشتياق من دواعي وجوده فكيف يجتمعان رتبة؟ وحينئذ، فلا قصور في حكم العقل بمبغوضيته بمناط مبغوضية العصيان، وهذه المبغوضية غير [ناشئة] عن المفسدة في العمل، كي [تضادها] في المقام مصلحته حسب الفرض، بل العقل يشمئز منه مستقلا، ولذا نقول: إن هذا الحسن غير موجب لإثبات حكم شرعي مولوي، ولو بنينا على الملازمة بين الشرع والعقل في بحث الملازمة كما لا يخفى، وحينئذ، فصح لنا دعوى أن بمثل هذه المبغوضية لدى العقل - ولو كان الشرع يتبع العقل أيضا في ذلك - لا يكاد ينقلب الواقع من المحبوبية القائمة بالذات في الرتبة السابقة [على] الإرادة والاشتياق، [التي هي] رتبة شأنية وجود المصلحة المؤثرة في مبادئ وجودها وفعلها، كما هو ظاهر للنظر العميق، هذا كله في الجواب عن الشبهة الاولى. وأما عن الشبهة الثانية:
فبأنه لو فرض قيام المبغوضية بالجامع بين العصيان والتجري، لا يحتاج في حكمه بالاستحقاق إلى التفاته إلى الخصوصية، بل يصير نظير من شرب الخمر بخيال كونه متخذا من العنب وهو متخذ من التمر في كفاية مجرد الالتفات إلى مبغوضية الجامع من مثل الطغيان على المولى، كما هو ظاهر. وبالجملة نقول: لا يبقى مجال لرفع اليد عن حكم العقل [بمبغوضية] العمل بمثل هذا البيان، لا بالبيان السابق، لما عرفت من عدم اقتضائه الانقلاب المزبور، ويؤيد ما ذكرنا ملاحظة الانقياد في المبغوضات الواقعية، إذ لا اشكال ظاهرا في حسنه كما يشهد له تصريحهم بحسن الاحتياط، مع أنه في تقدير ليس إلا انقيادا، فلا مجال للجزم بحسنه إلا مع الإلتزام بحسن الانقياد. وتوهم أن الثواب فيه تفضلي، يدفعه تصريحهم بحسنه، وهو يأبى عن صرف التفضل، مع أن بناء مثل شيخنا العلامة (4) على كفاية حسنه في التقرب في احتياط العبادات، وهو أيضا يأبى عن التفضل.
وحينئذ، فكما لا يلزم فيه إشكال الانقلاب، الذي هو خلاف الوجدان، كذلك في المقام، إذ هما - من تلك الجهة - توأمان يرتضعان من ثدي واحد، فلا محيص في المقام من الالتزام باستحقاق العقوبة على العمل الخارجي الملازم لمبغوضيته، كاستحقاق الثواب على العمل في باب الانقياد. ثم إنه قد يتوهم - في وجه الجمع بين حفظ الواقع على ما هو عليه ومبغوضية التجري - بأن ما هو مبغوض هو حيث إضافة الوجود إليه، مع محبوبية نفس الوجود، ويعبر عنه بالمبغوضية الفاعلية والمحبوبية الفعلية. وفيه: أن ما هو مبغوض هو عنوان التجري الذي هو عبارة عن الفعل المضاف لا إضافة الفعل [اي ذات الفعل وليست حالة انتساب الفعل إلى عنوان التجري]، مضافا إلى أن لازم مبغوضية إضافة الفعل مبغوضية نفس الفعل لكونه مقدمة للإضافة المزبورة. وأضعف من ذلك الالتزام بعدم المبغوضية وعدم استحقاق العقوبة بالتجري، وإنما هو يدل على سوء سريرة الفاعل، إذ يكفي في ضعفه مراجعة الوجدان الحاكم بأن الطغيان على ولي النعمة مما يشمئز منه العقل، ويرى عقوبة المولى في [محلها]، ولا [يراها] ظلما في حقه، ولا نعني من الاستحقاق الا هذا، مع أن لازمه الالتزام بالتسوية بين صدور التجري وعدمه منه، عند العلم بسوء سريرته من الخارج، وهو خلاف وجدان آخر.
وأضعف من الجميع الالتزام بالاستحقاق على عزمه بلا سراية إلى عمله، [نظير] التشريع، [إذ] العقل لا يرى الاستحقاق على العزم إلا من جهة كونه طريقا إلى صدور طغيانه، فكان الاستحقاق على العزم من باب استحقاق العبد في كل واجب أو حرام بالشروع في [تفويته بتفويت] مقدمته. وحينئذ، يبقى هذا الاستحقاق إلى آخر العمل بلا انقطاعه بمحض الشروع في العمل. نعم، حيث إن وحدة الطغيان والتسليم وتعدده [تابع لوحدة] الغرض الذي صار العبد بصراط [تفويته] وتعدده، فلا يجدي حينئذ طول الطغيان في كثرة الاستحقاق مع وحدة الغرض ولا قصره في قلته مع تعدد الغرض. وبالجملة نقول: إن الحق هو كون التجري كالانقياد موجبا للعقاب استحقاقا من حين الشروع في المقدمة من عزمه إلى آخر العمل، بلا ورود محذور عليه. ولعمري إن عمدة الوجه في التزامهم بهذه المسالك ليس إلا من جهة الفرار عن شبهة الانقلاب، حيث صار مثل هذه الشبهة مغروسا في أذهانهم، فالتزم كل طائفة في دفعه بما التزم. وبعد ما عرفت دفع الشبهة بما لا مزيد عليه، لا وجه لرفع اليد عما يقتضيه الطبع السليم والذوق المستقيم. وهذا المقدار من الوجدان - أيضا - كاف للمدعى، بلا احتياج إلى البرهان المعروف، كي يجاب بأن عدم العقوبة لأمر غير [اختياري] ليس بقبيح.
[حكم التجري شرعا] : ثم إنه لو بنينا على عدم الاستحقاق على الفعل، يبقى الكلام في المقام الثاني من قابلية العمل للحرمة الشرعية و[عدمها].
أقول: مع الالتزام باقتضاء مبغوضية العمل محذور انقلاب الواقع ولو في عالم المحبوبية، كما هو المغروس في أذهان هؤلاء الجماعة لا مجال لحرمته شرعا، حتى على توهم عدم اقتضاء التجري غير سوء سريرة الفاعل، لاقتضاء الحرمة المزبورة - أيضا - انقلاب الواقع. نعم: بناء على عدم كون مبنى عدم الاستحقاق شبهة الانقلاب، أمكن القول بالتفصيل بين هذه الأقوال في هذه الجهة، وأنه على مذهب سوء السريرة: لا بأس بحرمة العمل شرعا، لعدم قصور في إعمال الجهة المولوية حينئذ، ولكن ذلك على فرض وجود مقتض من الخارج، وإلا فنفس التجري كما لا يقتضي المبغوضية [عقلا] كذلك لا يقتضي الحرمة الشرعية أيضا، كما لا يخفى. وعلى مذهب الاستحقاق على العزم، أمكن دعوى عدم المجال لإعمال الجهة المولوية، إذ المقصود منه الدعوة الحاصلة [بإلزام] العقل بترك العزم عليه، ومع فرض حصوله بلا نهي، فلا فائدة في هذا النهي، فيصير لغوا. وهكذا على مذهب مبغوضية جهة الايجاد دون الوجود، لأن الغرض من النهي المولوي ردعه عن ايجاده، وهو بحكم العقل موجود، ففي هذه الصور لا مجال لإثبات الحرمة الشرعية ولو باقتضاء خارجي، وحينئذ [فلنا] - على فرض الإغماض عن شبهة الانقلاب - أن ندعي أيضا عدم مجال للحرمة مطلقا: إما لعدم المقتضي، أو لإثبات المانع، كما لا يخفى. ثم إنه - بعد ما عرفت مختارنا من عدم إقتضاء مبغوضية عنوان التجري قلب الواقع عما هو عليه - ظهر حينئذ أنه لا تزاحم بين محبوبية الواقع ومبغوضية التجري، كي - ببركته - يصير التجري قابلا للأحكام الخمسة بتساوي مقتضى الطرفين، وازدياد أحدهما على الآخر بمرتبة اللزوم وعدمه. فما عن الفصول (5) من مصيره إلى التزاحم بينهما [المنتج] للأحكام الخمسة منظور فيه جدا. نعم لو اغمض عما ذكرنا، وبنينا على التزاحم ففي لزوم تقديم مفسدة التجري في المبغوضية على [غيرها]، للغفلة عن الغير، فلا ينفك التجري حينئذ عن الحرمة، بل لو اغمض عن مانعية الغفلة أيضا لابد من تقديم حرمة التجري أيضا، لأنه علة تامة لمبغوضيته [المقدمة] على مقتضى غيره، إذ هو نحو ظلم على مولاه، و[لا تزاحم] مفسدة اخرى إياه إشكال (6) من أن غفلة المكلف عن مصلحة الواقع [المزاحمة] لمفسدة التجري لا [تضر] بإحداث المحبوبية على وفق المصلحة مع فرض التفات الحاكم [بها]، ومع هذه المحبوبية الواقعية كيف [تبقى] حرمة التجري على [حالها]، نعم لو كان الغرض إحداث حكم آخر بنحو يصير داعيا فعليا للمكلف [إلى] الحركة على وفقه [كانت] غفلة المكلف حينئذ [مانعة] عنه، ولكن مثل هذه الجهة غير مناف مع تأثير المصلحة الواقعية في محبوبيته، المانعة عن بقاء التجري على حرمته، كما أشرنا، فتدبر. كما أن مجرد كونه ظلما على مولاه لا يوجب تقدمه على خير كثير لمولاه، مع فرض قلته بالاضافة إليه، كما في فرض تجريه في عدم قتل ابن المولى بخيال عدوه فتدبر. وكيف كان، بعد اختلاف المشارب في هذا المقام ظهر لك مقتضى التحقيق في المرام: من استحقاق العبد بطغيانه الجامع بين التجري والعصيان للعقوبة حسب مراتب غرضه شدة وضعفا. وتوهم أن الاستحقاق في التجري ليس بمقداره في العصيان، لعدم فوت الغرض في مورده، كلام ظاهري، إذ لفوت الغرض لا يكون دخل في هذه الجهة، وتمام الدخل لطغيانه. نعم، لمراتب الغرض دخل في مراتب الطغيان لا لفوته دخل في أصله أو في مرتبته. نعم، الذي يسهل الخطب في باب التجري ورود النصوص على عدم العقوبة المحمولة على عدم الفعلية من جهة العفو، جمعا بينها وبين ما ورد [من النصوص الدالة على العقوبة على النية المحضة والمحمولة - كذلك -] أيضا على الاستحقاق، فراجع الأخبار في المطولات (7) وتأمل فيها.
_____________
(1) انظر فوائد الاصول 3: 77 و4: 25، 36.
(2) انظر فرائد الاصول: 28.
(3) جاء في تعليقة المحقق العراقي على كتاب فوائد الاصول (3: 42) ردا على هذا الاشكال ما نصه: أن المحبوب في الواقع هو الذات في الرتبة السابقة عن حكمه لأنه موضوعه، والذات المبغوض في التجري هو الذات الملحوظ في الرتبة اللاحقة عن العلم بحكمه، فالذاتان حيث كانتا في المرتبتين لا يتعدى حكم كل إلى الآخر، بعد التحقيق بأن موضوع الحكم ومعروضه في كل مقام هو العنوان لا المعنون بلا إضرار لوحدة المعنون أصلا، لعدم سراية الحكم إليه كما لا يخفى.
(4) انظر فرائد الاصول: 381 التنبيه الثاني من تنبيهات البراءة.
(5) حكى عنه الشيخ (رحمه الله) في فرائد الاصول ص 10، وانظر الفصول الغروية ص 431.
(6) إشكال: مبتدأ مؤخر لقوله السابق: ففي لزوم تقديم مفسدة التجري .
(7) انظر فرائد الاصول: 8 - 14.
|
|
دراسة يابانية لتقليل مخاطر أمراض المواليد منخفضي الوزن
|
|
|
|
|
اكتشاف أكبر مرجان في العالم قبالة سواحل جزر سليمان
|
|
|
|
|
قسم الشؤون الفكرية ينجز تصوير 39 مخطوطًا قديمًا نادرًا في قرية كاخك الإيرانية
|
|
|