المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية

الفقه الاسلامي واصوله
عدد المواضيع في هذا القسم 7541 موضوعاً
المسائل الفقهية
علم اصول الفقه
القواعد الفقهية
المصطلحات الفقهية
الفقه المقارن

Untitled Document
أبحث عن شيء أخر

الأفعال التي تنصب مفعولين
23-12-2014
صيغ المبالغة
18-02-2015
الجملة الإنشائية وأقسامها
26-03-2015
اولاد الامام الحسين (عليه السلام)
3-04-2015
معاني صيغ الزيادة
17-02-2015
انواع التمور في العراق
27-5-2016


النهي في العبادات والمعاملات  
  
5861   01:41 مساءاً   التاريخ: 25-8-2016
المؤلف : ناصر مكارم الشيرازي
الكتاب أو المصدر : أنوَار الاُصُول
الجزء والصفحة : ج 1 ص 568.
القسم : الفقه الاسلامي واصوله / علم اصول الفقه / المباحث العقلية /

ولا بدّ فيه من رسم اُمور:

الأمر الأوّل: في عنوان المسألة:

وقد وقع الخلاف فيه وعبّر عنه بتعابير مختلفة فقال في الكفاية: «النهي عن الشيء هل يقتضي فساده أم لا» وقال المحقّق النائيني(رحمه الله) على ما في أجود التقريرات: «إنّ النهي هل يدلّ على الفساد أم لا؟» ولكن قد أصرّ في تهذيب الاُصول على أنّ الصحيح أن يقال: «إنّ النهي هل يكشف عن الفساد أم لا» وناقش في الأوّل بأنّ الاقتضاء بالمعنى المتفاهم عرفاً غير موجود في المقام لأنّ النهي غير مؤثّر في الفساد ولا مقتض له بل إمّا دالّ عليه أو كاشف عن مبغوضيّة المتعلّق التي تنافي الصحّة» وناقش في الثاني بأنّ «ظاهر لفظ الدلالة هي الدلالة اللّفظيّة ولو بنحو الالتزام ولكن مطلق الملازمة بين الأمرين لا يعدّ من الدلالات الالتزاميّة بل لا بدّ في الدلالة الالتزاميّة على تقدير كونها من اللّفظيّة من اللزوم الذهني فلا تشمل الملازمات العقليّة الخفيّة»(1).

أقول: الإنصاف صحّة التعبيرين أيضاً، أمّا الأوّل منهما فلأنّ إيجاب النهي الفساد يلازم نحواً من التأثّر والتأثير في عالم الاعتبار وهو يكفي في صدق مفهوم الاقتضاء، وأمّا الثاني فلأنّ مادّة الدلالة لم توضع لخصوص الدلالة اللّفظيّة بل إنّها وضعت لمطلقها الذي من مصاديقها الدلالة العقليّة فيستعمل فيها على نحو الحقيقة أيضاً.

الأمر الثاني: في الفرق بين هذه المسألة ومسألة اجتماع الأمر والنهي:

قد مرّ في صدر المسألة السابقة(2) مقالة المحقّق الخراساني(رحمه الله) في هذا المجال وهي أنّ الجهة المبحوثة عنها في تلك المسألة هي سراية كلّ من الأمر والنهي إلى متعلّق الآخر لاتّحاد متعلّقهما وجوداً، وعدم سرايته لتعدّدها كذلك، وأنّ الجهة المبحوثة ـ عنها في هذه المسألة هي أنّ النهي هل يوجب فساد العبادة أو المعاملة، أو لا؟ بعد الفراغ عن أصل السراية.

أقول: قد مرّ منّا أيضاً أنّ التمايز بين العلوم والمسائل ليس محدوداً في تمايز الأغراض بل أنّه تارةً يكون بالموضوعات واُخرى بالمحمولات وثالثة بالأغراض وذلك بتوضيح مرّ سابقاً، والذي لا بدّ من إضافته هنا أنّ الغالب في التمايز إنّما هو التمايز بالمحمولات، أي تتمايز العلوم غالباً بالعوارض والحالات الطارئة على الموضوعات. هذا أوّلا.

وثانياً: قد مرّ في صدر تلك المسألة أيضاً أنّه لا ربط بين المسألتين أصلا حتّى نبحث في وجه التمايز، بينهما لوجود الفرق بينهما من ناحية كلّ من الموضوع والمحمول والنتيجة كما يظهر بملاحظة عنوانيهما كما مرّ توضيحه في المسألة السابقة.

الأمر الثالث: هل المسألة اُصوليّة أو لا؟ وهل هي عقليّة أو لفظيّة؟

لا إشكال في أنّها ليست مسألة فقهيّة لأنّ نتيجتها لا يمكن أن تقع بيد المكلّف وللعمل بها كما هو الحال في المسائل الفقهيّة.

الجهة الاُولى: هل هي حينئذ مسألة اُصوليّة؟ ذهب بعض الأعلام في المحاضرات إلى أنّها اُصوليّة بدعوى أنّ المسألة الاُصوليّة ترتكز على ركيزتين:

إحديهما: أن تقع في طريق استنباط الحكم الكلّي الإلهي.

وثانيهما: أن يكون ذلك بنفسها أي بلا ضمّ مسألة اُصوليّة اُخرى، وكلتا الركيزتين تتوفّران في مسألتنا هذه(3).

ولكن قد مرّت المناقشة في كلامه هذا بأنّه كثيراً مّا يتّفق انضمام مسألة من مسائل الاُصول إلى مسألة اُخرى حتّى تستنتج منها نتيجة فقهيّة كانضمام مسألة حجّية خبر الواحد إلى مسألة حجّية الظواهر أو مسألة التعادل والتراجيح (في الخبرين المتعارضين) ولعلّه ناظر في كلامه هذا إلى ما أفاده المحقّق النائيني(رحمه الله)في هذا المجال من أنّ المسألة الاُصوليّة ما تقع نتيجتها كبرى للقياس بلا واسطة شيء ومن دون أن تقع مقدّمة لمسألة اُخرى وتكون من مبادئها، ولذا ليست مسألة «حقيقة المشتقّ فيما انقضى عنه التلبّس» مثلا من المسائل الاُصوليّة لأنّها لا تقع كبرى للقياس المنتج نتيجة فقهيّة بلا واسطة بل إنّها من مبادئ مسألة حجّية خبر الواحد مثلا، ولا يخفى أنّ كلام المحقّق النائيني(رحمه الله) هذا شيء وما ذكره في المحاضرات شيء آخر، فالظاهر أنّه وقع الخلط بينهما.

والحقّ أنّ المسألة من القواعد الفقهيّة وإنّها ليست مسألة فقهيّة ولا اُصوليّة، وذلك لأنّ ميزان القاعدة الفقهيّة ـ وهو كون النتيجة بنفسها حكماً شرعيّاً كلّياً (لا أن تقع في طريق استنباط الحكم الشرعي الكلّي كما في المسألة الاُصوليّة) ـ موجود فيها حيث إنّ نتيجتها فساد العبادة مثلا وهو بنفسه حكم شرعي كلّي ـ هذا من جانب ـ ومن جانب آخر لا يمكن إيكال تطبيقه على موارده ومصاديقه في الفقه إلى المقلّد، ولازمهما أن لا تكون المسألة اُصوليّة ولا فقهيّة بل هي قاعدة فقهيّة.

هذا كلّه بالنسبة إلى الجهة الاُولى من هذا الأمر.

أمّا الجهة الثانيّة: وهي كون المسألة عقليّة أو لفظيّة فذهب المحقّق الخراساني(رحمه الله)إلى إمكان عدّها لفظيّة لأجل أنّه في الأقوال قول بدلالة النهي على الفساد في المعاملات مع إنكار الملازمة بينه وبين الحرمة التي هي مفاده فيها، ولا ينافيه ثبوت الملازمة بين الفساد والحرمة فيما لا تكون الحرمة مستفادة من اللفظ والصيغة كالإجماع القائم على حرمة عبادة أو معاملة، لإمكان أن يكون النزاع مع ذلك في دلالة الصيغة بما تعمّ دلالتها بالالتزام.

ولكن ذهب كثير من الأعاظم إلى أنّها عقليّة وذهب في تهذيب الاُصول إلى أنّ المسألة ليست عقليّة محضة ولا لفظيه كذلك. فالأولى تعميم عنوانه ليشتمل العقلي واللّفظي.

أقول أوّلا: إنّ المسألة ليست لفظيّة قطعاً بل هي عقليّة لأنّ موضوع البحث فيها هو دلالة النهي التكليفي المولوي على الفساد لا الإرشادي، لأنّ النواهي الإرشاديّة في باب المعاملات (كقوله (عليه السلام) «نهى النبي عن بيع الغرر» أو قوله «نهى النبي عن بيع الخمر» أو قوله «لا تبع ما ليس عندك») لا إشكال في دلالتها لفظاً على الفساد، وأمّا النهي المولوي كما إذا نذر بأن لا يأتي بالبيع الفلاني فلا إشكال في عدم دلالته على الفساد كما لا يخفى، فالقول بأنّ النهي يدلّ على الفساد في باب المعاملات (كما أشار إليه المحقّق الخراساني(رحمه الله)) خلط بين النهي الإرشادي والنهي المولوي، فلا يمكن الاستدلال به على كون النزاع في ما نحن فيه لفظياً.

وثانياً: لا بدّ في عدّ الدلالة الالتزاميّة من الدلالات اللّفظيّة من كون اللزوم فيها بيّناً بالمعنى الأخصّ، ولا إشكال في عدم كونه كذلك في ما نحن فيه وإلاّ لم تكن حاجة إلى البحث وإقامة البرهان العقلي عليه.

ثالثاً: ليس بدءاً أن لا تكون هذه المسألة مسألة لفظيّة مع كونها منسلكة في باب الألفاظ وكم لها من نظير كمسألة الإجزاء ومقدّمة الواجب وعدّة من الامور المطروحة ضمن مبحث مقدّمة الواجب كالبحث عن الواجب المعلّق والواجب المشروط والواجب التعبّدي والتوصّلي حيث لا إشكال في أنّها مباحث عقليّة أُوردت في مباحث الألفاظ، وهكذا غيرها من نظائرها كمباحث الترتّب واجتماع الأمر والنهي وحقيقة الواجب الكفائي والواجب التخييري.

وجدير أن نشير هنا إلى أنّ ما بأيدينا اليوم من علم الاُصول وإن انتهى في النموّ والتكامل إلى غايته بالنسبة إلى كثير من العلوم ولكنّه مضطرب النظام والترتيب والتبويب غاية الاضطراب، وإنّي قد لاحظت فيه هذه الجهة فبعد التأمّل في مسائله وإعمال الدقَّة فيها من هذه الناحية وجدت ما يقرب من أربعين إشكالا ممّا يخلّ بالنظام المطلوب في العلوم، وللبحث التفصيلي عنه مجال آخر.

وممّا ذكرنا ظهر أن النزاع في هذه المسألة ناظر إلى مقام الثبوت وأنّ النهي في ذاته هل يلازم الفساد أو لا؟ سواء استفدناه من اللفظ أو من غير اللفظ من عقل أو إجماع، وليس ناظراً إلى مقام الإثبات كما في بعض الكلمات.

الأمر الرابع: هل النهي في المقام يختصّ بالنهي التحريمي أو يعمّ التنزيهي أيضاً؟

وهل هو يختّص بالنهي النفسي أو يعمّ النهي الغيري المقدّمي أيضاً (والنهي المقدّمي مثل أن يقال: «لا تصلّ في سعة الوقت وأزل النجاسة عن المسجد»). ذهب المحقّق الخراساني(رحمه الله)إلى عموم النزاع بالنسبة إلى التنزيهي والمقدّمي، أمّا بالنسبة إلى التنزيهي فلعموم الملاك (وهو عدم كون المنهي عنه مقرّباً إلى الله تعالى)، وأمّا بالنسبة إلى الغيري فلأنّ الفرق بينه وبين النفسي إنّما هو في ترتّب العقوبة على الأوّل دون الثاني ولا دخل لاستحقاق العقوبة على المخالفة وعدمه في كون النهي سبباً للفساد وعدمه، حيث إنّ الملاك على القول به هو نفس الحرمة وهي موجودة بعينها في النهي الغيري سواءً كان أصليّاً كالنهي عن الصّلاة في أيّام الحيض، أو تبعيّاً كالنهي عن الصّلاة لأجل الإزالة، ويؤيّد ذلك (عموم ملاك البحث للنهي الغيري) جعل ثمرة النزاع في مبحث الضدّ ـ كما هو المعروف ـ فساد الضدّ إذا كان عبادة كالصّلاة ونحوها مع أنّ النهي هنا غيري مقدّمي (انتهى بتوضيح).

أقول: إنّ ما أفاده بالنسبة إلى النهي التنزيهي فهو في محلّه لنفس ما ذكره من عموم الملاك، وأمّا بالنسبة إلى النهي الغيري فهو غير تامّ لأنّ ما لا عقاب له لا يكون مبعّداً وجداناً، وأمّا استشهاده بمسألة الضدّ ففيه ما مرّ هناك من أنّ النهي عن الضدّ لا يوجب فساد العبادة لأجل كونه غيريّاً فهذا المثال أجنبي عن المطلوب وإن كان مشهوراً.

إذا عرفت ذلك فاعلم أنّه ذهب المحقّق النائيني (رحمه الله) إلى اختصاص النزاع بالنهي التحريمي النفسي وأنّ النهي التنزيهي أو الغيري لا يدلاّن على فساد العبادة قطعاً (أمّا الأوّل) فلأنّ النهي التنزيهي عن فرد لا ينافي الرخصة الضمنية المستفادة من إطلاق الأمر فلا يكون بينهما معارضة ليقيّد به إطلاقه، نعم إذا كان شخص المأمور به منهيّاً عنه كما إذا كان إطلاق الأمر شموليّاً، فلا محالة يقع التعارض بين دليليهما، فإذا قدّم دليل النهي فلا موجب لتوهّم الصحّة مع وجود النهىْ، لكن هذا الفرض خارج عن محلّ الكلام، لأنّ محلّ الكلام إنّما هو فيما إذا كانت دلالة النهي على الفساد هو الموجب لوقوع المعارضة بين دليلي الأمر والنهي ولتقييد متعلّق الأمر بغير ما تعلّق به النهي، ومن الواضح أنّ التعارض في مفروض الكلام لا يتوقّف على دلالة النهي على الفساد أصلا، (وأمّا الثاني) أعني به النهي الغيري فهو على قسمين:

الأوّل: ما كان نهياً شرعياً أصليّاً مسوقاً لبيان اعتبار قيد عدمي في المأمور به كالنهي عن الصّلاة في غير المأكول فلا إشكال في دلالته على الفساد بداهة أنّ المأمور به إذا اُخذ فيه قيد عدمي فلا محالة يقع فاسداً بعدم اقترانه به وهذا خارج عن محلّ الكلام، إذ حال هذه النواهي حال الأوامر المتعلّقة بالاجزاء والشرائط المسوقة لبيان الجزئيّة والشرطيّة.

والثاني: ما كان نهياً تبعيّاً ناشئاً من توقّف واجب فعلي على ترك عبادة مضادّة له بناءً على توقّف وجود أحد الضدّين على عدم الآخر، فلا موجب لتوهّم دلالته على الفساد أصلا وذلك لما عرفته في محلّه من أنّ غاية ما يترتّب على النهي الغيري هذا إنّما هو عدم الأمر به فعلا مع أنّه يكفي في صحّة العبادة اشتمالها على ملاك الأمر وإن لم يتعلّق بها بالفعل أمر من المولى (انتهى مع تلخيص)(4).

أقول: يرد عليه أنّ ما أفاده في النهي التنزيهي فيما إذا لم يكن إطلاق الأمر شمولياً صحيح في محلّه، ولكنّه مبني على عدم سراية الأوامر من الطبائع والعناوين إلى الأفراد الخارجيّة، وأمّا بناءً على ما مرّ سابقاً من سرايتها إلى الأفراد وأنّ المطلوب واقعاً إنّما هو الأفراد لا الطبائع فلا، وعليه يكون فرد الصّلاة في الحمّام أيضاً مطلوباً، ومطلوبيتها تنافي النهي عنها.

بقي هنا شيء:

وهو أنّ محل الكلام في المقام كما عرفت إنّما هو النهي المولوي لا الإرشادي لأنّ النواهي الإرشاديّة سواء في باب المعاملات أو العبادات إنّما ترشدنا إلى الشرطيّة أو الجزئيّة.

وبعبارة اُخرى: إرشاد إلى بطلان العبادة أو المعاملة إذا أتى بها بدون ذلك الشرط أو الجزء فمعنى «لا تصلّ في وبر ما لا يؤكل» «لا تصلّ لأنّها تبطل»، ولا يخفى أنّ أكثر النواهي الواردة في باب المعاملات تكون كذلك، أي أنّها إرشاديّة، بل المثال الوحيد المعروف الذي

يذكره القوم للنهي المولوي في باب المعاملات هو النهي عن الصّلاة وقت النداء، وأمّا سائر النواهي الواردة فيها إرشاديّة، كما أنّ غالب الأوامر والنواهي التي تعلّقت في كلام الشارع بجزء أو شرط تكون كذلك، وهذا أمر واضح ومن القضايا التي قياساتها معها.

الأمر الخامس: في المراد من العبادة والمعاملة في محلّ النزاع:

فنقول: العبادة على قسمين: العبادة بالمعنى الأخصّ والعبادة بالمعنى الأعمّ، والعبادة بالمعنى الأخصّ ما يعتبر فيه قصد القربة بحيث تقع بدونه فاسدة، والعبادة بالمعنى الأعمّ ما يقصد فيه

القربة، ويترتّب عليه الثواب من دون أن يكون قصد القربة شرطاً فيه.

لا إشكال في أنّ المراد من العبادة في المقام إنّما هو العبادة بالمعنى الأخصّ لا الأعمّ كما لا يخفى.

كما لا إشكال في أنّ المراد من العبادة في ما نحن فيه ما يكون بنفسه عبادة موجبة بذاتها التقرّب إلى الله تعالى لولا حرمته شرعاً، أي المراد منها العبادة الشأنيّة وما يتعلّق الأمر به مع قطع النظر عن كونه متعلّقاً للنهي، وليس المراد بها ما يكون عبادة فعلا ولو مع كونه متعلّقاً للنهي، فإنّه لا معنى لكون الشيء عبادة فعلا ومع ذلك تعلّق به النهي، لأنّ معنى كونه عبادة فعلا أنّه محبوب فعلا، ومعه لا يتعلّق به نهي ولا يكون محلا للنزاع.

وأمّا المعاملة فلها أربعة معان:

1 ـ المعاملة بمعنى البيع، أي ما يكون مترادفاً مع كلمة البيع وهذا هو أخصّ المعاني.

2 ـ ما يقع بين الاثنين وهو شامل لجميع العقود أعمّ من البيع وغيره ولا يعمّ الايقاعات، وهذا أعمّ من الأوّل.

3 ـ ما يتوقّف على القصد والإنشاء فيعمّ جميع العقود والايقاعات، فيكون أعمّ من الثاني.

4 ـ مطلق ما لا يعتبر فيه قصد القربة سواءً كان فيه الإنشاء أو لم يكن، فيعمّ مثل تطهير الثياب مثلا، والذي يكون محلا للنزاع في ما نحن فيه إنّما هو المعنى الثالث الذي يتصوّر فيه الصحّة والفساد ويتضمّن المعنى الأوّل والثاني أيضاً ويكون أخصّ بالنسبة إلى المعنى الرابع، لا المعنى الرابع الذي لا يتصوّر فيه الصحّة والفساد كما لا يخفى.

بقي هنا شيء:

وهو حقيقة العبادة بالمعنى الأخصّ التي تكون محلّ النزاع في المسألة.

فقد ذكر لها أربعة معان:

1 ـ ما لا يسقط أمره إلاّ إذا أتى على نحو قربي.

2 ـ ما أمر به لأجل التعبّد به.

ولا يخفى أنّه تعريف دوري لأنّ مفهوم العبادة أخذ في تعريفها كما لا يخفى.

3 ـ ما يتوقّف صحّته على النيّة.

ويرد عليه أيضاً أنّه إن كان المراد من النيّة نيّة التقرّب فهو يرجع إلى المعنى الأوّل، وإن كان المراد منها نيّة الفعل وقصد الفعل فهو خلط بين العناوين القصديّة (كأداء الدَين ونحوه) والعبادات حيث إنّ العناوين القصديّة ما تتوقّف صحّته على قصد العمل أعمّ من أن يقصد القربة به إلى الله أيضاً أو لم يقصد القربة فهي أعمّ من العبادة.

4 ـ ما لا يعلم انحصار المصلحة فيها في شيء (أي العبادة عبارة عمّا لا تكون مصلحته المنحصرة معلومة).

وفيه: أنّه ليس جامعاً ولا مانعاً لأنّه ربّ عبادة تكون مصالحها معلومة من طريق الآيات والأخبار، ومن جانب آخر ربّ عمل غير عبادي لا نعلم من المصلحة فيه شيئاً كلزوم تركيب كفن الميّت من ثلاث قطعات مثلا.

فالمتعيّن من هذه المعاني حينئذ هو المعنى الأوّل، ولكن الإنصاف أنّه أيضاً لا يعبّر عن حقيقة العبادة بل إنّه من قبيل تعريف الشيء بأثره حيث إنّ «عدم سقوط الأمر إلاّ إذا أتى على نحو قربي» من آثار العبادة وليس عبارة عن حقيقتها، فالأولى أن يقال: أنّها نوع فعل يبرز به نهاية الخضوع ونهاية التجليل للمعبود.

وبعبارة اُخرى: إنّ الخضوع له مراتب، والمتبادر من العبادة إنّما هو أعلى مراتب الخضوع كما يظهر بملاحظة معناها بالفارسيّة وهو «پرستش» حيث إنّ المتبادر من هذه الكلمة في اللّغة الفارسيّة إنّما هو نهاية الخضوع والتذلّل، ولذلك قد يقال في محاورات هذه اللّغة في مقام بيان نهاية خضوع شخص بالنسبة إلى شخص آخر: أنّه خضع عنده وتواضع له إلى حدّ «العبادة»، وبالجملة لا يسمّى كلّ نوع من الخضوع وكلّ مرتبة منه عند العرف بعبادة بل إنّها اسم لأعلى مراتبه كما لا يخفى.

نعم، إنّ الأعمال العباديّة على قسمين: ففي قسم منها يكون التعبير عن نهاية الخضوع ذاتياً له ولا يحتاج فيه إلى اعتبار معتبر كالركوع والسجود، وفي قسم آخر منها يكون التعبير عن نهاية الخضوع باعتبار معتبر ووضع واضع وهو في لسان الشرع نظير الوقوف في المشعر أو السعي بين الصفا والمروة حيث إنّهما يدلاّن على العبوديّة ونهاية التذلّل عند المعبود الحقيقي بجعل الشارع واعتباره، وفي لسان العرف نظير رفع القلنسوة عند قوم ووضعها عند قوم آخر لإظهار الخضوع فكما أنّ مطلق الخضوع قد يكون بالذات واُخرى بالاعتبار فكذلك نهايته.

بقي هنا شيء:

وهو ما قد مرّ كراراً ممّا قد يقال: إنّ هذه التعاريف ليست تعاريف حقيقية بل إنّها تعاريف شرح الاسميّة فلا ينبغي الإيراد في طردها وعكسها.

وقد أجبنا عنه أيضاً بأنّ ظاهر كلمات القوم أنّهم بصدد بيان التعريف الحقيقي الجامع والمانع، والشاهد عليه تعابيرهم الواردة في ذيل التعاريف كقولهم بأنّا إنّما ذكرنا هذا القيد لكذا وكذا، وحذفنا ذاك القيد لكذا وكذا، وحينئذ ينبغي لنا أيضاً الإشكال فيها طرداً وعكساً.

الأمر السادس: حدود محلّ النزاع:

أمّا حدود محلّ النزاع ويأتي فيه أيضاً بعض ما مرّ في مبحث «الصحيحي والأعمّي» وهو ثلاثة اُمور:

الأمر الأوّل: أنّ محلّ النزاع في المقام هو ما يكون أمراً مركّباً قابلا للاتّصاف بالصحّة والفساد، أمّا ما ليس كذلك فهو خارج عن محلّ الكلام، وهو عبارة عن ما لا أثر له كما في بعض المباحات كالتكلّم بكلام مباح، فلا إشكال في أنّ النهي عنه يوجب حرمته من دون أن يدلّ على الفساد لأنّه لم يكن له أثر حتّى يقع فاسداً بعد تعلّق النهي، وهكذا ما يكون ذا أثر ولكنّه من البسائط التي أمرها دائر بين الوجود والعدم كإتلاف مال الغير، فإنّ له أثر وهو الضمان ولكنّه أمر بسيط لا يتصوّر فيه الأجزاء والشرائط حتّى يتصوّر فيه الفساد ويدلّ النهي عنه على الفساد، بل إنّه إمّا يوجد في الخارج فيترتّب عليه أثره وهو الضمان أو لا يوجد في الخارج فلا يترتّب عليه أثره.

الأمر الثاني: في المراد من الصحّة والفساد:

فقد ذكر للصحّة (وبالتبع للفساد) معان عديدة، فقال بعض أنّها بمعنى تماميّة الأجزاء الشرائط، وقال بعض آخر أنّها بمعنى ما تسقط به الإعادة والقضاء، وذهب ثالث إلى أنّها بمعنى الموافقة للأمر أو الموافقة للشريعة، والأوّلان منقولان من الفقهاء، والأخير نقل عن المتكلّمين.

ولكن قد مرّ في مبحث الصحيح والأعمّي أنّ المختار هو أنّ الصحيح ما ترتّب عليه الأثر المترقّب عنه، والشاهد عليه العرف والتبادر العرفي وتمام الكلام في مبحث الصحيحي والأعمّي.

الأمر الثالث: أنّ للصحّة استعمالات ثلاثة:

فتارةً: تستعمل في مقابل العيب، واُخرى: في مقابل المرض، وثالثة: في مقابل الفساد، وقد وقع الخلط بينها في بعض الكلمات مع أنّ الصحّة في مقابل العيب تستعمل في أبواب الخيارات، وهي فيها بمعنى عدم النقصان عن الخلقة الأصلية، والصحّة في مقابل المرض تستعمل في مثل أبواب الصّيام والحجّ بالنسبة إلى المكلّف الحي، وهي فيها بمعنى سلامة المزاج وعدم انحرافه عن طبيعته الأوّليّة، والداخل في محلّ النزاع في ما نحن فيه إنّما هو الاستعمال الثالث، وهي فيه بمعنى ترتّب الآثار المترقّبة من شيء عليه.

نعم هيهنا نكتة تنبغي الإشارة إليها، وهي أنّ الصحّة في مقابل الفساد (أي الصحّة بالمعنى الثالث) تكون عند العرف من الكيفيات والحالات فيقال «الفاكهة الصحيحة» إذا كانت على حالة معتدلة طبيعية في مقابل الفاكهة الفاسدة، بينما هي في لسان الشرع ومصطلح الفقهاء تستعمل في الأجزاء والشرائط أي الكيفية والكمّية فيقال: الصّلاة صحيحة إذا كانت جامعة للأجزاء والشرائط، ويقال الصّلاة الفاسدة إذا كانت فاقدة للطهارة أو الركوع مثلا، ولكن هل هو إطلاق مجازي أو أنّه من قبيل الحقيقة الثانويةِ؟ الإنصاف هو الثاني، أي صارت كلمة «الصحيح» حقيقة شرعيّة في الواجد للأجزاء والشرائط وكلمة «الفاسد» في الفاقد لبعض الأجزاء والشرائط.

الأمر السابع : إنّ الصحّة والفساد أمران إضافيان:

يختلفان باختلاف الآثار والأنظار والاشخاص ( خلافاً لمثل الزوجيّة للأربعة وشبهها التي هي من الامور الحقيقية الثابتة مطلقاً ) فبالنسبة إلى اختلاف الآثار نظير المأمور به بالأوامر الظاهريّة ، حيث إنّ المراد من الأثر المترقّب منه إن كان هو ترتّب الثواب عليه فيتّصف بالصحّة ، وإن كان المراد من الأثر سقوط الأمر الواقعي في صورة كشف الخلاف فلا يتّصف بالصحّة ، فالمأمور به حينئذٍ صحيح من جهة وفاسد من جهة اخرى ، وهكذا بالنسبة إلى اختلاف الأنظار ، فإن كان النظر في الأوامر الظاهريّة مثلاً الإجزاء عن الأوامر الواقعيّة في صورة كشف الخلاف كان العمل صحيحاً وإن كان النظر عدم الإجزاء لم يكن العمل صحيحاً ، وكذلك بالنسبة إلى الأشخاص فإن صلاة القصر مثلاً تتّصف بالصحّة بالنسبة إلى المسافر وتتّصف بالفساد بالنسبة إلى الحاضر ، وبهذا يظهر أّنه لا وجه لحصر إضافيّة الصحّة والفساد في الآثار والأنظار كما يظهر من بعض كلماتهم.

ثمّ إنّه هل الصحّة والفساد من الامور الواقعيّة ، أو من الامور المجعولة بالأصالة أو بالتبع ، أو أنّها من الامور الانتزاعيّة ، أو لا بدّ من التفصيل بين العبادات والمعاملات وأنّهما من الامور المجعولة في العبادات دون المعاملات؟ فيحتمل كونهما من الامور الواقعيّة ، كما يحتمل كونهما من الامور المجعولة بالأصالة كالملكية والزوجيّة ومنصب القضاء والولاية ونحوها من الامور التي تنالها يد الجعل مستقلاً وبالأصالة ، كما ورد في الحديث : « فإنّي قد جعلته عليكم قاضياً (أو حاكماً ) » ويحتمل أيضاً كونهما من الامور المجعولة بالتبع كالجزئيّة والشرطيّة في أجزاء المأمور به وشرائطه حيث إنّهما تجعلان بتبع تعلّق الأمر بالجزء أو الشرط ، فلم يقل الشارع : « أنّي جعلت الركوع مثلاً جزءً » بل استفدنا جزئيته من قوله « اركع » ، ويحتمل أيضاً كونهما من الامور الانتزاعيّة التي لا وجود لها في الخارج بل الموجود فيه إنّما هو منشأ الانتزاع كالفوقيّة والتحتية.

والحقّ في المقام بناءً على ما مرّ من تعريف الصحّة والفساد بترتّب الأثر المترقّب من الشيء وعدمه أن يقال : إن كان المراد من الأثر الملحوظ في التعريف هو المصلحة والمفسدة فلا إشكال في أنّهما حينئذٍ أمران واقعيّان لا تنالهما يد الجعل لأنّ المصالح والمفاسد امور واقعية ، وإن كان المراد من الأثر سقوط التكليف والمأمور به فبالنسبة إلى الأوامر الواقعيّة إنّهما أمران انتزاعيان ينتزعان من مطابقة المأتي به للمأمور به وعدم مطابقته له ، وأمّا بالنسبة إلى الأوامر الظاهريّة فهما من الامور المجعولة الاعتباريّة حيث إنّ الصحّة حينئذٍ عبارة عن جعل الشارع الإجزاء للأوامر الظاهريّة ، والفساد عبارة عن جعل الشارع عدم الإجزاء لها ، هذا كلّه بالنسبة إلى العبادات.

وأمّا في المعاملات فإن كان المراد من الأثر المفسدة والمصلحة فلا إشكال أيضاً في كونهما فيما من الامور الواقعيّة ، وإن كان المراد من الأثر ما يترتّب على العقود والايقاعات من الآثار كالملكية والزوجيّة فلا إشكال أيضاً في كونهما أمرين مجعولين ، لأنّ الزوجيّة مثلاً تجعل من جانب الشارع أو العقلاء بعد إجراء العقد.

هذا كلّه بناءً على المختار في تعريف الصحّة والفساد.

وأمّا بناءً على مبنى القائلين بأنّهما عبارة عن المطابقية واللامطابقية فمن المعلوم أنّهما في

 

جميع الموارد وصفان ينتزعان من مطابقة المأتي به للمأمور به وعدمها فيكونان من الامور الانتزاعيّة ، وقسّ عليه سائر المباني.

بقي هنا شيء :

وهو أنّ مقتضى ما مرّ منّا من تعريف الصحّة والفساد بالأثر أنّهما وصفان حقيقيّان خارجيان يتّصف بهما الوجود الخارجي وليسا من الماهيات والعناوين الكلّية الذهنيّة فإنّ المتّصف بالصحّة في باب المعاملات مثلاً هو صيغة العقد الخارجي المتحقّقة في الخارج لا عنوان كلّي العقد ، لأنّ المنشأ للأثر إنّما هو الخارج والفرد الخارجي لا الماهية والعنوان ، وقد مرّ كراراً أنّ أخذ العناوين الكلّية في موضوع الأدلّة إنّما هو للإشارة إلى أفرادها الواقعة في الخارج.

الأمر الثامن : في تأسيس الأصل في المسألة:

وقد مرّ سابقاً أنّ ثمرة مثل هذا البحث تعيين من عليه إقامة البرهان ، وهو من يخالف رأيه الأصل في المسألة لا من يوافقه.

والأصل إمّا لفظي وهو الإطلاق أو العموم ، أو عملي وهو تلك الاصول الأربعة المعروفة ، ومحلّ جريان الأصل تارةً يكون هو المسألة الاصوليّة وهي في المقام دلالة النهي على الفساد ، أو وجود الملازمة بين النهي والفساد ، واخرى المسألة الفقهيّة وهي في المقام نظير النهي عن الصّلاة وقت النداء ، فهيهنا مقامات أربع :

المقام الأوّل : في الأصل اللّفظي بالنسبة إلى المسألة الاصوليّة:

فنقول : لا يوجد أصل لفظي يستفاد منه دلالة النهي على الفساد أو وجود الملازمة بين النهي والفساد ، أو يستفاد منه عدم دلالته عليه أو عدم وجود الملازمة من إطلاق أو عموم ، وهذا ممّا لا خلاف فيه.

المقام الثاني : في الأصل العملي في المسألة الاصوليّة:

قد يقال : إنّ مقتضى استصحاب عدم الدلالة أو عدم وجود الملازمة إثبات المسألة الاصوليّة ، أي إثبات عدم دلالة النهي على الفساد أو إثبات عدم وجود ملازمة بين النهي والفساد.

ولكن من الواضح عدم جريان هذا الاستصحاب ، لأنّ عدم الدلالة أو عدم وجود الملازمة ليس من المتيقّن سابقاً إلاّ أن يتمسّك بذيل العدم الأزلي ، ولا إشكال في أنّ استصحاب العدم الأزلي لو سلّم حجّيته في محلّه ليس جارياً في المقام لعدم ترتّب أثر شرعي عليه بلا واسطة ، حيث إنّ عدم الدلالة أو عدم وجود الملازمة من الآثار العقليّة فيكون الأصل حينئذٍ مثبتاً كما لا يخفى.

المقام الثالث : في الأصل اللّفظي بالنسبة إلى المسألة الفرعيّة:

وفيه فرق بين باب العبادات وباب المعاملات ، أمّا في العبادات فلا أصل لفظي من عموم أو إطلاق يدلّ على صحّة العبادة المنهي عنها أو فسادها عند الشكّ ، وأمّا في المعاملات فيمكن أن يستدلّ للصحّة فيها بإطلاق « اوفوا بالعقود » أو « أحلّ الله البيع » وغيرهما من الإطلاقات المذكورة في محلّه وهذا واضح لا إشكال فيه.

المقام الرابع : في الأصل العملي بالنسبة إلى المسألة الفرعيّة:

أمّا بالنسبة إلى المعاملات فبعد فرض عدم عموم أو إطلاق يقتضي الصحّة فيها فمقتضى الأصل الفساد كما هو المشهور ، لأنّه بعد أن تعلّق النهي بها وشكّ في دلالته على فسادها بعد تحقّقها في الخارج ـ لا محالة يقع الشكّ في حصول الأثر المترتّب عليها من ملكيّة أو زوجيّة ونحوهما فيستصحب عدم حصوله.

وأمّا بالنسبة إلى العبادات فكذلك مقتضى الأصل العملي هو الفساد وهو أصالة الاشتغال ، فإنّه بعد تعلّق النهي بالعبادة بالخصوص كما في صوم العيدين نقطع بعدم كونها بخصوصها مأموراً بها ، لأنّ المفروض أنّ النهي تعلّق بصيام العيدين بالخصوص ، ولذلك لا يشمله أيضاً إطلاق الأمر المتعلّق بمطلق صيام كلّ يوم حتّى يحرز الملاك من هذا الطريق ويكون الصّيام صحيحاً من طريق قصد الملاك.

وبالجملة : إنّ تعلّق النهي بالعبادة بالخصوص يوجب انقطاع الأمر من أصله ، ومعه لا أمر ولا محرز للملاك حتّى يمكن به تصحيحها.

بقي هنا شيء :

وهو ما أفاده المحقّق النائيني  رحمه الله بالنسبة إلى المقام الرابع من التفصيل بين ما إذا كان الشكّ من قبيل الشبهة الموضوعيّة ، وإليك نصّ كلامه : « إن كان الشكّ في صحّتها وفسادها من قبيل شبهة موضوعيّة فمقتضى قاعدة الاشتغال فيها هو الحكم بفساد المأتي به وعدم سقوط أمرها ، وأمّا إذا كان لأجل شبهة حكميّة فالحكم بالصحّة والفساد عند الشكّ يبتني على الخلاف في جريان البراءة والاشتغال في الجزئيّة أو الشرطيّة أو المانعية » (5).

وقد أورد عليه :

أوّلاً : بأنّ محلّ الكلام في المقام إنّما هو فيما إذا شكّ في صحّة عبادة بعد الفراغ عن كونها منهياً عنها ، فتكون الشبهة دائماً حكميّة ، فلا يعمّ محلّ النزاع ما إذا كان أصل تعلّق النهي أيضاً مشكوكاً فيه حتّى تدخل فيه موارد الشبهة الموضوعيّة أيضاً.

وثانياً : ليس الشكّ في صحّة العبادة وفسادها ناشئاً دائماً من الشكّ في الجزئيّة والشرطيّة والمانعية حتّى يكون الحكم بالصحّة والفساد مبتنياً على الخلاف في جريان البراءة والاشتغال فيها ، بل قد يكون ناشئاً من الشكّ في أصل مشروعيّة العبادة لأنّ النهي تعلّق بمجموعها.

الأمر التاسع : في أقسام تعلّق النهي بالعبادة وتعيين محلّ النزاع فيها:

إنّ متعلّق النهي تارةً : يكون نفس العبادة كالنهي عن الصّلاة في أيّام الحيض أو النهي عن الصّوم في يوم العيدين ، واخرى : يكون متعلّق النهي جزء من أجزاء العبادة كما إذا نهى عن سور العزائم في الصّلاة الواجبة ، وثالثة : يتعلّق النهي بشرط العبادة كالنهي المتعلّق بلبس الحرير إذا كان هو الساتر لعورة المصلّي ، ورابعة : يتعلّق النهي بوصف من أوصاف العبادة الملازمة لها كما إذا نهى عن الجهر بالقراءة ، وخامسة : يتعلّق بوصفها غير الملازم كالنهي عن الصّلاة في المكان المغصوب ، فهيهنا خمس صور.

لا إشكال في أنّ القسم الأوّل داخل في محلّ النزاع ، وهكذا القسم الثاني لأنّ جزء العبادة عبادة، نعم لا بدّ من البحث فيه عن أنّ الفساد هل يسري من الجزء إلى الكلّ أو لا؟ فقال المحقّق الخراساني  رحمه الله بعدم السراية إلاّفي صورتين :

الصورة الاولى : ما إذا اكتفى بإتيان المنهي عنه ولم يأت بالجزء في ضمن فرد آخر كما إذا أتى بسورة من سور العزائم واكتفى بها.

الصورة الثانيّة : ما إذا لم يكتف بالمأتي به ولكن كان المبني بطلان الصّلاة بالزيادة مطلقاً سواءً كانت من كلام الآدمي أو لم يكن.

ولكن قد أورد عليه المحقّق النائيني  رحمه الله بأنّ « فساد الجزء يسري إلى الكلّ مطلقاً ببيان أنّ جزء العبادة إمّا أن يؤخذ فيه عدد خاصّ كالوحدة المعتبرة في السورة بناءً على حرمة القرآن، وإمّا أن لا يؤخذ فيه ذلك ، أمّا الأوّل فالنهي المتعلّق به يقتضي فساد العبادة لا محالة لأنّ الآتي به في ضمن العبادة إمّا أن يقتصر عليه فيها أو يأتي بعده بما هو غير منهي عنه ، وعلى كلا التقديرين لا ينبغي الإشكال في بطلان العبادة المشتملة عليه ، فإنّ الجزء المنهي عنه لا محالة يكون خارجاً عن إطلاق دليل الجزئيّة أو عمومه ، فيكون وجوده كعدمه ، فإن اقتصر المكلّف عليه في مقام الامتثال بطلت العبادة لفقدها جزئها ، وإن لم يقتصر عليه بطلت من جهة الاخلال بالوحدة المعتبرة في الجزء كما هو الفرض ، ومن هنا تبطل صلاة من قرأ إحدى العزائم في الفريضة سواء اقتصر عليها أم لم يقتصر ، بل لو بنينا على جواز القرآن لفسدت الصّلاة في الفرض أيضاً ، لأنّ دليل الحرمة قد خصّص الجواز بغير الفرد المنهي عنه ، فيحرم القرآن بالإضافة إليه لا محالة ، هذا مضافاً إلى أنّ تحريم الجزء يستلزم أخذ العبادة بالنسبة إليه بشرط لا.

ومن هنا ( أي هذا الوجه الأخير ) تبطل الصّلاة في الفرض الثاني أيضاً وهو ما إذا لم يؤخذ في الجزء عدد خاصّ ، فإنّ تحريم الجزء يستلزم أخذ العبادة بالإضافة إليه بشرط لا ، فإن لم يقتصر بالجزء الحرام يخلّ بهذا الشرط ، وإن اقتصر به بطلت العبادة لفقدها جزئها » (6) (انتهى ملخّصاً ).

أقول : يرد عليه :

أوّلاً : أنّ ظاهر أدلّة حرمة القرآن أنّ الحرمة مستندة إلى نفس القرآن لا إلى ذات السورة ، ولازمه أن تكون قراءة هذه السورة وحدها جائزة وتلك السورة أيضاً وحدها جائزة ، والحرام إنّما هو إيجاد المقارنة بينهما.

وبعبارة اخرى : إنّ تلك الأدلّة منصرفة عن ما إذا كانت إحدى السورتين محرّمة بذاتها.

ثانياً : إنّ تحريم جزء ليس معناه أخذ العبادة بشرط لا بالنسبة إلى ذلك الجزء بل لعلّ معناه عدم جواز الاكتفاء به ولزوم الإتيان بجزء آخر معه فيكون نظير رمي الجمرة في مناسك الحجّ بالحجر المغصوب الذي يكون المراد منه عدم جواز الاكتفاء به ، فلو أتى بعده بما هو مباح كفاه.

فظهر أنّ ما أفاده المحقّق الخراساني رحمه ‌الله في القسم الثاني من التفصيل يكون في محلّه.

أمّا القسم الثالث : وهو ما إذا تعلّق النهي بالشرط ـ فحاصل كلام المحقّق الخراساني رحمه ‌الله أنّ حرمة الشرط كما لا تستلزم فساده لا تستلزم فساد العبادة المشروطة به أيضاً إلاّ إذا كان الشرط عبادة ، فإنّه قد فصّل بين ما إذا كان الشرط توصّلياً كالستر وغيره فيكون خارجاً عن محلّ البحث أي لا يضرّ لبس الحرير المنهي عنه مثلاً بصحّة الصّلاة مع قطع النظر عن الأدلّة الخاصّة ، وبين ما إذا كان الشرط تعبّديّاً فيوجب النهي عنه فساد نفسه ثمّ فساد العبادة المشروطة به.

وذهب المحقّق النائيني رحمه‌ الله إلى خروج الشرط عن محلّ النزاع ، أي عدم إيجاب النهي عنه بطلان المشروط به مطلقاً سواء كان تعبّديّاً أو توصّلياً ، وذلك ببيان أنّ شرط العبادة الذي تعلّق به النهي إنّما هو المعنى المعبّر عنه باسم المصدر ، فشرط الصّلاة إنّما هي الطهارة المراد بها معنى اسم المصدر المقارنة معها زماناً ، وأمّا الأفعال الخاصّة من الوضوء والتيمّم والغسل فهي بنفسها ليست شرطاً للصّلاة وإنّما هي محصّلة لما هو شرطها ، فما هو عبادة ـ أعني بها نفس الأفعال ـ ليس شرطاً للصّلاة وما هو شرط لها ـ أعني به نفس الطهارة ـ فهو ليس بعبادة بل حاله حال بقيّة الشرائط في عدم اعتبار قصد القربة فيها ، ولذلك يحكم بصحّة صلاة من صلّى غافلاً عن الطهارة فانكشف كونها مقترنة بها ، ولا إشكال في أنّ النهي إنّما تعلّق بالمعنى المصدري لا اسم المصدري ، فلا يوجب بطلان المشروط إلاّ إذا كان النهي عنه نهياً عن نفس الصّلاة المشروط به حيث لا إشكال حينئذٍ في فساد العبادة (7).

أقول : الصحيح هو قول ثالث ، وهو دخول الشرط في محلّ البحث مطلقاً من دون فرق بين التعبّدي والتوصّلي ، أمّا ما أفاده المحقّق الخراساني رحمه ‌الله. ففيه :

أوّلاً : إنّ الشرط وإن كانت ذاته خارجة عن المشروط لكن التقيّد به جزء له ويوجب تكيّف العبادة وتلوّنها ، به وحينئذٍ إذا كان الشرط مقارناً للعبادة كعدم التستّر بالحرير يوجب النهي عنه فساد العبادة المشروطة به لأنّه إذا تستّر بالحرير ، أي لم يأت بالشرط ، فقد أتى بفعل محرّم وصارت عبادته مقيّدة به ، والتقيّد بالحرام يوجب فسادها ، وهو نظير ما إذا أمر الطبيب بشرب الدواء في الغداء قبل الغذاء حيث إنّ تقيّد الشرب بهذا الزمان يوجب حدوث حالة وكيفية جديدة في الدواء التي يستلزم عدمها عدم تأثير الدواء في المعالجة.

وثانياً : أنّه قد مرّ سابقاً أنّه ربّما لا يكون شيء جزءً للصّلاة ولكن يسري قبحه إلى الصّلاة عرفاً ويوجب عدم إمكان التقرّب بها ، وقد مرّ أيضاً أنّ عباديّة شيء ومقرّبيته أمر عقلائي عرفي وأنّه لا يمكن التقرّب بشيء ما لم يكن مقرّباً عند العرف والعقلاء.

وأمّا ما أفاده المحقّق النائيني رحمه ‌الله ففيه : أنّ كون الشرط في التعبّديات المعنى اسم المصدري لا المصدري لا أثر له في المقام ، لأنّ المعنى المصدري الذي يكون متعلّقاً للنهي وإن لم يكن شرطاً للعبادة بل يكون محصّلاً لشرط العبادة ولكن النهي الذي تعلّق به يوجب فساد نفسه ، ثمّ عدم تأثيره في حصول الشرط ، وهو المعنى اسم المصدري ، وتصير العبادة بالنتيجة باطلة وإن كان موجب بطلانها عدم تحقّق شرطها رأساً لا بطلان شرطها.

بقي هنا شيء :

وهو ما أفاده في المحاضرات من « أنّ الظاهر من الأدلّة من آية الوضوء والرّوايات هو أنّ الشرط للصّلاة نفس تلك الأفعال ( المعنى المصدري ) والطهارة اسم لها وليست أمراً آخر مسبّباً عنها ( المعنى اسم المصدري ) وإنّ ما ورد في الرّوايات من أنّ الوضوء على الوضوء نور على نور وإنّه طهور ونحو ذلك ظاهر في أنّ الطهور اسم لنفس تلك الأفعال دون ما يكون مسبّباً عنها » (8).

ولكنّه بعيد جدّاً ومخالف لظواهر عشرات الرّوايات الواردة في أبواب نواقض الوضوء حيث إنّه لا معنى للنقض بالنسبة إلى نفس الغسلتين والمسحتين فإنّ الشيء لا ينقلب عمّا وقع عليه ، بل الظاهر جدّاً من جملة « لا ينتقض الوضوء إلاّ بفلان » والتعبير بـ « كنت على وضوء » أو التعبير بـ « أنا على غير وضوء » أنّ الوضوء حالة معنويّة يمكن أن تستمرّ وتبقى ما لم يحدث حدث للمتوضّيء كما يمكن أن تنتقض بوقوع الحدث ، ولا يخفى أنّ إرتكاز المتشرّعة أيضاً يساعد عليه.

أمّا القسم الرابع : كالنهي عن الجهر أو الإخفات في الصّلاة حيث إنّه وصف ملازم للقراءة ولا يمكن التفكيك بينهما ، وإن كان تبديل أحد الوصفين بالآخر ممكناً فهو أيضاً داخل في محلّ النزاع ، لأنّه من الممكن أن يسري النهي عرفاً من الوصف إلى الموصوف لعدم انفكاكهما خارجاً.

أمّا القسم الخامس : فالأولى التمثيل له بالنهي عن النظر إلى الأجنبية حال الصّلاة فإنّه وصف غير ملازم للصّلاة ، والتمثيل بالنهي عن الصّلاة في الدار المغصوبة فهو صحيح بناءً على جواز الاجتماع لعدم اتّحاد الصّلاة مع الغصب حينئذٍ في الخارج ، خلافاً على مبنى الامتناع لأنّ عليه تتّحد الصّلاة مع الغصب ، ولذلك اعترف القوم بأنّ باب اجتماع الأمر والنهي تحصل به صغرى باب النهي في العبادات.

وفي مثل المقام لا يسري قبح أحدهما إلى الآخر إلاّفي بعض الموارد وهو ما اكتنف الحرام بالعبادة جدّاً بحيث لا يراها العقلاء من أهل العرف مناسباً لشأن المولى مع هذه المقارنات ، كما أنّ فعل أنواع المحرّمات بيده ورجله وسمعه وبصره مقارناً للصّلاة من أوّلها إلى آخرها.

بقي هنا أمران :

الأمر الأوّل : هل تتصوّر هذه الأقسام في المعاملات أيضاً أو لا؟

إذا كان المراد من المعاملة هو السبب وهو صيغة العقد فلا إشكال في إمكان تصوير الأقسام المزبورة في المعاملات أيضاً ، لأنّ للعقد جزءً وشرطاً ووصفاً كالعبادات ، نعم يشكل الظفر بمثال للنهي عن الجزء أو الشرط أو الوصف فيها في مقام الإثبات بل ينحصر النهي في هذا المقام بما تعلّق بذات الفعل ، وإن كان المراد منها المسبّب فالمتصوّر فيها حتّى في مقام الثبوت إنّما هو النهي المتعلّق بذاته لا غير ، وذلك لأنّ المسبّب ، أمر بسيط لا يتصوّر فيه الجزء أو الشرط أو الوصف بل أمره دائر دائماً بين الوجود والعدم.

الأمر الثاني : ربّما يتعلّق النهي بالكلّ لأجل الجزء ، أي الجزء واسطة في الثبوت ، كأن يقال : لا تصلّ صلاة تشتمل على سورة من العزائم ، وحينئذٍ لا يخفى أنّه داخل في القسم الأوّل ، أي النهي المتعلّق بذات العبادة لأنّها هي متعلّق النهي حقيقة وإن صار الجزء واسطة في تعلّقه بها ـ هذا كلّه ما أردناه من المقدّمات.

أدلّة الأقوال في المسألة:

إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ الأقوال في المسألة كثيرة جدّاً ، والمهمّ منها أربعة :

1 ـ الفساد مطلقاً سواء كان المنهي عنه عبادة أو معاملة.

2 ـ الصحّة مطلقاً وهو ما نقل عن أبي حنيفة.

3 ـ التفصيل في المعاملة بين النهي عن السبب والنهي عن المسبّب وأنّه يوجب الفساد في الأوّل دون الثاني ، وهو ما ذهب إليه المشهور ومنهم المحقّق الخراساني رحمه ‌الله.

4 ـ التفصيل بين العبادة والمعاملة وأنّه يوجب الفساد في الاولى دون الثانيّة.

ثمّ اعلم أنّ محلّ النزاع في المسألة هو النهي المولوي لا الإرشادي كما مرّ ، كما أنّه بحث في مقام الثبوت لا الإثبات ، أي النزاع في أنّه لو فرض نهي وكان مولويّاً فهل يوجب الفساد أو لا؟ فلا يبحث عن مقام الإثبات وأنّه متى يكون النهي إرشاديّاً ومتى يكون مولويّاً ، والعجب من بعض الأعاظم حيث وقع الخلط في كلماته بين المقامين.

وكيف كان فالحقّ أنّ النهي يوجب الفساد في العبادات وذلك لجهتين :

الاولى : أنّ العبادة مركّبة حقيقة وروحاً من أمرين : الحسن الفعلي والحسن الفاعلي ، والمراد من الحسن الفعلي صلاحية ذات العمل للتقرّب به إلى الله تعالى ، ومن الحسن الفاعلي قصد الفاعل التقرّب به إلى الله ، والنهي ينافيها في كلتي المرحلتين لأنّه يكشف أوّلاً : عن كون الفعل مبغوضاً للمولى وأنّه لا حسن له عنده ، وثانياً : عن عدم كون الفاعل متقرّباً به إلى الله تعالى لأنّه كيف يمكن للفاعل قصد التقرّب بما لا يصلح للتقرّب به إلى الله.

نعم إذا كان جاهلاً بتعلّق النهي أمكن حينئذٍ أن يصدر منه قصد التقرّب كما لا يخفى ، ولكن هذا من ناحية حسنه الفاعلي ، وأمّا الحسن الفعلي وعدمه فلا إشكال في أنّه لا ربط له بعلم المكلّف وجهله ، فيوجب عدمه في حال الجهل أيضاً بطلان العمل.

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني رحمه ‌الله أورد هيهنا إشكالاً وأجاب عنه بوجوه عديدة ، أمّا الإشكال فحاصله أنّ اقتضاء النهي الفساد في العبادات إنّما يتمّ فيما إذا كان النهي المتعلّق بها دالاً على الحرمة الذاتيّة ، ولا يعقل تحريمها ذاتاً لأنّ المكلّف إمّا أن يقصد القربة أو لم يقصدها ، فإن لم يقصدها فلا عبادة كي تحرم بالنهي ذاتاً وتفسد ، وإن قصدها فهذا غير مقدور له ، إذ لا أمر في البين كي يقصده ويتحقّق به العبادة وتحرم ذاتاً وتفسد إلاّ إذا قصد القربة تشريعاً ، ومعه يتّصف الفعل بالحرمة التشريعيّة دون الذاتيّة لامتناع اجتماع المثلين.

وأمّا جوابه :

أوّلاً : ما مرّ في بعض المقدّمات من أنّ المراد من العبادة في المسألة إنّما هو العبادة الشأنيّة ، أي ما لو تعلّق الأمر به كان أمره عباديّاً ولا يسقط إلاّ بقصد القربة ، ومن المعلوم أنّ تحريم ذلك ذاتاً بمكان من الإمكان.

وثانياً : أنّه ينتقض بالعبادات الذاتيّة كالركوع والسجود حيث إنّهما ـ كما مرّ ـ لا تحتاج في عباديتها إلى تعلّق أمر بها ، فيمكن تعلّق الحرمة بذاتها كحرمة السجود للصنم لأنّها ثابتة وإن لم يقصد بها القربة ولا يضرّ بعباديتها حرمتها شرعاً وإن أضرّت بمقربيتها.

وثالثاً : أنّه لا منافاة بين الحرمة الذاتيّة والحرمة التشريعيّة ولا يستلزم منهما اجتماع المثلين ، لأنّ الحرمة التشريعيّة تتعلّق بفعل القلب وهو الاعتقاد بوجوب العمل ، والحرمة الذاتيّة تتعلّق بذات الفعل الخارجي ، فهما لا تجتمعان في محلّ واحد حتّى يلزم اجتماع المثلين.

ورابعاً : لو سلّمنا أنّ النهي في العبادات لا يكون دالاً على الحرمة الذاتيّة نظراً إلى الإشكال المزبور ، إلاّ أنّ النهي فيها ممّا يدلّ على الفساد من جهة الحرمة التشريعيّة فلا أقلّ من دلالتها على سقوط الأمر عن العبادة وأنّها ليست مأمور بها من أصلها ، وهو يكفي في فسادها.

أقول : يرد عليه :

أوّلاً : إنّ قضيّة امتناع اجتماع المثلين تتصوّر في الامور التكوينيّة لا الامور الاعتباريّة حيث لا مانع عقلاً من اجتماع المثلين في الاعتباريات كما لا مانع من اجتماع الضدّين فيها ، فإنّ البحث فيها بحث عن الحسن والقبح واللغويّة وعدمها لا عن الإمكان والاستحالة كما مرّ بيانه كراراً.

وثانياً : إنّ اجتماع الملاكين من الحرمة في مورد يوجب اندكاك أحدهما في الآخر وتأكّده به ، فتكون هناك حرمة واحدة مؤكّدة متعلّقة بفعل واحد وإن كان فيه ملاكان للحرمة ، وهو نظير ما إذا تعلّق النذر بفعل واجب ، حيث لا إشكال في انعقاده وتأكّد وجوب الواجب به.

وبهذا يظهر أنّ الوجه الثالث من الوجوه الأربعة التي أجاب بها المحقّق الخراساني رحمه ‌الله عن الإشكال في غير محلّه.

مضافاً إلى أنّ البدعة والتشريع ليس مجرّد عمل للقلب بل إنّه يتشكّل من عمل خارجي كالصيام في العيدين ومن عقد القلب بكونه مشروعاً.

وإن شئت قلت : إنّ الاعتقاد القلبي يكون سبباً لانطباق عنوان التشريع على العمل الخارجي ، وعلى أيّ حال : يتّحد متعلّق الحرمة الذاتيّة مع متعلّق الحرمة التشريعيّة فيعود المحذور الذي في كلام المستشكل.

وهكذا الوجه الأوّل والثاني ، أمّا الأوّل : فلأنّه مبني على تعلّق النهي في لسان الأدلّة على ذات الأفعال المنهي عنها مع أن الظاهر أنّه تعلّق بالصّلاة مع قصد القربة في مثل قوله عليه ‌السلام : « دعي الصّلاة أيّام أقرائك » فليست العبادة الواردة في لسان الأدلّة العبادة الشأنيّة بل إنّها ناظرة إلى مقام الفعل والقصد.

وأمّا الثّاني : ( وهو النقض بالعبادات الذاتيّة ) فلأنه التزام بنفس الإشكال وإقرار بأنّه لو لم تكن العبادة ذاتيّة كان الإشكال وارداً ، فيكون الجواب أخصّ من الإشكال.

فالوجه الصحيح والتامّ من الوجوه الأربعة إنّما هو الوجه الرابع وهو كفاية الحرمة التشريعيّة لفساد العمل.

ثمّ إنّ للمحقّق الحائري قدس‌ سره في المقام تفصيلاً آخر ، وهو التفصيل بين ما إذا تعلّق النهي بنفس المقيّد وهي الصّلاة المخصوصة مثلاً ( كأن يقال مثلاً لا تصلّ في الحمّام ) وما إذا تعلّق النهي بأمر آخر يتّحد مع الطبيعة المأمور بها ( كأن يقال مثلاً « كون صلاتك في الحمّام حرام» أو « كون صيامك في العيدين حرام » ) ففي الصورة الاولى يوجب النهي الفساد من جهة عدم إمكان كون الطبيعة من دون تقييد ذات مصلحة توجب المطلوبيّة ، والطبيعة المقيّدة بقيد خاصّ ذات مفسدة توجب المبغوضيّة ، لأنّ الجهة الموجبة للمبغوضيّة ليست مباينة لأصل الطبيعة حتّى في عالم الذهن ، فلا يمكن أن تكون مبغوضاً ويكون أصل الطبيعة محبوبة من دون تقييد.

وبعبارة اخرى : لو بقيت المحبوبيّة التي هي ملاك الصحّة في العبادة في المثال يلزم كون الشيء الواحد خارجاً وجهةً محبوباً ومبغوضاً وهو مستحيل ، وأمّا الصورة الثانيّة فالصحّة والفساد فيها يبتنيان على كفايّة تعدّد الجهة في تعدّد الأمر والنهي ولوازمها من القرب والبعد والإطاعة والعصيان والمثوبة والعقوبة وحيث اخترنا كفاية تعدّد الجهة في ذلك فالحقّ في المقام الصحّة » (9).

أقول : يرد عليه :

أوّلاً : أنّ باب الاجتماع يتصوّر في ما إذا كان في البين عنوانان مستقلاّن وهو ليس صادقاً في المقام لأنّ كون الصّلاة في الحمّام هو من الخصوصيّات الفرديّة واللوازم الوجوديّة للصّلاة فلا يعدّ عنواناً مستقلاً عن عنوان الصّلاة.

وثانياً : لو سلّم صحّة هذا التفصيل ثبوتاً فلا يصحّ في مقام الإثبات حيث لا أظنّ في هذا المقام وجود مورد في لسان الشرع تعلّق النهي فيه بالخصوصيّة الخارجة عن الذات ، أي بأمر آخر يتّحد مع الطبيعة المأمور بها بل الظاهر أنّ جميع النواهي الشرعيّة هي من موارد الصورة الاولى ، أي تعلّق النهي فيها بنفس المقيّد كقوله « لا تصلّ في الحمّام » وقوله « لا تصمّ في السفر » وغير ذلك.

بقي هنا شيء :

وهو أنّ محلّ النزاع ما إذا كان النهي ظاهراً في المولويّة ، وأمّا النواهي الظاهرة في الإرشاد فهي خارجة عن محلّ الكلام ، ولا إشكال في دلالتها على الفساد كجميع الأوامر والنواهي التي تعلّقت بالأجزاء والشرائط حيث إنّها ظاهرة في الإرشاد بظهور ثانوي وإن كان ظاهرها بالطبع الأوّلي هو المولويّة من باب أنّ الناهي فيها إنّما هو مولى مفترض الطاعة ، وبالجملة أنّ العبادات مخترعات شرعيّة لا بدّ من بيان أجزائها وشرائطها ضمن أوامر ونواهي ، وهذا أوجب انقلاب ظهورها في المولويّة إلى الظهور في الإرشاد فقول الشارع المقدّس : {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ }  إرشاد إلى شرطيّة الوقت للصّلاة ، وقوله تعالى : {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} إرشاد إلى شرطيّة الطهارة كما أنّ قوله عليه‌ السلام : « لا تصلّ في وبَر ما لا يؤكل لحمه » إرشاد إلى مانعية وبَر ما لا يؤكل لحمه للصّلاة.

هذا تمام الكلام في العبادات.

النهي في المعاملات:

أمّا المعاملات فالنزاع فيها أيضاً يختصّ بالنهي المولوي، وأمّا الإرشادي منه فلا إشكال في دلالته على الفساد كما في العبادات، كما أنّ النزاع فيها إنّما هو في وجود الملازمة بين النهي والفساد عقلا ولا دخل للغة والعرف فيها، فقول المحقّق الخراساني(رحمه الله) من «أنّ النهي الدالّ على حرمتها لا يقتضي الفساد لعدم الملازمة فيها لغة وعرفاً بين حرمتها وفسادها أصلا» في غير محلّه، بل الصحيح أن يقال: أنّه لا يقتضي الفساد لعدم الملازمة بين حرمة المعاملة وفسادها عقلا من باب عدم اعتبار قصد القربة فيها كما كان معتبراً في العبادات.

نعم لا بدّ من التفصيل بين أقسام النهي المتعلّق بالمعاملات فإنّه على أقسام أربع:

القسم الأوّل: النهي المتعلّق بالسبب كما في قوله تعالى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9] وقوله (عليه السلام) «لا تبع وقت النداء» بناءً على ما هو الصحيح في محلّه من أنّ أسامي العقود وضعت للأسباب لا المسبّبات.

القسم الثاني: النهي المتعلّق بالمسبّب كأن يقال: «لا تملّك الكافر المصحف» أو يقال: «لا تملّك الكافر العبد المسلم» فإنّ المنهي عنه المبغوض للشارع فيهما إنّما هو سلطة الكافر المسبّب عن بيع المصحف أو بيع العبد المسلم، حيث إنّ الله لن يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلا.

القسم الثالث: النهي عن التسبّب، أي إيجاد المعاملة بسبب خاصّ وبآلة خاصّة كأن يقال: «لا تتملّك شيئاً بالربا» فإنّ أصل التملّك ليس مبغوضاً للشارع بل المبغوض إنّما هو التملّك من طريق الأخذ بالربا.

القسم الرابع: النهي المتعلّق بالنتيجة كأن يقال: «لا تأكل ثمن الخمر» أو «ثمن العذرة سحت» فإنّ النهي تعلّق بالثمن الذي هو نتيجة للعقد.

أمّا القسم الأوّل: فلا إشكال في عدم دلالة النهي فيه على الفساد لنفس ما مرّ من عدم وجود ملازمة بين النهي عن شيء وفساده عقلا.

وأمّا القسم الثاني: فذهب المحقّق الخراساني(رحمه الله) إلى عدم دلالته أيضاً على الفساد، ولكن المحقّق النائيني (رحمه الله) اختار دلالته على الفساد بدعوى أنّ النهي عن المسبّب تعجيز للعبد، فكأنّه يرى ظهوراً عرفياً للنهي عن المسبّب في التعجيز أو ملازمة عقليّة بينه وبين التعجيز، وقد أنكر عليه المحقّق العراقي(رحمه الله)، والمنسوب إلى شيخنا الأعظم الأنصاري(رحمه الله)التفصيل بين ما إذا كانت الأسباب عقليّة كشف عنها الشارع فتصحّ المعاملة في مثل بيع المصحف أو المسلم من الكافر ثمّ يجبر الكافر بإخراج المسلم أو المصحف عن ملكه، وبين ما إذا كانت الأسباب شرعيّة فتبطل المعاملة لأنّ جعل السبب بعيد مع مبغوضيّة متعلّقه ومسبّبه.

وقال في تهذيب الاُصول توضيحاً لكلامه: «الظاهر أنّ مراده من كون الأسباب عقليّة هو كونها عقلائيّة إذ لا يتصوّر للسبب العقلي الاعتباري هنا معنى سوى ما ذكرنا»(10).

أقول: التعبير بالكشف لا الإمضاء في كلام الشّيخ الأعظم (رحمه الله) شاهد قطعي على أنّ مراده من كون الأسباب عقليّة ليس كونها عقلائيّة اعتباريّة كما لا يخفى، فمرجع كلامه حينئذ إلى أنّ في باب المعاملات يوجد نحو تأثّر وتأثير واقعيين بين الأسباب والمسبّبات كعقد النكاح والزوجيّة، نظير ما قد يدّعي في باب تداخل الأسباب والمسبّبات من أنّ الأسباب الشرعيّة أسباب واقعية عقليّة كشف عنها الشارع.

وكيف كان فالإنصاف في هذا القسم ما أفاده المحقّق النائيني(رحمه الله) من دلالة النهي على الفساد ببيان «أنّ صحّة المعاملة تتوقّف على ثلاثة اُمور:

الأوّل: كون كلّ من المتعاملين مالكاً للعين أو بحكمه ليكون أمر النقل بيده ولا يكون أجنبياً عنه.

الثاني: أن لا يكون محجوراً عن التصرّف فيها من جهة تعلّق حقّ الغير بها أو لغير ذلك من أسباب الحجر ليكون له السلطنة الفعليّة على التصرّف فيها.

الثالث: أن يكون إيجاد المعاملة بسبب خاصّ وآلة خاصّة، وعلى ذلك فإذا فرض تعلّق النهي بالمسبّب وبنفس الملكيّة المنشأة مثلا كما في النهي عن بيع المصحف والعبد المسلم من الكافر كان النهي معجزاً مولويّاً للمكلّف عن الفعل ورافعاً لسلطنته عليه فيختلّ بذلك الشرط الثاني»(11).

أقول: أضف إلى ذلك أنّ فساد المعاملة في هذا القسم هو مقتضى الحكمة العقلائيّة في القوانين المجعولة عندهم حيث إنّ المقنّن الحكيم لا يمضي عقداً يكون مسبّبه مبغوضاً عنده والعقلاء يذمّون من أمضى عقداً ثمّ أجبر المشتري بالبيع ثانياً، وهذا بخلاف القسم الأوّل، أي النهي عن السبب، فلا دليل فيه على الفساد لعدم كون المسبّب فيه مبغوضاً عند الشارع على الفرض بل المبغوض فيه إنّما هو أمر آخر خارج عن المسبّب كوصف المزاحمة للصّلاة في قوله «لا تبع وقت النداء».

ثمّ إنّه أجاب في تهذيب الاُصول عن مقالة الشّيخ الأعظم(رحمه الله) بأنّ «ما ذكره(رحمه الله)من ـ أنّ جعل السبب بعيد مع مبغوضيّة متعلّقه ـ غير مجد لأنّ الجعل لم يكن مقصوراً بهذا المورد الخاصّ حتّى يتمّ ما ذكره من الاستبعاد بل الجعل على نحو القانون الكلّي الشامل لهذا المورد وغيره، نعم اختصاص المورد بالجعل مع مبغوضيّة مسبّبه بعيد»(12).

ولكن قد مرّ كراراً أنّ الحقّ هو انحلال الأحكام القانونيّة الكلّية بعدد مصاديقها وأفرادها، فينحلّ إمضاء الشارع في قضيّة «أحل الله البيع» مثلا إلى إمضاءات متعدّدة بعدد أفراد البيع، فيشمل إمضائه مثل بيع المصحف من الكافر وحيث إنّه مناف للحكمة بالبيان المزبور فنستنتج عدم شمول إمضائه لمثل هذا المورد.

أمّا القسم الثالث: فأيضاً يدلّ النهي فيه على الفساد لنفس ما مرّ في القسم الثاني، فإنّ إمضاء الشارع الحكيم إيجاد معاملة بسبب خاصّ مع كون التسبّب به مبغوضاً عنده، ينافي حكمته.

أمّا القسم الرابع: فلا إشكال ولا خلاف في دلالة النهي على الفساد فيه أيضاً لأنّ مبغوضيّة الأثر وكونه سحتاً مثلا عند المولى في مثل «ثمن العذرة سحت» يدلّ بالانّ على الفساد عرفاً فإنّ لازم حرمة الأثر والنتيجة عند العرف بقاء الثمن في ملك المشتري، وهذا من قضايا قياساتها معها، ولذلك نرى كثيراً ما تعبّر الشارع عن بطلان معاملة لا خلاف في بطلانها بلسان حرمة النتيجة.

بقي هنا شيء:

وهو ما أفاده وادعاه في هامش أجود التقريرات من أنّ حرمة المعاملة لا تدلّ على فسادها مطلقاً وإنّه لا سببية في باب إنشاء العقود والايقاعات أصلا وأنّه لا معنى لأنّ يكون النهي متعلّقاً بالمعنى المعبّر عنه بالمصدر تارةً، وبالمعنى المعبّر عنه باسم المصدر اُخرى، ببيان أنّ هناك ثلاثة اُمور:

الأمر الأوّل: اعتبار الملكيّة مثلا بمن بيده الاعتبار أعني به الشارع.

الأمر الثاني: اعتبار الملكيّة القائم بالمتبايعين مع قطع النظر عن إمضاء الشارع له وعدم إمضائه له.

الأمر الثالث: إظهار المتبايعين اعتبارهما النفساني بمظهر خارجي من لفظ أو غيره، أمّا الاعتبار القائم بالشارع فهو غير قابل لتعلّق النهي به ليقع الكلام في دلالته على الفساد وعدم دلالته عليه، ضرورة أنّ الاعتبار القائم بالشارع خارج عن تحت قدرة المكلّف واختياره فكيف يعقل تعلّق النهي به؟ فإذا فرض في مورد أنّ الاعتبار المزبور مبغوض له لم يصحّ نهي المكلّف عنه، بل الشارع بنفسه لا يوجد مبغوضه، وهذا ظاهر لا يكاد يخفى، وأمّا الاعتبار القائم بالمتبايعين مثلا فهو وإن كان قابلا لتعلّق النهي به إلاّ أنّه لا يدلّ على عدم إمضاء الشارع له لأنّ سلب القدرة عن المكلّف في مقام التكليف لا يستلزم حجر المالك وعدم إمضاء اعتباره على تقدير تحقّقه في الخارج، لأنّ النهي إنّما يتكفّل بإظهار الزجر عن تحقّق متعلّقه في الخارج من دون تعرّض لإمضائه على تقدير تحقّقه وعدم إمضائه، فإذا كان لدليل الإمضاء إطلاق بالإضافة إلى الفرد المنهي عنه لم يكن مانع من الأخذ به أصلا، وأمّا النهي المتعلّق بذات ما يكون به إظهار الاعتبار من المتبايعين كالنهي عن البيع المنشأ باللفظ أثناء الاشتغال بصلاة الفريضة أو النهي المتعلّق بمظهر الاعتبار المزبور بما هو مظهر، فعدم دلالتهما على عدم كون الاعتبار النفساني القائم بالمتبايعين ممضي عند الشارع ظاهر لا سترة عليه، فالصحيح أنّ حرمة المعاملة لا تدلّ على فسادها مطلقاً نعم إذا كان النهي عن معاملة ما ظاهراً في كونه في مقام الردع عنها وعدم إمضائها كان دالا على فسادها مطلقاً إلاّ أنّ ذلك خارج عمّا هو محلّ الكلام بين الأعلام»(13) (انتهى).

أقول: يرد عليه:

أوّلا: بالنسبة إلى مبناه في باب الإنشاء ما حقّقناه في محلّه من أنّ الإنشاء إيجاد، أي أنّه

عبارة عن إيجاد أمر عقلائي واعتباره بأسبابه الخاصّة، وليس من قبيل الإظهار.

وثانياً: ما مرّ آنفاً من وجود ملازمة عرفيّة عقلائيّة (لو لم تكن عقليّة) بين النهي عن الاعتبار القائم بالمتبايعين وبين عدم إمضائه وإن أمضاه المتعلّق مع كونه مبغوضاً يخالف الحكمة عند العقلاء.

إلى هنا تمّ البحث بحسب ما يقتضيه العقل وبناء العقلاء.

وأمّا بحسب الأدلّة النقليّة فإنّ هناك روايتين ربّما يستدلّ بهما على عدم دلالة النهي على الفساد، (وقد وردتا في باب عدم نفوذ نكاح العبد من دون إذن مولاه وإنّ صحّته موقوفة على إجازته) وذهب جماعة منهم المحقّق الخراساني(رحمه الله)إلى عدم دلالتهما لا على الفساد ولا على الصحّة، وادّعى بعض دلالتهما على الصحّة:

إحديهما: ما رواه زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال سألته عن مملوك تزوّج بغير إذن سيّده فقال: «ذاك إلى سيّده إن شاء أجازه وإن شاء فرّق بينهما» قلت: أصلحك الله إنّ الحكم بن عيينة وإبراهيم النخعي وأصحابهما يقولون: إنّ أصل النكاح فاسد ولا تحلّ إجازة السيّد له، فقال أبو جعفر(عليه السلام): «إنّه لم يعص الله وإنّما عصى سيّده فإذا أجازه فهو له جائز»(14). (وهي معتبرة سنداً).

ثانيتهما: ما رواه زرارة أيضاً عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سألته عن رجل تزوّج عبده امرأة بغير إذنه فدخل بها ثمّ اطلع على ذلك مولاه قال: «ذاك إلى مولاه إن شاء فرّق بينهما وإن شاء أجاز نكاحهما فإن فرّق بينهما فللمرأة ما أصدقها ... وإن أجاز نكاحه فهما على نكاحهما الأوّل» فقلت لأبي جعفر (عليه السلام): فإنّ أصل النكاح كان عاصياً فقال أبو جعفر (عليه السلام): «إنّما أتى شيئاً حلالا وليس بعاص الله، إنّما عصى سيّده ولم يعص الله إنّ ذلك ليس كإتيان ما حرّم الله عليه من نكاح في عدّة وأشباهه»(15). (وهي غير معتبرة من ناحية السند لمكان موسى بن بكر).

فاستدلّ بقوله(عليه السلام) «إنّما عصى سيّده ولم يعص الله» لدلالة النهي على الفساد بدعوى أنّ مفهومه فساد النكاح لو كان عصى الله ووجود الملازمة بين عصيان الله في المنهي عنه وفساده، واستدلّ بهما أيضاً للصحّة ببيان أنّ عصيان السيّد ملازم لعصيان الله تعالى، لأنّ طاعة السيّد واجب شرعاً، فإذا لم يوجب عصيان السيّد الفساد لم يوجبه عصيان الله أيضاً.

أقول: الظاهر أنّ منشأ الخلاف في مدلول الرّوايتين إنّما هو أنّ العصيانين الواردين في الرّوايتين هل هما تكليفيان، أو أنّهما وضعيان، أو أحدهما وضعي والآخر تكليفي؟ فكأنّ القائل بدلالتهما على الفساد يرى أنّ كليهما تكليفيان، والقائل بالصحّة يرى عصيان السيّد تكليفيّاً فحسب وعصيان الله المنفي في الرّواية وضعيّاً، ولازمه أن يكون مدلول الرّواية أنّ الذي يوجب بطلان النكاح وفساده إنّما هو العصيان الوضعي لا التكليفي، ومحلّ النزاع في المقام إنّما هو النواهي التكليفية وإنّها هل تدلّ على الفساد أو لا، لا الوضعيّة.

ومن هنا يرد عليه ما أفاده المحقّق النائيني(رحمه الله) من أنّ مقتضى وحدة السياق وحدة العصيانين في المعنى(16)، فلا يتمّ القول بدلالتهما على الصحّة، وأمّا القول الأوّل، وهو دلالتهما على الفساد.

فيرد عليه: أنّ الإنصاف أنّ المراد من كلا العصيانين في الرّوايتين العصيان الوضعي، أمّا بالنسبة إلى عصيان الله فلأنّ جميع المحرّمات في باب النكاح محرّمات وضعية كما يظهر بالتتبّع فيها، وأمّا ما ورد فيها من الوعيد بالعذاب والعقاب فهو أيضاً ناش من الحرمة الوضعية وما يترتّب على بطلان النكاح، ويؤيّد ذلك ما ورد في ذيل الرّواية الثانيّة من قوله(عليه السلام): «إنّ ذلك ليس كإتيان ما حرّم الله عليه من النكاح في عدّة وأشباهه» حيث إنّ حرمة النكاح في العدّة وضعية بلا إشكال.

وأمّا بالنسبة إلى عصيان السيّد فلأنّه لا إشكال في أنّه ليس لازم اعتبار الاذن من السيّد حرمة مجرّد إجراء صيغة النكاح تكليفاً على العبد وإلاّ يستلزم حرمة التكلّم وأشباهه أيضاً ممّا لا يعتبر فيه الاذن من السيّد قطعاً بل غاية ما يقتضيه كون عقد النكاح فضولياً وغير تامّ بحسب الوضع، فيصير صحيحاً بلحوق الاجازة، ولازم هذا الحرمة الوضعية فقط.

بقي هنا أمران:

الأمر الأوّل: ما حكي عن أبي حنيفة والشيباني من دلالة النهي على الصحّة، وظاهره

دلالته عليها مطلقاً سواء في المعاملات والعبادات، وحكي عن فخر المحقّقين موافقته لهما بل وافقهما المحقّق الخراساني(رحمه الله) في بعض شقوق المعاملة وفي تهذيب الاُصول في جميعها، ولكن خالفهما المشهور، والحقّ أنّ كلامهما هذا ساقط عن الاعتبار مطلقاً كما سيأتي بيانه.

وكيف كان فهيهنا ثلاثة أقوال: دلالة النهي على الصحّة مطلقاً، وعدم دلالته عليها مطلقاً، والقول بالتفصيل، أي دلالته عليها في الجملة.

أمّا القول الأوّل: فاستدلّ له بأنّ النهي لا يصحّ إلاّ عمّا يتعلّق به القدرة، والمنهي عنه هو وقوع المعاملة مؤثّرة صحيحة، فلو كان الزجر عن معاملة مقتضيّاً للفساد للزم أن يكون سالباً لقدرة المكلّف، ومع عدم قدرته يكون لغواً، فلو كان صوم يوم النحر والنكاح في العدّة مثلا ممّا لا يتمكّن المكلّف من إتيانهما كان النهي عنهما لغواً لتعلّقه بأمر غير مقدور.

وإن شئت قلت: أنّ الانزجار عن الفعل المنهي عنه حاصل لعدم القدرة عليه، فالنهي عنه حينئذ تحصيل للحاصل.

وأجاب عنه المحقّق الخراساني(رحمه الله) بالتفصيل بين ما إذا كان النهي في المعاملات عن المسبّب أو التسبّب، فيدلّ على الصحّة لاعتبار القدرة في متعلّقه عقلا كالأمر وإنّه لا يكاد يقدر على المسبّب أو التسبّب إلاّ فيما إذا كانت المعاملة مؤثّرة صحيحة، وبين ما إذا كان النهي فيها عن السبب فلا يدلّ على الصحّة لأنّ المكلّف قادر على السبب، أي على إجراء الصيغة على أيّ حال: سواء كان صحيحاً أو فاسداً.

هذا كلّه في المعاملات وأمّا العبادات فقد قسّمها إلى قسمين:

أوّلهما: ما كان منها عبادة ذاتيّة كالركوع والسجود ممّا لا تحتاج عباديتها إلى تعلّق أمر بها، فذهب إلى كونها مقدورة صحيحة ولو مع النهي عنها كما إذا كانت مأموراً بها لأنّ عباديتها لا تتوقّف على تعلّق الأمر به لكي لا يمكن تحقّقها إذا تعلّق النهي بها ولم تكن مأموراً بها.

ثانيهما: ما كان منها عبادة لتعلّق الأمر بها ولاعتبار قصد القربة في عباديتها فذهب في هذا القسم إلى عدم كونه مقدوراً مع النهي عنه لأنّ المبغوض لا يكون مقرّباً فيدلّ النهي فيه على الفساد.

وأورد عليه في تهذيب الاُصول توجيهاً لقول أبي حنيفة والشيباني بأنّ مورد نظرهما ليس نفس السبب بما هو فعل مباشري إذ ليس السبب متعلّقاً للنهي في الشريعة حتّى يبحث عنه بل مورد النظر هو المعاملات العقلائيّة المعتدّ بها لولا نهي الشارع عنها، أعني العقد المتوقّع منه ترتّب الأثر والمسبّب عليه(17).

أقول: مقصوده أنّ النهي يتعلّق بالسبب بما هو سبب وبوصف السببيّة لا بذات السبب، فلا وجه للتفريق بين النهي عن السبب والنهي عن المسبّب أو التسبّب في كلام المحقّق الخراساني(رحمه الله).

ولكن يرد عليه: أنّ لازم هذا رجوع النهي عن السبب إلى النهي عن المسبّب أو النهي عن التسبّب، وهو خلاف التقسيم المفروض في كلام المحقّق الخراساني(رحمه الله).

وكيف كان، فالحقّ عدم دلالة النهي على الصحّة مطلقاً بل غاية ما يدلّ عليه إنّما هو صحّة العمل المنهي عنه لولا تعلّق النهي به، وهذا يكفي في الخروج عن محذور تحصيل الحاصل ومحذور تعلّق النهي بأمر غير مقدور، وذلك لأنّ الشارع يسلب القدرة عن المكلّف تعبّداً بنهيه عنه نظير ما يلاحظ في باب النذر فيما إذا تعلّق بترك عبادة مكروهة مثلا، حيث إنّ الناذر يسلب القدرة عن نفسه تعبّداً وشرعاً لا تكويناً وخارجاً، وفي ما نحن فيه إذا نهى الشارع المقدّس عن بيع المصحف من الكافر فقد سلب عن المكلّف القدرة الشرعيّة على البيع التي كانت له قبل النهي، والذي تقتضيه حكمة الشارع الحكيم إنّما هو صحّة المعاملة لولا تعلّق النهي وقبل تعلّقه، وأمّا بعد تعلّقه فالحكمة تقتضي عقلا أو عقلائيّاً الفساد لوجود الملازمة بين المبغوضيّة المستفادة من النهي والفساد عند العرف والعقلاء كما مرّ.

وبعبارة اُخرى: عدم دلالة النهي على الفساد مستلزم للغويّة لا أنّ عدم الفساد مستلزم لها، لاقتضاء الحكمة العقلائيّة أن يكون المبغوض فاسداً.

ثمّ إنّ المصرّح به في كلمات جماعة من المحقّقين ومنهم المحقّق الخراساني والمحقّق النائيني(رحمهما الله)أنّ متعلّق النهي في العبادات ليس هو العبادة الفعليّة أي العبادة الصحيحة من جميع الجهات بل إنّما يتعلّق النهي بشيء لو تعلّق الأمر به لكان أمراً عباديّاً، فإنّ الشرائط الآتية من قبل الأمر خارجة عن المدلول بل مطلق الشرائط على التحقيق كما صرّح به في تهذيب الاُصول(18).

أقول: إنّ الظاهر من النواهي المتعلّقة بالعبادات كالنهي عن الصّلاة في أيّام العادة أنّها تتعلّق بالعبادة الجامعة لجميع الشرائط حتّى قصد القربة كما مرّ في بعض الأبحاث السابقة، فمعنى قوله(عليه السلام) «لا تصلّ في أيّام اقرائك» «لا تصلّ صلاة كنت تأتين بها قبل أيّام العادة» أي الصّلاة الجامعة لجميع شرائط الصحّة.

هذا ـ مضافاً إلى كونه مقتضى ما اخترناه في مبحث الصحيح والأعمّ من أنّ الألفاظ الشرعيّة وضعت للصحيح وما يكون مبدأً للآثار، حيث إنّه يقتضي كون متعلّق النهي تلك العبادة الجامعة لتمام شرائط الصحّة، نعم يستلزم النهي سلب القدرة عن إتيانها، وبعبارة اُخرى: النهي يتعلّق بالعبادة الفعليّة قبل النهي لا بعده.

وبهذا يظهر أنّ دلالة النهي على الفساد ـ أي بطلان كلام أبي حنيفة والشيباني في باب العبادات ـ ليست متوقّفة على عدم كون المراد من الصحيح الصحيح من جميع الجهات وعلى عدم كون المراد من الصحّة هو الصحّة الفعليّة كما ذهب إليه جماعة من الأعلام بل النهي يدلّ على الفساد في باب العبادات ولو كان المراد من الصحّة الصحّة الفعليّة لأنّ المقصود منها الفعليّة قبل النهي لا بعده كما مرّ آنفاً.

الأمر الثاني: أنّه قد مرّ شمول النزاع في المسألة للأعمّ من النهي التحريمي والتنزيهي، ونتيجته دلالة النهي على الفساد مطلقاً حتّى إذا كان تنزيهياً لأنّه الوجه في دلالته على الفساد وجود الملازمة بين المبغوضيّة وعدم الإمضاء من جانب الشارع، ولا إشكال في أنّ النهي التنزيهي أيضاً يدلّ على مبغوضيّة متعلّقه ولو كانت بدرجة أقلّ من التحريمي.

وإن شئت قلت: لا بدّ لكون العبادة مقرّبة من أن يكون العمل محبوباً، والنهي التنزيهي دالّ على عدم كون المتعلّق محبوباً على الأقلّ وإن لم يكن دالا على كونه مبغوضاً.

إن قلت: فكيف الحكم بصحّة العبادات المكروهة؟

قلنا: قد مرّ البحث مستوفى عن العبادات المكروهة وأنّ الكراهة فيها ليست هي الكراهة المصطلحة فراجع.

هذا بالنسبة إلى العبادات، وأمّا المعاملات فلا دليل على دلالة النهي التنزيهي فيها على الفساد كالنهي عن بيع الأكفان والنهي عن تلقّي الركبان، حيث إنّ المفروض جواز العمل المكروه في الكراهة المصطلحة من ناحية الشارع، فكيف تلازم عدم الإمضاء من جانبه؟ وكيف تكون منافية للحكمة بعد ملاحظة عدم اعتبار قصد القربة في المعاملات؟ حيث لا

يمكن أن يقال حينئذ: «أنّ النهي التنزيهي يدلّ على الأقلّ على عدم كون المتعلّق محبوباً فلا يكون مقرّباً» كما يقال به في باب العبادات التي تعلّق بها النهي التنزيهي.

__________________

1. مسالة اجتماع الامر والنهي.

2. تهذيب الاُصول: ج1، ص325، طبع مهر.

3. المحاضرات: ج5، ص4.

4. أجود التقريرات: ج1، ص386 ـ 387.

5. أجود التقريرات : ج 1 ، ص 394.

6. أجود التقريرات : ج 1 ، ص 397 ـ 399.

7. أجود التقريرات : ج 1 ، ص 399 ـ 400.

8. المحاضرات : ج 5 ، ص 25.

9. درر الفوائد : ج 1 ، ص 187 ـ 188 ، طبع جماعة المدرّسين.

10. تهذيب الاُصول: ج1، ص332، من طبع مهر.

11. أجود التقريرات: ج1، ص404.

12. تهذيب الاُصول: ج1، طبع مهر، ص332 ـ 333.

13. أجود التقريرات: ج1 ص403 و404.

14. وسائل الشيعة: أبواب نكاح العبيد والاماء الباب 24، ح 1.

15. المصدر السابق: ح 2.

16. راجع أجود التقريرات: ج1، ص407.

17. راجع تهذيب الاُصول: ج1، ص335 ـ 336، من طبع مهر.

18. تهذيب الاُصول: ج1، ص336، من طبع مهر.

 

 

 




قواعد تقع في طريق استفادة الأحكام الشرعية الإلهية وهذه القواعد هي أحكام عامّة فقهية تجري في أبواب مختلفة، و موضوعاتها و إن كانت أخصّ من المسائل الأصوليّة إلاّ أنّها أعمّ من المسائل الفقهيّة. فهي كالبرزخ بين الأصول و الفقه، حيث إنّها إمّا تختص بعدّة من أبواب الفقه لا جميعها، كقاعدة الطهارة الجارية في أبواب الطهارة و النّجاسة فقط، و قاعدة لاتعاد الجارية في أبواب الصلاة فحسب، و قاعدة ما يضمن و ما لا يضمن الجارية في أبواب المعاملات بالمعنى الأخصّ دون غيرها; و إمّا مختصة بموضوعات معيّنة خارجية و إن عمّت أبواب الفقه كلّها، كقاعدتي لا ضرر و لا حرج; فإنّهما و إن كانتا تجريان في جلّ أبواب الفقه أو كلّها، إلاّ أنّهما تدوران حول موضوعات خاصة، و هي الموضوعات الضرريّة و الحرجية وبرزت القواعد في الكتب الفقهية الا ان الاعلام فيما بعد جعلوها في مصنفات خاصة بها، واشتهرت عند الفرق الاسلامية ايضاً، (واما المنطلق في تأسيس القواعد الفقهية لدى الشيعة ، فهو أن الأئمة عليهم السلام وضعوا أصولا كلية وأمروا الفقهاء بالتفريع عليها " علينا إلقاء الأصول وعليكم التفريع " ويعتبر هذا الامر واضحا في الآثار الفقهية الامامية ، وقد تزايد الاهتمام بجمع القواعد الفقهية واستخراجها من التراث الفقهي وصياغتها بصورة مستقلة في القرن الثامن الهجري ، عندما صنف الشهيد الأول قدس سره كتاب القواعد والفوائد وقد سبق الشهيد الأول في هذا المضمار الفقيه يحيى بن سعيد الحلي )


آخر مرحلة يصل اليها طالب العلوم الدينية بعد سنوات من الجد والاجتهاد ولا ينالها الا ذو حظ عظيم، فلا يكتفي الطالب بالتحصيل ما لم تكن ملكة الاجتهاد عنده، وقد عرفه العلماء بتعاريف مختلفة منها: (فهو في الاصطلاح تحصيل الحجة على الأحكام الشرعية الفرعية عن ملكة واستعداد ، والمراد من تحصيل الحجة أعم من اقامتها على اثبات الاحكام أو على اسقاطها ، وتقييد الاحكام بالفرعية لإخراج تحصيل الحجة على الاحكام الأصولية الاعتقادية ، كوجوب الاعتقاد بالمبدء تعالى وصفاته والاعتقاد بالنبوة والإمامة والمعاد ، فتحصيل الدليل على تلك الأحكام كما يتمكن منه غالب العامة ولو بأقل مراتبه لا يسمى اجتهادا في الاصطلاح) (فالاجتهاد المطلق هو ما يقتدر به على استنباط الاحكام الفعلية من أمارة معتبرة أو أصل معتبر عقلا أو نقلا في المورد التي لم يظفر فيها بها) وهذه المرتبة تؤهل الفقيه للافتاء ورجوع الناس اليه في الاحكام الفقهية، فهو يعتبر متخصص بشكل دقيق فيها يتوصل الى ما لا يمكن ان يتوصل اليه غيره.


احد اهم العلوم الدينية التي ظهرت بوادر تأسيسه منذ زمن النبي والائمة (عليهم السلام)، اذ تتوقف عليه مسائل جمة، فهو قانون الانسان المؤمن في الحياة، والذي يحوي الاحكام الالهية كلها، يقول العلامة الحلي : (وأفضل العلم بعد المعرفة بالله تعالى علم الفقه ، فإنّه الناظم لأُمور المعاش والمعاد ، وبه يتم كمال نوع الإنسان ، وهو الكاسب لكيفيّة شرع الله تعالى ، وبه يحصل المعرفة بأوامر الله تعالى ونواهيه الّتي هي سبب النجاة ، وبها يستحق الثواب ، فهو أفضل من غيره) وقال المقداد السيوري: (فان علم الفقه لا يخفى بلوغه الغاية شرفا وفضلا ، ولا يجهل احتياج الكل اليه وكفى بذلك نبلا) ومر هذا المعنى حسب الفترة الزمنية فـ(الفقه كان في الصدر الأول يستعمل في فهم أحكام الدين جميعها ، سواء كانت متعلقة بالإيمان والعقائد وما يتصل بها ، أم كانت أحكام الفروج والحدود والصلاة والصيام وبعد فترة تخصص استعماله فصار يعرف بأنه علم الأحكام من الصلاة والصيام والفروض والحدود وقد استقر تعريف الفقه - اصطلاحا كما يقول الشهيد - على ( العلم بالأحكام الشرعية العملية عن أدلتها التفصيلية لتحصيل السعادة الأخروية )) وتطور علم الفقه في المدرسة الشيعية تطوراً كبيراً اذ تعج المكتبات الدينية اليوم بمئات المصادر الفقهية وبأساليب مختلفة التنوع والعرض، كل ذلك خدمة لدين الاسلام وتراث الائمة الاطهار.