المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية

الفقه الاسلامي واصوله
عدد المواضيع في هذا القسم 8222 موضوعاً
المسائل الفقهية
علم اصول الفقه
القواعد الفقهية
المصطلحات الفقهية
الفقه المقارن

Untitled Document
أبحث عن شيء أخر المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المحرر العلمي
2024-11-28
المحرر في الصحافة المتخصصة
2024-11-28
مـراحل تكويـن اتجاهات المـستهـلك
2024-11-28
عوامـل تكويـن اتـجاهات المـستهـلك
2024-11-28
وسـائـل قـيـاس اتـجاهـات المستهلـك
2024-11-28
وظـائـف اتـجاهـات المـستهـلك
2024-11-28



منجزية العلم الاجمالي (في ملاقي الشبهة المحصورة)  
  
819   01:23 مساءاً   التاريخ: 10-8-2016
المؤلف : تقريرا لبحث السيد الخميني - بقلم الشيخ السبحاني
الكتاب أو المصدر : تهذيب الأصول
الجزء والصفحة : ج3. ص.253
القسم : الفقه الاسلامي واصوله / علم اصول الفقه / تعاريف ومفاهيم ومسائل اصولية /


أقرأ أيضاً
التاريخ: 2-9-2016 654
التاريخ: 4-9-2016 542
التاريخ: 6-9-2016 809
التاريخ: 4-9-2016 560

وتحقيق الحال فيه في ضمن أبحاث :

في أنّ ملاقي النجس بعنوانه من النجس:

الأوّل : بعدما علم من ضرورة الفقه وجوب الاجتناب عن ملاقي النجس القطعي وقع البحث في كيفية جعل هذا الوجوب :

فمن قائل ـ وهو ابن زهرة(1) ومن تبعه(2) ـ بأنّ وجوب الاجتناب عن ملاقي النجس من شؤون وجوب الاجتناب عن نفس النجس ، وليس وجوب الاجتناب عن الملاقي لأجل تعبّد آخر وراء التعبّد بوجوب الاجتناب عن النجس ، ويكون المرتكب للملاقي معاقباً على ارتكاب النجس لا على ارتكاب ملاقيه ; لعدم الحكم للملاقي مستقلاًّ .

وبالجملة : ليس هنا إلاّ وجوب اجتناب واحد ; وهو وجوب الاجتناب عن النجس . ولا يتحقّق ذلك إلاّ بالاجتناب عنه وعن حواشيه وملاقياته .

ومن قائل ـ وهو المشهور المنصور ـ بأنّ الملاقي يختصّ بجعل مستقلّ في عرض وجوب الاجتناب عن النجس ، وهذا الوجوب مجعول على عنوان ملاقي

النجس ـ من دون أن يكون وجوبه عين وجوبه ومن شؤونه ـ فالاجتناب عن الملاقي امتثال مستقلّ ، كما أنّ الاجتناب عن النجس امتثال آخر . وقس عليه العقاب والعصيان .

استدلّ ابن زهرة بقوله تعالى : { وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} [المدثر: 5] ، ولا يخفى عدم دلالته ; إذ هو يدلّ على وجوب الاجتناب عن الرجز ، ولا يدلّ على وجوب الاجتناب عن ملاقي الرجز ; فإنّ الرجز عبارة عن نفس النجس ، على ما عليه جملة من المفسّرين ، ولا يدلّ على حكم ملاقيه .

وربّما يستدلّ(3) بما رواه عمرو بن شمر عن جابر الجعفي عن أبي جعفر ـ عليه السلام ـ أنّه أتاه رجل ، فقال له : وقعت فأرة في خابية فيها سمن أو زيت ، فما ترى في أكله ؟

فقال أبو جعفر ـ عليه السلام ـ : «لا تأكله» .

فقال الرجل : الفأرة أهون عليّ من أن أترك طعامي من أجلها .

فقال له أبو جعفر ـ عليه السلام: «إنّك لم تستخفّ بالفأرة، وإنّما استخففت بدينك ; إنّ الله حرّم الميتة من كلّ شيء»(4).

وجه دلالته : أنّه جعل عدم الاجتناب من الطعام الذي وقعت فيه الفأرة استخفافاً للدين ، وبيّنه بأنّ الله حرّم الميتة من كلّ شيء ، ولولا كون الاجتناب من الملاقي ـ بالكسر ـ من شؤون الاجتناب من الملاقى لم يكن عدم الاجتناب من الطعام استخفافاً بتحريم الميتة .

وفيه ـ مع ضعف سند الرواية ، واحتمال تفسّخ الميتة في السمن ; بحيث حصل الامتزاج والاختلاط ، وصارا بحكم واحد في الاستعمال والاجتناب ـ أنّ الاستدلال مبني على أنّ قوله ـ عليه السلام ـ : «إنّ الله حرّم الميتة من كلّ شيء» مسوق لبيان نجاسة الملاقي للفأرة ، وهو خلاف الظاهر .

بل سيق لبيان ردّ قول السائل : «إنّ الفأرة أهون عليّ من أن أترك طعامي من أجلها» بأنّ ذلك استخفاف لحكم الله تعالى ; لتعلّق حكمه على كلّ ميتة .

ويمكن الاستدلال على القول المشهور : أنّ وجوب الاجتناب عن الملاقي مجعول مستقلاًّ بمفهوم قوله ـ عليه السلام ـ : «إذا بلغ الماء قدر كرّ لم ينجّسه شيء»(5) فإنّ مفهومه أنّ الماء إذا لم يبلغ حدّ الكرّ ينجّسه بعض النجاسات ; أي يجعله نجساً ومصداقاً مستقلاًّ منه . وظاهره : أنّ الأعيان النجسة واسطة لثبوت النجاسة للماء ، فيصير الماء لأجل الملاقاة للنجس فرداً من النجس مختصّاً بالجعل .

ويمكن أن يستدلّ أيضاً بقوله : «الماء كلّه طاهر حتّى تعلم أنّه قذر»(6) ; أي حتّى تعلم أنّه صار قذراً بواسطة الملاقاة .

وأعطف عليه ما دلّ من الروايات والفتاوى : أنّ الماء والأرض والشمس مطهِّرات للأشياء(7); فإنّ الظاهر منها أنّ الأشياء صارت نجسة ، فتطهّر بالمذكورات . وبالجملة : لا إشكال في أنّ نجاسة الملاقي من ناحية نجاسة الأعيان النجسة التي يلاقيها لأجل السراية والسببية ، كما أنّ الظاهر منها كون الملاقي مختصّاً بجعل آخر ووجوب مستقلّ .

ومن ذلك يعلم : حكم الملاقي لأحد أطراف العلم الإجمالي ; فعلى القول الأوّل يجب الاجتناب ; لأجل تحصيل البراءة اليقينية عن الاشتغال اليقيني ; للشكّ في حصول الامتثال بالاجتناب عن الأطراف دون الملاقى ; لأنّ وجوب الاجتناب عن الملاقي على فرض نجاسة الملاقى ـ بالفتح ـ ليس وجوباً وتكليفاً مستقلاّ ، بل وجب الاجتناب عنه بنفس الوجوب المتعلّق بالملاقى ـ بالفتح ـ فيجب الاجتناب عن الكلّ ; تحصيلاً للبراءة .

وعلى القول المختار: فالحكم هو البراءة، لكن على تفصيل سيوافيك بيانه .

صور الملاقاة في المسألة:

البحث الثاني : أنّ العلم بالملاقاة قد يكون بعد العلم الإجمالي بنجاسة أحد الأطراف ، وقد يكون قبله ، وقد يكون مقارناً له . وعلى أيّ حال : قد يكون الملاقى خارجاً عن محلّ الابتلاء رأساً ولا يعود إليه ، وقد يكون عائداً إليه بعد خروجه حين العلم بنجاسة الملاقي ـ بالكسر ـ أو الطرف ، والأمثلة واضحة .

مقتضى الأصل العقلي في صور الملاقاة:

 

البحث الثالث : قد اختار سيّدنا الاُستاذ في الدورة السابقة البراءة في هذه الصور مطلقاً(8) ، ولكنّه عدل في هذه الدورة إلى تفصيل يوافق مختار المحقّق الخراساني ـ رحمه اللّه ـ (9) .

وإليك بيان ما اختاره في الدورة السابقة على نحو الإجمال :

إنّ العلم الإجمالي بنجاسة بعض الأطراف منجّز لها ، فإذا علم بالملاقاة أو بكون نجاسة الملاقي على فرض كونه نجساً من الملاقى ـ بالفتح ـ فهذا العلم الثاني لايؤثّر شيئاً ; لأنّ العلم بنجاسة بعض الأطراف متقدّم رتبةً على العلم بنجاسة الملاقي ـ بالكسر ـ أو الطرف ; سواء كان بحسب الزمان مقارناً له أو متقدّماً عليه أو متأخّراً عنه .

وبالجملة : إنّ العلم الأوّل المتعلّق بنجاسة أحد الطرفين منجّز في الرتبة السابقة على تأثير العلم الإجمالي الثاني ، ومعه لا ينجّز العلم الثاني ; لعدم إمكان تنجيز المنجّز ; للزوم تحصيل الحاصل .

فإذا علم بنجاسة الملاقي ـ بالكسر ـ أو الطرف ، ثمّ علم نجاسة الملاقى ـ بالفتح ـ أو الطرف وأنّ نجاسة الملاقي ـ بالكسر ـ على فرضها تكون من الملاقى فالعلم الثاني مع كونه متأخّراً زماناً ينجّز أطرافه في الرتبة السابقة ; لأنّ معلومه يكون متقدّماً على المعلوم الأوّل .

والمناط في التنجيز هو تقدّم المعلوم زماناً أو رتبةً لا العلم ، كما لو علمنا بوقوع قطرة من الدم في إحدى الأواني الثلاثة ، ثمّ علمنا بوقوع قطرة منه قبله في إحدى الإنائين منها فحينئذ يكون العلم الأوّل بلا أثر ، ولا يجب الاجتناب عن الطرف المختصّ به ; لأنّ العلم الثاني يؤثّر في تنجيز معلومه في الزمان السابق على العلم الأوّل .

والحاصل : بعد تقدّم تنجّز الملاقى ـ بالفتح ـ على الملاقي بالرتبة يكون العلم المتعلّق بالملاقي ـ بالكسر ـ والطرف في جميع الصور بلا أثر ، ولا معنى للتنجيز فوق التنجيز ، فيكون الملاقي بحكم الشبهة البدوية .

هذا ملخّص ما أوضحه في الدورة السابقة ، وقد لخّصناه بحذف ما تكرّر بيانه في الأبحاث المتقدّمة . ويظهر ضعفه في طيّ المباحث الآتية .

والتحقيق : هو ما اختاره المحقّق الخراساني من التفصيل ; فإنّه أوجب تارة : الاجتناب عن الطرف والملاقى ـ بالفتح ـ دون الملاقي ، واُخرى : عن الطرف والملاقي والملاقى جميعاً ، وثالثة : عن الطرف والملاقي ـ بالكسر ـ دون الملاقى ، بالفتح(10) . فنقول توضيحاً وتحقيقاً لما أفاده ـ قدس سره ـ :

أمّا الصورة الاُولى : فهي ما إذا كان العلم بالملاقاة متأخّراً عن العلم بنجاسة أحد الأطراف ، وعلّله هو ـ قدس سره ـ بأنّه إذا اجتنب عن الملاقى ـ بالفتح ـ والطرف فقد اجتنب عن النجس في البين ، ولو لم يجتنب عمّا يلاقيه ; فإنّه على تقدير نجاسته فرد آخر من النجس قد شكّ في وجوده(11) .

وتوضيحه ـ وإن كان فيما مرّ كفاية بالنسبة إلى هذه الصورة ـ أن يقال : إنّ الكشف والتنجيز من الاُمور التي لا يقبل التعدّد والاثنينية ، فلا يعقل أن ينكشف الشيء الواحد لدى العالم مرّتين ما لم ينفصل بينهما ذهول أو نسيان .

ومثله التنجيز ; فإنّ معناه تمامية الحجّة وانقطاع العذر على العبد ، وهو لا يقبل التكرّر ، فإذا تمّ الحجّة بالنسبة إلى الطرف في العلم المتقدّم أو حصل الانكشاف فلا معنى لأن يتمّ الحجّة بالنسبة إليه أيضاً في العلم الثاني الذي تعلّق بنجاسة الملاقي ـ بالكسر ـ أو الطرف ، كما لا معنى لتعدّد الانكشاف .

وإن شئت قلت : إنّ من شرائط تنجيز العلم الإجمالي كونه متعلّقاً بالتكليف الفعلي في أيّ طرف اتّفق ، وموجباً للإلزام على أيّ تقدير ، وهو مفقود في المقام ; فإنّ القول بأنّه يجب الاجتناب إمّا عن الملاقي ـ بالكسر ـ أو الطرف قول صوري ; فإنّ الطرف يجب الاجتناب عنه على أيّ تقدير ; للعلم السابق ; سواء وجب الاجتناب عن الملاقي ـ بالكسر ـ أو لا .

ولأجل ذلك : لو تعلّق العلم الإجمالي باُمور قد سبق التكليف إلى بعضها معيّناً لم يحدث شيئاً ولم يوجب تنجّزاً ; لأنّه تعلّق بأمر وجب الاجتناب عنه سابقاً بلا ترديد ، والباقي مشكوك من رأس.

والحاصل : أنّا إذا سلّمنا أنّ هاهنا علماً ثانياً دائراً بين الطرف والملاقي ، لكنّه تعلّق بمعلوم مردّد بين ما هو محكوم بالاجتناب قبل حدوث هذا العلم وما ليس كذلك ، ومعه كيف يحدث العلم الثاني تنجيزاً على كلّ تقدير ، أو كشفاً على كلّ تقدير ؟ مع أنّ الطرف كان منجّزاً ومنكشفاً من قبلُ ببركة العلم الأوّل ، والمنجّز لا يتنجّز ، والمنكشف لا ينكشف .

هذا ، وحكم هذه الصورة واضحة جدّاً قد اتّفقت كلمتنا فيها في كلتا الدورتين ، وإنّما البحث في غيرها .

وأمّا الصورة الثانية ـ أعني ما يجب فيه الاجتناب عن الجميع ـ فهي فيما إذا حصل العلم الإجمالي بنجاسة الملاقى ـ بالفتح ـ والطرف بعد العلم بالملاقاة ، مع كون الجميع مورداً للابتلاء.

فإنّ السرّ في وجوب الاجتناب عن الجميع : أنّ العلم بالملاقاة وإن كان متقدّمـاً إلاّ أنّه لا يحـدث تكليفاً ; فإنّ الملاقاة الخارجي ليس موضـوعاً للحكم ما لم يعلم نجاسة الملاقى ـ بالفتح ـ وما هو الموجب للتكليف إنّما هو العلم بنجاسـة الملاقى أو الطرف ، وهـو قـد تعلّق بالجميع في عرض واحـد ; لأنّ العلم بالملاقاة المتقدّم قد جعل الملاقي والملاقى عدلاً واحداً .

فإذا تعلّق العلم بنجاسة الملاقى ـ بالفتح ـ أو الطرف ففي الحقيقة تعلّق ببركة العلم بالملاقاة من قبل بنجاستهما أو الطرف ، وسيأتي الكلام عن قريب في حال التقدّم الرتبي ، فانتظر(12) .

وإلى ذلك يشير ـ قدس سره ـ بأنّه يتنجّز التكليف بالاجتناب عن النجس في البين ، وهو الواحد أو الاثنين(13) .

وأمّا الصورة الثالثة ; أعني ما يجب فيه الاجتناب عن الطرف والملاقي ـ بالكسر ـ دون الملاقى فقد ذكر ـ رحمه اللّه ـ لها موردين :

الأوّل : ما إذا تأخّر العلم بنجاسة الملاقى ـ بالفتح ـ أو الطرف عن العلم بالملاقاة ، وعن العلم بنجاسة الملاقي ـ بالكسر ـ أو الطرف ، كما إذا علم أوّلاً بنجاسة الملاقي ـ بالكسر ـ أو الطرف ، من دون التفات إلى سبب نجاسة الملاقي ، ثمّ حدث العلم بالملاقاة ، وحدث العلم الإجمالي بنجاسة الملاقى ـ بالفتح ـ أو الطرف ، والعلم بأنّه ليس لنجاسة الملاقي ـ بالكسر ـ على تقدير أن يكون هو النجس الذي تعلّق العلم به أوّلاً سبب إلاّ جهة ملاقاته ; لأنّ المفروض أنّه ليس إلاّ نجاسة واحدة في البين .

والسرّ في ذلك : هو ما مرّ من أنّ شرط تنجيز العلم الإجمالي أن يكون متعلّقاً بالتكليف الفعلي على أيّ تقدير ، منجّزاً كذلك ، وقد عرفت أنّه لو سبق التكليف إلى بعض الأطراف قبل تعلّق العلم الثاني لما يؤثّر المتأخّر أصلاً ; لتردّد متعلّقه بين ما كان واجب الاجتناب لولا هذا العلم ، وما ليس كذلك ، فينحلّ العلم الثاني إلى قطعي الاجتناب ومحتمله .

ولا يصحّ أن يقال : إنّ هذا واجب أو ذاك ، بل أحدهما واجب الاجتناب قطعاً ـ وهو الذي سبق إليه التكليف ـ والآخر مشكوك الوجوب .

وقس عليه المقام ; فإنّ العلم الأوّل قد نجّز حكم كلّ واحد من الملاقي ـ بالكسر ـ والطرف ، والعلم الثاني قد تعلّق بنجاسة الملاقى ـ بالفتح ـ والطرف ، والمفروض أنّ الطرف كان في ظرف حدوث العلم الأوّل واجب الاجتناب ، وقد تمّ حجّة المولى فيه إلى العبد ، ومعه لا يحدث العلم الثاني تكليفاً على أيّ تقدير .

وبالجملة : ليس البحث في الملاقي ـ بالكسر ـ حتّى يقال : إنّ العدل في العلم الثاني هو الملاقى ـ بالفتح ـ بل البحث في الطرف الذي هو عدل في كلا العلمين ، وقد ثبت تنجيزه قبل حدوث العلم الثاني ، فلا معنى للتنجيز بعده ، فينحلّ علم الثاني إلى قطعي الاجتناب وهو الطرف ومشكوكه وهو الملاقى ، بالفتح .

وإن شئت قلت : إنّ شرطية منجّزيـة العلم الإجمالي هـو أن يكون كاشفاً فعلياً ومنجّزاً فعلياً على جميع التقادير ، ومع العلم الأوّل بنجاسة الملاقي ـ بالكسر ـ أو الطرف يكون العلم كاشفاً فعلياً عن التكليف بينهما ومنجّزاً فعلياً على جميع التقادير .

فإذا حصل العلم بأنّ نجاسة الملاقي ـ بالكسر ـ على فرض كونه نجساً فمن جانب الملاقى يحدث علم إجمالي ، لكنّه لا يمكن أن يتّصف بالكاشفية الفعلية ، ولا بالمنجّزية الفعلية على جميع التقادير ; فإنّه على تقدير كون النجس هو الطرف يكون فعلياً بالعلم الأوّل ومنجّزاً فعلياً به ، ولا يعقل تعلّق كشف فوق الكشف ، ولا تنجيز فوق التنجيز .

فإن قلت : العلم الثاني يوجب بطلان العلم الأوّل وفساد زعم التنجيز ; لأنّ التنجيز فرع مطابقة العلم لنفس الأمر ، وقد كشف خلافه ; لأنّه بعد حصول الثاني من العلمين الكاشف عن أنّ النجس إمّا هو الملاقى ـ بالفتح ـ أو الطرف نستكشف بطلان الأوّل ، الذي تعلّق بنجاسة الملاقي ـ بالكسر ـ أو الطرف ، وعلمنا أنّ الذي يليق أن يقع عدلاً للطرف إنّما هو الملاقى ـ بالفتح ـ لا الملاقي .

وإن شئت قلت : إنّ الاجتناب عن الملاقي ـ بالكسر ـ فرع ثبوت وجوب الاجتناب عن الملاقى ـ بالفتح ـ والسرّ في ذلك : أنّ ما يجب الاجتناب عنه هو ملاقي النجس القطعي ، فيجب الاجتناب عنه ; وإن صار الملاقى غير واجب الاجتناب ; لأجل الاضطرار إليه ، أو لخروجه عن محلّ الابتلاء ، أو لغير ذلك .

وأمّا المقام فليس ملاقياً للنجس ، بل ملاق لشيء لم يحرز نجاسته ، ولم يثبت وجوب الاجتناب عنه عند حصول العلم الأوّل ، كما هو المفروض .

وبالجملة : بعدما حدث العلم الثاني كشفنا عن أنّ العلم الأوّل الذي تعلّق بوجوب الاجتناب عن الملاقي ـ بالكسر ـ أو الطرف كان وهناً محضاً ، ولم يكن ملاك وجوب الاجتناب موجوداً فيه .

فيبطل ما يقال : إنّ الطرف كان واجب الاجتناب من أوّل الأمر ، ولم يحدث العلم الثاني تكليفاً آخر بالنسبة إليه ، ويصير الملاقى ـ بالفتح ـ مشكوكاً بدوياً .

قلت : إنّ العلم الثاني لم يكشف إلاّ عن سبب الاجتناب عن الملاقي ـ بالكسر ـ لا عن بطلان العلم الأوّل . والشاهد عليه : أنّـه بعد حصول العلم الثاني أنّ لنا أن نقول : الطرف واجب الاجتناب أو الملاقي ـ بالكسر ـ لكونـه ملاقياً للنجس واقعاً .

غاية الأمر : كان وجوب الاجتناب عن الملاقي ـ بالكسر ـ مجهولاً سببه ، وكان المكلّف معتقداً أنّ علّة نجاسته على فرضها هو وقوع النجس فيه بلا واسطة ، ثمّ بان بأنّ سببها هو الملاقاة لما هو نجس على فرض نجاسة الملاقى ـ بالفتح ـ وهذا مثل ما إذا وقفنا على وجوب أحد الشيئين ، ثمّ وقفنا على ضعف الطريق مع العثور على طريق صحيح . فالتغاير في السبب لا يوجب التغاير في المسبّب .

وما ربّما يقال بانحلال العلم الأوّل بالثاني ; قائلاً بأنّه أيّ فرق بين المقام وما إذا علم بوقوع قطرة من الدم في واحد من الإنائين ، ثمّ علم بعد ذلك بوقوع قطرة سابقاً : إمّا في هذا الإناء المعيّن من الإنائين أو في إناء ثالث ؟ فلا ينبغي التأمّل في أنّ الثاني من العلمين يوجب انحلال الأوّل منهما ; لسبق معلومه عليه ، وأنّ الأوّل منهما وإن كان متقدّماً حسب الوجود إلاّ أنّ معلوم الثاني متقدّم .

وإن شئت قلت : إنّ العلم الأوّل لم يحدث تكليفاً بالنسبة إلى الإناء الذي وقع عدلاً للإناء الثالث في العلم الثاني ; لأنّ العلم الثاني كشف عن كونه واجب الاجتناب من قبل في نفس الأمر ; وإن كان مجهولاً لنا ، وقد علمت ما هو الشرط في تنجيز العلم الإجمالي .

ففيه ـ مع أنّه يرجع إلى الإشكال المتقدّم مآلاً ; وإن كان يفترق عنه تقريراً وتمثيلاً ـ أنّ الفرق بين المقامين واضح ; لأنّه إذا علم بعد العلم بوقوع قطرة في إحدى الإنائين بأنّه وقعت قطرة قبل تلك القطرة المعلومة في واحد معيّن من الإنائين أو الثالث يكشف ذلك عن أنّ علمه بالتكليف على أيّ تقدير كان جهلاً مركّباً ; لأنّ القطرة الثانية المعلومة أوّلاً إذا كانت واقعة فيما وقعت فيه القطرة قبلاً لم يحدث تكليفاً . فالعلم الثاني يكشف عن بطلان العلم الأوّل ، وينحلّ العلم الأوّل .

وأمّا المقام فليس كذلك ; فإنّ العلم الأوّل باق على ما هو عليه ، ومانع عن وقوع كشف وتنجيز بالنسبة إلى الطرف بالعلم الثاني ، فالعلم الأوّل المتعلّق بنجاسة الملاقي ـ بالكسر ـ أو الطرف باق على حاله ، ولا ينحلّ بحدوث العلم الثاني المتعلّق بنجاسة الملاقى ـ بالفتح ـ أو الطرف .

وما أورده بعض أعاظم العصر ـ قدس سره ـ ردّاً على هذا التفصيل ، بما حاصله : أنّ هذا التفصيل مبني على كون حدوث العلم الإجمالي بما أنّه وصف في النفس تمام الموضوع لوجوب الاجتناب عن الأطراف ; وإن تبدّلت صورته ; لأنّه ـ حينئذ ـ يكون المدار على حال حدوث العلم . ومن المعلوم أنّه قد يكون متعلّق العلم الإجمالي حال حدوثه هو نجاسة الملاقي ـ بالكسر ـ أو الطرف ، وقد يكون هو نجاسة الملاقى ـ بالفتح ـ أو الطرف ، وقد يكون هو نجاستهما معاً أو الطرف .

ولكن الإنصاف : فساد المبنى ; لأنّ المدار في تأثّر العلـم إنّما هو على المعلوم والمنكشف لا على العلم والكاشف ، وفي جميع الصور المفروضة رتبة وجوب الاجتنـاب عن الملاقى ـ بالفتح ـ والطرف سابقة على وجوب الاجتناب عن الملاقي ـ بالكسر ـ وإن تقدّم زمان العلم الإجمالي بنجاسة الملاقي ـ بالكسر ـ أو الطرف على العلـم الإجمالي بنجاسـة الملاقى ـ بالفتح ـ أو الطرف; لأنّ التكليف في الملاقي إنّما جاء من قِبَل التكليف بالملاقى ، فلا أثر لتقدّم زمان العلم وتأخّره ، بعد ما كان المعلوم في أحد العلمين سابقاً رتبة أو زماناً على المعلوم بالآخر(14) ، انتهى ما يتعلّق بالمقام ، ويأتي باقي كلامه عند البحث عن المورد الثاني للصورة الثالثة .

ففيه : أنّ التنجّز من آثار العلم المتقدّم وجوداً في الزمان على الآخر ، لا من آثار المتقدّم رتبة ; وإن تأخّر زمان وجوده . فالعلم بنجاسة الطرف أو الملاقى ـ بالفتح ـ وإن كان متقدّماً رتبة ، إلاّ أنّه حادث ومتأخّر وجوداً عن العلم الأوّل ، وما هو الملاك في باب الاحتجاج وقطع الأعذار إنّما هو وجود الحجّة على التكليف المتقدّم بوجوده على الآخر ، والرتب العقلية ليست مناطاً في المقام .

وإن شئت قلت : إنّه لا تأثير لتقدّم الرتبة عقلاً في تقدّم التنجيز ، كما اشتهر في الألسن ; ضرورة أنّ التنجيز إنّما هو أثر العلم في الوجود الخارجي ، وتقدّم السبب على المسبّب ليس تقدّماً خارجياً ، بل هو معنىً يدركه العقل وينتزع من نشوء أحدهما عن الآخر .

فالعلم الإجمالي المتعلّق بالملاقى ـ بالفتح ـ والطرف وإن كان مقدّماً على العلم الإجمالي بالملاقي ـ بالكسر ـ والطرف في الرتبة العقلية ، لكنّه لا يوجب تقدّمه في التنجيز حتّى يصير مانعاً من تنجّز المتأخّر رتبة .

ولأجل ذلك يجب الاجتناب عن الجميع فيما إذا تعلّق العلم بالأطراف بعد العلم بالملاقاة وبعد العلم بأنّه ليس للملاقي نجاسة غير ما اكتسب من الملاقى ـ بالفتح ـ لكن حصل العلم الإجمالي بنجاسة الطرف والملاقى ـ بالفتح ـ في زمان حدوث العلم بنجاسة الملاقي ـ بالكسر ـ والطرف ; فإنّ العلم حينئذ يكون منجّزاً ويجب الاجتناب عن الأطراف عامّة ، نظير الصورة الثانية التي تقدّم وجوب الاجتناب فيها عن الأطراف عامّة .

وسيوافيك في بحث السببي والمسبّبي(15) وفي هذا البحث عند بيان الأصل الشرعي في الملاقي(16) : أنّ القول بالرتب العقلية في الأحكام العرفية والشرعية لا يرجع إلى شيء ; وإن جعل الشيخ الأعظم ذلك التقدّم علّة لتقدّم السببي على المسبّبي(17) ، وتبعه شيخنا العلاّمة ـ أعلى الله مقامه(18) ـ فانتظر .

المورد الثاني للصورة الثالثة ; أعني ما يجب فيه الاجتناب عن الملاقي ـ بالكسر ـ والطرف دون الملاقى : ما إذا علم بالملاقاة ، ثمّ حدث العلم الإجمالي بنجاسة الملاقى ـ بالفتح ـ أو الطرف ، ولكن كان الملاقي حال حدوث العلم داخلاً في مورد الابتلاء ، والملاقى ـ بالفتح ـ خارجاً عنه ثمّ عاد إلى محلّ الابتلاء .

وأورد عليه بعض الأعاظم ـ رحمه اللّه ـ : بأنّه لا أثر لخروج الملاقى ـ بالفتح ـ عن محلّ الابتلاء في ظرف حدوث العلم ، مع عوده إلى محلّ الابتلاء بعد العلم .

نعم ، لو فرض أنّ الملاقى ـ بالفتح ـ كان في ظرف حدوث العلم خارجاً عن محلّ الابتلاء ، ولم يعد بعد ذلك إلى محلّه ـ ولو بالأصل ـ فالعلم الإجمالي بنجاسته أو الطرف ممّا لا أثر له ، ويبقى الملاقي ـ بالكسر ـ طرفاً للعلم الإجمالي ، فيجب الاجتناب عنه وعن الطرف(19) ، انتهى .

التحقيق : ما عرفت من عدم الاعتبار بالخروج عن محلّ الابتلاء ; لأنّ الأحكام الشرعية مجعولة على الطريق الكلّي الذي عبّرنا عنه بأنّه أحكام قانونية أو خطابات قانونية .

ولو سلّم : فهو فيما إذا لم يكن للخارج أثر فعلي داخل في محلّ الابتلاء ، وأمّا إذا كان له أثر فعلي فلا نسلّم قبح الخطاب ، ولا قبح الحكم الوضعي ; فإنّ جعل النجاسة على الحيوان الخارج عن محلّ الابتلاء ببركة أصالة عدم التذكية إذا كان بعض أجزائه داخلاً في محلّ الابتلاء ممّا لا قبح فيه إذا قلنا بأنّ التذكية ترد على الحيوان فقط ، والأجزاء تصير ذات تذكية بواسطة عروضها على الحيوان .

ومثله المقام ; فإنّ جعل النجاسة للإناء الخارج عن محلّ الابتلاء مع كون ملاقيه داخـلاً فيه ليس بقبيح ; لأنّ أثر نجاسـة الملاقى ـ بالفتح ـ الخـارج عـن محلّ الابتلاء إنّما هو نجاسة الملاقي ـ بالكسر ـ الـذي داخـل فيه . وعليه فيجري أصالة الطهارة في الملاقى ـ بالفتح ـ بلحاظ أثره الذي داخل في محلّ الابتلاء ; أي نجاسـة ملاقيه .

فظهر : أنّ عود الملاقى ـ بالفتح ـ إلى محلّ الابتلاء وعدم عوده سيّان ، فما فصّله بعض الأعاظم من تسليم ما ذكره المحقّق الخراساني فيما لم يعد الملاقى ـ بالفتح ـ إلى محلّ الابتلاء دون ما عاد لا يرجع إلى محصّل ; لما عرفت من أنّ خروج الملاقى ـ بالفتح ـ كلا خروجه ; لوجود أثره .

هذا كلّه في مفاد الأصل العقلي في المقام .

مقتضى الأصل الشرعي في صور الملاقاة :

وأمّا بيان الأصل الشرعي :

فعلى المختار من عدم جريان أدلّة الاُصول في الأطراف على الوجوه التي حرّرناه في محلّها(20) فلا يبقى إشكال في جريان الأصل في الملاقي ـ بالكسر ـ في الصورة الاُولى ، كما يجري الأصل في الملاقى ـ بالفتح ـ في المورد الأوّل من الصورة الثالثة ، بصيرورتهما كالشبهة البدوية على ما عرفت(21) .

وأمّا على جريانها فيها وسقوطها بالمعارضة فقد تصدّى المحقّقون(22) لرفع التعارض ; بأنّ الأصل في الملاقى ـ بالفتح ـ حاكم على الأصل في الملاقي ; لكون الشكّ في طهارته ونجاسته ناشئاً من الشكّ في الملاقى ـ بالفتح ـ فجريان الأصل فيه يرفع الشكّ عن ملاقيه ، فلا مجرى للأصل في الملاقي ـ بالكسر ـ في رتبة جريان الأصل في الملاقى .

فأصالة الطهارة في الملاقى ـ بالفتح ـ معارض لمثلها في الطرف ، وبعد سقوطهما يبقى الأصل في الملاقي جارياً بلا معارض ، من غير فرق بين الصور المتقدّمة ; لأنّ رتبة السبب مقدّم على المسبّب ، والأصل الجاري فيه يرفع الشكّ عن المسبّب ـ كلّما تحقّق ـ حتّى في المورد الأوّل من الصورة الثالثة ; أعني ما إذا علم إجمالاً بنجاسة الملاقي ـ بالكسر ـ والطرف ، ثمّ علم بأنّه لو كان نجساً فإنّما هو من الملاقى ـ بالفتح ـ فحينئذ يكون الأصل فيه رافعاً للشكّ في ملاقيه، ويصير معارضاً للأصل في الطرف ، ويصير الأصل في الملاقي ـ بالكسر ـ جارياً بلا معارض .

أقول : سيوافيك بيانه في خاتمة الاستصحاب(23) : أنّ مجرّد كون الشكّ في أحدهما متقدّماً على الآخر رتبةً لا يوجب حكومة أصله على الآخر ، ولا يصير رافعاً لشكّه ; لأنّ ما هو الموضوع للدليل الشرعي «لا تنقض اليقين بالشكّ» إنّما هو المشكوك فيه الواقع في عمود الزمان ، لا المشكوك فيه الواقع في الرتب العقلية .

وبما أنّ الشكّ في السبب والمسبّب حادثان في عمود الزمان دفعة ـ بلا تقدّم وتأخّر ـ فيشملهما الدليل الشرعي دفعة واحدة في عرض واحد .

فلا يعقل حينئذ حكومة أحد الأصلين على الآخر مع عرضيتها في الموضوع ، بل السبب الوحيد لتقدّم السببي على المسبّبي هو أنّ الأصل في السببي ينقّح موضوع الدليل الاجتهادي ، ويؤسّس موضوعاً تعبّدياً له . والحاكم حينئذ ـ على الأصل المسبّبي ـ إنّما هو الدليل الاجتهادي .

فإن شئت فلاحظ المثال المعروف وهو ما إذا غسل الثوب النجس بماء مشكوك الطهارة فإنّ استصحاب طهارة الماء أو كرّيته ينقّح موضوعاً تعبّدياً لدليل اجتهادي ; وهو أنّ كلّ متنجّس غسل بماء طاهر فهو طاهر .

وعلى هذا : فالشكّ في الملاقي ـ بالكسر ـ في طهارته ونجاسته وإن كان مسبّباً عن الملاقى إلاّ أنّ الميزان المذكور هـو غير موجـود في المقام ; فإنّ الشكّ في طهارة الملاقي ونجاستـه وإن كان مسبّباً مـن الملاقى ـ بالفتح ـ إلاّ أنّ استصحاب طهارة الملاقى ـ بالفتح ـ لا ينقّح معه موضوع الدليل الاجتهادي ; فإنّ غايته إنّما هو طهارة الملاقى ـ بالفتح ـ إلاّ أنّه لم يقم دليل على أنّ كلّ ما لاقى الطاهر فهو طاهر .

وتوهّم : أنّه وإن لم يقم الدليل على أنّ ملاقي الطاهر طاهر إلاّ أنّه قام الدليل على أنّ ملاقي الطاهر ليس بنجس ، مدفوع بأنّه ليس حكماً شرعياً ، بل هو أمر مستنبط من لا اقتضائية الشيء لتنجيس الشيء ، كما لا يخفى .

ولابدّ من العلاج من طريق آخر غير طريق سببية الأصل في أحدهما ومسبّبيته في الآخر ، وإليك بيانه وخلاصته : أنّه كلّما صار الملاقي ـ بالكسر ـ أو الملاقى في حكم الشبهة البدوية يجري فيه الأصل ، وكلّما صارا طرفاً للعلم فلا .

وما اخترناه من التفصيل مبني على هذا ، وإليك بيانه حتّى يتميّز حكم ما يجري فيه الأصل عمّا لا يجري ، ويكون ما نتلو عليك كالفذلكة ممّا مرّ .

فذلكة البحث في المقام:

قد عرفت : أنّ هذا البحث على مبنى بعضهم من جريان الاُصول في الأطراف وتعارضها لأجل استلزامه مخالفة الحكم المنجّز ، فحينئذ فلابدّ أن يلاحظ ويعلم ما يستلزم تلك المخالفة وما لا يستلزمه ، فنقول :

أمّا الصورة الاُولى ; أعني ما إذا علم بنجاسة الملاقى ـ بالفتح ـ أو الطرف ، ثمّ علم بالملاقاة : فيجري في الملاقي ـ بالكسر ـ كلّ من أصالتي الطهارة والحلّية ; فإنّ العلم الثاني المتعلّق بنجاسة الطرف أو الملاقي ـ بالكسر ـ ليس علماً بالتكليف المنجّز ; وإن كان علماً بوجود الموضوع ـ أعني النجس ـ بينهما ، إلاّ أنّ الميزان هو العلم بالتكليف المنجّز على كلّ تقدير لا العلم بالموضوع ; وإن لم يكن حكمه منجّزاً ، والمانع من الجريان هو الأوّل لا الثاني .

توضيحه : أنّه إذا علم الإنسان بوقوع قطرة دم إمّا في إناء زيد أو في إناء عمرو فلا شكّ في تنجيز ذاك العلم ، ولو وقف بعد ذلك على وقوع قطرة اُخرى منه إمّا في إناء عمرو أو إناء بكر فالعلم بوجود الموضوع وإن كان موجوداً بين الثاني والثالث إلاّ أنّه ليس علماً بتكليف منجّز على كلّ تقدير ; فإنّ القطرة الثانية لو وقعت في إناء عمرو لم يحدث تكليفاً جديداً ، ولم يوجب إلزاماً على كلّ تقدير ، بل هو كان قبل حدوث هذا العلم واجب الاجتناب لأجل العلم الأوّل .

ولذلك لو شرب الإناء الثاني والثالث ، وفرضنا وقوع القطرة الاُولى في إناء زيد فهو وإن شرب النجس إلاّ أنّه لم يخالف التكليف المنجّز على كلّ تقدير . وأمّا الاجتناب عن إناء عمرو فهو لأجل العلم الأوّل دون الثاني ; ولذلك يجري في الثالث عامّة الاُصول ، دون إناء عمرو .

وقس عليه المقام ; فإنّ العلم الثاني وإن تعلّق بنجاسة الطرف أو الملاقي ـ بالكسر ـ إلاّ أنّه ليس علماً بالتكليف الحادث المنجّز على كلّ تقدير ; لأنّ الطرف كان واجب الاجتناب لأجل العلم الأوّل .

ولذلك لو شرب الطرف والملاقي ـ بالكسر ـ وفرض وقوع النجس في نفس الأمر في العلم الأوّل في الإناء الملاقى ـ بالفتح ـ فهو وإن شرب النجس في نفس الأمر إلاّ أنّه لم يخالف التكليف المنجّز ، فلا يعاقب على شرب النجس ; وإن كان يصحّ عقابه على شرب الإناء الطرف ـ على القول بعقاب المتجرّي ـ فالإناء الذي يعدّ طرفاً إنّما يجب الاجتناب عنه لأجل العلم الأوّل لا الثاني .

وأمّا الصورة الثانية : فقد عرفت أنّه يجب فيه الاجتناب عن الجميع ; لأ نّه إذا حصل العلم الإجمالي بنجاسة الطرف والملاقى ـ بالفتح ـ بعد العلم بالملاقاة فيحصل العلم بنجاسة مردّدة بين الطرف وغير الطرف عن الملاقى وملاقيه ، ويصير الملاقي ـ بالكسر ـ طرفاً للعلم ، فلا مجال للأصول أصلاً .

وأمّا الصورة الثالثة : فقد عرفت أنّ لها موردين :

الأوّل : ما إذا علم بنجاسة الملاقي ـ بالكسر ـ أو الطرف ، ثمّ علم الملاقاة ووقف على نجاسة الطرف والملاقى ـ بالفتح ـ ; بحيث لا وجه لنجاسة الملاقي ـ بالكسر ـ غير نجاسة الملاقى ، فالحكم الشرعي لا يتخلّف عمّا حكم به العقل ; من منجّزية العلم الأوّل ; وإن انكشف سبب وجود النجاسة دون الثاني ; لامتناع إفادة العلم الثاني التنجيز على كلّ تقدير ، ولا يعقل التنجيز فوق التنجيز ، ويصير الملاقى ـ بالفتح ـ مورداً للأصل دون الملاقي .

وأمّا المورد الثاني ; أعني ما إذا علم بالملاقاة ثمّ حدث العلم الإجمالي بنجاسة الملاقى ـ بالفتح ـ أو الطرف ، ولكن حال حدوث العلم الإجمالي كان

الملاقى خارجاً عن الابتلاء ، فحكمه ما أوضحناه ; من أنّ الملاقي ـ بالكسر ـ يصير طرفاً للعلم، غير أنّ خروج الملاقى ـ بالفتح ـ عن محلّ الابتلاء غير مؤثّر ; ولذلك لو عاد يجب الاجتناب عنه ، كما عرفت(24) .

شبهة التفكيك بين قاعدتي الطهارة والحلّ في الملاقي هاهنا شبهة ذكرها شيخنا العلاّمة ـ قدس سره ـ (25) ومحصّلها : أنّه يلزم أن يكون الملاقي ـ بالكسر ـ على مباني القوم حلالاً غير محرز الطهارة ; لأنّ في كلّ من الملاقى ـ بالفتح ـ والطرف والملاقي اُصولاً ستّة ، تحصل من ضرب الأصلين ـ الطهارة والحلّية ـ في الثلاثة ، إلاّ أنّهما مختلفة رتبةً .

فأصالة الطهارة في كلّ من الملاقى ـ بالفتح ـ والطرف في رتبة واحدة ، كما أنّ الشكّ في حلّيتهما في رتبة ثانية ; لأنّ الشكّ في حلّيتهما مسبّب عن طهارتهما .

وأمّا الملاقي ـ بالكسر ـ فبما أنّ الشكّ في طهارته مسبّب عن الشكّ في طهارة الملاقى ـ بالفتح ـ فيكون الشكّ في طهارته في رتبة ثانية ; أي يتأخّر الشكّ في طهارة الملاقي ـ بالكسر ـ عن الشكّ في طهارة الملاقى ـ بالفتح ـ والطرف برتبة .

ويتّحد رتبة ذلك الشكّ ـ أي الشكّ في طهارته ـ مع رتبة الشكّ في حلّية الملاقى ـ بالفتح ـ والطرف ; لأنّ الشكّ في طهارة الملاقي ـ بالكسر ـ وحلّية الملاقى والطرف مسبّب عن طهارة الطرف والملاقي ، بالفتح .

وحينئذ : يتّحد هذه الاُصول الثلاثة رتبة . وأمّا الشكّ في حلّية الملاقي ـ بالكسر ـ فهو في رتبة ثالثة .

إذا عرفت هذا : فالأصول الموجودة في الرتبة الواحدة تتساقط بالتعارض ، ويبقى الأصل الذي لم يوجد له معارض .

وعليه : فيسقط كلّ من أصالتي الطهارة في الملاقى ـ بالفتح ـ والطرف ، كما يسقط كلّ من أصالتي الحلّية فيهما مع أصالة الطهارة في الملاقي ـ بالكسر ـ وتبقى أصالة الحلّية في ناحية الملاقي ـ بالكسر ـ بلا معارض ، فهو حلال لم يحرز طهارته .

وإن شئت قلت : في كلّ من الطرفين والملاقي أصل موضوعي ; وهو أصالة الطهارة ، وأصل حكمي ; وهو أصالة الحلّ ، والاُصول الحكمية محكومة بالنسبة إلى الموضوعية . والأصل الموضوعي في الملاقي ـ بالكسر ـ محكوم بالأصل الموضوعي في الملاقى ، بالفتح .

فإذا تعارض الأصلان الموضوعيان في الطرفين تصل النوبة إلى الأصلين الحكميين فيهما ، وإلى الأصل الموضوعي في الملاقي ـ بالكسر ـ فتتعارض هذه الاُصول ، ويبقى الأصل الحكمي في الملاقي ـ بالكسر ـ سليماً عن المعارض ، فالملاقي محكوم بالاجتناب ; من حيث إنّه لم يحرز طهارته ، ومحكوم بالحلّية لأصالة الحلّ .

والجواب بوجهين :

الأوّل : وهو مبني على المختار من عدم جريان الاُصول في أطراف العلم الإجمالي ; للوجوه التي عرفتها في محلّه(26) . فحينئذ يكون الاُصول الموضوعية والحكمية غير جارية في الملاقى ـ بالفتح ـ والطرف ، ويكون جريانها في الملاقي ـ بالكسر ـ بلا مانع ; لعدم تأثير العلم الإجمالي بالنسبة إليه ; لكونه كالشبهة البدوية . فيجري فيه الأصلان الطهارة والحلّ ، إلاّ في بعض الصور الذي يكون الملاقي فيه طرفاً للعلم على ما عرفت .

الثاني : أنّ ما ذكره ـ قدس سره ـ ـ مضافاً إلى أنّه مبني على تسليم اُمور لم يسلم أكثرها ، كما سنشير إليها ـ مدفوع بأنّ أصالة الطهارة في الملاقي ـ بالكسر ـ في الصورة الاُولى التي تقدّم العلم الإجمالي بنجاسة الملاقى ـ بالفتح ـ أو الطرف ، غير معارضة لأصالة الحلّ في الطرف ، فلا مانع من جريانها ; لأنّ التعارض بين أصالة الطهارة فيه وأصل الحلّ في الطرف متقوّم بالعلم الإجمالي المنجّز حتّى يلزم من جريانهما المخالفة العملية الممنوعة . والمفروض : أنّه لا تأثير للعلم الإجمالي الثاني في الملاقي ـ بالكسر ـ كما تقدّم ، ومخالفة ذلك العلم غير المنجّز لا مانع منه ، ولا يوجب عدم جريان الأصل فيه .

والحاصل : أنّ ما يجري فيه الأصل أعني الملاقي ـ بالكسر ـ إنّما هو طرف للعلم غير المنجّز ، وما لا يجري فيه ـ أعني الملاقى والطرف ـ فهما طرفان للمنجّز منه . وعليه فيجري في الملاقي أصالة الطهارة ، ولا يعارض ذلك الأصل مع أصالة الحلّ في الطرف ; وإن كان يعارض أصالة الحلّ في الطرف مع أصالة الحلّ في الملاقى ـ بالفتح ـ لكونهما طرفين للعلم المنجّز .

هذا كلّه في الصورة الاُولى .

وأمّا الصورة الثانية ـ أعني ما تعلّق العلم بنجاسة الملاقي والملاقى والطرف في عرض واحد ـ فلا يجري الأصل في واحد منها ; لكون الجميع طرفاً للعلم ، وقد عرفت قصور الأدلّة عن شمولها للأطراف .

ومع تسليم جريانها : فتجري وتسقط بالتعارض ، من غير تقدّم للأصل السببي والمسبّبي ; لما سيوافيك من أنّ الرتب العقلية لا اعتبار بها ، وما هو الميزان لتقدّمه عليه مفقود في المقام(27)، فتأمّل .

وأمّا الصورة الثالثة : فلا يجري في الملاقي ـ بالكسر ـ والطرف ; لكونهما طرفين للعلم المنجّز، وأمّا الملاقى ـ بالفتح ـ فقد عرفت أنّه خارج عن كونه طرفاً للعلم ، فيجري فيه الاُصول عامّة .

نعم ، المورد الثاني من تلك الصورة ; أعني ما إذا خرج الملاقى ـ بالفتح ـ عن محلّ الابتلاء فقد عرفت ما هو الحقّ عندنا(28) ـ على خلاف بيننا وبين القوم (29) ـ فعلى المختار لا يجري فيه أيضاً كالملاقي ـ بالكسر ـ لعدم الاعتبار بالخروج عن محلّ الابتلاء .

فتلخّص : أنّ ما أفاده من الشبهة لا تجري في الملاقي في الصورة الاُولى ; لكونه كالشبهة البدوية ، فلا تتعارض اُصوله مع غيره ، ولا في الملاقى ـ بالفتح ـ في الموضع الأوّل من الصورة الثالثة مطلقاً ، ولا فيه أيضاً في المورد الثاني منها على مباني القوم .

وأمّا الصورة الثانية : فالأصول في الجميع متعارضة ، ولا اعتبار بالسببي والمسبّبي في المقام; لما عرفت(30) .

ما أفاده شيخنا العلاّمة من الجواب حول الشبهة:

ومحصّله : أنّ الاُصول في أطراف العلم غير جارية ـ حكمية كانت أو موضوعية ـ إمّا لأجل التناقض الواقع في مدلول الدليل ، وإمّا لأجل أنّ أصالة الظهور في عمومات الحلّ والطهارة معلّقة بعدم العلم على خلافها . فحيثما تحقّق العلم يصير قرينة على عدم الظهور فيها ، من غير فرق بين كون العلم سابقاً على مرتبة جريانها أو مقارناً .

فحينئذ نقول : إنّ العلم الإجمالي المانع من جريان الأصلين الموضوعيين لأجل التناقض أو لأجل عدم جريان أصالة الظهور في العمومات مانع عن جريان الأصلين الحكميين أيضاً ; لكونه قرينة على عدم الظهور .

غاية الأمر : تكون قرينيته بالنسبة إلى الأصل الموضوعي مقارنة وبالنسبة إلى الأصل الحكمي مقدّمة ، ولا فرق من هذه الحيثية .

فمورد جريان الأصل الحكمي ووجود الشكّ في الأصل المحكوم كان حين وجود القرينة على خلافه ، فلا يبقى الظهور لأدلّة الاُصول ، فيبقى الأصل الموضوعي في الملاقي ـ بالكسر ـ سليماً عن المعارض(31) ، انتهى .

وفيه : أنّ مراده ـ رحمه اللّه ـ من التناقض في مدلول الدليل : إن كان ما أفاده الشيخ الأعظم في أدلّة الاستصحاب وأدلّة الحلّ من تناقض صدرها مع ذيلها(32) فقد أوضحنا حاله عند البحث عن جريان الاُصول في أطراف الشبهة(33) .

وإن كان مراده هو العلم بمخالفة أحدهما للواقع فهذا ليس تناقضاً في مدلول الدليل ، بل مآله إلى مناقضة الحكم الظاهري مع الواقعي ، وقد فرغنا عن رفع الغائلة بينهما ، فراجع(34) .

أضف إلى ذلك : أنّ ما ادّعاه من كون العلم قرينة على عدم الظهور في أدلّة الاُصول ممنوع ; لأنّ كلّ واحد من الأطراف مشكوك فيه ومصداق لأدلّة الاُصول ، والعلم بمخالفة بعضها للواقع لا يوجب صرف ظهورها بعد رفع المناقضة بين مفاد الأصلين والحكم الواقعي .

مقتضى الأصل عند الشكّ في نجاسة الملاقي بعنوانه:

البحث الرابع : إذا شككنا في أنّ الملاقي مخصوص بجعل مستقلّ ، أو يكون وجوب الاجتناب عنه من شؤون وجوب الاجتناب عن الملاقى ـ بالفتح ـ فهل الأصل يقتضي البراءة أو الاحتياط؟

الظاهر : جريان البراءة العقلية والشرعية فيه ; لرجوع الشكّ إلى الأقلّ والأكثر ; فإنّ التكليف بوجوب الاجتناب عن نفس الأعيان النجسة معلوم ، وشكّ في كونه بحيث يقتضي وجوب الاجتناب عن ملاقيه أيضاً أو لا ، فيكون الشكّ في خصوصية زائدة على أصل التكاليف بالاجتناب عن الأعيان موجبة للاجتناب عن ملاقيها أيضاً ، وهي مورد الأصل عقلاً وشرعاً .

وبعبارة اُخرى : أنّ الاشتغال متقوّم بتعلّق العلم الإجمالي بتكليف واحد مقتض للاجتناب عن النجس وملاقيه ، فيكون علم إجمالي واحد متعلّق بتكليف واحد ، لكن مع تلك الخصوصية والاقتضاء .

ولو شككنا في أنّ الحكم على الأعيان النجسة كذلك أو لا فلا ينجّز العلم الإجمالي الأوّل المتعلّق بوجوب الاجتناب عن الطرف أو الملاقى ـ بالفتح ـ وجوب الاجتناب عن الملاقي ; لكون تلك الخصوصية مشكوكاً فيها .

والعلم الإجمالي الثاني على فرضه غير منجّز ، كما مرّ سابقاً(35) ، ومع عدم تمامية الحجّة من المولى وعدم تنجيز العلم الإجمالي للخصوصية تجري البراءة العقلية والشرعية ; لعدم المانع في الثانية بعد جريان الاُولى .

وبما ذكرنا يظهر : ضعف ما أفاده بعض أعاظم العصر في تقريراته(36) ، وأتعب نفسه الشريفة ، وجعل المسألة مبنية على ما لا يبتنى عليه أصلاً(37) ، كما يظهر الإشكال فيما أفاده بعض محقّقي العصر ـ قدس سره ـ (38) ، فراجع .

وينبغي التنبيه على اُمور :

تنبيهات:

وقد تعرّض لها الشيخ الأعظم(39) ، وتبعه بعض أعاظم العصر ـ قدس سره ـ (40) :

التنبيه الأوّل : في وجوب الاحتياط عند الجهل بالموضوع :

لا إشكال حسب القواعد العقلية في وجوب الاحتياط عند الجهل بالموضوع ، من غير فرق بين الشرائط والموانع ، فيجب الصلاة إلى أربعة جهات ، أو في ثوبين يعلم بطهارة أحدهما ، أو بخلوّه ممّا لا يؤكل لحمه ، ولا وجه لسقوط الشرائط والموانع بالإجمال .

فما حكي عن المحقّق القمي من التفصيل بين ما يستفاد من قوله ـ عليه السلام ـ : «لاتصلّ فيما لا يؤكل لحمه» فذهب إلى السقوط وعدم وجوب الاحتياط ، وما يستفاد من قوله ـ عليه السلام ـ: «لا صلاة إلاّ بطهور» فاختار وجـوب الاحتياط(41) لعلّـه مبني على ما هو المعروف منه مـن عدم تنجيز العلم الإجمالي مطلقاً ، وأنّـه كالشبهة البدوية(42) .

وحينئذ : لابدّ من الرجوع إلى الاُصول ، وبما أنّ المستفاد من الأوّل هو المانعية فيرجع فيها إلى البراءة ; لانحلال الحكم فيه حسب أفراد المانع ومصاديقه ، فيؤخذ بالمعلوم منه ، ويرجع في المشكوك فيه إلى البراءة ; لكون الشكّ في حكم مستقلّ .

وأمّا المستفاد من الثاني وأضرابه هو الشرطية ، وهو ممّا يجب إحرازه . وطريق إحرازه هو تكرار الصلاة على وجه يحصل اليقين بالبراءة .

وأمّا ما أفاده بعض الأعاظم : من أنّ المحقّق القمي فصّل بين الشرائط ـ لا بين الشرط والمانع ـ المستفادة من قوله ـ عليه السلام ـ : «لا تصلّ فيما لا يؤكل لحمه» والمستفادة من قوله ـ عليه السلام ـ : «لا صلاة إلاّ بطهور» ، ثمّ قال : ولم يحضرني كتب المحقّق حتّى اُراجع كلامه ، وكأنّه قاس باب العلم والجهل بالموضوع بباب القدرة والعجز(43) فغير صحيح احتمالاً وإشكالاً :

أمّا الأوّل : فلأنّ القياس المذكور لا يصحّح التفصيل المحكي عنه ; ضرورة أنّ العجز عن الشرط والمانع سواسية ، فلو كان مفاد الدليل هو الشرطية والمانعية المطلقتين فلازمه سقوط الأمر ; لعدم التمكّن من الإتيان بالمكلّف به ، وإن لم يكن كذلك فلازمه سقوط الشرط والمانع مطلقاً عن الشرطية والمانعية ، من غير فرق .

وأمّا إشكالاً : فلأنّ غرضه الفرق بين العلم والقدرة بأنّ العلم من شرائط التنجيز والقدرة من شرائط ثبوت التكليف وفعليته ، وفيه ما مرّ من أنّ العلم والقدرة سواسية ; فإنّ القدرة الشخصية من شرائط التنجيز ; لما مرّ من أنّ الأحكام الشرعية أحكام قانونية(44) . ولما ذكرنا يجب الاحتياط عند الشكّ في القدرة ، فلو كانت من شرائط ثبوت التكليف لكانت البراءة محكّمة عند الشكّ فيها .

أضف إلى ذلك : أنّ من البعيد أن يذهب المحقّق إلى أنّ المستفاد من قوله ـ عليه السلام ـ : «لا تصلّ فيما لا يؤكل لحمه» هو الشرطية ; فإنّ جمهور الأصحاب ـ إلاّ ما شذّ ـ قالوا بالمانعية ، فمن البعيد أن يكون ذلك مختار المحقّق القمي ـ قدس سره ـ .

وبذلك يظهر الخلل في حكاية مقالة المحقّق ، كما لا يخفى .

التنبيه الثاني : في كيفية النية لو كان المعلوم بالإجمال من العبادات:

فصّل الشيخ الأعظم ـ قدس سره : بين الشبهات البدوية والمقرونة بالعلم الإجمالي إذا كان المحتمل أو المعلوم بالإجمال من العبادات ، فاكتفى في الاُولى في تحقّق الامتثال بمجرّد قصد احتمال الأمر والمحبوبية ، فإنّه هو الذي يمكن في حقّه .

وأمّا في المقرونة بالعلم الإجمالي فحكم بعدم كفايته ، بل رأى لزوم قصد امتثال الأمر المعلوم بالإجمال على كلّ تقدير ، وقال : ولازمه أن يكون المكلّف حال الإتيان بأحد المحتملين قاصداً للإتيان بالآخر ; إذ مع عدم ذلك لا يتحقّق قصد امتثال الأمر المعلوم بالإجمال على كلّ تقدير . بل يكون قصد امتثال الأمر على تقدير تعلّقه بالمأتي به ، وهذا لا يكفي في تحقّق الامتثال مع العلم بالأمر(45) .

وأورد عليه بعض أعاظم العصر ـ قدس سره ـ : بأنّ العلم بتعلّق الأمر بأحد المحتملين لا يوجب فرقاً في كيفية النية في الشبهات ; فإنّ الطاعة في كلّ من المحتملين ليست إلاّ احتمالية كالشبهة البدوية ; إذ المكلّف لا يمكنه أزيد من قصد امتثال الأمر الاحتمالي عند الإتيان بكلّ من المحتملين .

وليس المحتملان بمنزلة فعل واحد مرتبط الأجزاء حتّى يقال : العلم بتعلّق التكليف بعمل واحد يقتضي قصد امتثال الأمر المعلوم ، فلو أتى المكلّف بأحد المحتملين من دون قصد الإتيان بالآخر يحصل الامتثال على تقدير تعلّق الأمر بالمأتي به ; وإن كان متجرّياً في قصده عدم الامتثال على كلّ تقدير(46) ، انتهى .

قلت : قد مرّ ما يوضح حال المقام وضعف ما أفاده الشيخ الأعظم ـ قدس سره ـ من أنّ إطاعة الأمر المعلوم تتوقّف على أن يكون المكلّف حال الإتيان بأحد المحتملين قاصداً للإتيان بالآخر ; لما عرفت من عدم الدليل على الجزم في النية ، بل يكفي كون العمل مأتياً لله تعالى(47) ، وهو حاصل في إتيان كلّ واحد من العملين . ولا يحتاج إلى الجزم بوجود الأمر في البين حتّى لا يصحّ إطاعة المحتمل الأوّل ، إلاّ بالقصد إلى ضمّ الآخر .

وبالجملة : أنّ الداعي إلى الإتيان بأحد المحتملين ليس إلاّ إطاعة المولى ، فهو على فرض الانطباق مطيع لأمره . وكونه قاصداً للإتيان بالآخر أو تركه لا ينفع ولا يضرّ بذلك ، فلا يتوقّف امتثال الأمر المعلوم على قصد امتثال كلا المشتبهين .

وأمّا ما نقلناه عن بعض أعاظم العصر ـ رحمه اللّه ـ فهو أيضاً غير تامّ من ناحية اُخرى ; فإنّ الفرق في الداعي في البدوية والمقرونة بالعلم واضح جدّاً ; فإنّ الداعي في الاُولى ليس إلاّ احتمال الأمر ، وفي الثانية ليس احتماله فقط ، بل له داعيان : داع إلى أصل الإتيان ; وهو الأمر المعلوم ، وداع آخر إلى الإتيان بالمحتمل لأجل احتمال انطباق المعلوم عليه . والداعي الثاني ينشأ من الأوّل .

فهو يأتي بالمحتمل لداعيين : الأمر المعلوم واحتمال الانطباق ، وهو منشأ من الداعي الأوّل . وإن شئت قلت : إنّه ينبعث في الإتيان بكلّ واحد من المحتملين عن داعيين : داع لامتثال أمر المولى ، وداع للاحتفاظ عليه عند الاشتباه .

التنبيه الثالث : حكم ما لو كان المعلوم بالإجمال واجبين مترتبين شرعاً:

إذا كان المعلوم بالإجمال واجبين مترتّبين كالظهر والعصر ، واشتبه شرط من شرائطهما كالقبلة أو الستر فلا إشكال أنّه لا يجوز استيفاء محتملات العصر قبل استيفاء محتملات الظهر ، كما أنّه لا يجوز قبل استيفاء محتملات الظهر أن يأتي بالعصر إلى الجهة التي لم يصلّ الظهر إليها بعد .

إنّما الكلام في أنّه هل يجب استيفاء جميع محتملات الظهر ـ مثلاً ـ قبل الشروع في الآخر ، أو يجوز الإتيان بهما مترتّباً إلى كلّ جهة ، فيجوز الإتيان بظهر وعصر إلى جهة ، وظهر وعصر إلى اُخرى ، وهكذا حتّى يستوفى المحتملات ؟ الأقوى : هو الثاني .

وبنى بعض الأعاظم ما اختاره على ما قوّاه سابقاً ; من ترتّب الامتثال الإجمالي على الامتثال التفصيلي(48) ، وأنّ فيما نحن فيه جهتين : إحداهما إحراز القبلة ; فهو ممّا لا يمكن على الفرض ، والاُخـرى إحـراز الترتيب بين الظهر والعصر ، وهو بمكان من الإمكان ، وذلك بالإتيان بجميع محتملات الظهر ، ثمّ الاشتغال بالعصر .

وعدم العلم حين الإتيان بكلّ واحد من محتملات العصر بأنّه صلاة صحيحة واقعة عقيب الظهر إنّما هو للجهل بالقبلة لا الجهل بالترتيب . وسقوط اعتبار الامتثال التفصيلي في شرط لعدم إمكانه لا يوجب سقوطه في سائر الشروط مع الإمكان(49) ، انتهى ملخّصاً .

وفيه : أنّ المبني عليه والمبنى كلاهما ممنوعان :

أمّا الأوّل : فلما عرفت(50) من عدم الدليل على تقديم الامتثال التفصيلي على الإجمالي ، ولا طولية بينهما أصلاً ، فيجوز الاحتياط مع التمكّن من التقليد والاجتهاد ، والجمع بين المحتملات مع التمكّن من العلم إذا كان هنا غرض عقلائي ، ولا يعدّ ذلك تلاعباً بأمر المولى على ما عرفت من حكم العقل والعقلاء ، والبرهان ما تقدّم .

وأمّا الثاني : فلأنّ أقصى ما يحصل من الشروع بمحتملات العصر بعد استيفاء محتملات الظهر هو العلم بالإتيان بالظهر ; محقّقاً على كلّ تقدير ـ أي سواء كان محتمل العصر عصراً واقعياً أو لا ـ وهذا بخلاف ما لو شرع قبل الاستيفاء .

ولكن هذا المقدار لا يجدي من الفرق ; فلأنّ في الإتيان بكلّ ظهر وعصر مترتّبين إلى كلّ جهة موافقة على تقدير ، وعدم موافقة رأساً بالنسبة إلى كلّ واحد من الظهر والعصر على تقدير آخر.

وليس الأمر دائراً بين الموافقة الإجمالية والتفصيلية حتّى يقال : إنّهما مترتّبان ; لأنّ كلّ واحد من محتملات العصر لو صادف القبلة فقد أتى قبله بالظهر ، ويحصل الترتيب واقعاً ، وغير المصادف منها عمل لا طائل تحته ، كغير المصادف من الآخر ، ولا ترتيب بينهما حتّى يقال : إنّه موافقة إجمالية .

والعلم بحصول الترتيب بين الظهر والعصر حين الإتيان بهما لا يمكن على أيّ حال ; سواء شرع في محتملات العصر قبل استيفاء محتملات الآخر أو لا .

وأمّا ما ادّعى : من أنّ عدم العلم حين الإتيان بكلّ عصر بأنّه صلاة صحيحة واقعة عقيب الظهر إنّما هو للجهل بالقبلة ، لا الجهل بالترتيب .

فمن غرائب الكلام ; فإنّ الترتيب مجهول على كلّ تقدير ; فإنّ المكلّف لا يعلم ـ ولو استوفى محتملات الظهر ـ عند الإتيان بكلّ عصر أنّها صلاة واقعية عقيب الظهر أو لا ، بل يعلم إجمالاً أنّها : إمّا صلاة واقعية مترتّبة على الظهر ، وإمّا ليست بصلاة أصلاً ; فضلاً عن أن يكون مترتّباً .

ولو قلنا بكفايته فهو حاصل على المختار ; أي إذا أتى بواحد من محتملات الظهر والعصر إلى جهة ، وهكذا ; حتّى يتمّ المحتملات ، فإنّه يعلم إجمالاً بأنّ المحتمل الأوّل من محتملات العصر: إمّا صلاة واقعية مترتّبة على الظهر ، وإمّا ليس بصلاة .

وإن شئت قلت : إنّ الترتيب بينهما يتقوّم بثلاث دعائم : وجود الظهر ، وجود العصر ، تأخّره عنه . فلو لم يأت بالظهر أو بالعصر أو قدّم الثاني على الأوّل لبطل الترتيب .

فحينئذ : فالقول بتحقّق العلم بالترتيب عند الإتيان بكلّ واحد من محتملات العصر غريب ; لأ نّه عند الشروع بواحد منها لا يعلم أنّها صلاة عصر صحيحة أو لا ، ومع ذلك فكيف يعلم تفصيلا بوجود الترتيب مع كون الحال ما ذكر ؟ ! فإنّ الترتيب أمر إضافي بين الصلاتين الصحيحتين ، لا ما بين ما هو صلاة محقّقاً وما هو مشكوك كونه صلاة أو أمراً باطلا.

وإن أراد من الترتيب ما ذكرنا فهو حاصل على كلّ تقدير .

_______________
1 ـ غنية النزوع 1 : 46 .

2 ـ منتهى المطلب 1 : 178 ، اُنظر فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 25: 239 ـ 240.

3 ـ اُنظر فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 25 : 240 ـ 241 .

4 ـ تهذيب الأحكام 1 : 420 / 1327 ، وسائل الشيعة 1 : 206 ، كتاب الطهارة ، أبواب الماء المضاف ، الباب 5 ، الحديث 2 .

5 ـ راجع وسائل الشيعة 1 : 158 ، كتاب الطهارة ، أبواب الماء المطلق ، الباب 9 ، الحديث 1 و 2 و 5 و 6 .

6 ـ راجع وسائل الشيعة 1 : 134 ، كتاب الطهارة ، أبواب الماء المطلق ، الباب 1 ، الحديث 5 .

7 ـ راجع الطهارة ، الإمام الخميني ـ قدس سره ـ 4 : 343 و 381 .

8 ـ راجع أنوار الهداية 2 : 239 .

9 ـ كفاية الاُصول : 411 ـ 412 .

10 ـ كفاية الاُصول : 412 .

11 ـ نفس المصدر .

12 ـ يأتي في الصفحة 264 ـ 265 .

13 ـ كفاية الاُصول : 412 ـ 413 .

14 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4 : 86 .

15 ـ الاستصحاب ، الإمام الخميني ـ قدس سره ـ : 243 ـ 250 .

16 ـ يأتي في الصفحة 268 ـ 269 .

17 ـ فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 25 : 242 .

18 ـ درر الفوائد ، المحقّق الحائري : 632 .

19 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4 : 86 و 88 .

20 ـ تقدّم في الصفحة 186 و 204 .

21 ـ تقدّم في الصفحة 258 و 260 .

22 ـ فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 25 : 242 ، فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4 : 82 ، نهاية الأفكار 3 : 358 .

23 ـ الاستصحاب ، الإمام الخميني ـ قدس سره ـ : 243 ـ 251 .

24 ـ تقدّم في الصفحة 266 ـ 267 .

25 ـ ذكره في مجلس بحثه .

26 ـ تقدّم في الصفحة 186 و 204 .

27 ـ الاستصحاب ، الإمام الخميني ـ قدس سره ـ : 243 ـ 251 .

28 ـ تقدّم في الصفحة 266 و 271 ـ 272 .

29 ـ تقدّم في الصفحة 228 .

30 ـ تقدّم في الصفحة 268 ـ 269 .

31 ـ أفاده في مجلس درسه .

32 ـ فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 25 : 201 و 26 : 409 ـ 410 .

33 ـ تقدّم في الصفحة 194 ـ 195 .

34 ـ تقدّم في الجزء الثاني : 368 ـ 380 .

35 ـ تقدّم في الصفحة 258 ـ 259 و 270 ـ 271 .

36 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4 : 89 ـ 93 .

37 ـ وقد بحث سيّدنا الاُستاذ في الدورة السابقة حول كلامه ، وطوى عنه الكلام في هذه الدورة وعن غيره من المباحث غير الهامّة ، فشكّر الله مساعيه الجميلة في تهذيب اُصول الفقه وتنقيحه . [المؤلّف]

38 ـ نهاية الأفكار 3 : 365 .

39 ـ فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 25 : 301 .

40 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4 : 134 .

41 ـ جامع الشتات : 839 / السطر 17 ، اُنظر رسالة الصلاة في المشكوك ، المحقّق النائيني : 161 ـ 168 .

42 ـ القوانين المحكمة 2 : 25 / السطر 3 .

43 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4 : 134 ـ 135 .

44 ـ تقدّم في الصفحة 228 ـ 231 .

45 ـ فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 25 : 303 ـ 304 .

46 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4 : 136 ـ 137 .

47 ـ تقدّم في الصفحة 148 .

48 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3 : 72 ـ 73 .

49 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4 : 138 ـ 141 .

50 ـ تقدّم في الجزء الثاني : 359 ـ 361 .




قواعد تقع في طريق استفادة الأحكام الشرعية الإلهية وهذه القواعد هي أحكام عامّة فقهية تجري في أبواب مختلفة، و موضوعاتها و إن كانت أخصّ من المسائل الأصوليّة إلاّ أنّها أعمّ من المسائل الفقهيّة. فهي كالبرزخ بين الأصول و الفقه، حيث إنّها إمّا تختص بعدّة من أبواب الفقه لا جميعها، كقاعدة الطهارة الجارية في أبواب الطهارة و النّجاسة فقط، و قاعدة لاتعاد الجارية في أبواب الصلاة فحسب، و قاعدة ما يضمن و ما لا يضمن الجارية في أبواب المعاملات بالمعنى الأخصّ دون غيرها; و إمّا مختصة بموضوعات معيّنة خارجية و إن عمّت أبواب الفقه كلّها، كقاعدتي لا ضرر و لا حرج; فإنّهما و إن كانتا تجريان في جلّ أبواب الفقه أو كلّها، إلاّ أنّهما تدوران حول موضوعات خاصة، و هي الموضوعات الضرريّة و الحرجية وبرزت القواعد في الكتب الفقهية الا ان الاعلام فيما بعد جعلوها في مصنفات خاصة بها، واشتهرت عند الفرق الاسلامية ايضاً، (واما المنطلق في تأسيس القواعد الفقهية لدى الشيعة ، فهو أن الأئمة عليهم السلام وضعوا أصولا كلية وأمروا الفقهاء بالتفريع عليها " علينا إلقاء الأصول وعليكم التفريع " ويعتبر هذا الامر واضحا في الآثار الفقهية الامامية ، وقد تزايد الاهتمام بجمع القواعد الفقهية واستخراجها من التراث الفقهي وصياغتها بصورة مستقلة في القرن الثامن الهجري ، عندما صنف الشهيد الأول قدس سره كتاب القواعد والفوائد وقد سبق الشهيد الأول في هذا المضمار الفقيه يحيى بن سعيد الحلي )


آخر مرحلة يصل اليها طالب العلوم الدينية بعد سنوات من الجد والاجتهاد ولا ينالها الا ذو حظ عظيم، فلا يكتفي الطالب بالتحصيل ما لم تكن ملكة الاجتهاد عنده، وقد عرفه العلماء بتعاريف مختلفة منها: (فهو في الاصطلاح تحصيل الحجة على الأحكام الشرعية الفرعية عن ملكة واستعداد ، والمراد من تحصيل الحجة أعم من اقامتها على اثبات الاحكام أو على اسقاطها ، وتقييد الاحكام بالفرعية لإخراج تحصيل الحجة على الاحكام الأصولية الاعتقادية ، كوجوب الاعتقاد بالمبدء تعالى وصفاته والاعتقاد بالنبوة والإمامة والمعاد ، فتحصيل الدليل على تلك الأحكام كما يتمكن منه غالب العامة ولو بأقل مراتبه لا يسمى اجتهادا في الاصطلاح) (فالاجتهاد المطلق هو ما يقتدر به على استنباط الاحكام الفعلية من أمارة معتبرة أو أصل معتبر عقلا أو نقلا في المورد التي لم يظفر فيها بها) وهذه المرتبة تؤهل الفقيه للافتاء ورجوع الناس اليه في الاحكام الفقهية، فهو يعتبر متخصص بشكل دقيق فيها يتوصل الى ما لا يمكن ان يتوصل اليه غيره.


احد اهم العلوم الدينية التي ظهرت بوادر تأسيسه منذ زمن النبي والائمة (عليهم السلام)، اذ تتوقف عليه مسائل جمة، فهو قانون الانسان المؤمن في الحياة، والذي يحوي الاحكام الالهية كلها، يقول العلامة الحلي : (وأفضل العلم بعد المعرفة بالله تعالى علم الفقه ، فإنّه الناظم لأُمور المعاش والمعاد ، وبه يتم كمال نوع الإنسان ، وهو الكاسب لكيفيّة شرع الله تعالى ، وبه يحصل المعرفة بأوامر الله تعالى ونواهيه الّتي هي سبب النجاة ، وبها يستحق الثواب ، فهو أفضل من غيره) وقال المقداد السيوري: (فان علم الفقه لا يخفى بلوغه الغاية شرفا وفضلا ، ولا يجهل احتياج الكل اليه وكفى بذلك نبلا) ومر هذا المعنى حسب الفترة الزمنية فـ(الفقه كان في الصدر الأول يستعمل في فهم أحكام الدين جميعها ، سواء كانت متعلقة بالإيمان والعقائد وما يتصل بها ، أم كانت أحكام الفروج والحدود والصلاة والصيام وبعد فترة تخصص استعماله فصار يعرف بأنه علم الأحكام من الصلاة والصيام والفروض والحدود وقد استقر تعريف الفقه - اصطلاحا كما يقول الشهيد - على ( العلم بالأحكام الشرعية العملية عن أدلتها التفصيلية لتحصيل السعادة الأخروية )) وتطور علم الفقه في المدرسة الشيعية تطوراً كبيراً اذ تعج المكتبات الدينية اليوم بمئات المصادر الفقهية وبأساليب مختلفة التنوع والعرض، كل ذلك خدمة لدين الاسلام وتراث الائمة الاطهار.