أقرأ أيضاً
التاريخ: 24-3-2016
2679
التاريخ: 2024-05-28
870
التاريخ: 2024-01-06
830
التاريخ: 3-5-2022
2308
|
شيوخ المقري الجد
وقد ذكر لسان الدين رحمه الله تعالى في الإحاطة شيوخ مولانا الجد، فلنذكرهم من جزء الجد الذي سماه " نظم اللآلي في سلوك الأمالي " (1) ومنه اختصر لسان الدين ما في الإحاطة في ترجمة مشيخته فنقول: قال مولاي الجد رحمه الله تعالى.
1، - 2 - فممن أخذت عنه، واستفدت منه، علماها - يعني تلمسان - الشامخان، وعالماها الراسخان: أبو زيد عبد الرحمن، وأبو موسى عيسى، ابنا محمد بن عبد الله ابن الإمام (2) ، وكانا قد رحلا في شبابهما من بلدهما برشك (3) إلى تونس فأخذوا بها عن ابن جماعة وابن العطار واليفرني (4) وتلك الحلبة، وأدركا المرجاني وطبقته من أعجاز المائة السابعة، ثم وردوا في أول المائة الثامنة تلمسان على أمير المسلمين أبي يعقوب وهو محاصر لها، وفقيه حضرته يومئذ أبو الحسن علي بن يخلف التنسي، وكان قد خرج إليه برسالة من صاحب تلمسان المحصورة فلم يعد، وارتفع شأنه عند أبي يعقوب، حتى إنه شهد جنازته، ولم يشهد جنازة أحد قبله، وقام على قبره، وقال: نعم الصاحب فقدنا اليوم؛ حدثني الحاج الشيخ بعباد تلمسان أبو عبد الله محمد بن محمد بن مرزوق العجيسي أن أبا يعقوب طلع إلى جنازة التنسي في الخيل حوالي روضة الشيخ أبي مدين فقال: كيف تتزكون الخيل تصل إلى ضريح الشيخ هلا عرضتم هنالك - وأشار إلى حيث المعراض الآن - خشبة ففعلنا، فلما قتل أبو يعقوب وخرج المحصوران أنكرا ذلك، فأخبرتهما، فأما أبو زيان - وكان السلطان يومئذ - فنزل وطأطأ رأسه ودخل،
215
وأما أبو حمو - وكان أميراً - فوثب وخلفها. ولما رجع الملك إلى هذين الرجلين اختصا ابني الأمام، وكان أبو حمو أشد اعتناء بهما، ثم بعده ابنه أبو تاشفين، ثم زادت حظوتهما عند أمير المسلمين أبي الحسن، إلى أن توفي أبو زيد في العشر الأوسط من رمضان عام أحد وأربعين وسبعمائة بعد وقعة طريف بأشهر، فزادت مرتبة أبي موسى عند السلطان، إلى أن كان من أمر السلطان بإفريقيا ما كان في أول عام تسعة وأربعين، وكان أبو موسى قد صدر عنه قبل الوقعة فتوجه صحبة ابنه أمير المسلمين أبي عنان إلى فاس، ثم رده إلى تلمسان، وقد استولى عليها عثمان بن عبد الرحمن بن يحيى بن يغمراسن بن زيان، فكان عنده إلى أن مات الفقيه عقب الطاعون العام.
قال لي خطيب الحضرة الفاسية (5) أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الله بن مالك بن عبد الله الرندي: لما أزمع الفقيه ومن أطلق معه على القفول إلى تلمسان بت على تشييعهم، فرأيتني كأنني نظمت هذا البيت في المنام:
وعند وداع القوم ودعت سلوتي ... وقلت لها بيني فأنت المودع
فانتبهت وهو في في، فحاولت قريحتي بالزيادة عليه فلم يتيسر لي مثله.
ولما استحكم ملك أبي تاشفين واستوثق رحل الفقيهان إلى المشرق في حدود العشرين وسبعمائة فلقيا علاء الدين القونوي، وكان بحيث إني لما رحلت فلقيت أبا علي حسين بن حسين ببجاية قال لي: إن قدرت أن لا يفوتك شيء من كلام القونوي حتى تكتب جميعه فافعل، فإنه لا نظير له ولقيا أيضاً جلال الدين القزويني صاحب البيان، وسمعا صحيح البخاري على الحجار، وقد سمعته أنا عليهما، وناظرا تقي الدين بن تميمة، وظهرا عليه، وكان ذلك من أسباب محنته، وكانت له مقالات فيما يذكر (6) وكان شديد الإنكار على الإمام فخر الدين، حدثني
216
شيخي العلامة أبو عبد الله الآبلي أن عبد الله بن إبراهيم الزموري أخبره أنه سمع ابن تيمية ينشد لنفسه(7):
محصل في أصول الدين حاصله ... من بعد تحصيله علم بلا دين
أصل الضلالة والإفك المبين، فما ... فيه فأكثره وحي الشياطين
قال: وكان في يده قضيب، فقال: والله لو رأيته لضربته بهذا القضيب هكذا، ثم رفعه ووضعه.
وبحسبك مما طار لهذين الرجلين من الصيت بالمشرق أني لما حللت بيت المقدس وعرف به مكاني من الطلب، وذلك أني قصدت قاضيه شمس الدين بن سالم ليضع لي يده على رسم أستوجب به هنالك حقاً، فلما أطللت عليه عرفه بي بعض من معه، فقام إلي حتى جلست، ثم سألني بعض الطلبة بحضرته فقال لي: إنكم معشر المالكية تبيحون للشامي يمر بالمدينة أن يتعدى ميقاتها إلى الجحفة، وقد قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بعد أنم عين المواقيت لأهل الآفاق " هن لهن، ولمن مر عليهن من غير أهلهن " وهذا قد مر على ذي الخليفة وليس من أهله فيكون له، فقلت له: إن النبي، صل الله عليه وسلم، قال " من غير أهلهن " أي من غير أهل المواقيت، وهذا سلب كلي، وإنه غير صادق على هذا الفرد، ضرورة صدق نقيضه وهو الإيجاب الجزئي عليه، لأنه من بعض أهل المواقيت قطعاً، فلما لم يتناوله النص رجعنا إلى القياس، ولا شك أنه لا يلزم أحداً أن يحرم قبل ميقاته وهو يمر به لكن من ليس من أهل الجحفة لا يمر بميقاته إذا مر بالمدينة، فوجب عليه الإحرام من ميقاتها، بخلاف أهل الجحفة، فإنها بين أيديهم، وهم يمرون عليها، فوقعت من نفوس أهل البلد بسبب ذلك، فلما عرفت أتاني آت من أهل المغرب فقال لي: تعلم أن مكانك في
217
نفوس أهل هذا البلد مكين، وقدرك عندهم رفيع، وأنا اعلم انقباضك (8) عن ابني الإمام، فإن سئلت فانتسب لهما، فقد سمعت منهما، وأخذت عنهما، ولا تظهر العدول عنهما إلى غيرهما فتضع من قدرك، فإنما أنت عند هؤلاء الناس خليفتهما، ووارث علمهما وأن لا أحد فوقهما (9) :
وليس لما تبني يد الله هادم
وشهدت مجلساً بين يدي السلطان أبي تاشفين عبد الرحمن بن أبي حمو ذكر فيه أبو زيد ابن الإمام أن ابن القاسم مقلد مقيد النظر بأصول مالك، ونازعه أبو موسى عمران بن موسى المشدالي، وادعى أنه مطلق الاجتهاد، واحتج له بمخالفته لبعض ما يرويه ويبلغه عنه لما ليس من قوله، وأتى من ذلك بنظائر كثيرة قال: فلو تقيد بمذهبه لم يخالفه بغيره، فاستظهر أبو زيد نص لشرف الدين التلمساني مثل فيه الاجتهاد المخصوص باجتهاد ابن القاسم بالنظر إلى مذهب مالك والمزني إلى الشافعي، فقال عمران: هذا مثال، والمثال لا تلزم صحته، فصاح به أبو موسى ابن الإمام وقال لأبي عبد الله ابن أبي عمرو: تكلم، فقال: لا أعرف ما قال هذا الفقيه، الذي أذكره من كلام أهل العم انه لا يلزم من فساد المثال فساد الممثل، فقال أبو موسى للسلطان: هذا كلام أصولي محقق، فقلت لهما وأنا يومئذ حديث السن: ما أنصفتما الرجل، فإن المثل كما تؤخذ على جهة التحقيق كذلك تؤخذ على طريق التقريب، ومن ثم جاء ما قاله هذا الشيخ، أعني ابن أبي عمرو، وكيف لا وهذا سيبويه يقول: وهذا مثال ولا يتكلم به، فإذا صح أن المثال قد يكون تقريباً فلا يلزم صحة المثال ولا فساد الممثل لفساده، فهذان القولان من أصل واحد.
218
وشهدت مجلساً آخر عند هذا السلطان قرأ فيه عن أبي زيد ابن الإمام حديث لقنوا موتاكم لا إله إلا الله في صحيح مسلم، فقال له الأستاذ أبو إسحاق ابن حكم السلوي: هذا الملقن محتضر حقيقة ميت مجازاً، فما وجه ترك محتضريكم إلى موتاكم، والأصل الحقيقة فأجابه أبو زيد بجواب لم يقنعه، وكنت قد قرأت على الأستاذ بعض التنقيح فقلت: زعم القرافي أن المشتق إنما يكون حقيقة في الحال، مجازاً في الاستقبال، مختلفاً في الماضي، إذا كان محكوماً به، أما إذا كان متعلق الحكم كما هنا فهو حقيقة مطلقاً إجماعاً، وعلى هذا التقرير لا مجاز، فلا سؤال، لا يقال: إنه احتج على ذلك بما فيه نظر، لأنا نقول: إنه نقل الإجماع، وهو أحد الأربعة التي لا يطالب مدعيها بالدليل، كما ذكر أيضاً، بل نقول: إنه أساء حيث احتج في موضع الوفاق، كما أساء اللخمي وغيره في الاحتجاج على وجوب الطهارة ونحوها، بل هذا أشنع، لكونه مما علم من الدين بالضرورة، ثم إنا لو سلمنا نفي الإجماع فلنا أن نقول: إن ذلك إشارة إلى ظهور العلامات التي يعقبها الموت عادة، لأن تلقينه قبل ذلك إن لم يدهش فقد يوحش، فهو تنبيه على وقت التلقين، أي لقنو من تحكمون أنه ميت، أو نقول: إنما عدل عن الاحتضار لما فيه من الإبهام، ألا ترى اختلافهم فيه: هل أخذ من حضور الملائكة، أو حضور الأجل، أو حضور الجلاس، ولا شك أن هذه حالة خفية يحتاج في نصبها دليلاً على الحكم إلى وصف ظاهر يضبطها، وهو ما ذكرناه، أو من حضور الموت، وهو أيضاً مما لا يعرف بنفسه، بل بالعلامات، فلما وجب اعتبارها وجب كون تلك التسمية إشارة إليها، والله تعالى أعلم.
كما كان أبو زيد يقول فيما جاء من الأحاديث من معنى قول ابن أبي زيد وإذا سلم الإمام فلا يثبت بعد سلامه ولينصرف: إن ذلك بعد أن ينتظر بقدر ما يسلم من خلفه، لئلا يمر بين يدي أحد، وقد ارتفع عنه حكمه، فيكون كالداخل مع المسبوق، جمعاً بين الأدلة، قلت: وهذا ملح الفقيه.
219
اعترض عند أبي زيد قول ابن الحاجب ولبن الآدمي والمباح طاهر بأنه إنما يقال في الآدمي لبان، فأجاب بالمنع، واحتج بقول النبي، صلى الله عليه وسلم، " اللبن للفحم " وأجيب بأن قول ذلك لتشريكه المباح معه في الحكم؛ لأن اللبان خاص به، وليس موضع تغليب، لأن اللبان ليس بعاقل، ولا حجة على تغليب ما يختص بالعاقل.
تكلم أبو زيد يوماً في مجلس تدريسه في الجلوس على الحرير، فاحتج إبراهيم السلوي للمنع بقول أنس: فقمت إلى حصير لنا قد اسود من طول ما لبس فمنع أبو زيد أن يكون إنما أراد باللباس الافتراش فحسب، لاحتمال أن يكون إنما أراد التغطية معه أو وحدها، وذكر حديثاً في تغطية الحصير، فقلت: كلا الأمرين يسمى لباساً، قال الله عز وجل {هن لباس لكم وأنتم لباس لهن} (البقرة: 187) وفيه بحث.
كان أبو زيد يصحف قول الخونجي في الجمل والمقارنات التي يمكن اجتماعه معها فيقول: " والمفارقات " ولعله في هذا كما قال أبو عمرو ابن العلاء للأصمعي لما قرأ عليه (10):
وغررتني وزعمت أنك لابن بالصيف تامر
فقال:
وغررتني وزعمت أنك لا تني بالضيف تامر
فقال: أنت في تصحيفك أشعر من الحطيئة، أو كما حكي عمن صلى بالخليفة في رمضان ولم يكن يومئذ يحفظ القرآن، فكان ينظر في المصحف، فصحف آيات: صنعة الله، أصيب بها من أساء، إنما المشركون نحس، وعدها
220
أباه، تقية الله خير لكم، هذا أن دعوا للرحمن ولداً، لكل امرئ منهم يومئذ شأن يعنيه.
سمعت أبا زيد يقول: إن أبا العباس الغماري التونسي أول من أدخل " معالم " الإمام فخر الدين للمغرب، وبسبب ما قفل به من الفوائد رحل أبو القاسم ابن زيتون.
وسمعته يقول: إن ابن الحاجب ألف كتابه الفقهي من ستين ديواناً (11) ، وحفظت من وجادة أنه ذكر عند أبي عبد الله ابن قطرال المراكشي أن ابن الحاجب اختصر " الجواهر " فقال: ذكر هذا لأبي عمرو حين فرغ منه فقال: بل ابن شاس اختصر كتابي، قال ابن قطرال: وهو أعلم بصناعة التأليف من ابن شاس، والإنصاف أنه لا يخرج عنه وعن ابن بشير إلا في الشيء اليسير، فهما أصلاه ومعتمداه، ولا شك أن له زيادات وتصرفات تنبئ عن رسوخ قدمه وبعد مداه.
وكان أبو زيد (12) من العلماء الذين يخشون الله، حدثني أمير المؤمنين المتوكل أبو عنان أن والده أمير المسلمين أبا الحسن ندب الناس إلى الإعانة بأموالهم على الجهاد، فقال له أبو زيد: لا يصح لك هذا حتى تكنس بيت المال، وتصلي ركعتين كما فعل علي بن أبي طالب، وسأله أبو الفضل ابن أبي مدين الكاتب ذات يوم عن حاله، وهو قاعد ينتظر خروج السلطان، فقال له: أما الآن فأنا مشرك، فقال: أعيذك من ذلك، فقال: لم أرد الشرك في التوحيد، لكن في التعظيم والمراقبة، وإلا فأي شيء جلوسي ههنا؟
والشيء بالشيء يذكر، قمت ذات يوم على باب السلطان بمراكش فيمن
221
ينتظر خروجه، فقام إلى جانبي شيخ من الطلبة، وأنشدني لأبي بكر ابن خطاب (13) رحمه الله تعالى:
أبصرت أبواب الملوك تغص بال ... راجين إدراك العلا والجاه
مترقبين لها فمهما فتحت ... خروا لأذقان لهم وجباه
فأنفت من ذاك الزحام وأشفقت ... نفسي على إنضاء جسمي الواهي
ورأيت باب الله ليس عليه من ... متزاحم، فقصدت باب الله
وجعلته من دونهم لي عدة ... وأنفت من غيي وطول سفاهي
يقول جامع هذا المؤلف: رأيت بخط عالم الدنيا ابن مرزوق على هذا المحل من كلام مولاي الجد مقابل قوله " ورأيت باب الله " ما صورته: قلت ذلك لسعته أو لقلة أهله:
إن الكرام كثير في البلاد، وإن ... قلوا، كما غيرهم قل وإن كثروا {قل لا يستوي الخبيث والطيب} - الآية (المائدة: 100) انتهى.
رجع إلى كلام مولاي الجد قال رحمه الله تعالى ورضي عنه: وحدثني شيخ من أهل تلمسان أنه كان عند أبي زيد مرة، فذكر القيامة وأهوالها فبكى، فقلت: لا بأس علينا وأنتم أمامنا، فصاح صيحة، واسود وجهه، وكاد يتفجر دماً، فلما سري عنه رفع يديه وطرفه إلى السماء وقال: اللهم لا تفضحنا مع هذا الرجل، وأخباره كثيرة.
وأما شقيقه أبو موسى فسمعت عليه كتاب مسلم، واستفدت منه كثيراً،
222
فمما سألته عنه قول ابن الحاجب في الاستلحاق " وإذا استلحق مجهول النسب " إلى قوله " أو الشرع بشهرة نسبه " كيف يصح هذا القسم مع فرضه مجهول النسب فقال: يمكن أن يكون مجهول النسب في حال الاستلحاق، ثم يشتهر بعد ذلك، فيبطل الاستلحاق، فكأنه يقول: ألحقه ابتداء ودواماً، ما لم يكذبه أحد، هذه هي إحدى الحالتين، إلا أ، هذا إنما يتصور في الدوام فقط، ومما سألته عنه أن الموثقين يكتبون الصحة والجواز والطوع على ما يوهم القطع، وكثيراً ما ينكشف الأمر بخلافه، ولو كتبوا مثلاً ظاهر الصحة والجواز والطوع لبرئوا من ذلك، فقال لي: لما كان مبنى الشهادة وأصلها العلم لم يجمل ذكر الظن ولا في معناه احتمال، فإذا أمكن العلم بمضمونها لم يجز أن يحمل على غيره، فإذا تعذر كما ها هنا بني باطن أمرها على غاية ما يسعه فيه الإمكان عادة، وأجري ظاهرة على ما ينافس أصلها، صيانة لرونقها، ورعاية لما كان ينبغي أن تكون عليه لولا الضرورة. قلت: ولذلك عقد ابن فتوح وغيره عقود الجوائح على ما يوهم العلم بالتقدير، مع أن ذلك إنما يدرك بما غايته الظن في الحزر والتخمين، وكانا معاً يذهبان إلى الاختيار وترك التقليد.
3- وممن أخذت عنه أيضاً حافظها ومدرسها ومفتيها أبو موسى عمران ابن موسى بن يوسف المشدالي (14) ، صهر شيخ المدرسين أبي علي ناصر الدين (15) على ابنته، وكان قد فر من حصار بجاية فنزل الجزائر، فبعث فيه أبو تاشفين، وأنزله من التقريب والإحسان بالمحل المكين، فدرس بتلمسان الحديث والفقه والأصلين والنحو والمنطق والجدل والفرائض، وكان كثير الاتساع في الفقه والجدل، مديد الباع فيما سواهما مما ذكر، سألته عن قول ابن الحاجب في
223
السهو فإن أخال الإعراض فمبطل عمده فقال: معناه فإن أخال غيره أنه معرض، فحذف المفعول لجوازه، وأقام المصدر مقام المفعولين كما يقوم مقامه ما في معناه من أن وأن، قال الله العظيم {ألم أحسب الناس أن يتركوا} (العنكبوت: 1 - 2) قلت: وأقوى من هذا أن يكون المصدر هو المفعول الثاني، وحذف الثالث اختصاراً لدلالة المعنى عليه: أي فإن أخال الإعراض كائناً، كما قالوا: خلت ذلك، وقد أعربت الآية بالوجهين، وهذا عندي أقرب، ومن هذا الباب ما يكتب به القضاة من قولهم " أعلم باستقلاله فلان " أي أعلم فلان من يقف عليه بأن الرسم مستقل، فحذفوا الأول، وصاغوا ما بعده المصدر.
سئل عمران وأنا عنده عما صبغ من الثياب بالدم فكانت حمرته منه، فقال: يغسل، فإن لم يخرج شيء من ذلك في الماء فهو طاهر، لأن المتعلق به على هذا التقدير ليس إلا لون النجاسة، وإذا عسر قلعه بالماء فهو عفو، وإلا وجب غسله إلى أن لا يخرج منه شيء، قلت: في البخاري قال معمر: رأيت الزهري يصلي فيما صبغ بالبول من ثياب اليمن، وتفسيره على ما ذكره عمران. وكان قد صاهر لقاضي الجماعة أبي عبد الله ابن هربة على ابنته فلم تزل عنده إلى أن توفي عنها.
4- ومنهم مشكاة الأنوار، الذي يكاد زيته يضيء ولو لم تمسسه نار، الأستاذ أبو إسحاق إبراهيم بن حكم السلوي، رحمه الله تعالى. ورد تلمسان بعد العشرين، ثم لم يزل بها إلى أن قتل يوم دخلت على بني عبد الواد، وذلك في الثامن والعشرين من شهر رمضان عام سبعة وثلاثين وسبعمائة.
قال لي الشيخ ابن مرزوق: ابتدأ أمر بني عبد الواد بقتلهم لأبي الحسن السعيد، وكان أسمر لأم ولد تسمى العنبر، وختم بقتل أبي الحسن ابن عثمان إياهم، وهو بصفته المذكورة حذوك النعل بالنعل، فسبحان من دقت حكمته في كل شيء.
224
ولما وقف الرفيقان أبو عبد الله محمد بن عمر بن رشيد الفهري ومجمد بن عبد الرحمن بن الحكيم الرندي في رحلتهما على قبر السعيد بعباد تلمسان تناول ابن الحكيم فحمة ثم كتب بها على جدار هناك:
انظر ففي إليك اليوم معتبر ... إن كنت ممن بعين الفكر قد لحظا
بالأمس أدعى سعيداً، والورى خولي ... واليوم يدعى سعيداً من بي اتعظا
قال ابن حكم: كان أول اتصالي بالأستاذ أبي عبد الله ابن آجروم أني دخلت عليه وقد حفظت بعض كتاب المفصل فوجدت الطلبة يعرفون بيت يديه هذا البيت (16):
عهدي به الحي الجميع وفيهم ... قبل التفرق ميسر وندام
وقد عُمي عليهم خبر " عهدي " فقلت له: قد سدت الحال وهي الجملة بعده مسده، فقال لي بعض الطلبة: وهل يكون هذا في الجملة كما كان في قولك: " ضربي زيداً قائماً " قلت له: نعم، قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: " أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد ".
ذكر أبو زيد ابن الإمام يوماً في مجلسه أنه سئل بالمشرق عن هاتين الشرطيتين {ولو علم الله فيهم خيراً لأسمعهم، ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون} (الأنفال: 23) فإنهما تستلزمان بحكم الإنتاج لو علم الله فيهم خيراً لتولوا، وهو محال، ثم أراد أن يرى ما عند الحاضرين، فقال ابن حكم: قال ابن الخونجي: والإهمال بإطلاق لفظ لو وإن في المتصلة، فهاتان القضيتان على هذا مهملتان، والمهملة في قوة الجزئية، ولا قياس عن جزئيتين. فلما اجتمعت ببجاية أبي علي حسين بن حسين وأخبرته بهذا، وبما أجاب به الزمخشري وغيره، مما يرجع إلى انتفاء تكرر الوسط، قال لي: الجوابان في المعنى سواء، لأن القياس على
225
الجزئيتين إنما امتنع لانتفاء أمر تكرر الوسط، فأخبرت بذلك شيخنا الآبلي، فقال: إنما يقوم القياس على الوسط، ثم يشترط فيه بعد ذلك أن لا يكون من جزئيتين، ولا سالبتين، إلى ما يشترط، فقلت: ما المانع من كون هذه الشروط تفصيلاً لمجمل ما ينبني عليه من الوسط وغيره، وإلا فلا مانع غير ما قاله ابن حسين، قال الآبلي: وقد أجبت بجواب السلوي، ثم رجعت إلى ما قال الناس لوجوب كون مهملات القرآن كلية لأن الشرطية لا تنتج جزئية، فقلت: هذا فيما يساق منها للحجة، مثل " لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا "، أما في مثل هذا فلا.
ولما ورد تلمسان الشيخ الأديب أبو الحسن ابن فرحون نزيل طيبة على تربتها السلام سأل ابن الحكم عن معنى هذين البيتين:
رأت قمر السماء فأذكرتني ... ليالي وصلها بالرقمتين
كلانا ناظر قمراً ولكن ... رأيت بعينها ورأت بعيني
ففكر ثم قال: لعل هذا الرجل كان ينظر إليها، وهي تنظر إلى قمر السماء، فهي تنظر إلى القمر حقيقة، وهو لإفراط الاستحسان يرى أنها الحقيقة، فقد رأى بعينها لأنها ناظرة الحقيقة، وأيضاً فهو ينظر إلى قمر مجازاً، وهو لإفراط الاستحسان (17) لها يرى أن قمر السماء هي المجاز، فقد رأت بعينه، لأنها ناظرة المجاز.
قلت: ومن ههنا تعلم وجه الفاء في قوله فأذكرتني، لأنه لما صارت رؤيتها رؤيته، وصار القمر حقيقة إياها، وكان قوله رأت قمر السماء فأذكرتني، بمثابة قوله فأذكرتني، فإن بعض من لا يفهم كلام الأستاذ حق الفهم ينشده " فأذكرتني " فالفاء في البيت الأول مبنية على معنى البيت الثاني، لأنها
226
مبنية عليه، وهذا النحو يسمى الإيذان في علم البيان.
ولما اجتمعنا بأبي الوليد ابن هانئ مقدمه علينا من غرناطة سأل ابن حكم عن تكرار من في قوله تعالى " سواء منكم من أسر القول ومن جهر به " دون ما بعدها، فقال: لولا تكررها أولاً لتوهم التضاد بتوهم اتحاد الزمان، فارتفع بتكرار الموضوع، أما الآخر فقد تكرر الزمان، فارتفع توهم التضاد، فلم يحتج إلى زائد على ذلك، فقلت: فهلا اكتفى بسواء على تكرار الموضوع، لأن التسوية لا تقع إلا بين أمرين، وإنما الجواب عندي أنها تكررت أولاً على الأصل لأنهما صنفان يستدعيهما كل واحد منهما أن تقع عليه، ثم اختصرت ثانياً لفهم المراد من التفصيل بالأول مع أمن اللبس، وقد أجاب الزمخشري بغير هذين فانظره.
سألني ابن حكم المذكور عن نسب المجيب في هذا البيت:
ومهفهف الأعطاف قلت له انتسب ... فأجاب ما قتل المحب حرام
ففكرت ثم قلت: أراه تميمياً، لإلغائه ما النافية، فاستحسنه مني لصغر
سني يومئذ.
تذاكرت (18) يوماً مع ابن حكم في تكملة البدر بن محمد بن مالك ل " شرح التسهيل " لأبيه، ففصلت عليه كلام أبيه، ونازعني الأستاذ، فقلت:
عهود من الآبا توارثها الأبنا
فما رأيت بأسرع من أن قال:
بنوا مجدها لكن بنوهم لها أبنى
فبهت من العجب (19) .
227
وتوفي الشيخ ابن مالك سنة اثنتين وسبعين وستمائة، وفيها ولد شيخنا عبد المهيمن الحضرمي، فقيل: مات فيها إمام نحو، وولد فيها إمام نحو.
سألت ابن حكم عن قول فخر الدين في أول المحصل " وعندي أن شيئاً منها غير مكتسب " (20) بمعنى لا شيء ولا واحد، هل له أصل في العربية أو كما قيل من بقايا عجمته فقال لي: بل له أصل، وقد حكى بان مالك مثله عن العرب، فلم يتفق أن أستوقفه عليه، ثم لم أزل أستكشف عنه كل من أظن أن لديه شيئاً منه (21) ، فلم أجد من عنده أثارة منه، حتى مر بي في باب الأفعال الداخلة على المبتدأ والخبر الداخل عليها كان من شرح التسهيل قوله فإن تقدم على الاستفهام أحد المفعولين نحو " علمت زيداً أبو من هو " اختير نصبه، لأن الفعل مسلط عليه، فلا مانع، ويجوز رفعه، لأنه والذي بعد الاستفهام شيء واحد في المعنى فكأنه في حيز الاستفهام، والاستفهام مشتمل عليه، وهو نظير قوله: إن أحد إلا يقول ذلك، وأحد هذا لا يقع إلا بعد نفي، ولكن لما كان هنا والضمير المرفوع بالقول شيئاً واحداً في المعنى تنزل منزلة واقع بعد نفي، فعلمت أنه نحى إلى هذا، لأن شيئاً ههنا والضمير المرفوع بمكتسب المنفي في المعنى شيء واحد، فكان شيئاً كأنه وقع بعد غير: أي بعد النفي.
سأل ابن فرحون ابن حكم: هل تجد في التنزيل ست فاءات مرتبة ترتيبها في هذا البيت:
رأى فحب فرام الوصل فامتنعت فسام صبراً فأعيا نيله فقضى
ففكر ثم قال: نعم " فطاف عليها طائف من ربك وهم نائمون - إلى آخره " فمنعت له البناء في " فتنادوا " فقال لابن فرحون: فهل عندك غيره فقال: نعم " فقال لهم رسول الله إلى آخر السورة " فمنع له
228
بناء الآخرة لقراءة الواو، فقلت: امنع ولا تسند فيقال لك: إن المعاني قد تختلف باختلاف الحروف، وإن كان السند لا يسمع الكلام عليه، وأكثر ما وجدت الفاء تنتهي في كلامهم إلى هذا العدد، سواء بهذا الشرط وبدونه، كقول نوح عليه السلام: " فعلى الله توكلت - الآية " وكقول امرئ القيس:
غشيت ديار الحي بالبكرات
البيتين (22)، لا يقال: فالجب سابع، لأنا نقول: إنه عطف على عاقل المجرد منها، ولعل حكمة الستة أنها أول الأعداد التامة كما قيل في حكمة خلق السموات والأرض فيها، وشأن اللسان عجيب.
وقوله في هذا البيت فحب لغة قليلة جرى عليها محبوب كثيراً، حتى استغني به عن محب، فلا تكاد تجده إلا في قول عنترة:
ولقد نزلت فلا تظني غيره ... مني بمنزلة المحب المكرم
ونظيره محسوس من حس والأكثر أحس ولا تكاد تجد محساً، وهذا التوجيه أحسن من قول القرافي في " شرح التنقيح ": إنهم أجروا محسوسات مجرى معلومات لأن الحس أحد طرق العلم.
سمعت ابن حكم يقول: بعث بعض أدباء فاس إلى صاحب له:
ابعث إلي بشيء ... مدار فاس عليه
وليس عندك شيء ... مما أشير إليه
فبعث إليه ببطة من مري (23) ، يشير بذلك إلى الرياء.
229
وحدثت (24) أن قاضيها أبا محمد عبد الله بن أحمد بن الملجوم حضر وليمة، وكان كثير البلغم، فوضع بين يديه صهره أبو العباس ابن الأشقر غضاراً من اللون المطبوخ بالمري لمناسبته لمزاجه، فخاف أن يكون قد عرض له بالرياء.
وكان ابن الأشقر يذكر بالوقوع في الناس، فناوله القاضي غضار المقروض، فاستحسن الحاضرون فطنته.
5- ومنهم عالم الصلحاء، وصالح العلماء، وجليس التنزيل، وحليف البكاء والعويل، أبو محمد عبد الله بن عبد الواحد بن إبراهيم بن الناصر المجاصي (25) خطيب جامع القصر الجديد، وجامع خطتي التحديث والتجويد، ويسميه أهل مكة البكاء، ولما قدم أبو الحسن علي بن موسى البحيري سأل عنه، فقيل إليه: لو علم بك أتاك، فقال: أنا آتي من سمعت سيدي أبا زيد الهزميري يقول للأول ما رآه ولم يكن يعرفه قبل ذلك: مرحباً بالفتى الخاشع، أسمعنا من قراءتك الحسنة.
دخلت عليه بالفقيه أبي عبد الله في أيام العيد، فقدم لنا طعاماُ، فقلت: لو أكلت معنا، فرجونا بذلك ما يرفع من حديث " من أكل مع مغفور له غفر له " فتبسم وقال لي: دخلت على سيدي أبو عبد الله الفاسي بالإسكندرية، فقدم طعاماُ، فسألته عن هذا الحديث، فقال: وقع في نفسي منه شيء، فرأيت النبي، صلى الله عليه وسلم، في المنام، فسألته عنه، فقال لي: لم أقله، وأرجو أن يكون ذلك.
وصافحته بمصافحة الشيخ أبا عبد الله الزيان بمصافحته أبا سعيد عثمان بن عطية الصعيدي أبا عباس أحمد الملثم بمصافحته المعمر بمصافحته رسول الله، صلى الله عليه وسلم.
230
وسمعته يحدث عن شيخه أبي محمد الدلاصي أنه كان للملك العادل مملوك اسمه محمد، فكان يخصه لدينه وعقله بالنداء باسمه، وإنما كان ينعق بمماليكه يا ساقي، يا طباخ يا مزين، فنادى به ذات يوم: يا فراش، فظن ذلك لموجدة عليه، فلما لم ير أثر ذلك، وتصورت له به خلوة، سأله عن مخالفته لعادته معه، فقال: لا عليك، كنت حينئذ جنباً، فكرهت ذكر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في تلك الحالة.
ومما نقلته من خط المجاصي ثم قرأته عليه فحدثني به قال: حدثني القاضي أبو زكريا يحيى أحمد بن محمد بن يحيى بن أبي بكر ابن عصفور قال: حدثني جدي يحيى المذكور، أخبرنا محمد بن عبد الرحمن التجيبي المقرئ بتلمسان، حدثنا الحافظ أبو محمد - يعني والله أعلم عبد الحق الإشبيلي - أخبرنا (26) أبو غالب أحمد ابن الحسن المستعمل، أخبرنا أبو الفتوح عبد الغافر بن الحسين بن أبي الحسن ابن خلف الألمعي، أخبرنا (27) أبو نصر أحمد بن إسحاق النيسابوري، أملى علينا أبو عثمان إسماعيل ين عبد الرحمن الصابوني، أخبرنا محمد بن علي بن الحسين العلوي، أخبرنا عبد الله بن إسحاق اللغوي وأنا سألته، أخبرنا إبراهيم بن الهيثم البلدي، أخبرنا عبد الله بن نافع بن عيسى بن يونس عن الأعمش عن أبي وائل عن عبد الله بن مسعود، قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال لي جبريل: ألا أعلمك الكلمات التي قالهن موسى حين انفلق له البحر قلت: بلى، قال قل: اللهم لك الحمد، وإليك المشتكى، وبك المستغاث، وأنت المستعان، ولا حول ولا قوة إلا بالله، قال ابن مسعود: فما تركتهن منذ سمعتهن من رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ثم تسلسل الحديث عن ذلك، كل أحد من رجاله يقول: ما تركتهن منذ سمعتهن من فلان، لشيخه، وقد سمعت المجاصي
231
يكررها كثيراً، وما تركتهن منذ سمعتهن منه.
وأنشدني المجاصي وقال: أنشدني نجم الدين الواسطي، أنشدني شرف الدين الدمياطي، أنشدني تاج الدين الأرموي مؤلف الحاصل، قال: أنشدني الإمام فخر الدين لنفسه(28):
نهاية إقدام العقول عقال ... وأكثر سعي العالمين ضلال
وأرواحنا في وحشة (29) من جسومنا ... وحاصل دنيانا أذى ووبال
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا ... سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا
وكم من رجال رأينا ودولة (30) ... فبادوا مسرعين جميعاُ وزالوا
وكم من جبال علت شرفاتها ... رجال فماتوا والجبال جبال
وتوفي المجاصي في العشر الآخر من شهر ربيع الأول، عام أحد وأربعين وسبعمائة.
6- ومنهم الشيخ الشريف القاضي الرحلة المعمر أبو علي الحسن بن يوسف ابن يحيى الحسيني السبتي.
أدرك أبو الحسين ابن أبي الربيع وأبا القاسم العزفي واختص بابن عبيدة وابن الشاط، ثم رحل إلى المشرق فلقي ابن دقيق العيد وحلبته، ثم قفل فاستوطن تلمسان إلى أن مات بها سنة أربع وخمسين، أو ثلاث وخمسين وسبعمائة، قرأ علينا حديث الرحمة وهو أول حديث سمعته منه، حدثنا الحسن بن علي بن عيسى ابن الحسن اللخمي، وهو أول حديث سمعته منه، أخبرنا (31) علي بن المظفر بن القاسم الدمشقي، وهو أول حديث سمعته منه، أجبرنا أبو الفرج محمد بن عبد الرحمن بن أبي العز الواسطي، وهو أول حديث سمعته منه، أخبرنا أبو العز
232
عبد المغيث بن زهير، وهو أول حديث سمعته منه، أخبرنا زاهر بن طاهر بن محمد الشحامي، وهو أول حديث سمعته منه. قال الحسن بن علي: وحدثنا أيضاً عالياً الحسن بن محمد البكري، وهو أول حديث سمعته منه، أخبرنا ابن الفتوح محمد بن محمد بن محمد بن الجنيد الصوفي، وهو أول حديث سمعته منه، أخبرنا زاهر بن طاهر، وهو أول حديث سمعته منه، أخبرنا أبو الفضل عبد الرحمن بن أبي الفضائل عبد الوهاب بن صالح عرف بابن المغرم إمام جامع همذان بها، وهو أول حديث سمعته منه، أخبرنا أبو منصور عبد الكريم بن محمد بن حامد المعروف بابن الخيام، وهو أول حديث سمعته عنه، أخبرنا أبو صالح أحمد بن عبد الملك، وهو أول حديث سمعته عنه، حفظاً، أخبرنا أبو الطاهر محمد بن محمد بن مخمش (32) الزيادي، وهو أول حديث سمعته عنه، أخبرنا أبو حامد أحمد بن محمد بن يحيى بن هلال البزاز، وهو أول حديث سمعته عنه، أخبرنا عبد الرحمن بن البشر بن الحكم، وهو أول حديث سمعته عنه، أخبرنا أبو سفيان بن عيينة، وهو أول حديث سمعته عنه، عن عمرو ابن دينار، عن أبي قاموس مولى لعبد الله بن عمرو بن العاص، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: " الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء ".
(ح) وحدثني الشريف أيضاُ كذلك بطريقه عن السلفي بأحاديثه المشهورة فيه، وهذا الحديث أخرجه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح.
قال لي الشريف: قال لي القاضي أبو العباس الرندي: لما قدم أبو العباس ابن الغماز (33) من بلنسية نزل بجاية، فجلس بها في الشهود مع عبد الحق بن ربيع (34)،
233
فجاء عبد الحق يوماً وعليه برنس أبيض، وقد حسنت شارته وكملت هيأته، فلما نظر إليه ابن الغماز أنشده:
لبس البرنس الفقيه فباهى ... ورأى أنه المليح فتاها
لو زليخا رأته حين تبدى ... لتمنته أن يكون فتاها
وبه أن ابن الغماز جلس لارتقاب الهلال بجامع الزيتونة، فنزل الشهود من المئذنة وأخبروا أنهم لم يهلوه، وجاء حفيد له صغير، فأخبره أنه أهله، فردهم معه، فأراهم إياه، فقال: ما أشبه الليلة بالبارحة، وقع لنا مثل هذا مع أبي الربيع ابن سالم، فأنشدنا فيه:
توارى هلال الأفق عن أعين الورى ... وأرخى حجاب الغيم دون محياه
فلما تصدى لارتقاب شقيقه ... تبدى له دون الأنام فحياه
سمعت الشريف يقول: أول زجل عمل في الدنيا:
بالله يا طير مدلل ... مر بي وسط القفار
إياك تجدد لعاده ... ترمي حجيرة في داري
7- ومنهم قاضي جماعتها وكاتب خلافتها وخطيب جامعها، أبو عبد الله محمد بن منصور بن علي بن هدية القرشي (35) ، من ولد عقبة بن نافع الفهري، نزلها سلفه قديماً، وخلفه بها إلى الآن، توفي في أواسط سنة خمس وثلاثين وسبعمائة وشهد جنازته سلطانها يومئذ أبو تاشفين، وولى ابنه أبا علي منصوراً مكانه يومئذ، ولما ثقل لسانه دعا ابنه فقال له: اكتب هذين البيتين فإني نظمتهما على هذه الحالة، فكتب:
إلهي مضت للعمر سبعون حجة ... جنيت بها لما جنيت الدواهيا
234
وعبدك قد أمسى عليل ذنوبه ... فجد لي برحمى منك، نعم الدوا هيا ولما ورد الأديب أبو عبد الله محمد بن محمد المكودي من المغرب رفع عليه
قصيدة أولها:
سرت والدجى لم يبق إلا يسيرها ... نسيم صبا لم يحيي القلوب مسيرها
وفيها الأبيات العجاب التي سارت سير الأمثال، وهي قوله:
وفي الكلة الحمراء حمراء لو بدت ... لثكلى لولى ثكلها وثبورها
فما يستوي مثوى لها من سوى القنا ... خيام، ومن بيض الصفاح ستورها
وما بسوى صدق الغرام أرومها ... ولا بسوى زور الخيال أزورها
فأحسن إليه، وكلم السلطان حتى أرسل جرايته عليه، وقد شهدت المكودي وهذه القصيدة تقرأ عليه.
8- ومنهم القاضي أبو عبد الله محمد بن أحمد بن علي بن أبي عمرو التميمي(36).
أدرك ابن الزيتون، وأخذ عن أبي الطاهر ابن سرور وحلبته، وعنه أخذت شرح المعالم له، وولي القضاء بتلمسان مرات، فلم تستفزه الدنيا، ولا باع الفقر بالغنى.
9- ومنهم (37) أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن عبد النور (38) .
قاضي الجماعة بعد ابن أبي عمرو، وكانت له رحلة إلى المشرق، لقي بها
235
جلالة الدين القزويني وحلبته، وتوفي بتونس في الوباء العام في حدود الخمسين وسبعمائة.
10- ومنهم الشيخ أبو عبد الله محمد بن الحسين البروني (39) .
قدم عليها من الأندلس، فأقام إلى أن مات. سمعته يقول: البقر العدوية كالإبل المهملة في الصحراء، لا يجوز أن تباع بالنظر إليها، لكن بعد أن تمسك ويستولى عليها.
11- ومنهم أبو عمران موسى المصمودي، الشهير بالبخاري.
سمعت البروني يقول: كان الشيخ أبو عمران يدرس صحيح البخاري، ورفيق له يدرس صحيح مسلم، فكانا يعرفان بالبخاري ومسلم، فشهدا عند قاض فطلب المشهود عليه الاعتذار فيهما، فقال له أبو عمران: أتمكنه من الإعذار في الصحيحين فضحك القاضي، وأصلح بين الخصمين.
سألته عما ضربه ابن هدية عليه من إباحة الاستياك في رمضان بقشر الجوز فقال لي: نعم، ويبلع ريقه، تأول، رحمه الله تعالى، أن الخصال المذكورة في السواك إنما تجتمع في الجوز، فكان يحمل كل ما روى فيه عليه، وهذا غلط فاحش، لأن العرب لا تكاد تعرفه، ونظر إلى ما في البخاري من قوله بعد أن ذكر جواز السواك للصائم " ولا أن يبتلع ريقه " يعني الصائم في الجملة، فحمله على المستاك بالجوز، وكان رحمه الله تعالى قليل الإصابة في الفتيا، كثير المصيبات عليها.
12- ومنهم نادرة الأعصار: أبو عبد الله محمد بن يحيى بن علي بن النجار (40) .
236
قال لي العلامة الآبلي: ما قرأ أحد علي حتى قلت له: لم أبق عندي ما أقول لك غير ابن النجار.
سمعت ابن النجار يقول: مر عمل الموقتين على تساوي فضلي ما بين المغرب والعشاء والفجر والشمس، فيؤذنون بالعشاء لذهاب ثماني عشرة درجة، وبالفجر لبقائها، والجاري على مذهب مالك أن الشفق الحمرة، وأن تكون فضلة ما بين العشائين أقصر، لأن الحمرة ثانية الغوارب والطوالع، فتزيد فضلة الفجر بمقار ما بين ابتداء طلوع الحمرة والشمس، فعرضت كلامه هذا على المزاور أبي زيد عبد الرحمن بن سليمان اللجائي، فصوبه.
وذكرت يوماً (41) حكاية ابن رشد الاتفاق في الخمر إذا تخللت بنفسها أنها تطهر، واعترضه بما في اعترضه بما في " الإكمال " عن ابن وضاح أنها لا تطهر، فقال لي: لا معتبر بقول ابن وضاح هذا، لأنه يلزم عليه تحريم الخل، لأن العنب لا يصير خلاً حتى يكون خمراً، وفيه بحث.
وذكرت يوماً قول ابن الحاجب فيما يحرم من النساء بالقرابة وهي أصول وفصول، وفصول أول أصوله، وأول فصل من كل أصل وإن علا فقال: إن تركب لفظ التسمية (42) العرفية من الطرفين حلت، وإلا حرمت، فتأملته فوجدته كما قال، لأن أقسام هذا الضابط أربعة: التركب من الطرفين كابن العم وابنة العم مقابله كالأب والبنت، التركب من قبل الرجل كابنة الأخ والعم مقابله كابن الأخت (43) والخالة.
وأنشدت يوماً عنده على زيادة اللام (44) :
باعد أم عمر من أسيرها ...
237
فقال لي: وما يدريك أنه أراد العمرة الذي أراده المعري بقوله(45):
وعمر هند كأن الله صوره ... عمرو ابن هند يعني الناس تعنيتا
وأضاف اللام إليه كما قالوا: أم الحليس، قلت: ولا يندفع هذا بثبوت كون المعنية تكنى أم عمرو؛ لأن ذلك لا يمنع إرادة المعنى الآخر، فتكون: أم عمرو وأم العمر.
قال ابن النجار: بعثت بهذه الأبيات من نظمي إلى القاضي أبي عبد الله ابن هدية فأخرج لغزها:
إن حروف اسم من كلفت به ... خفت على كل ناطق بفم
سائغة سهلة مخارجها ... من أجل هذا تزداد في الكلم
صحفه ثم أقلبن مصحفه ... فعل ذكي مهذب فهم
واطلبه في الشعر جد مطلبه ... تجده كالصبح لاح في الظلم (46)
فإن تأملت بت منه على ... علم، ألا فأنت عنه عمي
واللغز " سلمان " وموضعه تأملت بت، وتوفي رحمه الله تعالى بتونس أيام الوباء العام.
13- ومنهم الأستاذ المقرئ الراوية الرحلة أبو الحسن علي بن أبي بكر ابن سبع بن مزاحم المكناسي.
ورد علينا من المشرق، فأقام معنا أعواماً، ثم رحل إلى فاس، فتوفي بها في الوباء العام، جمعت عليه السبع، وقرأت عليه البخاري والشاطبيتين وغير
238
ذلك، فأما البخاري فحدثني به قراءة منه على أحمد بن الشحنة الحجار سنة ثلاثين وسبعمائة، وكان الحجار قد سمعه على ابن الزبيدي سنة ثلاثين وستمائة، وهذا ما لا يعرف له نظير في الإسلام، وقد قال عبد الغني الحافظ: لا نعرف في الإسلام من وازاه غير عبد الله بن محمد البغوي في قدم السماع، فإنه توفي سنة سبع عشرة وثلاثمائة، قال ابن خلاد: سمعناه يقول: أخبرنا إسحاق بن إسماعيل الطالقاني سنة خمس وعشرين ومائتين، وسمعه ابن الزبيدي على أبي الوقت بسنده، قال لي ابن مزاحم: هذا طريق كله سماع. وأما الشاطبيتان فحدثني بهما قراءة عليه لجميعها عن بدر الدين ابن جماعة، بقراءتهما عليه عن أبي الفضل هبة الله بن الأزرق، بقراءتهما عليه عن المؤلف كذلك، وحدثني بتسهيل الفوائد عن ابن جماعة عن المؤلف ابن مالك، وغير ذلك.
14- وممن ورد عليها لا يريد الإقامة بها شيخي وبركتي وقدوتي أبو عبد الله محمد بن حسين القرشي الزبيدي التونسي(47).
حدثني بالصحيحين قراءة لبعضهما ومناولة لجميعها، عن أبي اليمن ابن عساكر لقيه بمكة سنة إحدى وثمانين وستمائة بسنده المشهور، وحدثني أيضاً أن أبا منصور العجمي حدثه بمحضر الشيخين والده حسين وعمه حسن وأثنى عليه ديناً وفضلاً أنه أدخل ببعض بلاد المشرق على المعمر أدخله عليه بعض ولد (48) ولده، فألفاه ملفوفاً في قطن، وسمع له دوياً كدوي النحل، فقيل له: ألقيت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ورأيته قال: نعم، قلت: ليس في هذا ما يستراب منه إلا الشيخ المعمر، فإنا لا نعرف حاله، فإن صح فحديثنا عنه
239
ثلاثي، وقد تركت سنة خمس وأربعين بمصر رجلاً يسمى بعثمان معه تسعون حديثاُ يزعم أنه سمعها من المعمر وقد أخذت عنه، وكتبت منه، فهذا ثنائي، وأمر المعمر غريب، والنفس أميل إلى نفيه.
15- ومنهم إمام الحديث والعربية، وكتاب الخلافة العثمانية والعلوية (49) ، أبو محمد عبد المهيمن بن محمد الحضرمي السبتي (50).
جمع فأوعى، واستوهب أكثر المشاهير وما سعى، فهو المقيم الظاعن، الضارب القاطن، سألني عن الفرق (51) بين علم الجنس واسم الجنس، فقلت له: زعم الخسر وشاهي أنه ليس بالديار المصرية من يعرفه غيره، وأنا أقول: ليس في الدنيا عالم إلا وهو يعلمه غيره (52) ؛ لأنه حكم لفظي أوجب تقديره المحافظة على ضبط القوانين كعدل عمر ونحوه، فاستحسن ذلك.
وكان ينكر إضافة الحول إلى الله عز وجل، فلا يجيز أن يقال بحول الله وقوته قال: لأنه لم يرد إطلاقه، والمعنى يقتضي امتناعه؛ لأن الحول كالحيلة أو قريب منها.
وتوفي بتونس أيام الوباء العام.
16- ومنهم الفقيه المحقق الفرضي المدقق أبو عبد الله محمد بن سليمان بن
240
علي السطي (53) قرأت عليه كتاب الحوفي علماً وعملاً، قال لي في قول ابن الحاجب والثمن الثلث والسدس من أربعة وعشرين: هذا لا يصح؛ إذ لا يجتمع الثلث والثمن في فريضة، وقد سبقه إلى هذا الوهم صاحب المقدمات، وسألت عنه ابن النجار فقال لي: إنما أراد المقام لأنه يجتمع مع الثلثين، والإنصاف أنه لا يحسن التعبير بما لا تصح إرادة نفسه عن غيره، فكان الوجه أن يقول: والثلثان أو مقام الثلث، ونحو ذلك، لأن الثلث إنما يدخل هنا تقديراُ لا تحقيقاً كما في الجواهر، وانظر باب المدبر من كتاب الحوفي، فإن فيه موافقة السبعة لعدد لا توافقه فهو من باب الفرض، وعليه ينبغي أن يحمل كلام ابن الحاجب.
17-19 - ومنهم الأستاذ أبو عبد الله الرندي، والقاضي أبو عبد الله محمد بن علي بن عبد الرزاق الجزولي (54) ، والقاضي أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الرحمن بن أبي يحيى، في كثير من الخلق، فلنضرب عن هذا.
20- ومن شيوخي (55) الصلحاء الذين لقيت بها خطيبها الشيخ أبو عثمان سعيد بن إبراهيم بن علي الخياط، أدرك أبا إسحاق الطيار، وقد صافحته وأنا صغير، لأنه توفي سنة تسع وعشرين، بمصافحته أباه، بمصافحته الشيخ أبا تميم، بمصافحته أبا مدين، بمصافحته أبا الحسن ابن حرزهم، بمصافحته ابن العربي، بمصافحته الغزالي، بمصافحته أبا المعالي، بمصافحته أبا طالب المكي، بمصافحته أبا محمد الجريري، بمصافحته الجنيد، بمصافحته سرياً، بمصافحته معروفاً، بمصافحته داود الطائي، بمصافحته حبيباً العجمي، بمصافحته الحسن البصري، بمصافحته علي بن أبي طالب، بمصافحته رسول الله صلى الله عليه وسلم.
241
21- ومنهم خطيبها المصقع أبو عبد الله محمد بن علي بن الجمال، أدرك محمد بن رشيد البغدادي (56) صاحب الزهر والوتريات على حروف المعجم والمذهبة وغيرها، حدثني عنه أنه تاب بين يديه لأول مجلس جلسه بتلمسان سبعون رجلاً.
22، - 23 - ومنهم الشقيقان الحاجان الفاضلان أبو عبد الله محمد، وأبو العباس أحمد (57) ، ابنا ولي الله أبي عبد الله محمد بن محمد بن أبي بكر ابن مرزوق العجيسي.
كساني محمد خرقة التصوف بيده، كما كساه إياها الشيخ بلال بن عبد الله الحبشي خادم الشيخ أبي مدين، كما كساه أبو مدين، قال محمد بن مرزوق: وكان مولد بلال سنة تسع وخمسين وخمسمائة، وخدم أبا مدين نحواً من خمسة عشر عاماً، إلى أن توفي عام تسعين وخمسمائة، ثم عاش بعده أكثر من مائة سنة، ولبس أبو مدين من يد ابن حرزهم، ولبس ابن حرزهم من يد ابن العربي، واتصل اللباس اتصال المصافحة.
24 - ومنهم أبو زيد عبد الرحمن بن يعقوب بن علي الصنهاجي المكتب، حدثنا عن قاضيها أبي زيد عبد الرحمن بن علي الدكالي أنه اختصم عنده رجلان في شاة ادعى أحدهما أنه أودعها الأخر، وادعى الآخر أنها ضاعت منه، فأوجب اليمين على المودع عنده، أنها ضاعت من غير تضييع، فقال: كيف أضيع وقد شغلتني حراستها عن الصلاة حتى خرج وقتها فحكم عليه بالغرم، فقيل له في
242
ذلك، فقال تأولت قول عمر ومن ضيعها لما سواها أضيع.
25 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن محمد الغزموني (58) ، مكتبي الأول، ووسيلتي إلى الله عز وجل، قرأ على الشيخين أبي عبد الله القصري وأبي (59) حريث وحج حجات، وكان عقد بقلبه أنه كلما ملك مائة دينار عيوناً سافر إلى الحج (60) ، وكان بصيراً بتعبير الرؤيا، فمن عجائب شأنه فيه (61) أنه كان في سجن أبي يعقوب يوسف بن يعقوب بن عبد الحق فيمن كان فيه من أهل تلمسان أيام محاصرته لها، فرأى أبو جمعة ابن علي التلالسي (62) الجرائحي منهم كأنه قائم على سانية (63) دائرة وجميع قواديسها يصب في نقير وسطها، فجاء ليشرب، فلما اغترف الماء إذا فيه فرث ودم فأرسله، ثم اغترف فإذا هو كذلك، ثلاثاً أو أكثر، فعدل عنه، فرأى خصة (64) ماء وشرب منها، ثم استيقظ وهو النهار فأخبره، فقال: أن صدقت رؤياك فنحن عما قليل خارجون من هذا المكان، قال: كيف قال: السانية والزمان، والنقير السلطان، وأنت جرائحي تدخل يدك في جوفه فينالها الفرث والدم، وهذا الذي لا تحتاج معه، فلم يكن إلا ضحوة الغد، وإذا النداء عليه، فأخرج فوجد السلطان مطعوناً بخنجر، فأدخل يده فنالها الفرث والدم، فخاط جراحته، ثم خرج، فرأى خصة ماء فغسل يديه وشرب، ثم لم يلبث السلطان أن توفي وسرحوا.
وتعداد أهل هذه الصفة يكثر، فلنصفح عنهم، ولنختم فصل (65) من لقيه
243
بتلمسان بذكر رجلين هما بقيد الحياة أحدهما عالم الدنيا، والآخر نادرتها.
26- أما العالم فشيخنا ومعلمنا العلامة أبو عبد الله بن محمد بن إبراهيم بن أحمد العبدري الآبلي، التلمساني (66) ، سمع جده لأمه أبا الحسين ابن غلبون المرسي (67) القاضي بتلمسان، وأخذ عن فقهائها أبي الحسين التنسي وابني الإمام، ورحل في آخر المائة السابعة فدخل مصر والشام والحجاز والعراق، ثم قفل إلى المغرب فأقام بتلمسان مدة، ثم فر أيام أبي حمو موسى بن عثمان إلى المغرب.
حدثني أنه لقي أبا العباس أحمد بن إبراهيم الخياط شقيق شيخنا أبي عثمان المتقدم ذكره، فشكا له ما يتوقعه من شر أبي حمو، فقال له: عليك بالجبل، فلم يدر ما قال، حتى تعرض له رجل من غمارة، فعرض عليه الهروب به، قال: فخفت أن يكون أبو حمو قد دسه علي، فتنكرت له، فقال لي: إنما أسير بك على الجبل، فتذكرت قول أبي إسحاق، فوطأته، وكان خلاصي على يده، قال: ولقد وجدت العطش في بعض مسيري به، حتى غلظ لساني واضطربت ركبتاي، فقال لي: أن جلست قتلتك حتى لا أفتضح بك، فكنت أقوي نفسي، فمر على بالي في تلك الحالة استسقاء عمر بالعباس، وتوسله به، فوالله ما قلت شيئاً حتى رفع لي غدير ماء، فأريته إياه، فشربنا ونهضنا.
ولما دخل المغرب أدرك أبا العباس ابن البناء، فأخذ عنه، وشافه (68) كثيراً من علمائه، قال لي: قلت لأبي الحسن الصغير: ما قولك في المهدي فقال: عالم سلطان، فقلت له: قد أبنت عن مرادي. ثم سكن جبال الموحدين، ثم رجع إلى فاس، فلما افتتحت تلمسان لقيته بها، فأخذت عنه، فقال لي الآبلي (69) :
244
كنت يوماً مع القاسم بن محمد الصنهاجي، فوردت عليه طومارة من قبل القاضي أبي الحجاج الطرطوشي فيها:
خيرات ما تحويه مبذولة ... ومطلبي تصحيف مقلوبها
فقال لي: ما مطلبه فقلت: نارنج.
دخل على الآبلي (70) وأنا عنده بتلمسان الشيخ أبو عبد الله الدباغ المالقي المتطبب فأخبرنا أن أديباً استجدى وزيراً بهذا الشطر:
ثم حبيب قلما ينصف
فأخذته فكتبته، ثم قلبته وصحفته، فإذا هو: قصبتا ملف شحمي.
ومر الدباغ يوماً علينا بفاس، فدعاه الشيخ، فلباه، فقال: حدثنا بحديث اللظافة، فقال: نعم، حدثني أبو زكريا ابن السراج الكاتب بسلجمانة أن أبا إسحاق التلمساني وصهره مالك بن المرحل، وكان ابن السراج قد لقيهما، اصطحبا في مسير، فآواهما الليل إلى مشجر، فسألا عن طالبه، فدلا، فاستضافاه، فأضافهما، فبسط قطيفة بيضاء، ثم عطف عليهما بخبز ولبن، وقال لهما. استعملا من هذه اللظافة حتى يحضر عشاؤكما، وانصرف، فتحاورا في اسم اللظافة لأي شيء هو منهما حتى ناما، فلم يرع أبا إسحاق إلا مالك يوقظه ويقول: قد وجدت اللظافة، قال: كيف قال: أبعدت في طلبها حتى وقعت بما لم يمر قط على مسمع هذا البدوي فضلاً عن أن يراه، ثم رجعت القهقرى حتى وقعت على قول النابغة:
بمخضب رخص كأن بنانه ... عنم يكاد من اللطافة يعقد
فسنح لبالي أنه وجد اللطافة، وعليها مكتوب بالخط الرقيق اللين، فجعل
245
إحدى النقطتين للطاء فصارت اللطافة اللظافة واللين اللبن وإن كان قد صحف عنم بغنم، وظن أم يعقد جبن، فقد قوي عنده الوهم، فقال أبو إسحاق: ما خرجت عن صوابه، فلما جاء سألاه، فأخبر أنها اللبن، واستشهد بالبيت كما قال مالك.
ولا تعجب من مالك فقد ورد فاساً شيخنا أبو عبد الله بن يحيى الباهلي عرف بابن المسفر (71) ، رسولاً عن صاحب بجاية، فزاره الطلبة، فكان فيما حدثهم أنهم كانوا على زمان ناصر الدين يستشكلون كلاماً وقع في تفسير سورة الفاتحة من كتاب فخر الدين، ويستشكله الشيخ معهم، وهذا نصه (72) : ثبت في بعض العلوم العقلية أن المركب مثل البسيط في الجنس، والبسيط مثل المركب في الفصل، وأن الجنس أقوى من الفصل، فرجعوا به إلى الشيخ الآبلي، فتأمله ثم قال: هذا كلام مصحف، وأصله أن المركب قبل البسيط في الحس، والبسيط قبل المركب في العقل، وأن الحس أقوى من العقل، فأخبروا ابن المسفر، فلج، فقال لهم الشيخ: التمسوا النسخ، فوجدوه في بعضها كما قال الشيخ، والله يؤتي فضله من يشاء.
قال لي الآبلي: لما نزلت تازت بت مع أبي الحسن ابن بري وأبي عبد الله الترجالي (73) ، فاحتجت إلى النوم، وكرهت قطعهما عن الكلام، فاستكشفتهما عن معنى هذا البيت للمعري:
أقول لعبد الله لما سقاؤنا ... ونحن بوادي عبد شمس وهاشم
فجعلا يفكران فيه، فنمت حتى أصبحا، ولم يجداه، فسألاني عنه، فقلت: معناه أقول لعبد الله لما وهى سقاؤنا، ونحن بوادي عبد شمس: شم لنا برقاً.
246
قلت: وفي جواز مثل هذا نظر.
سمعت الآبلي يقول: دخل قطب الدين الشيرازي والدبيران على أفضل الدين الخونجي ببلده، وقد تزيا بزي القونوية، فسأله أحدهما عن مسألة، فأجابه، فتعايا على الفهم، وقرب التقرير، فتعايا، فقال الخونجي متمثلاً:
علي نحت المعاني من معادنها ... وما علي لكم أن تفهم البقر
فقال له: ضم التاء يا مولانا، فعرفهما، فحملهما إلى بيته.
قلت: سمعت الشيخ شمس الدين الأصبهاني بخانقاه قوصون بمصر يقول: إن شيخه القطب توفي عام أحد عشر وسبعمائة، وله سبع وسبعون سنة، وهذا يضعف هذه الحكاية عندي.
سمعت الآبلي يقول: إن الخونجي ولي قضاء مصر بعد عز الدين بن عبد السلام، فقدم شاهداً كان عز الدين أخره، فعذله في ذلك، فقال: إن مولانا لم يذكر السبب الذي رفع يده من أجله، وهو الآن غير متمكن من ذكره.
سمعت الشيخ الآبلي يحدث عن قطب الدين القسطلاني أنه ظهر في المائة السابعة من المفاسد العظام ثلاث: مذهب بان سبعين، وتملك الططر للعراق، واستعمال الحشيشة.
سمعت الآبلي يقول: قال أبو المطرف ابن عميرة:
فضل الجمال على الكمال بوجهه ... فالحق لا يخفى على من وسطه
وبطرفه سقم وسحر قد أتى ... مستظهراً بهما على ما استنبطه
عجباً له برهانه بشروطه ... معه فما مقصوده بالسفسطة
قال: فأجابه أبو القاسم ابن الشاط فقال:
علم التباين في النفوس وأنها ... منها مغلطة وغير مغلطه
فئة رأت وجه الدليل وفرقة ... أصغت إلى الشبهات فهي مورطه
فأراد جمعهما معاً في ملكه ... هذي بمنتجة وذي بمغلطه
247
يعني قولهم في التام: هو ما تحمل فيه البرهان الفصل.
وأخبار الآبلي وأسمعتي منه تحتمل كتاباً، فلنقف على هذا القدر منها.
27 - وأما النادرة فأبو عبد الله [محمد] بن أحمد بن شاطر الجمحي المراكشي (74) ، صحب أبا زيد الهزميري كثيراً، وأبا عبد الله ابن تجلات، وأبا العباس ابن البناء وأضرابه من المراكشيين ومن جاورهم، ورزق بصحبة الصالحين حلاوة القبول، فلا تكاد (75) تجد من يستثقله، وربما سئل عن نفسه فيقول: ولي مفسود.
قلت له يوماً: كيف أنت فقال: محبوس في الروح؛ وقال: الليل والنهار حرسيان: أحدهما أسود، والآخر أبيض، وقد أخذا بمجامع الخلق يجرانهم إلى يوم القيامة، وإن مردنا إلى الله تعالى.
وسمعته يقول: المؤذنون يدعون أولياء الله إلى بيته لعبادته، فلا يصدهم عن دعائهم ظلمة ولا شتاء ولا طين، ويصرفونهم عن الاشتغال بما لم يبين لهم فيخرجونهم ويغلقون الأبواب دونهم.
ووجدته ذات يوم في المسجد ذاكراً، فقلت له: كيف أنت فقال: {فهم في روضة يحبرون} (الروم: 15) فهممت بالانصراف، فقال: أين تذهب من روضة من رياض الجنة يقام بها على رأسك بهذا التاج وأشار إلى المنار مملوءاً الله أكبر.
مر ابن شاطر يوماً على أبي العباس أحمد بن شعيب الكاتب (76) وهو جالس
248
في جامع الجزيرة، طهره الله تعالى، وقد ذهبت به الكفرة، فصاح به، فلما رفع رأسه إليه قال له: انظر إلى مركب عزرائيل هذا، وأشار إلى نعش هنالك، قد رفع شراعه ونودي عليه الطلوع يا غزي.
وأكل يوماً مع أبي القاسم عبد الله بن رضوان الكاتب جلجلاناً، قال له أبو القاسم: إن في هذا الجلجلان لضرباً من طعم اللوز، فقال ابن شاطر: وهل الجلجلان إلا لوزة دقة
وسئل عن العلة (77) في نضارة الحداثة، فقال: قرب عهدها بالله، فقيل له: فمم تغير الشيوخ فقال: من بعد العهد من الله، وطول الصحبة مع الشياطين، فقيل له: فبخر أفواههم (78) فقال: من كثرة ما تفل الشياطين فيها.
وكان يسمى الصغير: فأر المصطكي، قال لي ابن شاطر: لقيت عمي ميموناً المعروف بدبير لقرب موته وقد اصفر وجهه وتغيرت حالته، فقلت له: ما بالك وكان قد خدم الصالحين ورزق بذلك القبول، فقال: انسدت الزربطانة فطلع، يعني العذرة، يشير إلى الاحتقان للطبيعة.
أنشدني ابن شاطر قال: أنشدني أبو العباس ابن البناء لنفسه:
قصدت إلى الوجازة في كلامي (79)
الأبيات.
وأخبار ابن شاطر عندي تحتمل كراسة، فلنقنع منها بهذا القدر.
فصل: ولما دخلت تلمسان على بني عبد الواد تهيأ لي السفر منها، فرحلت
249
إلى بجاية، فلقيت بها أعلاماً درجوا فأمست بعدهم خلاء بلقعاً.
28- فمنهم الفقيه أبو عبد الله محمد بن يحيى الباهلي، عرف بابن المسفر (80) ، باحثته واستفدت منه، وسألني عن اسم كتاب الجوهري فقلت له: من الناس من يقول الصحاح بالكسر ومنهم من يفتح، فقال: إنما هو بالفتح بمعنى الصحيح، كما ذكره في باب صح، قلت: ويحتمل أن يكون مصدر صح كحنان.
وكتب إلى بعض أصحابه بجواب رسالة صدره بهذين البيتين:
وصلت صحيفتكم فهزت معطفي ... فكأنما أهدت كؤوس القرقف
وكأنها نيل الأمان لخائف ... أو وصل محبوب لصب مدنف
29- ومنهم قاضيها أبو عبد الله محمد ابن الشيخ أبي يوسف يعقوب الزواوي، فقيه ابن فقيه، كان يقول: من عرف ابن الحاجب اقرأ به المدونة، قال: وأنا أقرأ به المدونة.
30- ومنهم أبو علي حسين بن حسين إمام المعقولات بعد ناصر الدين.
31- ومنهم خطيبها أبو العباس أحمد بن عمران، وكان قد ورد تلمسان وأورد بها على قول ابن الحاجب في حد العلم " صفة توجب تمييزاً لا يحتمل النقيض " الخاصة إلا أن يزاد في الحد " لمن قامت به " لأنها إنما توجب فيه تميزاً لا تمييزاً، وهذا حسن.
32، - 33 - ومنهم الشيخان أبو عزيز وأبو موسى ابن فرحان، وغيرهم من أهل عصرهم.
250
34- ثم رحلت إلى تونس فلقيت بها قاضي الجماعة وفقيهها أبا عبد الله ابن عبد السلام (81) ، فحضرت تدريسه، وأكثرت مباحثته، ولما نزلت بظاهر قسمطينة تلقاني رجل من الطلبة، فسألني عن هذه الآية {وإن لم تفعل فما بلغت رسالته} (المائدة: 67) فإن ظاهرها أن الجزاء هو الشرط: أي وإن لم تبلغ فما بلغت، وذلك غير مفيد، فقلت: بل هو مفيد، أي: وإن لم تبلغ في المستقبل لم ينفعك تبليغك في الماضي، لارتباط أول الرسالة بآخرها، كالصلاة ونحوها، بدليل قصة يونس، فعبر بانتفاء ماهية التبليغ عن انتفاء المقصود منه، إذ كان إنما يطلب ولا يعتبر بدونه، كقوله عليه الصلاة والسلام " لا صلاة إلا بطهور "، ثم اجتمعت بابن عبد السلام بجامع بوقير من تونس، فسألته عن ذلك، فلم يزد على أن قال: هذا مثل قوله عليه الصلاة والسلام " فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله " وقد علمتم مل قال الشيخ تقي الدين فيه. قلت: كلام تقي الدين لا يعطي الجواب عن الآية، فتأمله.
35 - 41 - وقاضي المناكح أبا محمد الأجمي، وهو حافظ فقهائها في وقته، والفقيه أبا عبد الله ابن هارون شارح ابن الحاجب في الفقه والأصول، والخطيب أبا عبد الله ابن عبد الستار، وحضرت تدريسه بمدرسة المعرض، والعلامة أبا عبد الله ابن الجياب الكاتب، والفقيه أبا عبد الله ابن سلمة، والشيخ الصالح أبا الحسن المنتصر وارث طريقة الشيخ أبي محمد المرجاني آخر المذكورين بإفريقية، ورأيت الشيخ ابن الشيخ المرجاني، فحدثني أبو موسى ابن الإمام أنه أشبه به من الغراب بالغراب، وسيدي أبا عبد الله الزبيدي المتقدم ذكره، وأوقفني على خطأ في كتاب الصحاح، وذلك أنه زعم أن السالم جلدة ما بين العين والأنف، قال: وفيه يقول ابن عمر في ابنه سالم (82) :
251
يديرونني عن سالم وأديرهم ... وجلدة بين الأنف والعين سالم
قال: وهذا أراد عبد الملك حيث كتب إلى الحجاج " أنت مني كسالم " وهذا خطأ فاحش، وكان يلزمه أن يسميها بالعمارة أيضاً، لقوله عليه السلام " عمارة جلدة ما بين عيني وأنفي " وإنما يراد بمثل هذا القرب والتحمد (83) .
ولقيت بتونس غير واحد من العلماء والصلحاء يطول ذكرهم، ثم قفلت إلى المغرب يسايرني (84) رجل من أهل قسنطينة يعرف بمنصور الحلبي، فما لقيت رجلاً أكثر أخباراً ولا أظرف نوادر منه، فما حفظته من حديثه أن رجلاً من الأدباء مر برجل من الغرباء، وقد قام بين ستة أطفال، جعل ثلاثة عن يمينه وثلاثة عن شماله، وأخذ ينشد:
ما كنت أحسب أن أبقى كذا أبداً ... أعيش والدهر في أطرافه حتف
ساس بستة أطفال توسطهم ... شخصي كأحرف ساس وسطها ألف
قال: فتقدمت إليه وقلت: فأين تعريقة السين فقال: طالب ورب الكعبة، ثم قال للآخر من جهة يمينه: قم، فقام يجر رجله كأنه مبطول، فقال: هذا تمام تعريقة السين.
41 - 53 - ثم رحلت من تلمسان إلى المغرب، فلقيت بفاس الشيخ الفقيه الحاج أبا إسحاق إبراهيم بن عبد الله بن عبد الرحيم اليزناسي، والشيخ الفقيه أبا محمد عبد المؤمن الجاناتي، والشيخ الفقيه الصالح أبا زرهون عبد العزيز بن محمد القيرواني، والفقيه أبا الضياء مصباح بن عبد الله اليالصوني، وكان حافظ وقته، والفقيه أبا عبد الله ابن عبد الكريم، وشيخ الشيوخ أبا زيد عبد الرحمن بن عفان الجزولي، والأستاذ أبا العباس المكناسي، وكنت لقيت الأستاذ أبا العباس ابن
252
حزب الله، والأستاذ أبا عبد الله ابن القصار بتلمسان، ولقيت غير هؤلاء ممن يكثر عددهم، وكنت قد لقيت بتازى الفقيه أبا عبد الله ابن عطية، والأستاذ أبا عبد الله المجاصي، والشيخ أبا الحسين الجيار، وغيرهم (85) .
53 - 67 - ثم بلغت بالرحلة إلى أغمات، ثم وصلت إلى سبتة (86) ، فاستوعبت بلاد المغرب ولقيت بكل بلد من لا بد من لقائه من علمائه وصلحائه، ثم قفلت إلى تلمسان فأقمت بها ما شاء الله تعالى، ثم أعملت الرحلة إلى الحجاز، فلقيت بمصر (87) الأستاذ أثير الدين أبا حيان الغرناطي، فرويت عنه، واستفدت منه وشمس الدين الأصبهاني الآخر، وشمس الدين بن عدلان، وقرأ علي بعض شروحه (88) لكتب المزني، وناولني إياه، وشمس الدين بن اللبان آخر المذكورين بها، والشيخ الصالح أبا محمد المنوفي فقيه المالكية بها، وتاج الدين التبريزي الأصم، وغيرهم ممن يطول ذكرهم.
ثم حججت فلقيت بمكة (89) إمام الوقت أبا عبد الله ابن عبد الرحمن التوزري المعروف بخليل، وسألته يوم النحر حين وقف بالمشعر الحرام عن بطن محسر لأحرك فيه على الجمل، فقال لي: تمالأ الناس على ترك هذه السنة، حتى نسي بتركها محلها، والأقرب أنه هذا، وأشار إلى ما يلي الجابية التي على يسار المار من المشعر إلى منى من الطريق من أول ما يحاذيها إلى أن يأخذ صاعداً إلى منى، وما رأيت أعلم بالمناسك منه، والإمام أبا العباس ابن رضي الدين الشافعي، وغير واحد من الزائرين والمجاورين وأهل البلد.
وبالمدينة أعجوبة الدنيا أبا محمد عبد الوهاب الجبرتي وغيره.
253
ثم أخذت على الشام، فلقيت بدمشق شمس الدين بن قيم الجوزية صاحب الفقيه ابن تيمية، وصدر الدين الغماري (90) المالكي، وأبا القاسم ابن محمد اليماني الشافعي، وغيرهم، وببيت المقدس (91) الأستاذ أبا عبد الله ابن مثبت، والقاضي شمس الدين بن سالم، والفقيه المذكر أبا عبد الله ابن عثمان، وغيرهم.
ثم رجعت (92) إلى المغرب فدخلت سجلماسة ودرعة، ثم قطعت (93) إلى الأندلس فدخلت الجبل وأصطبونة ومربلة ومالقة وبلش والحامة، وانتهت بي الرحلة إلى غرناطة، وفي علم الله تعالى ما لا أعلم، وهو المسؤول أن يحملنا على الصراط الأقوم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم؛ انتهى كلام جدي رحمه الله تعالى في الجزء الذي ألفه في مشيخته، وقد لخصه لسان الدين في الإحاطة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ق: اللآل ... الامال.
(2) ترجمة ابني الإمام في التعريف: 28 والعبر 7: 100 والديباج: 152 ونيل الابتهاج: 139، 190؛ وفيه نقل عن المقري الجد (انظر ص: 140) .
(3) نيل الابتهاج: تلمسان.
(4) نيل الابتهاج: والبطرني.
(5) ص: الفارسية يعني حضرة أبي عنان فارس.
(6) نيل الابتهاج: وكانت للتقي المذكور مقالات شنيعة من حمل حديث النزول على ظاهره ... إلخ.
(7) انظر هذا في نيل الابتهاج: 245 (ترجمة الآبلي) .
(8) كذا وفي نيل الابتهاج: أخذك.
(9) نيل الابتهاج: وإن الأمر فوقهما.
(10) التصحيف: 95.
(11) ابن الحاجب: عثمان بن عمر بن يونس جمال الدين المصري (- 646) له مختصر في الفقه المالكي يعرف عادة باسم " فرعي ابن الجاجب " أو المختصر الفقهي ومختصر في أقول الفقه يسمى " أصلي ابن الحاجب " وهو مختصر كتابه منتهى السول (انظر مقدمة ابن خلدون: 1025) .
(12) النص في نيل الابتهاج: 140.
(13) هو عزيز خطاب المرسي كان أول أمره ناسكا زاهدا واستمر على هذه الطريقة حتى امتحن برياسة بلده سنة 636 فخاض في سفك الدماء واجترأ على الأموال من غير وجهها إلى أن قتل في العام نفسه (ترجمته في الذيل والتكملة 5: 144 وصلة
الصلة: 165 والتكملة رقم 1952 واختصار القدح: 126 والمغرب 2: 252 وأعمال الأعلام: 315 والحلة السيراء 2: 308) .
(14) ترجمة أبي موسى المشدالي في نيل الابتهاج: 208.
(15) هو منصور بن أحمد بن عبد الحق (- 731) (راجع ترجمته في نيل الابتهاج: 377 وعنوان الدراية: 134) .
(16) البيت للبيد، ديوانه: 288.
(17) ق: استحسانه.
(18) ص: نظرت؛ ق: وتكلمت.
(19) ق: التعجب.
(20) المحصل: 3؛ القول في التصورات وعندي ... إلخ.
(21) ق ص: عنه.
(22) هما قول أمرئ القيس:
غشيت ديار الحي بالبكرات ... فعارمة فبرقة العيرات
فغول فحليت فأكناف منعج ... إلى عاقل فالجب ذي الأمرات
(23) قد شرحنا من قبل لفظة " مري " (ج 3: 92) وأما " البطة " فهي إناء كالقارورة يعمل على شكل بطة.
(24) ق: ذكر.
(25) ترجمة المجاصي في نيل الابتهاج: 121 ونقل بعض ما قاله المقري الجد فيه.
(26) ق: حدثنا، حيث وقعت.
(27) أخبرنا أبو الفتح ... أخبرنا: سقطت من ق.
(28) وردت الأبيات في ترجمة فخر الدين في ابن أبي أصيبعة 2: 28.
(29) ابن أبي أصيبعة: وكم قد رأينا من رجال ودولة.
(30) ابن أبي أصيبعة: وكم قد رأينا من رجال ودولة.
(31) ق: حدثنا، حيثما وقعت.
(32) ابن مخمش: سقطت من ق، وفي ص: محمش.
(33) هو أحمد بن محمد بن الحسن ابن الغماز الأنصاري نزل بجاية وولي قضاءها وإقامة الصلوات بجامعها الأعظم وتوفي بتونس (693) ، انظر الغبريني: 70 - 72.
(34) لعبد الحق ترجمة مسهبة في الغبريني 32 - 36.
(35) ترجمة ابن هدية في المقبة العليا: 134 وذكر أن وفاته صدر سنة 736.
(36) سقطت هذه الترجمة من ق.
(37) ق: ومنهم القاضي.
(38) ترجمة ابن عبد النور في التعريف: 46 وجذوة الاقتباس: 190 ونيل الابتهاج: 240 وهو ندرومي أي ينسب إلى ندرومة في الشمال الغربي من تلمسان.
(39) انظر نيل الابتهاج: 228.
(40) ترجمة ابن النجار في التعريف: 47 ونيل الابتهاج: 239 وجذوة الاقتباس: 190 وسماه ابن خلدون " شيخ التعاليم " وذكر أنه كان إماما في علوم النجامة وأحكامها وما يتعلق بها.
(41) قارن بما ورد في نيل الابتهاج: 239.
(42) نيل الابتهاج: بقضية النسبة.
(43) نيل الابتهاج: الأخ.
(44) تمام هذا الرجز: " حراس أبواب على قصورها ".
(45) شروح السقط: 1626، وعمر عند: يعني قرط هند، وعمرو بن هند: أحد ملوك الحيرة كان يعرف بالعنف وتعنيت الناس. فقوله في الرجز أم العمر - بإدخال اللام - قد يعني " ذات القرط ".
(46) ق: كالعلم.
(47) عرف به ابن خلدون في التعريف: 14 وقال: كان كبير تونس لعهده في العلم والفتيا وانتحال طرق الولاية التي ورثها عن أبيه حسين وعمه حسن الوليين الشهيرين؛ وذكره ابن بطوطة في رحلته: 16 وكانت وفاته سنة 740هـ والزبيدي - بضم الزاي - نسبة إلى قرية بساحل المهدية.
(48) ولد: سقطت من ق.
(49) العثمانية: نسبة إلى عثمان بن يعقوب المريني، والعلوية: نسبة إلى علي أبي الحسن المريني.
(50) كان والده محمد بن عبد المهيمن الحضرمي أبو عبد الله كبير القدر ولي القضاء بسبتة لقرابته من رؤسائها بني العزفي سنة 683 فقام بالأحكام أجمل قيام، فلما صار بلده إلى بني نصر أواخر سنة 507 صرف إلى غرناطة هو وأقرباؤه فأقام بها مع ابنه الكاتب البارع عب المهيمن، ثم عاد إلى سبتة وتوفي سنة 712 (المرقبة العليا 132 - 133) ثم أصبح عبد المهيمن الابن كاتبا للسلطان أبي الحسن المريني وصاحب علامته وكان يعد إمام المحدثين والنحاة بالمغرب، وعنه أخذ ابن خلدون وغيره (التعريف: 20، 38 ومستودع العلامة: 50 وتاريخ ابن خلدون 7: 247 وجذوة الاقتباس: 279 ونثير الجمان لابن الأحمر والإحاطة: 315) .
(51) ق: سألني الفرق.
(52) وأنا أقول ... غيره: سقط من ص.
(53) السطي: نسبة إلى قبيلة سطة من بطون أوربة بنواحي فارس وكان أحفظ الناس لمذهب مالك وأفقههم فيه (انظر ترجمته في التعريف: 31، 38 ونيل الابتهاج: 242 وجذوة الاقتباس: 142) .
(54) ترجمة الجزولي في نيل الابتهاج: 249 وسلوة الأنفاس 3: 276.
(55) ق: المشايخ.
(56) محمد بن رشيد البغدادي مجد الدين (- 662) يعرف بالوتري لأنه نظم الوتريات وهي قصائد على حروف المعجم تتألف كل واحدة من 21 بيتا في مدح الرسول وأول كل بيت على حرف القافية. بدأ نظمها بغرناطة سنة 652 ثم زاد فيها وعدل منها، وحج سنة 661 وقد نشرت باسم " ديوان معدن الإفاضات في مدح أشرف الكائنات " (بيروت 1310) وعند حاجي خليفة (1999) " ذريعة الوصول إلى زيارة جناب الرسول ".
(57) انظر نيل الابتهاج: 251، قال التنبكتي: وأبو العباس ابن مرزوق هو والد الخطيب ابن مرزوق الجد، وأبو عبد الله المذكور عمه.
(58) في نيل الابتهاج (253) القرموني.
(59) ق: وابن.
(60) وحج ... الحج: سقطت من ق.
(61) وردت القصة في نيل الابتهاج: 253.
(62) ق: التلائسي.
(63) كذا في الأصلين، وفي النيل: ساقية.
(64) الخصة: الحوض أو الصهريج (انظر ملحق المعاجم لدوزي) .
(65) ق: ولنختم المذكورين في فصل ... إلخ.
(66) ترجمة الآبلي في التعريف: 21، 33 والدرر الكامنة 3: 288 ونيل الابتهاج: 244 وجذوة الاقتباس 144، 191 والآبلي - بمد وموحدة مكسورة - نسبة إلى آبلة (Avila) من بلاد الجوف الأندلسي أي إلى الشمال الغربي من مدريد.
(67) اسمه محمد بن غلبون.
(68) نيل الابتهاج: وسأل.
(69) انظر نيل الابتهاج: 245.
(70) قارن بما في نيل الابتهاج: 252.
(71) النص في نيل الابتهاج: 245.
(72) انظر تفسير الفخر الرازي.
(73) ق: البرجالي.
(74) ترجمة ابن شاطر في نيل الابتهاج: 248 والإحاطة، الورقة: 105 والنقل فيهما عن المقري الجد؛ وتوفي سنة 757هـ.
(75) وأضرابه ... تكاد: سقطت من ق.
(76) أحمد بن شعيب الجزنائي من أهل فاس، برع في اللسان والأدب والعلوم العقلية ونظمه السلطان أبو سعيد المريني في حلبة الكتاب وأجرى عليه الرزق مع الأطباء وهلك في الطاعون (سنة 750) ؛ نثير فرائد الجمان: 335 ونثير الجمان: 70 ونيل الابتهاج: 68 والتعريف: 48 وجذوة الاقتباس: 47 ودرة الحجال 1: 21.
(77) النص في نيل الابتهاج: 248.
(78) نيل الابتهاج: قيل ففيم نتن أفواههم
(79) تتمة البيت: لعلمي بالصواب في الاختصار ...
وقد وردت الأبيات في الإحاطة: 106.
(80) ترجمة ابن المسفر في نيل الابتهاج: 237 والديباج المذهب: 332 وكانت وفاته سنة 743.
(81) ترجمة ابن عبد السلام في نيل الابتهاج: 240 والتعريف: 19 والديباج المذهب: 336 والمرقبة العليا: 161.
(82) انظر اللسان (سلم) .
(83) ق: واللحمة.
(84) ق: ولما رحلت منها جعل يسايرني ... إلخ.
(85) ق: ممن لا يحتمل هذا المختصر تعدادهم ولا يمكن استيفاؤهم.
(86) ثم بلغت ... سبتة: سقطت من ق.
(87) ق: ثم رحلت منها إلى مصر فلقيت ... إلخ.
(88) ص: شرحه.
(89) ق: ورحلت منها إلى مكة المشرفة فلقيت ... إلخ.
(90) ق: العمادي.
(91) ق: ثم جئت بيت المقدس فلقيت.
(92) ق: قفلت.
(93) ق: جئت؛ وعند هذا الموضع بهامش ص: قف على أن الإمام المقري جد المؤلف دخل بلدنا درعة حرسها الله، مما يدل على نسبة إلى بلدة درعة بالمغرب.
دلَّت كلمة (نقد) في المعجمات العربية على تمييز الدراهم وإخراج الزائف منها ، ولذلك شبه العرب الناقد بالصيرفي ؛ فكما يستطيع الصيرفي أن يميّز الدرهم الصحيح من الزائف كذلك يستطيع الناقد أن يميز النص الجيد من الرديء. وكان قدامة بن جعفر قد عرف النقد بأنه : ( علم تخليص جيد الشعر من رديئه ) . والنقد عند العرب صناعة وعلم لابد للناقد من التمكن من أدواته ؛ ولعل أول من أشار الى ذلك ابن سلَّام الجمحي عندما قال : (وللشعر صناعة يعرف أهل العلم بها كسائر أصناف العلم والصناعات ). وقد أوضح هذا المفهوم ابن رشيق القيرواني عندما قال : ( وقد يميّز الشعر من لا يقوله كالبزّاز يميز من الثياب ما لا ينسجه والصيرفي من الدنانير مالم يسبكه ولا ضَرَبه ) . |
جاء في معجمات العربية دلالات عدة لكلمة ( عروُض ) .منها الطريق في عرض الجبل ، والناقة التي لم تروَّض ، وحاجز في الخيمة يعترض بين منزل الرجال ومنزل النساء، وقد وردت معان غير ما ذكرت في لغة هذه الكلمة ومشتقاتها . وإن أقرب التفسيرات لمصطلح (العروض) ما اعتمد قول الخليل نفسه : ( والعرُوض عروض الشعر لأن الشعر يعرض عليه ويجمع أعاريض وهو فواصل الأنصاف والعروض تؤنث والتذكير جائز ) . وقد وضع الخليل بن أحمد الفراهيدي للبيت الشعري خمسة عشر بحراً هي : (الطويل ، والبسيط ، والكامل ، والمديد ، والمضارع ، والمجتث ، والهزج ، والرجز ، والرمل ، والوافر ، والمقتضب ، والمنسرح ، والسريع ، والخفيف ، والمتقارب) . وتدارك الأخفش فيما بعد بحر (المتدارك) لتتم بذلك ستة عشر بحراً . |
الحديث في السيّر والتراجم يتناول جانباً من الأدب العربي عامراً بالحياة، نابضاً بالقوة، وإن هذا اللون من الدراسة يصل أدبنا بتاريخ الحضارة العربية، وتيارات الفكر العربية والنفسية العربية، لأنه صورة للتجربة الصادقة الحية التي أخذنا نتلمس مظاهرها المختلفة في أدبنا عامة، وإننا من خلال تناول سيّر وتراجم الأدباء والشعراء والكتّاب نحاول أن ننفذ إلى جانب من تلك التجربة الحية، ونضع مفهوماً أوسع لمهمة الأدب؛ ذلك لأن الأشخاص الذين يصلوننا بأنفسهم وتجاربهم هم الذين ينيرون أمامنا الماضي والمستقبل. |
|
|
"عادة ليلية" قد تكون المفتاح للوقاية من الخرف
|
|
|
|
|
ممتص الصدمات: طريقة عمله وأهميته وأبرز علامات تلفه
|
|
|
|
|
المجمع العلمي للقرآن الكريم يقيم جلسة حوارية لطلبة جامعة الكوفة
|
|
|