أقرأ أيضاً
التاريخ: 8-7-2016
1439
التاريخ: 18-11-2014
9321
التاريخ: 10-10-2014
2155
التاريخ: 5-05-2015
1823
|
تبدأ قصة يونس ـ عليه السلام ـ في السورة الصافات ، على هذا النحو من البداية القصصية :
{وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140) فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142) فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ.. } [الصافات : 139 - 144]
القارئ أو السامع ، يفاجأ بهذه البداية القصصية عن شخصية يونس ـ عليه السلام ـ بصفته بطلا لأقصوصة : لا يحمل القارئ أو السامع عنها أية معلومات سابقة ، عدا كون يونس واحدا من (المرسلين).
طبيعي ، إن هدفنا من هذه الدراسات الفنية عن قصص القرآن ، يظل منصبا على توضيح السمات الفنية للقصة ، من خلال التذوق الفني الخالص ، مشفوعا ـ فيما بعد ـ بتفصيلات النصوص المفسرة.
وهذا ـ كما هو واضح ـ هو المسوغ لخصيصة الفن القرآني ،… فالفن يميزه عن التعبير العلمي الصرف ، أن الاستخلاص ، والكشف ، والاستنتاج ، وتقليب الوجوه ، والاستيحاء ،… هذه الأدوات هي التي تميز النص الفني عن النص العلمي الذي يعرض الحقائق بشكل مباشر ، ومحدد ، وواضح.
والسر في ذلك ، ان القارئ أو السامع عندما يتاح له مجال أو فرص متنوعة لكشف بعض الحقائق ،… فلان لعملية الكشف هذه ، معطيات كثيرة تثري وتغني وتعمق من تجارب الإنسان ، وتجعله حيال خبرات جديدة في الحياة ، ما كانت لتتأتى لو لم يمارس الإنسان بنفسه كشف الحقائق.
ولو كان كشف الحقائق يتم في الحالات جميعا عن طريق معلومات جاهزة : مثل وجبة الأكل مثلا ، لتعطلت عمليات الذهن عن التحرك ، والإبداع ،… ولبقي الفكر سجينا في دائرة محددة لا تسمن ولا تغني.
نسوق هذه الحقائق ، ونحن حيال قصة يونس التي بدأت بمجرد التلميح إلى انه من المرسلين وإلى انه فر إلى سفينة مشحونة بالناس والأحمال ، وإلى انه قد ساقته القرعة إلى أن يكون من نصيب البحر ، فيلقى فيه دون غيره من ركاب السفينة.
والسؤال هو : لماذا فر يونس إلى السفينة؟ ثم : لماذا حدثت عملية القرعة لإلقاء أحد الأشخاص في البحر؟ ثم : لماذا كانت القرعة من نصيب يونس دون سواه من الركاب؟
هذه الأسئلة تتطلب جوابا فنيا ، قبل ان نقدم الجواب العلمي عليها ،… ما دام الفن القصصي في القرآن الكريم ، يستهدف أولا تحريك أذهاننا ، ومنح فرص الإمتاع لها ،… ثم ـ بعد ذلك ـ يحيلنا القرآن الكريم إلى النصوص المفسرة ، الواردة عن طريق أهل البيت عليهم السلام ، حتى نقف على حقيقة الأمر في نهاية المطاف ، وحتى لا نفسر برأينا نصوصا اعجازية خالدة تحمل عدة وجوه ، خص الله بها ، وبمعرفتها : العترة الطاهرة عليهم السلام.
للمرة الجديدة : نواجه عرضا قصصيا بالغ المدى في الإمتاع ،… وفي التشويق لمعرفة التفصيلات ، والأسباب التي جعلت يونس يفر إلى السفينة ، وجعلته من نصيب القرعة التي تلقي به إلى أعماق البحر.
ما عسى ان يستخلص القارئ أو السامع من لجوء يونس إلى السفينة؟؟ فيونس ـ عليه السلام ـ من (المرسلين). وكونه من (المرسلين) ، كاف بأن يعرفنا حجم شخصيته الكبيرة ، وإلى انها من الشخصيات التي اصطفتها السماء لإبلاغ رسالتها إلى الآدميين.
ومن هنا [من الزاوية الفنية الخالصة] ، فان القصة عندما استهلت العرض القصصي بتعريف يونس بانه من المرسلين ، انما وضعت في أذهاننا مفتاحا لفك بعض الأسرار التي تستغلق في أذهاننا : نتيجة للغموض الفني المحبب الذي يواجهنا عن أحداث ومواقف لا نعرف عنها شيئا ، مثل : هروب أحد المرسلين إلى السفينة ، وإجراء قرعة يقوم بها ركاب السفينة لإلقاء أحدهم في البحر ،… ثم ، وقوع القرعة على يونس بالذات.
إذن : تعريف يونس ـ عليه السلام ـ بانه من (المرسلين) يحمل سمة فنية هي : عطاؤنا مفتاحا لفك بعض المغاليق التي واكبت عرض الاحداث في القصة.
ولعل أول ما ينتبه السامع إليه هو : ان (يونس) ما دام من (المرسلين) ، فلابد ان يكون هروبه إلى إحدى السفن ، عائدا إلى واحد من الأسباب التالية :
1 ـ ان لدى يونس مهمة خلافية ، اجتماعية ، إصلاحية الخ… ، جعلته يتوجه إلى السفينة.
غير ان هذا السبب ، لا يحمل القارئ أو السامع على قناعة تامة ، ما دام اللجوء إلى السفينة قد اقترن بوقوع يونس في البحر ، مما يتنافى مع تحقيق المهمة الإصلاحية التي يستهدفها مثلا.
2 ـ الاستيحاء أو الاستخلاص الآخر الذي يمكن أن يتجه السامع أو القارئ إليه ، هو : ان يونس قد فر… ، قد هرب من قومه ، واتجه إلى السفينة ، بسبب من يأسه مثلا من الإصلاح ، أو غضب عليهم : كما غضب نوح مثلا على قومه ذات يوم ، أو سائر الأنبياء والمرسلين… أو انه ـ وهذا استخلاص ثالث ـ لم يرد أن يواجه قومه لبعض الأسباب التي نجهلها.
وهذا الاستخلاص الثالث [من الوجهة الفنية] اقرب من سواه دون أدنى شك. بيد ان الأمر لا يزال ملفعا بالغموض.
لكن : مع ذلك ، فإنه يضع المفتاح في اليد ، أو على الأقل : يلقي بعض الإضاءة التي تسمح فيما بعد بمعرفة التفصيلات التي تذكرها نصوص التفسير.
والمهم ، نحن الآن في صدد توضيح سمة فنية واحدة هي : أهمية التعريف الذي بدأت القصة به ،… إلا وهو : التعريف القائل بان يونس من المرسلين.
وما دمنا نعرف انه كذلك ،… فحينئذ تبدأ القضية بشيء من الوضوح الذي سيواكب التفصيلات ، على نحو ما سنحدده الآن.
إن أول حادثة بدأتها القصة هي : ان يونس أبق إلى الفلك المشحون ، أي : هرب إلى سفينة مشحونة بالركاب والأحمال.
وما دام السامع أو القارئ متوقعا ـ كما قلنا ـ أن هروب يونس إنما كان بسبب من يأسه من إصلاح القوم أو لأسباب محرجة تمنعه من المواجهة ، فان لجوءه إلى السفينة ، يعني : هروبه من القوم والاتجاه نحو تخوم مجهولة ، تبدأ نصوص التفسير بتوضيحها.
ولكن : قبل التوجه إلى نصوص التفسير ، فإن نصوص القرآن نفسه تتكفل بتوضيح بعض الدلالات.. وهذا سر آخر من أسرار أو سمات الفن القصصي في القرآن الكريم… حيث تلقي قصة مسرودة في سورة معينة ، إنارة على قصة مسرودة في سورة أخرى.
وهذا ما نلحظه في سورة (يونس) التي تحدثنا عنها في دراسات سابقة ، حيث ورد فيها ما يلي :
{فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} [يونس : 98]
هذه الشريحة القصصية تلقي بعض الإنارة على الموقف ، فيما تعني أن قوم يونس اتجهوا نحو الدعاء إلى الله فكشف العذاب عنهم.
فإذا أضفنا إلى ذلك : ان قصص يونس التي عرضت في مواقع شتى من القرآن ، قد أشارت إلى انه ذهب (مغاضبا) لقومه ، حينئذ نستخلص من مجموع القصص : ان يونس دعا على القوم ، وان القوم دعوا إلى الله ، وإلى ان الدعوتين قد استجيبتا : لكن وفق تفصيلات ، تتطلب وقوفا مليا عندها : كما سنرى.
تقول النصوص المفسرة ، ان يونس ـ عليه السلام ـ دعا الله إلى إنزال العذاب على قومه ، بعد ان يئس من إصلاحهم سنين كثيرة.
وتضيف هذه النصوص : ان رجلا عالما من أصحابه أشار إلى قوم يونس بالتضرع إلى الله : حتى يكشف عنهم العذاب ، بعد أن وعدت السماء فعلا ، يونس بإجابة دعائه. وعندما كشف العذاب عن قوم يونس : كان يونس فترتئذ ، أو قبلها قد غادرهم مغاضبا لهم بسبب من مواقفهم ، واتجه إلى البحر ، بعيدا عن العذاب الذي توقعه لقومه.
ويلاحظ : أن القصة لم تعرض لهجرة يونس [من حيث خلفياتها التي عرضت لها قصص أخرى من القرآن] ، بل بدأت القصة من حادثة الهجرة أو الرحلة نحو البحر.
وكانت الحادثة الأولى التي بدأت القصة بها هي : أن يونس ، قد هرب إلى سفينة مشحونة بالركاب وبالأحمال {إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ } [الصافات : 140]
والسؤال هو :
ما هي السمة الفنية التي سوغت بأن تعرض بيئة البحر ، والسفينة. ثم : رسم السفينة
وهي مشحونة بالركاب وبالأحمال مثلا ؟
إن الأجزاء الأخرى من القصة تقدم الإجابة على السؤال المذكور ، تقول القصة :
{فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ} [الصافات : 141]
وهذا يعني ان هناك صلة بين المساهمة [وهي : القرعة] وبين وجود ركاب ، ووجود بضائع مشحونة في السفينة ، تتطلب قرعة معينة : نظرا لحدوث طارئ أو حادث يهدد السفينة.
لكن السؤال يثار أيضا : ما صلة (القرعة) بالحادث الذي يهدد السفينة؟ ثم : يثار سؤال ثالث لماذا كانت القرعة من نصيب يونس؟
هذه الأسئلة الثلاثة ، تقترن الإجابة عنها بأكثر من دهشة ، وإثارة ، وتطلع ، وتشوق : لمعرفة ظواهر ملفعة بضباب فني ممتع.
بالنسبة إلى بيئة السفينة ، والبحر ،… فإن يونس ما دام في صدد رحلة بعيدة عن العذاب المتوقع نزوله على القوم ، يظل أمرا مألوفا دام البحر والسفينة يقترنان بعملية السفر. ومع ان بعض النصوص المفسرة ، تذهب إلى ان السماء ضيقت الطريق على يونس حتى لجأ إلى البحر ، إلا ان هناك نصوصا أخرى ، تذهب : إلى انه اتجه قاصدا بحر (أيلة).
ولكن ، في الحالتين ، فإن ركوب البحر يقترن ـ طبيعيا ـ مع العزم على رحلة ما مما يشكل ـ في منطق الفن ـ بيئة قصصية لا مناص من رسمها.
وأما رسم السفينة [وهي مشحونة بالركاب والبضائع] فبالرغم من انها تعد أمرا مألوفا بالنسبة لأية سفينة تعتزم الاقلاع من مرفأها ، إلا ان هذا بمفرده لا يشكل ضرورة كبيرة [من وجهه نظر الفن] ما لم يقترن بدلالات أخرى في هذا الصدد… على الأخص ، حينما ندرك بان القصة القرآنية العظيمة [وهي تتميز بالاقتصاد اللغوي ، وباختزال التفصيلات التي لا قوام لها في الهيكل القصصي] ، لا ترسم أدنى تفصيل ما لم يساهم هذا التفصيل في البناء العضوي للقصة ، بحيث ينطوي على دلالة معينة.
إذن : لماذا رسمت السفينة وهي مشحونة بالركاب والبضائع {إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} [الصافات : 140] : وموضع الشاهد هنا هو كلمة (المشحون).
ان هذا الرسم له صلة بحادثة (القرعة) التي سنتحدث عنها بعد قليل.
ولكن : لماذا جاءت حادثة (القرعة) أيضا؟؟
النصوص المفسرة ، تقدم الإجابة على الأسئلة المتقدمة بوضوح.
تقول هذه النصوص ، أن خللا ما ، حدث في السفينة ، أو : أن حوتا اعترضها خلال رحلتها في البحر ، أو انهم اشرفوا على الغرق بسبب أوب آخر.
والمهم ، ان خطرا داهم السفينة. وان مثل هذا الخطر لابد أن يولد لدى ركابها ردود فعل حاسمة…. هنا ، تذكر النصوص المفسرة دلالة فكرية قد ألمح النص القرآني إليها بإجمال ، حينما عرض إلى (القرع)… والدلالة هي : ان ملاحي السفينة وركابها كانت لديهم : تجربة أو قناعة خاصة بان السفينة حينما يداهمها أحد الاخطار ، فهذا يعني ان شخصا (مطلوبا) من بينهم هو المستهدف من ذلك.
وقد أدرك يونس ـ عليه السلام ـ أن شخصيته هي المستهدفة فعلا ، أو : ان هناك مجموعة تقارعوا فيما بينهم [وهذا ما يأتلف مع ظاهر النص القرآني في قوله تعالى (فساهم) أي : تقارع ، فكانت القرعة تتجه إلى يونس : وعندها ألقي في البحر.
إذن : تعرض السفينة لخطر مداهم [بما فيها من ركاب وبضائع] مصحوبا بردود الفعل التي قادتهم إلى (القرع) تخلصا من الخطر… كل ذلك يشكل تفسيرا فنيا لأن ترسم السفينة وهي (مشحونة) ، ما دام الخطر يداهم أشخاصا وبضائع ، يتطلب حرصا على أرواحهم وممتلكاتهم.
وهذا كله فيما يتصل بالموقع الهندسي من بناء القصة لرسم السفينة وهي مشحونة بالركاب والبضائع.
ولكن السؤال الجديد هو : لماذا كان يونس هو المستهدف وراء العملية المذكورة؟
إن القصة القرآنية تستهدف من عرضها للقصة المذكورة جملة من الدلالات ، يتوقع القارئ أو السامع : استخلاص بعضها بوضوح منها قضية الاختبار أو الامتحان الذي تجريه حتى على المرسلين ، ومنهم يونس عليه السلام.
فيونس عندما ذهب مغاضبا لقومه نحو البحر ، لم يكن ليؤذن له بعد.
وكانت السماء قد أجابت دعوته ـ وفقا للنصوص المفسرة ـ في إنزال العذاب. غير أن طلائع العذاب ما أن بدأت فعلا ، حتى كان قوم يونس قد تداركهم أحد الحكماء ، مشيرا إليهم بالتوبة ، ورفع الأيدي بالدعاء لدفع العذاب. وقد استجيبت دعوتهم فعلا.
والمهم ، أن ذهابه مغاضبا لقومه : سواء أكان ذلك لمجرد الدعاء عليهم ،… أو لمغادرته من غير أن يؤذن له ، أو لأسباب أخرى تذكرها بعض نصوص التفسير : من نحو خشيته أن يكذبه القوم في نزول العذاب… وأيا كان السبب ، فإن تركه ـ عليه السلام ـ لممارسة (مندوبة) ـ كما التفت إلى ذلك احد المفسرين ـ : فيما نوافقه على ان اللوم قد يوجه لمن ترك فعلا مستحبا ، ومنه : الرحلة من قبلة أو يؤذن ليونس… حينئذ ، فإن الاختبار يأخذ مساره في هذا الصدد ، بغية حملنا ـ نحن القراء أو السامعين ـ على الإفادة من الدلالات التي تفرزها القصة حتى في نطاق ما أوردته النصوص المفسرة ، أو بعض ظواهر القرآن التي تشير ـ بمجموعها ـ إلى ان (الدعاء) يرد القضاء وقد أبرم إبراما ، وإلى ان تحمل الشدائد حيال المتمردين عبر الاضطلاع بالخلافة في الأرض ، ومهماتهم الإصلاحية ، ينبغي أن تظل في الصدارة من السلوك.
أولئك جميعا تشكل بعض الدلالات التي يمكن ان نفيدها من القصة في ضوء عملية (الاختبار) التي سنواصل تفصيلاتها المتصلة برحلة يونس عليه السلام.
لا تزال قصة يونس تلفها بيئة البحر : منذ اللحظة التي توجه فيها إلى الساحل ،… ثم إلى ركوب السفينة…. ثم للخطر الذي داهم السفينة.. ثم إلى الاقتراع الذي قاده إلى أن يواجه بيئة جديدة كل الجدة : هي البحر نفسه ، عندما واجه خيارا ويحدا هو : إلقاؤه في البحر.
إلى هنا ، فإن الاحداث تبدو وكأنها عادية ، لولا ان (القرعة) نفسها تنطوي على دلالة في غاية الأهمية تتصل بشخصية يونس وتعرضه لازمة اختبار تجريه السماء على شخصيته.
ومع ان النصوص المفسرة تتراوح بين الذهاب إلى ان يونس استسلم لإرادة السماء ، بان القى هو نفسه في البحر بعد وقوع (القرع) ، أو ان المقارعين هم الذين ألقوه في البحر…
ففي الحالين فإن حدثا رهيبا ، مثيرا ، مدهشا : سيواجه يونس وهو في غمرة الوقوع في أمواج البحر الرهيبة…
فنحن الآن حيال بيئة جديدة كل الجدة ، بيئة البحر التي لا ينفع معها ـ في نطاق الظروف العادية ـ أي تكيف ،… بل يظل الأمر منحصرا في ممارسة واحدة ، هي : الاستسلام لامواج البحر ، تتلقف الغريق ، وتطويه في أعماق البحر ،… وينتهي كل شيء.
بيد ان حدثا مفاجئا ظهر في غمار هذه المشاعر التي لفها : اختبار السماء.
فالنصوص المفسرة ، تسرد لنا أن (حوتا) كان ينتظر السفينة ، على مقربة منها ،… حتى ان يونس فزع منه [وكان يونس قدام السفينة] ، فاتجه إلى مؤخرتها ،… لكن الحوت دار إلى يونس ، وفتح فاه ، فالتقمه.
إلى هنا ، فإن مشاعر يونس ـ في غمرة التقام الحوت له ـ تظل [كما عبرت القصة عنه] {فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ} [الصافات : 142] قد لفها اللوم بما مارسته.
بيد ان ذلك كله ، يظل من خلال مشاعر يونس ذاته.
ولكن : ما هي استجابة القارئ أو السامع وهو يواجه : عرضا لأغرب حادثة ،… حادثة شخص يبتلعه الحوت.
ترى : ما هو حجم هذا الحوت الذي يبتلع كائنا آدميا؟؟ ثم : هل ازدرده الحوت ، بحيث أصبح يونس طعاما ، وانتهى كل شيء؟؟ … ذلك ، ما ستجيب عليه ، الأحداث اللاحقة من القصة.
القسم الجديد من القصة ، يعرض لنا ما يلي :
{فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الصافات : 143 ، 144]
ان القارئ أو السامع [وهو منبهر تلفه الدهشة ، والتطلع إلى معرفة المصير الحاسم ليونس : وقد ازدرده الحوت] ، سرعان ما تجيبه القصة على أسئلته ،… ولكن توقعه في دهشة أشد : تنقله من دهشة إلى دهشة اشد. فالقارئ بعد أن كان مبهورا لا يعرف مصيرا ليونس ،… إذا به يواجه عرضا لبيئة جديدة لم يألفها على الإطلاق ـ في نطاق الظروف العادية ـ. هذه البيئة هي [ليست بيئة البحر] بل (بيئة) حيوانات البحر : بيئة (أعماق) الحوت ،… بيئة بطن الحوت ، فيما جعلته السماء يتكيف معها ،… ولكن بأية حالة من التكيف؟؟
هذا ما يجهله القارئ تماما.
لكن الذي لا يجهله هو : ان يونس كان (يسبح) في بطن الحوت. ولأنه كان يمارس عملية (التسبيح) ، فإن السماء لم تتركه إلى يوم القيامة في بطن الحوت {فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} . بل تركته إلى حين.
وهنا يثار السؤال من جديد ، وتغمر الدهشة والانبهار قارئ القصة وسامعها. انه يتساءل : ما هي مدة اللبث؟ ما هو زاد يونس؟ كيف يمارس العبادة؟
ثم : يقف قارئ القصة على دلالة فكرية هي : (التسبيح). وسيستنتج لا محالة ـ أن للتسبيح أهمية كبيرة في تغيير مجرى الاحداث.
ألم يكن الدعاء [قبل حادثة يونس في بطن الحوت] ، عاملا حاسما في تغيير مجرى الاحداث أيضا؟ وذلك عندما توجه قوم يونس بالدعاء إلى الله سبحانه برفع العذاب عنهم ، حيث رفع العذاب فعلا ، نتيجة لأهمية الدعاء؟؟
لا شك ، أنز القصة عبر هذه الطريقة الفنية غير المباشرة ، قد أوحت لقارئ القصة وسامعها ، بأهمية (الدعاء) وبأهمية (التسبيح) وبأهمية ذكر الله بحيث ان الصواعق تصيب المؤمن وغير المؤمن ، ولكنها لا تصيب (الذاكر) لله سبحانه وتعالى؟؟
وللمرة الجديدة : كم لعملية (التسبيح) و(الذكر) و(الدعاء) من أهمية خطيرة ، ألفتت القصة انتباهنا إليه ، حينما قالت لنا :
ان يونس لو لم يكن من المسبحين ، للبث في بطن الحوت إلي يوم يبعثون.
والآن : لنتجه إلى نصوص التفسير ، لملاحظة الأضواء التي تلقيها علينا في البيئة الجديدة التي يحياها يونس : وهو في بطن الحوت.
تقول بعض النصوص : ان الله سبحانه وتعالى أوحى إلى الحوت بما يلي : (اني لم أجعل عبدي رزقا لك. ولكني جعلت بطنك مسجدا له . فلا تكسرن له عظما. ولا تخدشن له جلدا).
والنصوص القرآنية الأخرى ، تلقي انارة على هذا الجانب أيضاع حينما تنقل لنا فقرات من دعائه : { فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء : 87] هذا ، إلى ان النصوص المفسرة ، تعرض لنا رحلة يونس في بطن الحوت ،… وإلى انه طاف بيونس ، البحار ، السبعة ، وإلى انه مكث أياما… حتى انتهى به المطاف إلى ان قذف إلى الساحل ،… إلى الأرض على هذا النحو الذي يسرده القسم الجديد من القصة :
{فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (145) وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ} [الصافات : 145 ، 146]
وها نحن ، بعد أن عرضت لنا القصة جملة من البيئات التي اكتنفت يونس : بدء بالسفينة ، مرورا بالبحر ، فبطن الحوت ، وانتهاء بالعودة إلى الأرض.
ها نحن بعد أن نواجه سلسلة من العرض القصصي المدهش ، في بيئات متنوعة ،… وفي رحلات منظمة : تبدأ من الأرض ، وتعود إلى الأرض…. تبدأ من الأرض ، وتطوف في البحار [في بطن الحوت] ، وتخرج من بطن الحوت : لتعود إلى الأرض من جديد.
ها نحن ، بعد ان نواجه هذه السلسلة من الرحلات المدهشة ـ بما واكبها من دلالات فكرية لحظناها خلال ذلك ـ نعود مع الرحلة إلى الأرض. ولكن في بيئة جديدة أيضا … في بيئة مدهشة ، معجزة أيضا … بيئة العود إلى الأرض بنحو يختلف تماما عن بيئة الرحلة ، من الأرض إلى البحر… بيئة الهروب من القوم ، إلى بيئة العودة إلى القوم… الهروب مغاضبا ، والعودة بنحو آخر… بيئة الذهاب في أطره الاعتيادية ، والعودة في أطر أخرى { فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (145) وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (146) وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147) فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} [الصافات : 145 - 148]
ولكن ما هي تفصيلات هذه البيئة الجديدة ، ودلالاتها الفكرية ؟
ذلك ما نبدأ بتوضيحه .
بعد الرحلة الاعجازية التي قطعها يونس ـ عليه السلام ـ في بطن الحوت ، ألهمت السماء الحوت بأن تطرحه بالمكان المقفر من وجه الأرض.
وقد ألقي في الأرض وهو (سقيم) كما وصفته القصة.
وبعض النصوص المفسرة تقول : أنه ، قد ذهب جلده ولحمه ، مع ان بعض النصوص ذهبت إلى القول بان السماء أوحت للحوت بأن لا يمسه بأذى.
ويلاحظ [من حيث السمة الفنية] أن الاعجاز الذي غلف يونس في حياته داخل أعماق الحوت ، لم يعف السمات الجسدية من خضوعها للمؤثرات الطبيعية : مثل ذهاب الجلد واللحم ، أو خروجه ـ كما تذهب بعض النصوص المفسرة ـ بنحو يدفعه إلى ان يستظل بالشجر مثلا…
وفعلا : فإن القصة تعرض هذا الجانب حين تصف بيئة الأرض التي ألقي فيها يونس ، بقولها : {وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ} [الصافات : 146] , حيث كان يستظل بورقها ، ويمتصها.
وحيال مثل هذه البيئة ، يواجه السامع أو القارئ ، سؤال يحوم على الدلالة الفنية : لخروج يونس (مريضا) ، ثم : إنبات شجرة اليقطين عليه : مع ان لبثه أياما في بطن الحوت ، ملفع بالإعجاز ، كما ان إنبات الشجر عليه ، ملفع بالإعجاز أيضا.
مضافا لذلك : هناك سمة فنية أخرى تستدعي التأمل أيضا ، وهي : ان النص سكت عن التفصيلات التي أنهت حياته في ظل شجرة اليقطين : عندما أرسل إلى مائة ألف أو يزيدون.
مثل هذه الأسئلة الفنية يطرحها السامع أو القارئ ، منتظرا الإجابة عليها دون أدنى شك : ما دمنا نقر بان لكل رسم من القصة دلالة فكرية.
في تصورنا الفني الصرف ، ان كلا من (الاعجاز) و(الاختبار) يتراوحان رسم البيئة القصصية في هذا الصدد.
فالقصة في الآن الذي تبرز ظاهرة (الاعجاز) تبرز ظاهرة (الاختبار) أو (الامتحان) أيضا ، ما دام هدف القصة حائما على طرح الدلالات المتصلة بهذا الجانب.
إن يونس ـ عليه السلام ـ ذهب مغاضبا قبل أن يؤذن له. وهذا ما يسوغ إجراء الاختبار أو الامتحان عليه.
ويونس ـ في الآن ذاته من (المرسلين). والمرسلون محفوفون بعناية خاصة من السماء ، نظرا لإخلاصهم في الممارسة العبادية ، مما يستتلي التعامل معهم وفق ظواهر (إعجازية) لا تتاح للعاديين من الناس.
لا عجب ـ حينئذ ـ لو لحظنا إلى جانب ما هو (معجز) مثل اللبث في بطن الحوت دون أن يفارق الحياة مثلا ، ودون ان يتناول المعتاد من الغذاء ، إلى جانب إنبات شجرة اليقطين عليه في بيئة الأرض…. لا عجب لو لحظنا إلى جانب ما هو (معجز) مثل ما تقدم ، ما هو (اختبار) أيضا ، مثل : خروجه مريضا ، واحتياجه إلى ما يستظل به ويتغذى منه. وفي بعض النصوص المفسرة ، أن شجرة اليقطين يبست فيما بعد مما احزنه كثيرا…
والمهم ، ان أمثلة هذا (الاختبار) تزامن مع العمليات (الاعجازية) أيضا : للسبب الذي أوضحناه توا.
وتنتهي قصة يونس بإرساله بعد العودة إلى بيئة الأرض ، { إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147) فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} [الصافات : 147 ، 148]
والملاحظ : أن هذه القصة بدأت برحلة يونس ، دون ان يسبقها عرض لتعامل يونس مع قومه : فيما شكل التعامل مع القوم سببا لرحلته نحو البحر ، لكن القصة ـ مع ذلك ـ لم تتعرض لحادثة يونس مع قومه.
وأما في سورة سابقة هي الأنبياء فان القصة لم تذكر إلا موقف (المغاضبة) {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء : 87] ،… والأمر كذلك في سورة القلم : (إذ نادى وهو مكظوم…).
وأما في سورة يونس ، فانها تكفلت بعرض حادثة التوبة فيما يتصل بقوم يونس ، دون ان تعرض لشخصية يونس.
ويعنينا من ذلك كله ، أن نشير إلى ان القصة (في سورة يونس) كانت في صدد تبيين فاعلية الدعاء ، وليست في صدد نمط رد الفعل عند يونس.
وأما في النصوص القصصية التي تعرضت لرد فعل يونس فحسب ، ونعني به (المغاضبة) ، فانها أيضا في صدد تناول شخصية يونس لا في صدد فاعلية الدعاء ، بالرغم من ان أهمية الدعاء ، نستكشفها ـ بنحو غير مباشر ـ حتى في هذه القصة التي نحن في صددها ، ما دام النص القصصي نفسه يربط بين (تسبيح) يونس ، وبين انقاذه من الحوت.
وأيا كان الأمر ، فان اجتياز يونس لمرحلة الاختبار الذي تعرض له ، قد قرنه النص القصصي مع إرساله إلى مائة ألف أو يزيدون.
وبعض النصوص المفسرة تراوح بين الذهاب إلى انه أرسل إلى نفس قومه الأولين ، وبين الذهاب إلى انه أرسل إلى قوم جدد.
وأيا كان الصواب ، فإن مجرد إرساله جديدا يحمل دلالة ذات أهمية كبيرة ، تتمثل في أن خضوع بعض المرسلين لعمليات الاختبار لا يعني عدم عصمتهم ، أو صدور مفارقة منهم ، بقدر ما يعني ترك ما هو حسن ومندوب إليه في ضوء غضبهم لله تعالى فحسب ، مما يستدعي مجرد اللوم.
وبعامة ، فإن القصة من حيث بناؤها الهندسي ، (بدأت) مع شخصية يونس (هاربا) من قومه ، و(انتهت) مع شخصيته (عائدا) إلى قومه.
في المرة الأولى ، هرب منهم غاضبا… وفي العودة : اتجه نحوهم مبلغا… ذهب عنهم بوجه ، وعاد إليهم بوجه آخر…
وفي ضوء هذا التناسق الهندسي بين الذهاب والعودة ، قطع يونس رحلة اختبارية خرج منها بمحصل جديد : بعد ان تعرض للأهوال التالية : غربة السفر ، مفاجأة (القرعة) الهادفة إلى القائه في البحر ، فزعه من الحوت الذي لاحقه من مقدم السفينة إلى مؤخرها ، وقوعه في أعماق الحوت ، لبثه أياما ساقته إلى المرض ، نبذه بالعراء ، تسر بله واقتياته النبات.
لكن الرحلة لم تمتد طويلا ، ربما كانت ثلاثة أيام أو أسبوعا ، وحسب بعض النصوص المفسرة ، ان الرحلة ذهابا وعودة ، برا وبحرا ، منذ بدء الهروب من القوم وحتى العود إلى القوم كانت أربعة أسابيع… تم خلالها تفجير أكثر من حدث ، وموقف ، ومفاجأة : سواء أكان متصلا بشخصية يونس التي عادت بتركيبة جديدة فيما يتصل بنمط الأداء الرسالي ، أم كان متصلا بالقوم الذين أوشك العذاب أن يستأصلهم لولا ان تداركهم أحد الحكماء واقترح عليهم بالإلحاح في الدعاء ، فيما تحقق ذلك فعلا…
وعندها… سواء أرجع يونس إلى قومه بأعيانهم ، أو إلى قوم جدد ،… فإن الدعاء أنقذهم من العاب ، وآمنهم إلى حين.
|
|
5 علامات تحذيرية قد تدل على "مشكل خطير" في الكبد
|
|
|
|
|
اللجنتان العلمية والتحضيرية تناقش ملخصات الأبحاث المقدمة لمؤتمر العميد العالمي السابع
|
|
|