أقرأ أيضاً
التاريخ: 3-10-2020
7519
التاريخ: 7-10-2020
4688
التاريخ: 7-10-2020
4782
التاريخ: 5-10-2020
4988
|
قال تعالى : {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (14) وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُو مُضِلٌّ مُبِينٌ (15) قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُو الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16) قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ (17) فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (18) فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُو عَدُو لَهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ} [القصص : 14 - 19] .
تفسير مجمع البيان
- ذكر الطبرسي في تفسير هذه الآيات (1) :
{ولما بلغ أشده} أي : ثلاثا وثلاثين سنة {واستوى} أي بلغ أربعين سنة عن مجاهد وقتادة وابن عباس {آتيناه حكما وعلما} أي فقها وعلما وعقلا بدينه ودين آبائه فعلم موسى وحكم قبل أن يبعث نبيا وقيل نبوة وعلما عن السدي {وكذلك نجزي المحسنين} وهذه الآية مفسرة في سورة يوسف {ودخل المدينة} يريد مصر وقيل مدينة منف من أرض مصر وقيل على فرسخين من أرض مصر {على حين غفلة من أهلها} أراد به نصف النهار والناس قائلون عن سعيد بن جبير وقيل ما بين المغرب والعشاء الآخرة عن ابن عباس وقيل كان يوم عيد لهم وقد اشتغلوا بلعبهم عن الحسن .
وقيل : اختلفوا في سبب دخوله المدينة في هذا الوقت على أقوال ( أحدها ) أنه كان موسى حين كبر يركب في مواكب فرعون فلما جاء ذات يوم قيل له إن فرعون قد ركب فركب في أثره فلما كان وقت القائلة دخل المدينة ليقيل عن السدي ( والثاني ) أن بني إسرائيل كانوا يجتمعون إلى موسى ويسمعون كلامه ولما بلغ أشده خالف قوم فرعون فاشتهر ذلك منه وأخافوه فكان لا يدخل مصر إلا خائفا فدخلها على حين غفلة عن ابن إسحاق ( والثالث ) أن فرعون أمر بإخراجه من البلد فلم يدخل إلا الآن عن ابن زيد .
{فوجد فيها رجلين يقتتلان} أي يختصمان في الدين عن الجبائي وقيل في أمر الدنيا {هذا من شيعته وهذا من عدوه} أي أحدهما إسرائيلي والآخر قبطي يسخر الإسرائيلي ليحمل حطبا إلى مطبخ فرعون وقيل كان أحدهما مسلما والآخر كافرا عن محمد بن إسحاق {فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه} أي استنصره لينصره عليه وروى أبو بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال ليهنكم الاسم قال قلت وما الاسم قال الشيعة قال أ ما سمعت الله سبحانه يقول فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه .
{فوكزه موسى} أي دفع في صدره بجمع كفه عن مجاهد وقيل ضربه بعصاه عن قتادة {فقضى عليه} أي فقتله وفرغ من أمره {قال هذا من عمل الشيطان} أي بسببه حتى هيج غضبي فضربته فهومن إغرائه قال الحسن لم يكن يحل قتل الكافر يومئذ لأن الحال كانت حال الكف عن القتال وقيل معناه أن الأمر الذي وقع القتل بسببه من عمل الشيطان أي حصل بوسوسة الشيطان وذكر المرتضى قدس الله روحه فيه وجهين آخرين ( أحدهما ) أنه أراد أن تزيين قتلي له وتركي لما ندبت إليه من تأخيره وتفويتي ما استحقه عليه من الثواب من عمل الشيطان ( والآخر ) أنه يريد أن عمل المقتول من عمل الشيطان يبين بذلك أنه مخالف لله تعالى مستحق للقتل .
ثم وصف الشيطان فقال {إنه عدو} لبني آدم {مضل مبين} ظاهر العداوة والإضلال ( سؤال ) قالوا إن هذا القتل لا يخلو من أن يكون مستحقا أو غير مستحق فإن كان غير مستحق فالأنبياء (عليهم السلام) لا يجوز عليهم ذلك عندكم لا قبل النبوة ولا بعدها وإن كان مستحقا فلا معنى لندمه عليه واستغفاره منه ( والجواب} أن القتل إنما وقع على سبيل تخليص المؤمن من يد من أراد ظلمه والبغي عليه ودفع مكروهه عنه ولم يكن مقصودا في نفسه وكل ألم وقع على هذا الوجه فهو حسن غير قبيح سواء كان القاتل مدافعا عن نفسه أوعن غيره وسنذكر الوجه في استغفاره منه وندمه عليه .
ثم حكى سبحانه أن موسى (عليه السلام) حين قتل القبطي ندم على ذلك {وقال رب إني ظلمت نفسي} في هذا القتل فإنهم لو علموا بذلك لقتلوني وقال المرتضى قدس الله روحه العزيز إنما قاله على سبيل الانقطاع والرجوع إلى الله تعالى والاعتراف بالتقصير عن أداء حقوق نعمه أومن حيث حرم نفسه الثواب المستحق بفعل الندب {فاغفر لي} معناه قول آدم (عليه السلام) ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين وقبول الاستغفار والتوبة قد يسمى غفرانا {فغفر له إنه هو الغفور} لعباده {الرحيم} بهم المنعم عليهم {قال} موسى {رب بما أنعمت علي} أي بنعمتك علي من المغفرة وصرف بلاء الأعداء عني .
{فلن أكون ظهيرا للمجرمين} المعنى فلك علي ألا أكون مظاهرا ومعينا للمشركين عن ابن عباس وفي هذا دلالة على أن مظاهرة المجرمين جرم ومعصية ومظاهرة المؤمنين طاعة وإنما ظاهر موسى (عليه السلام) من كان ظاهره الإيمان وخالف من كان ظاهره الكفر .
وجاء في الأثر أن رجلا قال لعطاء بن أبي رياح إن فلانا يكتب لفلان ولا يزيد على كتبه دخله وخرجه فإن أخذ منه أجرا كان له غنى وإن لم يأخذ اشتد فقره وفقر عياله فقال عطاء أ ما سمعت قول الرجل الصالح {رب بما أنعمت علي فلن أكون ظهيرا للمجرمين} {فأصبح} موسى في اليوم الثاني {في المدينة خائفا} من قبل القبطي {يترقب} أي ينتظر الأخبار في قتل القبطي عن ابن عباس يعني أنه خاف من فرعون وقومه أن يكونوا عرفوا أنه هو الذي قتل القبطي فكان يتجسس وينتظر الأخبار في شأنه {فإذا الذي استنصره بالأمس يستصرخه} معناه أن الإسرائيلي الذي كان قد خلصه بالأمس ووكز القبطي من أجله يستصرخ موسى ويستعين به على رجل آخر من القبط خاصمه قال ابن عباس لما فشا أمر قتل القبطي قيل لفرعون إن بني إسرائيل قتلت منا رجلا قال أ تعرفون قاتله ومن يشهد عليه قالوا لا فأمرهم بطلبه فبينا هم يطوفون إذ مر موسى من الغد وأتى ذلك الإسرائيلي يطلب نصرته ويستغيث به {قال له موسى إنك لغوي مبين} أي ظاهر الغواية حيث قاتلت بالأمس رجلا وتقاتل اليوم الآخر ولم يرد الغواية في الدين والمراد أن من خاصم آل فرعون مع كثرتهم فإنه غوي أي خائب فيما يطلبه عادل عن الصواب فيما يقصده . {فلما أن أراد أن يبطش بالذي هو عد ولهما قال يا موسى أ تريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس} معناه فلما أخذته الرقة على الإسرائيلي وأراد أن يدفع القبطي الذي هو عدو لموسى والإسرائيلي عنه ويبطش به أي يأخذه بشدة ظن الإسرائيلي أن موسى قصده لما قال له {إنك لغوي مبين} فقال أ تريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس عن ابن عباس وأكثر المفسرين وقال الحسن هومن قول القبطي لأنه قد اشتهر أمر القتل بالأمس وأنه قتله بعض بني إسرائيل .
{إن تريد إلا أن تكون جبارا في الأرض} أي ما تريد إلا أن تكون عاليا في الأرض بالقتل والظلم قال عكرمة والشعبي لا يكون الإنسان جبارا حتى يقتل نفسين بغير حق {وما تريد أن تكون من المصلحين} ولما قال الإسرائيلي ذلك علم القبطي أن القاتل موسى فانطلق إلى فرعون وأخبر به فأمر فرعون بقتل موسى وبعث في طلبه .
____________
1- مجمع البيان ، الطبرسي ، ج7 ، ص421-425 .
تفسير الكاشف
- ذكر محمد جواد مغنية في تفسير هذه الآيات (1) :
{ولَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ واسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وعِلْماً وكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} . تقدم بنصه الحرفي في الآية 22 من سورة يوسف . وجاء هناك وصفا ليوسف ، وهنا وصفا لموسى .
{ودَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ وهذا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ} . المراد بالمدينة هنا مصر . . وفي ذات يوم دخل موسى بعض شوارعها دون أن يشعر أحد به ، فرأى رجلين يتشاجران ويقتتلان : أحدهما قبطي من أتباع فرعون ، والآخر إسرائيلي من جماعة موسى ، وكان الأقباط بوجه العموم يضطهدون الإسرائيليين ، ويحسبونهم خدما لهم وعبيدا ، فاستنجد الإسرائيلي بموسى ، فوكز موسى القبطي بيده أو بعصاه بقصد التأديب والردع عن البغي ، لا بقصد القتل ، فوقع جثة هامدة ، ويسمى هذا بقتل الخطأ {قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُو مُضِلٌّ مُبِينٌ} . هذا إشارة إلى الشجار والقتال الذي وقع بين القبطي والإسرائيلي ، لا إلى الوكز أو القتل غير المقصود ، والمعنى ان القتال بين الاثنين مصدره وسوسة الشيطان واغراؤه بالمعاصي والذنوب .
{قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُو الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} . كل تقصير في حق اللَّه تعالى ينسبه الأنبياء والأولياء إلى أنفسهم فهو دعاء وخشوع للَّه سبحانه ، ولا دلالة فيه على الذنب والتقصير ، لأن العارف باللَّه حقا يتهم نفسه بالتقصير في طاعة اللَّه وعبادته ، ومن أجل هذا يسأله العفو والصفح عن الذنب ، وقديما قيل : سيئات الأبرار حسنات الأشرار . انظر ما قلناه بعنوان التوبة والفطرة ج 2 ص 275 {قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ} . سأل موسى ربه العفو ، وأعطاه عهدا على نفسه أن يكون حربا على الطغاة المجرمين كفرعون وجنوده ، وعونا لكل مؤمن صالح .
{فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ} . خاف موسى ان يطالب بدم القبطي ، وتوقع الشر من فرعون وقومه . . وبينما هو كذلك {فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ} يطلب النصر من موسى بصياح وصراخ {قالَ لَهُ مُوسى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ} . ما شأنك تشتبك كل يوم مع قبطي ؟ وتسبب لنا المتاعب والمشاكل ؟ ألا ترعوي عن غيك وضلالك ؟ .
{فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُو عَدُو لَهُما} . أراد موسى أن يبطش بالقبطي لأن الأقباط هم الذين كانوا يعتدون على الإسرائيليين ويعاملونهم معاملة العبيد كما أشرنا ، وقد ظن القبطي أن موسى يريد قتله ، ولذا {قالَ يا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الأَرْضِ وما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ} . بالأمس قتلت رجلا ، واليوم تريد قتلي ، هل أنت من الجبارين ، أم المصلحين ؟ ويومئ هذا إلى أن موسى كان معروفا بالصلاح وحسن السلوك ، وان القتل لا يتفق مع سيرته ومسلكه .
_______________
1- تفسير الكاشف ، محمد جواد مغنية ، ج6 ، ص 54-56 .
تفسير الميزان
- ذكر الطباطبائي في تفسير هذه الآيات (1) :
قوله تعالى : {ولما بلغ أشده واستوى آتيناه حكما وعلما وكذلك نجزي المحسنين} بلوغ الأشد أن يعمر الإنسان ما تشتد عند ذلك قواه ويكون في الغالب في الثمان عشرة ، والاستواء الاعتدال والاستقرار فالاستواء في الحياة استقرار الإنسان في أمر حياته ويختلف في الأفراد وهو على الأغلب بعد بلوغ الأشد ، وقد تقدم الكلام في معنى الحكم والعلم وإيتائهما ومعنى الإحسان في مواضع من الكتاب .
وقوله تعالى : { وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (15) قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16) قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ (17) فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (18) فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَامُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ } [القصص : 15 - 19] .
فصل ثان من قصة موسى (عليه السلام) فيه ذكر بعض ما وقع بعد بلوغه أشده فأدى إلى خروجه من مصر وقصده مدين .
قوله تعالى : {ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها} إلخ ، لا ريب أن المدينة التي دخلها على حين غفلة من أهلها هي مصر ، وأنه كان يعيش عند فرعون ، ويستفاد من ذلك أن القصر الملكي الذي كان يسكنه فرعون كان خارج المدينة وأنه خرج منه ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها ، ويؤيد ما ذكرنا ما سيأتي من قوله : {وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى} على ما سيجيء من الاستظهار .
وحين الغفلة من أهل المدينة هو حين يدخل الناس بيوتهم فتتعطل الأسواق وتخلو الشوارع والأزقة من المارة كالظهيرة وأواسط الليل .
وقوله : {فوجد فيها رجلين يقتتلان} أي يتنازعان ويتضاربان ، وقوله : {هذا من شيعته وهذا من عدوه} حكاية حال تمثل به الواقعة ، ومعناه : أن أحدهما كان إسرائيليا من متبعيه في دينه - فإن بني إسرائيل كانوا ينتسبون يومئذ إلى آبائهم إبراهيم وإسحاق ويعقوب (عليهما السلام) في دينهم وإن كان لم يبق لهم منه إلا الاسم وكانوا يتظاهرون بعبادة فرعون - والآخر قبطيا عدوا له لأن القبط كانوا أعداء بني إسرائيل ، ومن الشاهد أيضا على كون هذا الرجل قبطيا قوله في موضع آخر يخاطب ربه : {وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ} [الشعراء : 14] .
وقوله : {فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه} الاستغاثة : الاستنصار من الغوث بمعنى النصرة أي طلب الإسرائيلي من موسى أن ينصره على عدوه القبطي .
وقوله : {فوكزه موسى فقضى عليه} ضميرا {وكزه} و{عليه} للذي من عدوه والوكز - على ما ذكره الراغب وغيره - الطعن والدفع والضرب بجمع الكف ، والقضاء هو الحكم والقضاء عليه كناية عن الفراغ من أمره بموته ، والمعنى : فدفعه أو ضربه موسى بالوكز فمات ، وكان قتل خطإ ولولا ذلك لكان من حق الكلام أن يعبر بالقتل .
وقوله : {قال هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين} الإشارة بهذا إلى ما وقع بينهما من الاقتتال حتى أدى إلى موت القبطي وقد نسبه نوع نسبة إلى عمل الشيطان إذ قال : {هذا من عمل الشيطان} و{من} ابتدائية تفيد معنى الجنس أو نشوئية ، والمعنى : هذا الذي وقع من المعاداة والاقتتال من جنس العمل المنسوب إلى الشيطان أوناش من عمل الشيطان فإنه هو الذي أوقع العداوة والبغضاء بينهما وأغرى على الاقتتال حتى أدى ذلك إلى مداخلة موسى وقتل القبطي بيده فأوقعه ذلك في خطر عظيم وقد كان يعلم أن الواقعة لا تبقى خفية مكتومة وأن القبط سيثورون عليه وأشرافهم وملؤهم وعلى رأسهم فرعون سينتقمون منه ومن كل من تسبب إلى ذلك أشد الانتقام .
فعند ذلك تنبه (عليه السلام) أنه أخطأ فيما فعله من الوكز الذي أورده مورد الهلكة ولا ينسب الوقوع في الخطإ إلى الله سبحانه لأنه لا يهدي إلا إلى الحق والصواب فقضي أن ذلك منسوب إلى الشيطان .
وفعله ذاك وإن لم يكن معصية منه لوقوعه خطأ وكون دفاعه عن الإسرائيلي دفعا لكافر ظالم ، لكن الشيطان كما يوقع بوسوسته الإنسان في الإثم والمعصية كذلك يوقعه في أي مخالفة للصواب يقع بها في الكلفة والمشقة كما أوقع آدم وزوجه فيما أوقع من أكل الشجرة المنهية فأدى ذلك إلى خروجهما من الجنة .
فقوله : {هذا من عمل الشيطان} انزجار منه عما وقع من الاقتتال المؤدي إلى قتل القبطي ووقوعه في عظيم الخطر وندم منه على ذلك ، وقوله : {إنه عدو مضل مبين} إشارة منه إلى أن فعله كان من الضلال المنسوب إلى الشيطان وإن لم يكن من المعصية التي فيها إثم ومؤاخذة بل خطأ محضا لا ينسب إلى الله بل إلى الشيطان الذي هو عدو مضل مبين ، فكان ذلك منه نوعا من سوء التدبير وضلال السعي يسوقه إلى عاقبة وخيمة ولذا لما اعترض عليه فرعون بقوله : {وفعلت فعلتك التي فعلت وأنت من الكافرين} أجابه بقوله : { فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ} [الشعراء : 20] .
قوله تعالى : {قال رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له إنه هو الغفور الرحيم} اعتراف منه عند ربه بظلمه نفسه حيث أوردها مورد الخطر وألقاها في التهلكة ، ومنه يظهر أن المراد بالمغفرة المسئولة في قوله : {فاغفر لي} هو إلغاء تبعة فعله وإنجاؤه من الغم وتخليصه من شر فرعون وملئه ، كما يظهر من قوله تعالى : {وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ } [طه : 40] .
وهذا الاعتراف بالظلم وسؤال المغفرة نظير ما وقع من آدم وزوجه المحكي في قوله تعالى : {قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف : 23] .
قوله تعالى : {قال رب بما أنعمت علي فلن أكون ظهيرا للمجرمين} قيل : الباء في قوله : {بما أنعمت} للسببية والمعنى رب بسبب ما أنعمت علي ، لك علي أن لا أكون معينا للمجرمين فيكون عهدا منه لله تعالى وقيل : الباء للقسم والجواب محذوف والمعنى : أقسم بما أنعمت علي لأتوبن أو لأمتنعن فلن أكون ظهيرا للمجرمين ، وقيل : القسم استعطافي وهو القسم الواقع في الإنشاء كقولك بالله زرني ، والمعنى أقسمك أن تعطف علي وتعصمني فلن أكون ظهيرا للمجرمين .
والوجه الأول هو الأوجه لأن المراد بقوله : {بما أنعمت علي} - على ما ذكروه - أما إنعامه تعالى عليه إذ حفظه وخلصه من قتل فرعون ورده إلى أمه ، وأما إنعامه عليه إذ قبل توبته من قتل القبطي وغفر له بناء على أنه علم مغفرته تعالى بإلهام أو رؤيا أو نحو هما وكيف كان فهو إقسام بغيره تعالى ، والمعنى أقسم بحفظك إياي أو أقسم بمغفرتك لي ، ولم يعهد في كلامه تعالى حكاية قسم من غيره بغيره بهذا النحو .
وقوله : {فلن أكون ظهيرا للمجرمين} قيل : المراد بالمجرم من أوقع غيره في الجرم أومن أدت إعانته إلى جرم كالإسرائيلي الذي خاصمه القبطي فأوقعت إعانته موسى في جرم القتل فيكون في لفظ المجرمين مجاز في النسبة من حيث تسمية السبب الموقع في الجرم مجرما .
وقيل : المراد بالمجرمين فرعون وقومه والمعنى : أقسم بإنعامك علي لأتوبن فلن أكون معينا لفرعون وقومه بصحبتهم وملازمتهم وتكثير سوادهم كما كنت أفعله إلى هذا اليوم .
ورد هذا الوجه الثاني بأنه لا يناسب المقام .
والحق أن قوله : {رب بما أنعمت علي فلن أكون ظهيرا للمجرمين} عهد من موسى (عليه السلام) أن لا يعين مجرما على إجرامه شكرا لله تعالى على ما أنعم عليه ، والمراد بالنعمة وقد أطلقت إطلاقا الولاية الإلهية على ما يشهد به قوله تعالى : {فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ } [النساء : 69] .
وهؤلاء أهل الصراط المستقيم مأمونون من الضلال والغضب لقوله تعالى : {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ } [الفاتحة : 6 ، 7] وترتب الامتناع عن إعانة المجرمين على الإنعام بهذا المعنى ظاهر لا سترة عليه .
ومن هنا يظهر أن المراد بالمجرمين أمثال فرعون وقومه دون أمثال الإسرائيلي الذي أعانه فلم يكن في إعانته جرم ولا كان وكز القبطي جرما حتى يتوب (عليه السلام) منه كيف؟ وهو(عليه السلام) من أهل الصراط المستقيم الذين لا يضلون بمعصيته ، وقد نص تعالى على كونه من المخلصين الذين لا سبيل للشيطان إليهم بالإغواء حيث قال : {إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا } [مريم : 51] .
وقد نص تعالى أيضا آنفا بأنه آتاه حكما وعلما وأنه من المحسنين ومن المتقين من أمره أن لا تستخفه عصبية قومية أو غضب في غير ما ينبغي أو إعانة ونصرة لمجرم في إجرامه .
وقد كرر {قال} ثلاثا حيث قيل : {قال هذا من عمل الشيطان} {قال رب إني ظلمت نفسي} {قال رب بما أنعمت علي} وذلك لاختلاف السياق في الجمل الثلاث فالجملة الأولى قضاء منه وحكم ، والجملة الثانية استغفار ودعاء ، والجملة الثالثة عهد والتزام .
قوله تعالى : {فأصبح في المدينة خائفا يترقب فإذا الذي استنصره بالأمس يستصرخه قال له موسى إنك لغوي مبين} تقييد {أصبح} بقوله : {في المدينة} دليل على أنه بقي في المدينة ولم يرجع إلى قصر فرعون ، والاستصراخ الاستغاثة برفع الصوت من الصراخ بمعنى الصياح ، والغواية إخطاء الصواب خلاف الرشد .
والمعنى : فأصبح موسى في المدينة - ولم يرجع إلى بلاط فرعون - والحال أنه خائف من فرعون ينتظر الشر ففاجأه أن الإسرائيلي الذي استنصره على القبطي بالأمس يستغيث به رافعا صوته على قبطي آخر قال موسى للإسرائيلي توبيخا وتأنيبا : إنك لغوي مبين لا تسلك سبيل الرشد والصواب لأنه كان يخاصم ويقتتل قوما ليس في مخاصمتهم والمقاومة عليهم إلا الشر كل الشر .
قوله تعالى : {فلما أراد أن يبطش بالذي هو عدو لهما قال يا موسى أ تريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس} إلى آخر الآية ، ذكر جل المفسرين أن ضمير {قال} للإسرائيلي الذي كان يستصرخه وذلك أنه ظن أن موسى إنما يريد أن يبطش به لما سمعه يعاتبه قبل بقوله : {إنك لغوي مبين} فهاله ما رأى من إرادته البطش فقال : {يا موسى أ تريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس} إلخ ، فعلم القبطي عند ذلك أن موسى هو الذي قتل القبطي بالأمس فرجع إلى فرعون فأخبره الخبر فائتمروا بموسى وعزموا على قتله .
وما ذكروه في محله لشهادة السياق بذلك فلا يعبأ بما قيل : إن القائل هو القبطي دون الإسرائيلي ، هذا ومعنى باقي الآية ظاهر .
وفي قوله : {أن يبطش بالذي هو عدو لهما} تعريض للتوراة الحاضرة حيث تذكر أن المتقاتلين هذين كانا جميعا إسرائيليين ، وفيه أيضا تأييد أن القائل : {يا موسى أ تريد} إلخ ، الإسرائيلي دون القبطي لأن سياقه سياق اللوم والشكوى .
____________
1- الميزان ، الطباطبائي ، ج16 ، ص12-18 .
تفسير الامثل
- ذكر الشيخ ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذه الآيات (1) :
موسى (عليه السلام) وحماية المظلومين :
في هذه الآيات نواجه المرحلة الثّالثة من قصّة موسى (عليه السلام) وما جرى له مع فرعون ، وفيها مسائل تتعلق ببلوغه ، وبعض الأحداث التي شاهدها وهو في مصر قبل أن يتوجه إلى «مدين» ثمّ سبب هجرته إلى مدين .
تقول الآيات في البداية {ولمّا بلغ أشده واستوى آتيناه حكماً وعلماً وكذلك نجزي المحسنين} .
كلمة «أشدّ» مشتقّة من مادة «الشدّة» وهي القوّة .
وكلمة «استوى» مشتقة من «الاستواء» ومعناها كمال الخلقة واعتدالها .
وهناك كلام بين المفسّرين في الفرق بين المعنيين :
فقال بعض المفسّرين : المقصود من بلوغ الأشد هو أن يصل الإنسان الكمال من حيث القوى الجسمانية ، وغالباً ما يكون في السنة الثامنة عشرة من العمر . . أمّا الإستواء فهو الاستقرار والاعتدال في أمر الحياة ، وغالباً ما يحصل ذلك بعد الكمال الجسماني .
وقال بعضهم : إنّ المقصود من بلوغ الأشد هو الكمال الجسماني ، وأمّا الاستواء فهو الكمال العقلي والفكري .
ونقرأ في حديث عن الإمام الصادق (عليه السلام) في كتاب معاني الأخبار قال : فلمّا بلغ أشدّه واستوى قال : «أشدّه ثمان عشر سنة واستوى ، التحى» (2) .
وليس بين هذه التعابير فرق كبير ، ومن مجموعها ـ مع ملاحظة المعنى اللغوي للكلمتين «الأشدّ والاستواء» ـ يستفاد منهما أنّهما يدلان على التكامل في القوى الجسمية والعقلية والروحية .
ولعل الفرق بين «الحكم» و«العلم» هو أنّ الحكم يراد منه العقل والفهم والقدرة على القضاء الصحيح ، والعلم يراد به العرفان الذي لا يصحبه الجهل .
أمّا التعبير {كذلك نجزي المحسنين} فيدل بصورة جليّة على أن موسى (عليه السلام) كان جديراً بهذه المنزلة ، نظراً لتقواه وطهارته وأعماله الصالحة ، إذ جازاه الله «بالعلم والحكم» وواضح أنّ المراد بالحكم والعلم هنا ليس النبوّة والوحي وما إليهما . . لأنّ موسى (عليه السلام) يومئذ لم يبعث بعد ، وبقي مدّة بعد ذلك حتى بعث نبيّاً .
بل المقصود والمراد من الحكم والعلم هما المعرفة والنظرة الثاقبة والقدرة على القضاء الصحيح وما شابه ذلك ، وقد منح الله هذه الأُمور لموسى (عليه السلام) لطهارته وصدقه وأعماله الصالحة كما ذكرنا آنفاً .
ويفهم من هذا التعبير ـ إجمالا ـ أنّ موسى (عليه السلام) لم يتأثر بلون المحيط الذي عاشه في قصر فرعون ، وكان يسعى إلى تحقيق العدل والحق ما استطاع إلى ذلك سبيلا . . رغم أنّ جزئيات تلك الاعوام غير واضحة .
وعلى كل حال فإن موسى {دخل المدينة على حين غفلة من أهلها} .
فما هي المدينة المذكورة في الآية المتقدمة ؟ لا نعرفها على وجه التحقيق . . لكن الاحتمال القوي أنّها عاصمة مصر . . وكما يقول بعض المفسّرين فإنّ موسى (عليه السلام) على أثر المشاجرات بينه وبين فرعون ، ومخالفاته له ولسلطته التي كانت تشتدّ يوماً بعد يوم حتى بلغت أوجها ، حُكم عليه بالتبعيد عن العاصمة . . لكنّه برغم ذلك فقد سنحت له فرصة خاصّة والناس غافلون عنه أن يعود إلى المدينة ويدخلها .
ويحتمل أيضاً ، أنّ المقصود دخوله المدينة من جهة قصر فرعون . . لأنّ القصور يومئذ كانت تشاد على أطراف المدينة ليعرف الداخل إليها والخارج منها .
والمقصود من جملة {على حين غفلة من أهلها} هو الزمن الذي يستريح الناس فيه من أعمالهم ، ولا تُراقب المدينة في ذلك الحين بدقّة ، ولكن أي حين وأي زمن هو ؟!
قال بعضهم : هو أوّل الليل ، لأنّ الناس يتركون أعمالهم ويعطلون دكاكينهم ومحلاتهم ابتغاء الراحة والنوم ، وجماعة يذهبون للتنزه ، وآخرون لأماكن أُخرى . . هذه الساعة هي المعبر عنها بساعة الغفلة في بعض الرّوايات الإسلامية .
وهناك حديث شريف عن النّبي(صلى الله عليه وآله) في هذا الشأن يقول : «تنفّلوا في ساعة الغفلة ولو بركعتين خفيفتين» .
وقد ورد في ذيل هذا الحديث الشريف هذه العبارة «وساعة الغفلة ما بين المغرب والعشاء» (3) .
والحق أنّ هذه الساعة ساعة غفلة وكثيراً ما تحدث الجنايات والفساد والإنحرافات الأخلاقية في مثل هذه لساعة من أوّل الليل . . فلا الناس مشغولون بالكسب والعمل ، ولا هم نائمون ، بل هي حالة غفلة عمومية تغشى المدينة عادةً ، وتنشط مراكز الفساد أيضاً في هذه الساعة .
واحتمل البعض أن ساعة الغفلة هي ما بعد نصف النهار ، حيث يستريح الناس من أعمالهم استراحة مؤقتة ، ولكن التّفسير الأوّل أقرب للنظر كما يبدو .
وعلى كل حال ، موسى دخل المدينة ، وهنالك واجه مشادّة ونزاعاً ، فاقترب من منطقة النزاع {فوجد فيها رجلين يقتتلان هذا من شيعته وهذا من عدوّه} .
والتعبير بـ «شيعته» يدل على أن موسى قبل أن يبعث كان له أتباع وأنصار وشيعة من بني إسرائيل ، وربّما كان قد اختارهم لمواجهة فرعون وحكومته كنواة اساسية .
فلمّا بصر الإسرائيلي بموسى استصرخه {فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوّه} .
فجاءه موسى(عليه السلام) لاستنصاره وتخليصه من عدوّه الظالم . . الذي يقال عنه أنّه كان طباخاً في قصر فرعون ، وكان يريد من الإسرائيلي أن يحمل معه الحطب إلى القصر ، فضرب موسى هذا العدو بقبضة يده القوية على صدره ، فهوى إلى الأرض ميتاً في الحال تقول الآية : {فوكزه موسى فقضى عليه} (4) .
وممّا لا شك فيه ، فإنّ موسى لم يقصد أن يقتل الفرعوني ، ويتّضح ذلك من خلال الآيات التالية أيضاً . . ولا يعني ذلك أن الفراعنة لم يكونوا يستحقون القتل ، ولكن لاحتمال وقوع المشاكل والتبعات المستقبلية على موسى وجماعته .
لذلك فإنّ موسى (عليه السلام) أسف على هذا الأمر {قال هذا من عمل الشيطان إنّه عدو مبين} .
وبتعبير آخر : فإنّ موسى (عليه السلام) كان يريد أن يبعد الفرعوني عن الرجل الإسرائيلي ، وإن كان الفرعونيون يستحقون أكثر من ذلك . لكن ظروف ذلك الوقت لم تكن تساعد على مثل هذا العمل ، وكما سنرى فإن ذلك الأمر دعا موسى(عليه السلام) إلى أن يخرج من مصر إلى أرض مدين وحرمه من البقاء في مصر .
ثمّ يتحدث القرآن عن موسى (عليه السلام) فيقول : (قال ربّ إنّي ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له إنّه هو الغفور الرحيم} .
ومن المسلم به أنّ موسى (عليه السلام) لم يصدر منه ذنب هنا ، بل ترك الأولى ، فكان بنبغي عليه أن يحتاط لئلا يقع في مشكلة ، ولذلك فإنّه استغفر ربّه وطلب منه العون ، فشمله اللطيف الخبير بلطفه .
لذلك فإنّ موسى (عليه السلام) حين نجا بلطف الله من هذا المأزق {قال ربّ بما أنعمت على} من عفوك عني وانقاذي من يد الاعداء وجميع ما أنعمت علي منذ بداية حياتي لحدّ الآن {فلن أكون ظهيراً للمجرمين} . ومعيناً للظالمين .
بل سأنصر المؤمنين المظلومين ، ويريد موسى (عليه السلام) أن يقول : إنّه لا يكون بعد هذا مع فرعون وجماعته أبداً . . بل سيكون إلى جانب الإسرائيليين المضطهدين . .» .
واحتمل بعضهم أن يكون المقصود بـ «المجرمين» هو هذا الإسرائيلي الذي نصره موسى ، إلاّ أن هذا الإحتمال بعيد جدّاً ، حسب الظاهر .
وقوله تعالى : {فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (18) فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَامُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ} [القصص : 18 ، 19] .
موسى يتوجّه إلى مدين خُفيةً :
نواجه في هذه الآيات المقطع الرّابع من هذه القصّة ذات المحتوى الكبير .
حيث أن مقتل الفرعوني في مصر انتشر بسرعة ، والقرائن المتعددة تدلّ على أن القاتل من بني إسرائيل ، ولعل اسم موسى (عليه السلام) كان مذكوراً من بين بني إسرائيل المشتبه فيهم .
وبالطبع فإنّ هذا القتل لم يكن قتلا عادياً ، بل كان يعد شرارة لانفجار ثورة مقدمة للثورة . . ولا شك أن جهاز الحكومة لا يستطيع تجاوز هذه الحالة ببساطة ليعرّض أرواح الفرعونيين للقتل على أيدي عبيدهم من بني إسرائيل .
لذلك يقول القرآن في بداية هذا المقطع {فأصبح في المدينة خائفاً يترقب} (5) .
وهو على حال من الترقب والحذر ، فوجيء في اليوم التالي بالرجل الإسرائيلي الذي آزره موسى بالأمس يتنازع مع قبطي آخر وطلب من موسى أن ينصره {فإذا الذي استنصره بالأمس يستصرخه} (6) .
ولكن موسى تعجب منه واستنكر فعله و(قال له موسى إنك لغوي مبين} إذ تحدث كل يوم نزاعاً ومشادة مع الآخرين ، وتخلق مشاكل ليس أوانها الآن ، إذ نحن نتوقع أن تصيبنا تبعات ما جرى بالأمس ، وأنت اليوم في صراع جديد أيضاً!!
ولكنّه كان على كل حال مظلوماً في قبضة الظالمين (وسواء كان مقصراً في المقدمات أم لا) فعلى موسى (عليه السلام) أنّ يعينه وينصره ولا يتركه وحيداً في الميدان ، فلمّا أن أراد أن يبطش بالذي هو عدولهما صاح ذلك القبطي : {يا موسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفساً بالأمس} ويبدو من عملك هذا أنّك لست إنساناً منصفاً {ان تريد إلاّ أن تكون جباراً في الأرض وما تريد أن تكون من المصلحين} (7) .
وهذه العبارة تدلّ بوضوح على أن موسى (عليه السلام) كان في نيّته الإصلاح من قبل ، سواءً في قصر فرعون أو خارجه ، ونقرأ في بعض الرّوايات أن موسى (عليه السلام) كانت له مشادات كلامية مع فرعون في هذا الصدد ، لذا فإن القبطي يقول لموسى : أنت كل يوم تريد أن تقتل إنساناً ، فأىّ إصلاح هذا الذي تريده أنت ؟! في حين أن موسى (عليه السلام) لوكان يقتل هذا الجبار ، لكان يخطو خطوة أُخرى في طريق الإصلاح . .
وعلى كل حال فإنّ موسى التفت إلى أن ما حدث بالأمس قد انتشر خبره ، ومن أجل أن لا تتسع دائرة المشاكل لموسى فإنّه أمسك عن قتل الفرعوني في هذا اليوم .
ومن جهة أُخرى فإنّ الأخبار وصلت إلى قصر فرعون فأحسّ فرعون ومن معه في القصر أن تكرار مثل هذه الحوادث ينذره بالخطر ، فعقد جلسة شورى مع وزارئه وانتهى «مؤتمرهم» إلى أن يقتلوا موسى ، وكان في القصر رجل له علاقة بموسى فمضى إليه وأخبره بالمؤامرة . . وكما يقول القرآن الكريم : {وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى قال يا موسى إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج إنّي لك من الناصحين} .
______________
1- الامثل ، ناصر مكارم الشيرازي ، ج9 ، ص 546-554 .
2 ـ تفسير نور الثقلين ، ج 4 ، ص 117 .
3 ـ وسائل الشيعة ، ج 5 ، ص 249
[باب 20 من أبواب الصلوات المندوبة] .
4 ـ «وكز» مآخوذ من «الوكز» على زنة «رمز» ومعناه الضرب بقبضة اليد ، وهناك معان اُخرى لا تناسب المقام . .
5 ـ كلمة «يترقب» مأخوذة من «الترقب» ، ومعناه الإنتظار ، وموسى هنا في انتظار نتائج هذه الحادثة ، ومحل الجملة إعراباً ـ خبر بعد خبر ، وإن قيل أنّها حال ، إلاّ أنّ هذا القول ضعيف .
6- كلمة «يستصرخ» مشتقة من مادة «الإستصراخ» ، ومعناها الإستغاثة ، ولكنّها في الأصل تعني الصياح أو طلب الصياح من الآخر ، وهذا عادةً ملازم للإعانة . . .
7 ـ يعتقد جماعة من المفسّرين أن هذه الجملة قالها الإسرائيلي لموسى ، لأنّه ظن أن موسى يريد قتله ، ولكن القرائن الكثيرة في الآية تنفي هذا الإحتمال !
|
|
تفوقت في الاختبار على الجميع.. فاكهة "خارقة" في عالم التغذية
|
|
|
|
|
أمين عام أوبك: النفط الخام والغاز الطبيعي "هبة من الله"
|
|
|
|
|
قسم شؤون المعارف ينظم دورة عن آليات عمل الفهارس الفنية للموسوعات والكتب لملاكاته
|
|
|