المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية

القرآن الكريم وعلومه
عدد المواضيع في هذا القسم 17751 موضوعاً
تأملات قرآنية
علوم القرآن
الإعجاز القرآني
قصص قرآنية
العقائد في القرآن
التفسير الجامع
آيات الأحكام

Untitled Document
أبحث عن شيء أخر المرجع الالكتروني للمعلوماتية
من هم المحسنين؟
2024-11-23
ما هي المغفرة؟
2024-11-23
{ليس لك من الامر شيء}
2024-11-23
سبب غزوة أحد
2024-11-23
خير أئمة
2024-11-23
يجوز ان يشترك في الاضحية اكثر من واحد
2024-11-23

مسؤولية وسائل الاعلام نحو الدولة
2-1-2021
8- اشهر ملوك سلالة ايسن
22-9-2016
تفسير الآية (27-35) من سورة الشورى
27-8-2020
PNP BIASING
22-10-2020
خبر مبدع
16-7-2019
النقـود في الفـكر الاقتصـادي التجـاري
16-10-2019


تفسير الآية (7-16) من سورة الفرقان  
  
2744   01:52 صباحاً   التاريخ: 4-9-2020
المؤلف : إعداد : المرجع الإلكتروني للمعلوماتية
الكتاب أو المصدر : تفاسير الشيعة
الجزء والصفحة : .....
القسم : القرآن الكريم وعلومه / التفسير الجامع / حرف الفاء / سورة الفرقان /

قال تعالى : {وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا (7) أَو يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَو تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (8) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (9) تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا (10) بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا (11) إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا (12) وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا (13) لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا (14) قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا (15) لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا } [الفرقان : 7 - 16] .

 

 

تفسير مجمع البيان

- ذكر الطبرسي في تفسير هذه الآيات (1) :

 

{وقالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام} كما نأكل {ويمشي في الأسواق} في طلب المعاش كما نمشي {لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا} أي هلا أنزل إليه ملك فيكون معينا له على الإنذار والتخويف وهذا أيضا من مقالاتهم الفاسدة لأن الملك لوكان معينا له على الرسالة ومخوفا من ترك قبولها ولوفعل تعالى ذلك لأدى ذلك إلى استصغار كل واحد منهما من حيث إنه لم يقم بنفسه في أداء الرسالة ولأن الجنس إلى الجنس أميل وبه آنس .

{أويلقى إليه كنز} يستغني به عن طلب المعاش قال ابن عباس أو ينزل إليه مال من السماء {أوتكون له جنة يأكل منها} أي بستان يأكل من ثمارها ومن قرأ بالنون فالمعنى نأكل نحن معه ونتبعه {وقال الظالمون} أي المشركون للمؤمنين {إن تتبعون إلا رجلا مسحورا} أي ما تتبعون إلا رجلا مخدوعا مغلوبا على عقله وقد سبق تفسير المسحور في بني إسرائيل {أنظر} يا محمد {كيف ضربوا لك الأمثال} أي الأشباه لأنهم قالوا تارة هو مسحور وتارة هو محتاج متروك حتى تمنوا له الكنز وتارة أنه ناقص عن القيام بالأمور {فضلوا} بهذا عن الهدى وعن وجه الصواب وطريق الحق {فلا يستطيعون سبيلا} لإلزامك الحجة من الوجوه المذكورة وقيل معناه لا يستطيعون سبيلا إلى إبطال أمرك وقيل معناه لا يستطيعون سبيلا إلى الحق مع ردهم الدلائل والحجج واتباعهم التقليد والألف والعادة .

{تبارك} أي تقدس {الذي إن شاء جعل لك خيرا من ذلك} الذي اقترحوه من الكنز والبستان ثم فسر الذي هو خير مما اقترحوه فقال {جنات تجري من تحتها الأنهار} ليكون أبلغ في الزهو وأسرع في نضج الثمار {ويجعل لك قصورا} أي وسيجعل لك قصورا في كل بستان قصرا والقصور البيوت المبنية المشيدة المطولة عن مجاهد وأراد في الآخرة أي سيعطيك الله في الآخرة أكثر مما قالوا وقيل أراد به في الدنيا لأن جبرائيل (عليه السلام) عرض عليه ذلك كله فاختار الزهد في الدنيا .

ثم بين سبحانه سوء اعتقادهم وما أعده لهم على قبيح فعالهم ومقالهم فقال {بل كذبوا بالساعة} أي ما كذبوك لأنك تأكل الطعام وتمشي في الأسواق بل لأنهم لم يقروا بالبعث والنشور والثواب والعقاب {وأعتدنا لمن كذب بالساعة سعيرا} أي نارا تتلظى ثم وصف ذلك السعير فقال {إذا رأتهم من مكان بعيد} أي من مسيرة مائة عام عن السدي والكلبي وقال أبوعبد الله (عليه السلام) من مسيرة سنة ونسب الرؤية إلى النار وإنما يرونها هم لأن ذلك أبلغ كأنها تراهم رؤية الغضبان الذي يزفر غيظا وذلك قوله {سمعوا لها تغيظا وزفيرا} وتغيظها تقطعها عند شدة اضطرابها وزفيرها صوتها عند شدة التهابها كالتهاب الرجل المغتاظ والتغيظ لا يسمع وإنما يعلم بدلالة الحال عليه وقيل معناه سمعوا لها صوت تغيظ وغليان قال عبيد بن عمير أن جهنم لتزفر زفرة لا يبقى نبي ولا ملك إلا خر لوجهه وقيل التغيظ للنار والزفير لأهلها كأنه يقول رأوا للنار تغيظا وسمعوا لأهلها زفيرا .

{وإذا ألقوا منها مكانا ضيقا} معناه وإذا ألقوا من النار في مكان ضيق يضيق عليهم كما يضيق الزج في الرمح عن أكثر المفسرين وفي الحديث قال (عليه السلام) في هذه الآية والذي نفسي بيده أنهم يستكرهون في النار كما يستكره الوتد في الحائط {مقرنين} أي مصفدين قرنت أيديهم إلى أعناقهم في الأغلال وقيل قرنوا مع الشياطين في السلاسل والأغلال عن الجبائي {دعوا هنالك ثبورا} أي دعوا بالويل والهلاك على أنفسهم كما يقول القائل واثبورا أي واهلاكاه وقيل وا انصرافاه عن طاعة الله .

فتجيبهم الملائكة {لا تدعوا اليوم ثبورا واحدا وادعوا ثبورا كثيرا} أي لا تدعوا ويلا واحدا وادعوا ويلا كثيرا أي لا ينفعكم هذا وإن كثر منكم قال الزجاج معناه هلاككم أكبر من أن تدعوا مرة واحدة {قل} يا محمد {أ ذلك} يعني ما ذكره من السعير {خير أم جنة الخلد التي وعد المتقون كانت} تلك الجنة {لهم جزاء} على أعمالهم {ومصيرا} أي مرجعا ومستقرا {لهم فيها ما يشاءون} ويشتهون من المنافع واللذات {خالدين} مؤبدين لا يفنون فيها {كان على ربك وعدا مسئولا} قال ابن عباس معناه أن الله سبحانه وعد لهم الجزاء فسألوه الوفاء فوفى وقيل معناه أن الملائكة سألوا الله تعالى ذلك لهم فأجيبوا إلى مسألتهم وذلك قولهم ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم عن محمد بن كعب وقيل أنهم سألوا الله تعالى في الدنيا الجنة بالدعاء فأجابهم في الآخرة إلى ما سألوا وأتاهم ما طلبوا .

 _______________

1- مجمع البيان ، الطبرسي ، ج7 ، ص281-286 .

 

تفسير الكاشف

- ذكر محمد جواد مغنية في تفسير هذه الآيات (1) :

 

ان حكمة اللَّه في إرسال رسله إلى الناس هي أن يبيّنوا لهم ما يصلحهم وما يفسدهم ليكونوا على بصيرة من أمرهم ، ويكون لهم على اللَّه الحجة حين الحساب والجزاء ، ولا تتحقق هذه الحكمة إلا إذا كان الرسول واحدا من الناس في حياته وطبيعته وغرائزه ، ولوكان من غير جنسهم وطبيعتهم لنفروا منه ، ولم يركنوا إليه ركونهم إلى من هو مثلهم يتكلم كما يتكلمون ، ويفعل كما يفعلون ، ويتأثر بهم ويتأثرون به . . أجل ، يجب أن يبلغ الرسول من الكمال أقصى ما يبلغه إنسان في حدود الإنسانية وصفاتها وطاقاتها ، لأن الكمال هو القوة التنفيذية لرسالته وتعاليمه . أنظر تفسير الآية 35 من سورة طه فقرة (حقيقة النبوة) . . وبعد هذا التمهيد ننظر إلى أقوال المشركين واعتراضاتهم على نبوة محمد (صلى الله عليه واله وسلم) وهي :

1 - {وقالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ ويَمْشِي فِي الأَسْواقِ} . يريدون من رسول اللَّه أن يحتجب في برج من العاج ، ودونه الحراس والحجاب ، تماما كما يفعل الملوك والجبابرة . . وجهلوا أو تجاهلوا ان صاحب الرسالة أيا كان ، نبيا أو غير نبي ، لا يمكنه أن يؤدي رسالته إلا إذا كان مع الناس في تجاربهم وأعمالهم ، وكيف يستجيبون له ، وهو عنهم في حجاب ، أومن عالم غير عالمهم .

2 - {لَولا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً} . من مقترحات المشركين على محمد (صلى الله عليه واله وسلم) أن يكون معه أحد الملائكة . . ولا بدع ، فمن جعل للَّه شريكا في خلقه فبالأولى أن ينكر نبوة محمد إذا لم يكن معه شريك في تأدية الرسالة ، ومن قبلهم قال فرعون عن موسى : {فَلَولا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَو جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ} [الزخرف - 53 ] .

 

منطق أرباب المال : بنك وعقار :

3 - {أَو يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَو تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها} . هذا هو منطق أرباب المال . . بنك وعقار ، فكيف يؤمنون بمن يقول : لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى ؟ ان الفضل والحرية عندهم بالمال . . بالبذخ والترف من غير كد وعمل ، أما من يكد ليعيش فهو عبد ، عليه أن يسمع ويطيع . . فكيف يختار اللَّه محمدا ، ويفضله على الأغنياء ، وهو يعاني الفقر والعوز ؟ . ولو اختاره اللَّه واصطفاه ، كما يدعي ، لأنزل عليه كنزا من السماء ، أو كان له بستان يعيش منه من غير كد وعناء . . وما زال هذا المنطق يسيطر حتى اليوم ، فالحكم والسلطان في أكثر البلاد أو الكثير منها لأصحاب الشركات والمصارف ، أولمن يختارونه حارسا لمكاسبهم وثرواتهم . أنظر تفسير الآية 90 من سورة الإسراء ، فقرة (التفكير من خلال المال) .

{وقالَ الظَّالِمُونَ} - للمؤمنين - {إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً} . تقدم نظيره في الآية 103 من سورة الإسراء {انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثالَ} بأنك فقير ومسحور {فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً} لابطال نبوتك وردك بالحجة والدليل .

 

شأن الجاهل المغرور :

كذّبوا برسالة محمد (صلى الله عليه واله وسلم) ، ونعتوه بالافتراء فكانوا هم المفترين ، لأن من قال للعالم : أنت جاهل ، وللمخلص : أنت خائن - فقد شهد على نفسه بالجهل والخيانة . وعلى هذا فان الأمثال التي ضربوها لرسول اللَّه (صلى الله عليه واله وسلم) هي شواهد وأمثال لجهلهم وافترائهم وعنادهم للحق ، ولكنهم لا يشعرون ، تماما كمن رأى قبح وجهه في المرآة فظن القبح فيها ، لا في وجهه . . وهذا هو شأن الجاهل المغرور .

{تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهارُ ويَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً} . ان الذي خلق الكون بأرضه وسمائه قادر على أن يهب نبيه الكريم الكثير من المال والعقار ، ولكن العظمة عند اللَّه لا تقاس بالمال ، وإنما تقاس بالتقوى وصالح الأعمال ، وجزاء المتقين والصالحين نعيم قائم ، وهناء دائم ، أما الحياة الدنيا فهي أهون من أن يجعلها اللَّه ثوابا لأوليائه وأهل طاعته ، وفي الحديث : (لو كانت الدنيا تزن عند اللَّه جناح بعوضة ما سقى منها كافرا شربة ماء) .

{بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ} . أنكروا نبوة محمد (صلى الله عليه واله وسلم) وتعللوا بأنه فقير ومسحور ، وهم كاذبون حتى عند أنفسهم ، والدافع الأول هو الخوف على مصالحهم ومنافعهم . .

وقالوا : لا حشر ولا نشر كيلا ينكر عليهم منكر بأنهم يؤثرون الفاني على الباقي . .

وكل من قاس الفضيلة بالمال ، وآثره على مرضاة اللَّه فهو في حكم من كذّب بلقاء اللَّه ، وان آمن به نظريا {وأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وزَفِيراً} . قيل : ان الرؤية والتغيظ والزفير هي صفات لخزنة النار الموكلين بها ، وعليه يكون في الكلام حذف مثل {وسْئَلِ الْقَرْيَةَ} .

وقيل : ان اللَّه يخلق في النار غدا حياة وعقلا . . وقال ثالث : بل هي صفات لأهل النار ، ونسبت إلى النار مبالغة . وفي رأينا انها كناية عن أليم العذاب وشدة الهول .

{وإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً ، لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً} . ان نار اللَّه لا تضيق بشيء ، كما صرحت بذلك الآية 29 من ق : {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأْتِ وتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} .

والمراد من الضيق ان أهل النار يضيقون بها ويستكرهون على الدخول فيها ، فقد سئل رسول اللَّه (صلى الله عليه واله وسلم) عن هذه الآية : فقال : {والذي نفسي بيده انهم يستكرهون في النار كما يستكره الوتد في الحائط} أي يدخل فيه بالضرب والضغط . وتقدم مثل هذه الآية في سورة إبراهيم الآية 51 ، فقرة {جهنم والأسلحة الجهنمية} .

{قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كانَتْ لَهُمْ جَزاءً ومَصِيراً لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُونَ خالِدِينَ كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُولاً} . تدل كلمة {على} في الآية على أن اللَّه سبحانه قد كتب على نفسه الوفاء بالوعد كما كتب عليها الرحمة .

ومسؤولا أي ان المطيع له الحق في أن يسأل اللَّه الوفاء بوعده . . وفي تفسير الرازي : إن قيل : كيف يقال : العذاب خير أم جنة الخلد ؟ وهل يجوز ان يقول العاقل : السّكر أحلى أم العلقم ؟ قلنا : هذا يحسن في معرض التقريع ، كما إذا أعطى السيد عبده مالا ، فتمرد واستكبر ، فضربه ضربا موجعا ، وهو يقول له على سبيل التوبيخ : هذا أطيب أم ذاك ؟

_______________

1- تفسير الكاشف ، محمد جواد مغنية ، ج5 ، ص 452-454 .

 

تفسير الميزان

- ذكر الطباطبائي في تفسير هذه الآيات (1) :

 

وقولهم : {ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق} استفهام للتعجيب والوجه فيه أن الوثنيين يرون أن البشر لا يسوغ له الاتصال بالغيب وهو متعلق الوجود بالمادة منغمر في ظلماتها ، ومتلوث بقذاراتها ، ولذا يتوسلون في التوجه إلى اللاهوت بالملائكة فيعبدونهم ليشفعوا لهم عند الله ويقربوهم من الله زلفى فالملائكة هم المقربون عند الله المتصلون بالغيب المتعينون للرسالة لو كانت هناك رسالة ، وليس للبشر شيء من ذلك .

ومن هنا يظهر معنى قولهم : {ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق} وأن المراد أن الرسالة لا تجامع أكل الطعام والمشي في الأسواق لاكتساب المعاش فإنها اتصال غيبي لا يجامع التعلقات المادية ، وليست إلا من شئون الملائكة ولذا قالوا في غير موضع على ما حكاه الله تعالى : {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً } [المؤمنون : 24] أو ما في معناه .

ومن هنا يظهر أيضا أن قولهم : {لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا} تنزل من المشركين في الاقتراح أي كيف يكون هذا المدعي للرسالة رسولا وهو يأكل الطعام ويمشي في الأسواق والرسول لا يكون إلا ملكا منزها عن هذه الخصال المادية فإن ، تنزلنا وسلمنا رسالته وهو بشر فلينزل إليه ملك يكون معه نذيرا ليتصل الإنذار وتبليغ الرسالة بالغيب بتوسط الملك .

وكذا قولهم : {أو يلقى إليه كنز} تنزل عما قبله من الاقتراح أي إن لم ينزل إليه ملك واستقل بالرسالة وهو بشر فليلق إليه من السماء كنز حتى يصرف منه في وجوه حوائجه المادية ولا يكدح في الأسواق في اكتساب ما يعيش به ، ونزول الكنز إليه أسهل من نزول الملك إليه ليعينه في تبليغ الرسالة .

وكذا قولهم : {أو تكون له جنة يأكل منها} تنزل عما قبله في الاقتراح ، والمعنى : وإن لم يلق إليه كنز فليكن له جنة يأكل منها ولا يحتج إلى كسب المعاش وهذا أسهل من إلقاء الكنز إليه .

قوله تعالى : {وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا} المراد بالظالمين هم المقترحون السابقو الذكر - كما قيل - فهومن وضع الظاهر موضع المضمر ووصفهم بالظلم للدلالة على بلوغهم في الظلم والاجتراء على الله ورسوله .

وقولهم : {إن تتبعون} إلخ ، خطاب منهم للمؤمنين تعييرا لهم وإغواء عن طريق الحق ، ومرادهم بالرجل المسحور النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يريدون أنه مسحور سحره بعض السحرة فصار يخيل إليه أنه رسول يأتيه ملك الوحي بالرسالة والكتاب .

قوله تعالى : {انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا} الأمثال الأشباه وربما قيل : إن المثل هنا بمعنى الوصف على حد قوله تعالى : {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ} [محمد : 15] ، والمحصل : انظر كيف وصفوك فضلوا فيك ضلالا لا يرجى معه اهتداؤهم إلى الحق كقولهم إنه يأكل الطعام ويمشي في الأسواق فلا يصلح للرسالة لأن الرسول يجب أن يكون شخصا غيبيا لا تعلق له بالمادة ولا أقل من عدم احتياجه إلى الأسباب العادية في تحصيل المعاش ، وكقولهم : إنه رجل مسحور .

وقوله : {فضلوا فلا يستطيعون سبيلا} أي تفرع على هذه الأمثال التي ضربوها لك أنهم ضلوا ضلالا لا يستطيعون معه أن يردوا سبيل الحق ولا يرجى لهم معه الاهتداء فإن من أخطأ الطريق ربما أخطأها بانحراف يسير يرجى معه ركوبها ثانيا ، وربما استدبرها فصار كلما أمعن في مسيره زاد منها بعدا ، ومن سمى كتاب الله بالأساطير ووصف رسوله بالمسحور ولم يزل يزيد تعنتا ولجاجا واستهزاء بالحق كيف يرجى اهتداؤه وحاله هذه ؟ .

قوله تعالى : {تبارك الذي إن شاء جعل لك خيرا من ذلك جنات تجري من تحتها الأنهار ويجعل لك قصورا} الإشارة في قوله : {من ذلك} إلى ما اقترحوه من قولهم : {أو تكون له جنة يأكل منها} أو إلى مجموع ما ذكروه من الكنز والجنة .

والقصور جمع قصر وهو البيت المشيد العالي ، وتنكير {قصورا} للدلالة على التعظيم والتفخيم .

والآية بمنزلة الجواب عن طعنهم بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) واقتراحهم أن ينزل إليه ملك أو يلقى إليه كنز أو يكون له جنة غير أن فيها التفاتا من التكلم إلى الغيبة فلم يقل : قل إن شاء ربي جعل لي كذا وكذا بل عدل إلى قوله : {تبارك الذي إن شاء جعل لك} إلخ .

وفيه تلويح إلى أنهم لا يستحقون جوابا ولا يصلحون لأن يخاطبوا لأنهم على علم بفساد ما اقترحوا به عليه فالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يذكر لهم إلا أنه بشر مثلهم يوحى إليه ، ولم يدع أن له قدرة غيبية وسلطنة إلهية على كل ما يريد أو يراد منه ، كما قال تعالى بعد ما حكى بعض اقتراحاتهم في سورة الإسراء ، {قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا } [الإسراء : 93] .

فأعرض سبحانه عن مخاطبتهم وعن الجواب عما اقترحوه ، وإنما ذكر لنبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن ربه الذي اتخذه رسولا وأنزل عليه الفرقان ليكون للعالمين نذيرا قادر على أعظم مما يقترحونه فإن شاء جعل له خيرا من ذلك جنات تجري من تحتها الأنهار ، ويجعل له قصورا لا يبلغ وصفها واصف وذلك خير من أن يكون له جنة يأكل منها أو يلقى إليه كنز ليصرفه في حوائجه .

وبهذا المقدار يتحصل جوابهم فيما اقترحوه من الكنز والجنة ، وأما نزول الملك إليه ليشاركه في الإنذار ويعينه على التبليغ فلم يذكر جواب عنه لظهور بطلانه ، وقد أجاب تعالى عنه في مواضع من كلامه بأجوبة مختلفة كقوله : {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} [الأنعام : 9] ، وقوله : {قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا } [الإسراء : 95] ، وقوله : {مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ } [الحجر : 8] ، وقد تقدم تقرير حجة كل من الآيات في ضمن تفسيرها .

ومن هنا يظهر أن المراد بجعل الجنات والقصور له (صلى الله عليه وآله وسلم) جعله في الدنيا على ما يقتضيه مقام المخاصمة ورد قولهم فإن المحصل من السياق أنهم يقترحون عليك كيت وكيت وهم يريدون تعجيزك وتبكيتك وإن ربك قادر على أعظم من ذلك فإن شاء جعل لك خيرا من ذلك جنات تجري من تحتها الأنهار إلخ وهي لا محالة في الدنيا وإلا لم ينقطع به الخصام .

وبذلك يتبين فساد ما نقل عن بعضهم أن المراد جنات الآخرة وقصورها وأفسد منه قول آخرين إن المراد جعل جنات تجري من تحتها الأنهار في الدنيا وجعل القصور في الآخرة ، وربما استونس لذلك بأن التعبير في الجنات بقوله : {إن شاء جعل} وهو صيغة ماض مفيدة للتحقق مناسبة للدنيا وفي القصور بقوله : {يجعل} وهو صيغة مستقبل مناسبة للآخرة هذا مع أن الفعل الواقع في حيز الشرط منسلخ عن الزمان ، والاختلاف في التعبير تفنن فيه وتجديد لصورة الكلام والله العالم .

قوله تعالى : {بل كذبوا بالساعة وأعتدنا لمن كذب بالساعة سعيرا{ ، إضراب عن طعنهم فيه (صلى الله عليه وآله وسلم) واعتراضهم عليه بأكل الطعام والمشي في الأسواق بما يتضمن معنى التكذيب أي ما كذبوك وردوا نبوتك لأنك تأكل الطعام وتمشي في الأسواق فإنما هو كلام منهم صوري بل السبب الأصلي في إنكارهم نبوتك وطعنهم فيك أنهم كذبوا بالساعة وأنكروا المعاد ، ومن المعلوم أن لا وقع للنبوة مع إنكار الساعة ولا معنى للدين والشريعة لولا المحاسبة والمجازاة .

فالإشارة إلى السبب الأصلي بعد ذكر الاعتراض والاقتراح والجواب هاهنا نظير ما وقع في سورة الإسراء بعد ذكر الاقتراحات ثم الجواب من ذكر السبب الأصلي في قوله : {قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا وما منع الناس أن يؤمنوا إلا أن قالوا أ بعث الله بشرا رسولا .

وذكر جمع من المفسرين أن قوله : {بل كذبوا بالساعة} حكاية لبعض آخر من أباطيلهم كما حكى بعضا آخر منها متعلقا بالتوحيد والكتاب والرسالة في قوله : {واتخذوا من دونه آلهة} وقوله : {وقال الذين كفروا إن هذا إلا إفك} إلخ ، وقوله : {وقالوا ما لهذا الرسول يأكل} إلخ .

ثم تشعبوا في نكتة الإضراب ، فذكر بعضهم أن الوجه فيه كون المعاد لا ريب فيه ، وقال بعضهم : إن إنكاره أعظم ، وقال بعضهم : إنه أعجب إلى غير ذلك .

والحق أن السياق لا يساعد عليه فإن السياق المتعرض لطعنهم في الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) والجواب عنه لم يتم بعد بشهادة قوله بعد : {وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق} إلخ ، وما يتلوه من الآيات فلا معنى لاعتراض حكاية تكذيبهم بالساعة بين الآيات الحاكية لتكذيبهم بالرسول والمجيبة عنه ، وهو ظاهر .

وقوله تعالى : {وأعتدنا لمن كذب بالساعة سعيرا} وضع الموصول والصلة مكان الضمير الراجع للدلالة على أن الجزاء بالسعير ثابت في حق كل من كذب بالساعة هم وغيرهم فيه سواء ، وعلى أن سبب إعتاد السعير عليه فيهم تكذيبهم بالساعة .

ووضع الساعة ثانيا موضع ضميرها ليكون أنص وأصرح فهو المناسب لمقام التهديد ، والسعير النار المشتعلة الملتهبة .

قوله تعالى : {إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا وزفيرا} في المفردات ، .

الغيظ أشد غضب إلى أن قال والتغيظ هو إظهار الغيظ ، وقد يكون ذلك مع صوت مسموع كما قال : {سمعوا لها تغيظا وزفيرا} انتهى ، وفيه أيضا : الزفير تردد النفس حتى تنتفخ الضلوع منه ، انتهى .

والآية تمثل حال النار بالنسبة إليهم إذا برزوا لها يوم الجزاء أنها تشتد إذا ظهروا لها كالأسد يزأر إذا رأى فريسته .

قوله تعالى : {وإذا ألقوا منها مكانا ضيقا مقرنين دعوا هنالك ثبورا} {مكانا} منصوب بتقدير في ، والثبور الويل والهلاك .

والتقرين التصفيد بالأغلال والسلاسل وقيل : هو جعلهم مع قرناء الشياطين وهو بعيد من اللفظ .

والمعنى وإذا ألقوا يوم الجزاء في مكان ضيق من النار وهم مصفدون بالأغلال دعوا هنالك ثبورا لا يوصف وهو قولهم : واثبوراه .

قوله تعالى : {لا تدعوا اليوم ثبورا واحدا وادعوا ثبورا كثيرا} الاستغاثة بالويل والثبور نوع احتيال للتخلص من الشدة وإذ كان اليوم يوم الجزاء فحسب لا ينفع فيه عمل ولا يجدي فيه سبب البتة لم ينفعهم الدعاء بالثبور أصلا ولذا قال تعالى : {لا تدعوا اليوم} إلخ ، فهو كناية عن أن الثبور لا ينفعكم اليوم سواء استقللتم منه أو استكثرتم .

فهو في معنى قوله تعالى : {اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ } [الطور : 16] ، وقوله حكاية عنهم : { سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ} [إبراهيم : 21] .

وقيل : المراد أن عذابكم طويل مؤبد لا ينقطع بثبور واحد بل يحتاج إلى ثبورات كثيرة .

وهو بعيد .

قوله تعالى : {قل أ ذلك خير أم جنة الخلد التي وعد المتقون - إلى قوله - {مسئولا} الإشارة إلى السعير بما له من الوصف ، أمر نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يسألهم أيهما أرجح السعير أم جنة الخلد؟ والسؤال سؤال في أمر بديهي لا يتوقف في جوابه عاقل وهو دائر في المناظرة والمخاصمة يردد الخصم بين أمرين أحدهما بديهي الصحة والآخر بديهي البطلان فيكلف أن يختار أحدهما : فإن اختار الحق فقد اعترف بما كان ينكره ، وإن اختار الباطل افتضح .

وقوله : {أم جنة الخلد} إضافة الجنة إلى الخلد وهو الدوام للدلالة على كونها في نفسها خالدة لا تفنى كما أن قوله بعد : {خالدين} للدلالة على أن أهلها خالدون فيها لا سبيل للفناء إليهم .

وقوله : {وعد المتقون} تقديره وعدها المتقون لأن وعد يتعدى لمفعولين والمتقون مفعول ثان ناب مناب الفاعل .

وقوله : {كانت لهم جزاء ومصيرا} أي جزاء لتقواهم ومنقلبا ينقلبون إليه بما هم متقون كما قال تعالى : {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ (46) وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (47) لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ} [الحجر : 45 - 48] وهومن الأقضية التي قضاها يوم خلق آدم وأمر الملائكة وإبليس بالسجود له ، ويتعين به جزاء المتقين ومصيرهم كما تقدم في تفسير سورة الحجر .

وقوله : {لهم فيها ما يشاءون خالدين} أي إنهم يملكون فيها بتمليك من الله لهم كل ما تتعلق به مشيتهم ، ولا تتعلق مشيتهم إلا بما يحبونه ويشتهونه على خلاف أهل النار كما قال تعالى فيهم : { وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ} [سبأ : 54] ، ولا يحبون ولا يشتهون إلا ما من شأنه أن يتعلق به الحب واقعا وهو الذي يحبه الله لهم وهوما يستحقونه من الخير والسعادة مما يستكملون به ولا يستضرون به لا هم ولا غيرهم فافهم ذلك .

وبهذا البيان يظهر أن لهم إطلاق المشية يعطون ما شاءوا وأرادوا غير أنهم لا يشاءون إلا ما فيه رضا ربهم ، ويندفع به ما استشكل على الآيات الناطقة بإطلاق المشية كهذه الآية أن لازم إطلاق المشية أن يجوز لهم أن يريدوا بعض المعاصي والقبائح والشنائع واللغو ، وأن يريدوا بعض ما يسوء سائر أهل الجنة ، وأن يريدوا نجاة بعض المخلدين في النار ، وأن يريدوا مقامات الأنبياء والمخلصين من الأولياء ممن هم فوقهم درجة إلى غير ذلك .

كيف؟ وقد قال تعالى : {يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر : 27 - 30] فهم راضون بما رضي به الله ومرضيون لا يريدون إلا ما يرتضيه فلا يريدون معصية ولا قبيحا ولا شنيعا ولا لغوا ولا كذابا ، ولا يريدون ما لا يرتضيه غيرهم من أهل الجنة ، ولا يريدون ارتفاع العذاب ممن يريد ربهم عذابه ، ولا يشاءون ولا يتمنون مقام من هو أرفع درجة منهم لأن الذي خصهم بها هو ربهم وقد رضوا بما فعل وأحبوا ما أحبه .

وقوله تعالى : {كان على ربك وعدا مسئولا} أي كان هذا الوعد الذي وعده المتقون وعدا على ربك يجب عليه أن يفي به ، وإنما أوجبه هو تعالى على نفسه حيث قضى بذلك أول يوم ، وأخبر عن ذلك بمثل قوله : {وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (49) جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ (50) مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ (51) وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ (52) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ} [ص : 49 - 53] .

ووجه اتصاف هذا الوعد بكونه مسئولا أن المتقين سألوا ربهم ذلك بلسان حالهم واستعدادهم ، أو سألوه ذلك في دعائم ، أو الملائكة سألوا ذلك كما فيما يحكيه الله عنهم : {رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ } [غافر : 8] أو جميع هذه الأسئلة .

وذكر الطبرسي (ره) في الآية أن قوله : {كانت لهم جزاء ومصيرا} حال من ضمير الجنة المقدر في {وعد المتقون} وأن قوله : {لهم فيها ما يشاءون} حال من {المتقون} وهو أقرب إلى الذهن من قول غيره إن الجملتين استينافان في موضع التعليل كالجواب لسؤال مقدر .

_______________

1- الميزان ، الطباطبائي ، ج15 ، ص148-153 .

 

تفسير الامثل

- ذكر الشيخ ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذه الآيات (1) :

 

لم لا يملك هذا الرّسول كنوزاً وجنات ؟!

عُرض في الآيات السابقة قسم من إشكالات الكفار فيما يخص القرآن المجيد ، وأجيب عليها ، ويعرض في هذه الآيات قسم آخر يتعلق بشخص الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) ويجاب عنها ، فيقول تعالى : {وقالوا ما لهذا الرّسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق} .

ما هذا النّبي الذي يحتاج إلى الغذاء كغيره من الأفراد العاديين؟ ويمشي في الأسواق من أجل الكسب والتجارة وشراء احتياجاته؟ فليست هذه سيرة الرسل ولا طريقة الملوك والسلاطين ! وفي الوقت الذي يريد هذا الرّسول التبليغ بالدعوة الإِلهية ، ويريد أيضاً السلطنة على الجميع !

لقد كان المشركون يرون أنّه لا يليق بذوي الشأن الذهاب إلى الأسواق لقضاء حوائجهم ، بل ينبغي أن يرسلوا خدمهم ومأموريهم من أجل ذلك .

ثمّ أضافوا : {لولا أُنزل إليه ملك فيكون معه نذيراً} ، فلِمَ لم يُرسل إليه ـ على الأقل ـ ملك من عند الله ، شاهد على صدق دعوته ، وينذر معه الناس !؟

حسن جداً ، لنفرض أنّنا وافقنا على أن رسول الله يمكن أن يكون إنساناً ، ولكن لماذا يكون فقيراً فاقداً للثروة والمال !؟ {أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنة يأكل منها} .

ولم يكتفوا بهذا أيضاً ، فقد اتهموه آخر الأمر بالجنون بما ابتنوه من استنتاج خاطىء ، كما نقرأ في ختام هذه الآية نفسها {وقال الظالمون إن تتبعون إلاّ رجلا مسحوراً} . ذلك أنّهم كانوا يعتقدون أن السحرة يستطيعون أن يتدخلوا في فكر وعقول الأفراد فيسلبونهم قوام عقولهم !

من مجموع الآيات أعلاه ، يستفاد أنّ المشركين كانت لديهم عدّة إشكالات واهية حول الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) ، وكانوا يتنازلون عن مقالتهم مرحلة بعد مرحلة .

أوّلا : إنّه أساساً يجب أن يكون ملكاً ، وهذا الذي يأكل الطعام ويمشي في الأسواق ليس ملكاً بالضرورة .

ثمّ قالوا : حسن جدّاً ، إن لم يكن ملكاً ، فيرسل اللّه ـ على الأقل ـ ملكاً يرافقه ويعينه .

ثمّ تنازلوا عن هذا أيضاً ، فقالوا : لنفرض أن رسول الله بشر ، فينبغي أن يُلقى إليه كنز من السماء ، ليكون دليلا على أنه موضع اهتمام الله .

وقالوا في نهاية المطاف : لنفرض أنه لم يكن له أىٌّ من تلك الميزات ، فينبغي على الأقل ألا يكون إنساناً فقيراً ، فليكن كأي مزارع مرفه ، له بستان يضمن منه معيشته . لكنّه فاقد لكلّ هذا مع الأسف ، ويقول إنّني نبيّ!؟

واستنتجوا في الختام ، أنّ ادعاءة الكبير هذا ، في مثل هذه الشرائط ، دليلٌ على أن ليس له عقل سليم .

الآية التالية تبيّن جواب جميع هذه الإِشكالات في عبارة موجزة : {انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا} .

هذه العبارة الموجزة أداء بليغ عن هذه الحقيقة ، فهم من خلال مجموعة من الأقوال الواهية التي لا أساس لها وقفوا أمام دعوة الحق والقرآن ـ الذي محتواه شاهد ناطق على ارتباطه بالله ـ ليخفوا وجه الحقيقة .

حقّاً ، إن مثلهم كمثل من يريد أن يقف أمام استدلالاتنا المنطقية من خلال حفنة من الحجج ، الواهية : فنقول من دون الاجابة عليها بالتفصيل : انظر بأية ادعاءات واهية يريدون أن يقفوا معها أمام الدليل المنطقي .

وهكذا كانت أقوالهم في جميع مواردها ، لأن :

أوّلا : لماذا يجب أن يكون الرّسول من جنس الملائكة ؟ بل ينبغي أن يكون قائد البشر منهم ، كما يحكم به العقل والعلم ، حتى يدرك جميع آلام ورغبات وحاجات ومشكلات ومسائل حياة الانسان تماماً ، ليكون قدوة عملية له على كل المستويات ، وحتى يستلهم الناس منه في جميع المناهج ، ومن المسلّم أن تأمين هذه الأهداف لم يكن ليتحقق لوكان من الملائكة ، ولقال الناس إذا حدثهم عن الزهد وعدم الإِهتمام بالدنيا : إنّه ملك ، وليست له حاجات مادية تجرّه إلى الدنيا وإذا دعا إلى الطهارة والعفة لقال الناس : إنه لا يدري ما عاصفة الغريزة الجنسية ، وعشرات (إذا) مثل تلك .

ثانياً : ما ضرورة أن ينزل ملك ليرافق بشراً من أجل تصديقه؟ أفليست المعجزات كافية لإدراك هذه الحقيقة ، وخاصّة معجزة عظيمة كالقرآن!

ثالثاً : أكل الطعام كسائر الناس ، والمشي في الأسواق يكون سبباً للإندماج بالناس أكثر ، والغوص في أعماق حياتهم ، ليؤدي رسالته بشكل أفضل .

رابعاً : عظمة الرّسول وشخصيته مردهما ليس إلى الكنز والنفائس ولا بساتين النخيل والفواكه الطازجة ، هذا نمط تفكير الكفار المنحرف الذي يعتبر أن المكانة ـ وحتى القرب من الله ـ في الأثرياء خاصّة ، في حال أنّ الأنبياء جاؤوا ليقولوا : أيّها الإِنسان ، إنّ قيمة وجودك ليست بهذه الأشياء ، إنّها بالعلم والتقوى والإِيمان .

خامساً : بأي مقياس كانوا يعتبرونه «مسحوراً» أو «مجنوناً»؟ الشخص الذي كان عقله معجزاً بشهادة تأريخ حياته وانقلابه العظيم وتأسيسه الحضارة الإِسلامية ، كيف يمكن إتهامه بهذه التهمة المضحكة؟ أيصح أن نقول إن تحطيم الأصنام ورفض الإِتباع الأعمى للأجداد دليل على الجنون؟!

إتضح بناءً على ما قلناه أن (الأمثال) هنا ، خاصّة مع القرائن الموجودة في الآية ، بمعنى الأقوال الفارغة الواهية ، ولعل التعبير عنها بـ (الأمثال) بسبب أنّهم يلبسونها لباس الحق فكانها مثله ، وأقوالهم مثل الأدلة المنطقية ، في حال أنّها ليست كذلك واقعاً . (2)

وينبغي أيضاً الإِلتفات إلى هذه النكتة ، وهي أنّ أعداء النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) كانوا يتهمونه ـ بـ «الساحر» وأحياناً بـ «المسحور» وإن كان بعض المفسّرين قد احتمل أن «المسحور» بمعنى «الساحر» (لأن اسم المفعول يأتي بمعنى اسم الفاعل أحياناً) ولكن الظاهر أن بينهما فرقاً .

عندما يقال عنه بأنّه ساحر ، فلأن كلامه كان ذا نفوذ خارق في القلوب ، ولأنّهم ما كانوا يريدون الإِقرار بهذه الحقيقة ، فقد لجأوا إلى اتهامه بـ «الساحر» .

أمّا «المسحور» فمعناه أن السحرة تدخّلوا في عقله وتصرفوا به ، وعملوا على اختلال حواسه ، هذا الإِتّهام نشأ من أن الرّسول كان محطماً لسنتهم ، ومخالفاً لعاداتهم وأعرافهم الخرافية ، وقد وقف في وجه مصالحهم الفردية .

أمّا جواب جميع هذه الإِتهامات فقد اتضح من الكلام أعلاه

وهنا يأتي هذا السؤال ، وهو أنّه لماذا قال تعالى : {فضلّوا فلا يستطيعون سبيلا} .

الجواب هو أنّ الإِنسان يستطيع أن يكتشف الطريق إلى الحق بصورة ما ، إذا كان مريداً للحق باحثاً عنه ، أمّا من يتخذ موقفه ـ ابتداءً ـ على أساس أحكام مسبّقة خاطئة ومضلّة ، نابعة من الجهل والتزمت والعناد ، فمضافاً إلى أنّه لا يعثر على الحق ، فإنّه سيتخذ موقعه ضد الحق دائماً .

الآية الأخيرة مورد البحث ـ كالآية التي قبلها ـ توجه خطابها إلى النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)على سبيل تحقير مقولات أُولئك ، وأنّها لا تستحق الإِجابة عليها ، يقول تعالى : {تبارك الذي إن شاء جعل لك خيراً من ذلك جنات تجري من تحتها الأنهار ويجعل لك قصوراً} .

وإلاّ ، فهل أحدٌ غير الله أعطى الآخرين القصور والبساتين؟ من غير الله خلق جميع هذه النعم والجمال في هذا العالم؟ تُرى أيستحيل على الله القادر المنّان أن يجعل لك أفضل من هذه القصور البساتين؟!

لكنّه لا يريد أبداً أن يعتقد الناس أن مكانتك مردُّها المال والثروة والقصور ، ويكونوا غافلين عن القيم الواقعية . إنه يريد أن تكون حياتك كالأفراد العاديين والمستضعفين والمحرومين ، حتى يمكنك أن تكون ملاذاً لجميع هؤلاء ولعموم الناس .

أمّا لماذا يقول قصوراً وبساتين أفضل ممّا أراده أُولئك؟ فلأن «الكنز» وحده ليس حلاّل المشاكل ، بل ينبغي بعد مزيد عناء أن يستبدل بالقصور والبساتين ، مضافاً الى أنّهم كانوا يقولون : ليكن لك بستان يؤمن معيشتك ، أمّا القرآن فيقول : إن الله قادر على أن يجعل لك قصوراً وبساتين ، لكن الهدف من بعثتك ورسالتك شيء آخر .

ورد في «الخطبة القاصعة» من «نهج البلاغة» بيان معبر وبليغ : هنالك حيث يقول الإِمام(عليه السلام) :

« . . . ولقد دخل موسى بن عمران ومعه أخوه هارون(عليهما السلام) على فرعون وعليهما مدارع الصوف وبأيديهما العصي فشرطا له إنْ أسلم بقاء ملكه ودوام عزّه فقال : «ألا تعجبون من هذين يشرطان لي دوام العز وبقاء الملك وهما بما ترون من حال الفقر والذل ، فهلاّ أُلقي عليهما أساورة من ذهب ، إعظاماً للذهب وجمعه ، واحتقاراً للصوف ولبسه . ولو أراد اللّه سبحانه بأنبيائه حيث بعثهم أن يفتح لهم كنوز الذُهبان ، ومعادان العقيان ، ومغارس الجنان ، وأن يحشر معهم طيور السماء ووحوش الأرض لفعل ، ولو فعل لسقط البلاء وبطل الجزاء ، واضمحلت الأنباء ، ولما وجب للقابلين أجور المبتلين ، ولا استحق المؤمنون ثواب المحسنين ، ولا لزمت الأسماء معانيها ، ولكن الله سبحانه جعل رسله اُولي قوّة في عزائمهم ، وضعفة فيما ترى الأعين من حالاتهم ، مع قناعة تملأ القلوب والعيون غنىً ، وخصاصة تملأ الأبصار والأسماع أذىً .

ولو كانت الأنبياء أهل قوة لا تُرام وعزّة لا تُضام ، وملك تمتد نحوه أعناق الرجال ، وتِشدُّ إليه عُقد الرحال ، لكان ذلك أهون على الخلق في الإِعتبار وأبعد لهم في الإِستكبار ، ولآمنوا عن رهبة قاهرة لهم أو رغبة مائلة بهم ، فكانت النيّاتُ مشتركة والحسنات مقتسمة ، ولكن الله سبحانه أراد أن يكون الإتباع لرسله والتصديق بكتبه والخشوع لوجهه والإِستكانة لأمره والإِستسلام لطاعته ، أموراً له خاصّة لا تشوبها من غيرها شائبة . وكلما كانت البلوى والإِختبار أعظم كانت المثوبة والجزاء أجزل» . (3)

والجدير بالذكر أنّ البعض يرى بأنّ المراد بالجنّة والقصور ، جنّة الآخرة قصورها ، لكن هذا التّفسير لا ينسجم مع ظاهر الآية بأي وجه . (4)

 

وقوله تعالى : {بَلْ كَذَّبُواْ بِالسَّاعَةِ وَاَعْتَدْنَا لِمَن كَذَّبَ بالسَّاعَةِ سَعِيراً (11) إِذا رَأَتْهُم مِّن مَّكَانِ بَعيد سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً (12) وَإِذَآ أُلْقُوأ مِنْهَا مَكَاناً ضَيِّقاً مُّقَرَّنِينَ دَعَواْ هُنَالِكَ ثُبُوراً (13) لاَّ تَدْعُواْ الْيَوَمَ ثُبُوراً وَحِداً وَادْعُواْ ثُبُوراً كَثِيراً (14) قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَآءً وَمَصِيراً (15) لَّهُمْ فِيهَا مَا يَشَآءُونَ خَلِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْداً مَّسْئُولا}

 

مقارنة بين الجنة والنار :

في هذه الآيات ـ على أثر البحث في الآيات السابقة حول إنحراف الكفار في مسألة التوحيد والنّبوة ـ يتناول القرآن الكريم قسماً آخر من انحرافاتهم في مسألة المعاد ، ويتّضح مع بيان هذا القسم أنّهم كانوا أسارى التزلزل والإِنحراف في تمام أصول الدين ، في التوحيد ، وفي النبوة ، وفي المعاد ، حيث ورد القسمان الأولان منه في الآيات السابقة ، ونقرأ الآن القسم الثالث :

يقول تعالى أوّلا : {بل كذبوا بالساعة} .

وبما أنّ كلمة «بل» تستعمل لأجل «الإِضراب» فيكون المعنى : أن ما يقوله أُولئك الكفار على صعيد نفي التوحيد والنبوة ، إنّما ينبع في الحقيقة من إنكارهم المعاد ، ذلك أنه إذا آمن الانسان بهكذا محكمة عظمى وبالجزاء الإِلهي ، فلن يتلقى الحقائق بمثل هذا الإِستهزاء واللامبالاة ، ولن يتذرع بالحجج الواهية ضد دعوة النّبي وبراهينه الظاهرة ، ولن يتذلل أمام الأصنام التي صنعها وزينّها بيده .

لكن القرآن هنا لم يتقدم برد استدلالي ، ذلك لأن هذه الفئة لم تكن من أهل الإِستدلال والمنطق ، بل واجههم بتهديد مخيف وجسد أمام أعينهم مستقبلهم المشؤوم والأليم ، فهذا الاسلوب قد يكون أقوى تأثيراً لمثل هؤلاء الأفراد يقول أوّلا : {واعتدنا لمن كذّب بالساعة سعيراً} . (5)

ثمّ وصف هذه النار المحرقة وصفاً عجيباً ، فيقول تعالى : {إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظاً وزفيراً} .

في هذه الآية ، تعبيرات بليغة متعددة ، تخبر عن شدّة هذا العذاب الإِلهي :

1 ـ إنّه لا يقول : إنّهم يرون نار جهنم من بعيد ، بل يقول : إن النار هي التي تراهم ـ كأن لها عيناً وأُذناً ـ فسمّرت عينها على الطريق بانتظار هؤلاء المجرمين .

2 ـ إنّها لا تحتاج إلى أن يقترب أولئك المجرمون منها ، حتى تهيج ، بل إنّها تزفر من مسافة بعيدة . . من مسافة مسيرة عام ، طبقاً لبعض الروايات .

3 ـ وصفت هذه النار المحرقة بـ «التغيظ» وذلك عبارة عن الحالة التي يعبّر بها الإِنسان عن غضبه بالصراخ والعويل .

4 ـ إن لجهنم «زفيراً» يعني كما ينفث الإِنسان النفس من الصدر بقوة ، وهذا عادة في الحالة التي يكون الإِنسان مغضباً جداً .

مجموع هذه الحالات يدل على أن نار جهنم المحرقة تنتظر هذه الفئة من المجرمين كانتظار الحيوان المفترس الجائع لغذائه «نستجير بالله» .

هذه حال جهنم حينما تراهم من بعيد ، أمّا حالهم في نار جهنم فيصفها تعالى : {وإذا أُلقوا منها مكاناً ضيقاً مقرّنين دعوا هنالك ثبوراً} . (6)

هذا ليس لأنّ جهنم صغيرة ، فإنّه طبقاً للآية (30) من سورة ق { يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ } [ق : 30] فهي مكان واسع ، لكن أُولئك يُحصَرون مكاناً ضيقاَ في هذا المكان الواسع ، فهم «يستكرهون في النار كما يستكره الوتد في الحائط» . (7)

كما أن كلمة «ثبور» في الأصل بمعنى «الهلاك والفساد» ، فحينما يجد الإِنسان نفسه أمام شيء مخيف ومهلك ، فإنّه يصرخ عالياً «واثبورا» التي مفهومها ليقع الموت عليّ» .

لكنّهم يجابون عاجلا {لا تدعوا اليوم ثبوراً واحداً وادعوا ثبوراً كثيراً} .

على أية حال ، فلن تنفعكم استغاثتكم في شيء ، ولن يكون ثمّة موت أوهلاك ، بل ينبغي أن تظلوا أحياء لتذوقوا العذاب الأليم .

هذه الآية في الحقيقة تشبه الآية (16) من سورة الطور حيث يقول تعالى {اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } [الطور : 16] .

مَن هو المتكلم مع الكافرين ها هنا؟ القرائن تدل على أنّهم ملائكة العذاب ، ذلك لأنّ حسابهم مع هؤلاء .

وأمّا لماذا يقال لهم هنا : {لا تدعوا ثبوراً واحداً وادعوا ثبوراً كثيراً}؟ ربّما كان ذلك لأنّ عذابهم الأليم ليس مؤقتاً فينتهي بقول (واثبورا) واحداً ، بل ينبغي أن يرددوا هذه الجملة طيلة هذه المدة ، علاوة على أنّ العقوبات الإِلهية لهؤلاء الظالمين المجرمين متعددة الألوان ، حيث يرون الموت أمام أعينهم إزاء كل مجازاة ، فتعلوا أصواتهم بـ (واثبورا) ، فكأنّهم يموتون ثمّ يحيون وهكذا .

ثمّ يوجه الخطاب إلى الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) ، ويأمره أن يدعو أُولئك إلى المقايسة ، فيقول تعالى : {قل أذلك خيرٌ أم جنة الخلد التي وعد المتقون كانت لهم جزاءً ومصيراً} .

تلك الجنّة التي {لهم فيها ما يشاؤون} .

تلك الجنّة التي سيبقون فيها أبداً (خالدين) .

أجل ، إنّه وعد الله الذي اُخذه على نفسه : {كان على ربّك وعداً مسؤولا} .

هذا السؤال ، وطلب هذه المقايسة ، ليس لأن أحداً لديه شك في هذا الأمر ، وليس لأن تلك العذابات الأليمة المهولة تستحق الموازنة والمقايسة مع هذه النعم التي لا نظير لها ، بل إن هذا النوع من الأسئلة والمطالبة بالمقارنة لأجل إيقاظ الضمائر الهامدة ، حيث تجعلها أمام أمر بديهي واحد ، وعلى مفترق طريقين :

فإذا قالوا في الجواب : إنّ تلك النعم أفضل وأعظم (وهوما سيقولونه حتماً) فقد حكموا على أنفسهم بأنّ أعمالهم خلاف ذلك . وإذا قالوا : إنّ العذاب أفضل من هذه النعمة ، فقد وقّعوا على وثيقة جنونهم ، وهذا يشبه ما إذا حذرنا شاباً ترك المدرسة والجامعة بقولنا : اعلم أنّ السجن هو مكان الذين فروا من العلم ووقعوا في أحضان الفساد ، ترى السجن أفضل أم الوصول إلى المقامات الرفيعة !؟

_________________

1- الامثل ، ناصر مكارم الشيرازي ، ج9 ، ص 162-171 .

2 ـ كثير من المفسّرين اعتبروا (الامثال) هنا بمعنى (التشبيهات) لكنّهم لم يوضحوا هنا ما هي التشبيهات التي قدمها المشركون ، وبعض آخر اعتبر (الأمثال) هنا بمعنى (الصفات) ، لأن أحد معاني (المثل) ـ طبقاً لما قاله الراغب في المفردات هو (الصفة) ، فالمقصود هنا هي الصفة الواهية التي لا أساس لها ، ذلك لأن ما في صدر وذيل الآية القرآنية أعلاه يدل على هذا المعنى ، فمن جانب يقول بعنوان التعجب : انظر آية أمثال ضربوا؟ ومن جانب آخر يقول : الاوصاف التي تؤدي الى ضلالهم الذي لا هداية بعده .

3 ـ «الخطبة القاصعة» ، الخطبة 192 نهج البلاغة .

4 ـ وكذلك الذين قالوا : إن المقصود هو جنات الدنيا وقصور الآخرة ، فالفعلان الماضي والمضارع (جعل ويجعل) اللذان في الآية ، ينبغي ألا يكونا باعثاً على هكذا وهم أيضاً ، لأنّنا نعلم طبقاً لقواعد الأدب العربي ، أن الأفعال في الجملة الشرطية تفقد مفهومها الزماني .

5 ـ «سعير» من «سَعْر» على وزن «قعر» بمعنى التهاب النار ، وعلى هذا يقال للسعير : النار المشتعلة والمحيطة والمحرقة .

6 ـ «مقرنين» من «قرن» بمعنى قرب واجتماع شيئين أو أكثر مع بعضهما ، ويقولون للحبل الذي يربطون به الأشياء «قرن» ، ويقولون أيضاً لمن تقيد يده ورجله مع بعضهما بالغل والسلاسل «مقرّن» (من أجل توضيح أكثر في المسألة راجع آخر الآية (49) من سورة إبراهيم) .

7 ـ مجمع البيان ، آخر الآية مورد البحث .




وهو تفسير الآيات القرآنية على أساس الترتيب الزماني للآيات ، واعتبار الهجرة حدّاً زمنيّاً فاصلاً بين مرحلتين ، فكلُّ آيةٍ نزلت قبل الهجرة تُعتبر مكّيّة ، وكلّ آيةٍ نزلت بعد الهجرة فهي مدنيّة وإن كان مكان نزولها (مكّة) ، كالآيات التي نزلت على النبي حين كان في مكّة وقت الفتح ، فالمقياس هو الناحية الزمنيّة لا المكانيّة .

- المحكم هو الآيات التي معناها المقصود واضح لا يشتبه بالمعنى غير المقصود ، فيجب الايمان بمثل هذه الآيات والعمل بها.
- المتشابه هو الآيات التي لا تقصد ظواهرها ، ومعناها الحقيقي الذي يعبر عنه بـ«التأويل» لا يعلمه الا الله تعالى فيجب الايمان بمثل هذه الآيات ولكن لا يعمل بها.

النسخ في اللغة والقاموس هو بمعنى الإزالة والتغيير والتبديل والتحوير وابطال الشي‏ء ورفعه واقامة شي‏ء مقام شي‏ء، فيقال نسخت الشمس الظل : أي ازالته.
وتعريفه هو رفع حكم شرعي سابق بنص شرعي لا حق مع التراخي والزمان بينهما ، أي يكون بين الناسخ والمنسوخ زمن يكون المنسوخ ثابتا وملزما بحيث لو لم يكن النص الناسخ لاستمر العمل بالسابق وكان حكمه قائما .
وباختصار النسخ هو رفع الحكم الشرعي بخطاب قطعي للدلالة ومتأخر عنه أو هو بيان انتهاء امده والنسخ «جائز عقلا وواقع سمعا في شرائع ينسخ اللاحق منها السابق وفي شريعة واحدة» .