أقرأ أيضاً
التاريخ: 4-9-2020
2746
التاريخ: 19-9-2020
68381
التاريخ: 14-9-2020
4435
التاريخ: 14-9-2020
6143
|
قال تعالى : {وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا (41) إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا (42) أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا (43) أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَو يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا } [الفرقان : 41 - 44]
تفسير مجمع البيان
- ذكر الطبرسي في تفسير هذه الآيات (1) :
ثم حكى سبحانه عن الكفار الذين وصفهم فيما تقدم فقال {وإذا رأوك} أي وإذا شاهدوك يا محمد {إن يتخذونك إلا هزوا} أي ما يتخذونك إلا مهزوا به والمعنى أنهم يستهزءؤن بك ويستصغرونك ويقولون على وجه السخرية {أ هذا الذي بعث الله رسولا} أي بعثه الله إلينا رسولا {إن كاد ليضلنا عن آلهتنا} قال ابن عباس معناه لقد كاد يصرفنا عن عبادة آلهتنا وتأويله قد قارب أن يأخذ بنا في غير جهة عبادة آلهتنا على وجه يؤدي إلى هلاكنا فإن الإضلال الأخذ بالشيء إلى طريق الهلاك {لولا أن صبرنا عليها} أي على عبادتها لأزلنا عن ذلك وحذف الجواب لدلالة الكلام عليه .
فقال سبحانه متوعدا لهم {وسوف يعلمون حين يرون العذاب} الذي ينزل بهم في الآخرة عيانا {من أضل سبيلا} أي من أخطأ طريقا عن الهدى أ هم أم المؤمنون ثم عجب سبحانه نبيه (صلى الله عليه وآله وسلّم) من نهاية جهلهم فقال {أ رأيت من اتخذ إلهه هواه} أي من جعل إلهه ما يهواه وهو غاية الجهل وكان الرجل من المشركين يعبد الحجر والصنم فإذا رأى أحسن منه رمى به وأخذ يعبد الآخر عن سعيد بن جبير وقيل معناه أ رأيت من ترك عبادة خالقه وإلهه ثم هوى حجرا فعبده ما حاله عندك عن عطاء عن ابن عباس وقيل من أطاع هواه واتبعه فهوكالإله له وترك الحق عن القتيبي .
{أ فأنت تكون عليه وكيلا} أي أ فأنت كفيل حافظ يحفظه من اتباع هواه وعبادة ما يهواه من دون الله أي لست كذلك وقيل معناه أ تقدر أنت يا محمد أن تهديه إذا لم يتدبر ولم يتفكر أي لا تقدر على ذلك لأن الوكيل هو الكافي للشيء ولا يكون كذلك إلا وهو قادر عليه ثم قال للنبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) {أم تحسب} يا محمد {أن أكثرهم يسمعون} ما تقوله سماع طالب للأفهام {أ ويعقلون} ما تقوله لهم وتقرأ عليهم وما يعاينونه من المعجزات والحجج أي لا تظن ذلك {إن هم إلا كالأنعام} أي ما هم إلا كالبهائم التي تسمع النداء ولا تعقل {بل هم أضل سبيلا} من الأنعام لأنهم مكنوا من المعرفة فلم يعرفوا والأنعام لم يمكنوا منها ولأن الأنعام ألهمت منافعها ومضارها فهي لا تفعل ما يضرها وهؤلاء عرفوا طريق الهلاك والنجاة وسعوا في هلاك أنفسهم وتجنبوا سبيل نجاتهم فهم أضل منها .
_______________
1- مجمع البيان ، الطبرسي ، ج7 ، ص299 .
تفسير الكاشف
- ذكر محمد جواد مغنية في تفسير هذه الآيات (1) :
صبرنا موجود لأضلَّنا الرسول . بين موقفين لعيسى ومحمد : {وإِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً} . أقام النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) ثلاث عشرة سنة بمكة يدعو قومه إلى الإيمان بإله واحد يأمر بالعدل ، وينهى عن الجور ، ويستوي عنده الأسود والأبيض ، والغني والفقير ، ولا فضل إلا بالتقوى . . فلا غرابة بعد هذا ان يضيق بمحمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) عتاة قريش ، ويؤذوه ويسخروا منه ومن دعوته . . وقد كان مبدأ المساواة مادة خصبة لهزئهم وسخريتهم . .
بلال العبد الذليل الفقير مثل أبي جهل صاحب الجاه والمال ، بل أفضل عند اللَّه لأنه أبر وأتقى . . ان هذا لشيء عجاب ! . . ولكن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) صبر على الأذى ، ومضى في دعوته وأدى مهمته لأن ما يدعو إليه يهون كل شيء من أجله . . وهكذا يصمد العظيم للسفهاء وقوى الشر والضلال ، وهو واثق ان اللَّه معه ، وان الغد له لأن الباطل إلى زوال وان طال أمده .
وقارن مصطفى صادق الرافعي بين عيسى (عليه السلام) حين سخر منه بنو إسرائيل ، وبين محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) حين سخرت منه قريش ، وقال فيما قال : {لقد هزؤا بالسيد المسيح من قبل ، فقال للساخرين منه : ليس نبي بلا كرامة إلا في وطنه وفي بيته ، وبهذا رد عليهم رد من انسلخ منهم . . أما نبينا (صلى الله عليه وآله وسلّم) فلم يجب المستهزئين ، إذ كانت القوة الكامنة في بلاد العرب كلها كامنه فيه .
انه سكت سكوت المشترع الذي لا يريد من الكلمة إلا عملها حين يتكلم ، وكان في سكوته كلام كثير في فلسفة الإرادة والحرية والتطور ، وان لا بد أن يتحول القوم ، وان لا بد أن ينفطر هذا الشجر الأجرد عن ورق جديد أخضر ينمو بالحياة . . انه لم يتسخط ولم يقل شيئا ، وكان كالصانع الذي لا يرد على خطأ الآلة بسخط ويأس ، بل بإرسال يده في إصلاحها) .
وعلينا نحن المسلمين أن نتعلم من هذا الدرس النبوي الثبات والصمود على الحق والتضحية في سبيله بكل عزيز ، وان لا نيأس من انتصار الحق على الباطل ، وان كثر أنصاره ، فان منهم من خدعته الكواذب التي تتكشف وتتبخر مع الأيام ، ومنهم من غلبت عليه شقوته في ساعة ذهل فيها عن ربه وضميره ، ثم يعود إليه ، ويتوب من ذنبه . وأيضا لا ينبغي أن نثق ونطمع في كل من طلب الحق وأقبل عليه ، فما أكثر الناكثين والمارقين ، ومن يتاجرون بالقيم والدين .
{إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا لَولا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها} . هذا من كلام المشركين الذين سخروا من الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلّم) وقالوا : {أهذا الذي بعث اللَّه رسولا} قالوا هذا منكرين جاحدين ، ثم اعترفوا من حيث لا يشعرون بأن محمدا كاد يشكّكهم في أصنامهم ، ويصرفهم عن عبادتها بما ظهر على يده من المعجزات ، وأقام من الدلائل والبينات ، واعترفوا أيضا بأنهم قاوموا عقولهم وتغلبوا عليها بشهواتهم وأهوائهم {إن كاد ليضلنا عن آلهتنا لولا ان صبرنا عليها} . انها لوقاحة مفضوحة ، وتناقض ظاهر بينها وبين السخرية من محمد . . سخروا منه ، واعترفوا له بقوة الحجة في آن واحد . . وهكذا كل مبطل : تتضارب أقواله من حيث لا يشعر . . والسر ان الحق يفرض نفسه ، ويبرزها جلية واضحة في أقوال المعاندين والجاحدين رغم أنوفهم .
{وسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً} . قالوا : كاد محمد يضلنا . فأجابهم سبحانه : ستعلمون غدا يوم تواجهون الهول الأكبر انكم الضالون الخاسرون ، لا محمد ومن آمن به {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ} . كل من تغلب هواه على دينه فقد اتخذ إلهه هواه ، أراد ذلك أم لم يرد ، ومن كان كذلك فلا أمل في هدايته ، لأن كل آية لا تعكس رغبته وهواه فهي عنده سخف وهراء {أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً} تحفظه من الضلال والفساد ؟ دعه فلا خير فيه ، وقد أنذرت وأعذرت ، وعلينا حسابه وعقابه .
أضل من الأنعام :
{أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَو يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} . قال سبحانه : أكثرهم ، لأن البعض منهم عاندوا في البداية ، ثم رجعوا عن ضلالهم ، وآبوا إلى رشدهم ، وانقادوا إلى الحق ، وأبلوا البلاء الحسن في سبيل اللَّه ، ونفى جل وعز السمع والعقل عن الذين أصروا على الجحود والضلال لأنهم لم ينتفعوا بأسماعهم وعقولهم ، وكل ما لا جدوى من وجوده فهو بحكم العدم ، وشبههم ، جلت حكمته ، بالأنعام لأنهم لم يتدبروا الأدلة والبراهين ولم يتعظوا بالحكمة والعبر ، بل هم أضل من الأنعام لأن الأنعام تؤدي ما عليها كاملا بحسب تكوينها وخصائصها ، وتنقاد إلى صاحبها أمرا وزجرا ، وتعرف ما يضرها فتتقيه ، وما ينفعها فتبتغيه ، وهم لا يؤدّون ما عليهم ، ولا ينقادون لخالقهم ، ولا يتقون عذابه ، ولا يعملون لثوابه . . وفوق هذا كله فان الأنعام والبهائم لا تضر أحدا من جنسها وغير جنسها ، بل ينتفع الناس بظهورها وألبانها وأصوافها ، أما أهل الفساد والضلال فإنهم شر ووبال على مجتمعهم ، وسبب لأدوائه وبلائه ، ومصدر لتأخره وانحطاطه .
وتجدر الإشارة إلى أن هذا الوصف لا يختص بمن كفر باللَّه أو أشرك به ، فكل من جحد الحق مع قيام الدليل عليه فهو أضل سبيلا من الأنعام ، سواء أجحده مكابرة وعنادا ، أم عن إهمال وتقصير في البحث عن أدلة الحق ومصادره .
____________
1- الكاشف ، محمد جواد مغنية ، ج5 ، ص469-472 .
تفسير الميزان
- ذكر الطباطبائي في تفسير هذه الآيات (1) :
تذكر الآيات بعض صفات أولئك الكفار القادحين في الكتاب والرسالة والمنكرين للتوحيد والمعاد مما يناسب سنخ اعتراضاتهم واقتراحاتهم كاستهزائهم الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) واتباعهم الهوى وعبادتهم لما لا ينفعهم ولا يضرهم واستكبارهم عن السجود لله سبحانه .
قوله تعالى : {وإذا رأوك إن يتخذونك إلا هزوا أ هذا الذي بعث الله رسولا} ضمير الجمع للذين كفروا السابق ذكرهم ، والهزؤ الاستهزاء والسخرية فالمصدر بمعنى المفعول ، والمعنى : وإذا رآك الذين كفروا لا يتخذونك إلا مهزوا به .
وقوله : {أ هذا الذي بعث الله رسولا} بيان لاستهزائهم أي يقولون كذا استهزاء بك .
قوله تعالى : {إن كاد ليضلنا عن آلهتنا لولا أن صبرنا عليها} إلخ {إن} مخففة من الثقيلة ، والإضلال كأنه مضمن معنى الصرف ولذا عدي بعن ، وجواب لولا محذوف يدل عليه ما تقدمه ، والمعنى أنه قرب أن يصرفنا عن آلهتنا مضلا لنا لولا أن صبرنا على آلهتنا أي على عبادتها لصرفنا عنها .
وقوله : {وسوف يعلمون حين يرون العذاب من أضل سبيلا} توعد وتهديد منه تعالى لهم وتنبيه أنهم على غفلة مما سيستقبلهم من معاينة العذاب واليقين بالضلال والغي .
قوله تعالى : {أ رأيت من اتخذ إلهه هواه أ فأنت تكون عليه وكيلا} الهوى ميل النفس إلى الشهوة من غير تعديله بالعقل ، والمراد باتخاذ الهوى إلها طاعته واتباعه من دون الله وقد أكثر الله سبحانه في كلامه ذم اتباع الهوى وعد طاعة الشيء عبادة له في قوله : {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي} [يس : 60 ، 61] .
وقوله : {أ فأنت تكون عليه وكيلا} استفهام إنكاري أي لست أنت وكيلا عليه قائما على نفسه وبأموره حتى تهديه إلى سبيل الرشد فليس في مقدرتك ذلك وقد أضله الله وقطع عنه أسباب الهداية وفي معناه قوله : {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص : 56] 56 ، وقوله : {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [فاطر : 22] ، والآية كالإجمال للتفصيل الذي في قوله : {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ } [الجاثية : 23] .
ويظهر مما تقدم من المعنى أن قوله : {اتخذ إلهه هواه} على نظمه الطبيعي أي إن {اتخذ} فعل متعد إلى مفعولين و{إلهه} مفعوله الأول و{هواه} مفعول ثان له فهذا هو الذي يلائم السياق وذلك أن الكلام حول شرك المشركين وعدولهم عن عبادة الله إلى عبادة الأصنام ، وإعراضهم عن طاعة الحق التي هي طاعة الله إلى طاعة الهوى الذي يزين لهم الشرك ، وهؤلاء يسلمون أن لهم إلها مطاعا وقد أصابوا في ذلك ، لكنهم يرون أن هذا المطاع هو الهوى فيتخذونه مطاعا بدلا من أن يتخذوا الحق مطاعا فقد وضعوا الهوى موضع الحق لا أنهم وضعوا المطاع موضع غيره فافهم .
ومن هنا يظهر ما في قول عدة من المفسرين أن {هواه} مفعول أول لقوله {اتخذ} و{إلهه} مفعول ثان مقدم ، وإنما قدم للاعتناء به من حيث إنه الذي يدور عليه أمر التعجيب في قوله : {أ رأيت من اتخذ} إلخ ، كما قاله بعضهم ، أو إنما قدم للحصر على ما قاله آخرون ، ولهم في ذلك مباحثات طويلة أغمضنا عن إيرادها وفيما ذكرناه كفاية إن شاء الله .
قوله تعالى : {أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا} أم منقطعة ، والحسبان بمعنى الظن وضمائر الجمع راجعة إلى الموصول في الآية السابقة باعتبار المعنى .
والترديد بين السمع والعقل من جهة أن وسيلة الإنسان إلى سعادة الحياة أحد أمرين إما أن يستقل بالتعقل فيعقل الحق فيتبعه أو يرجع إلى قول من يعقله وينصحه فيتبعه إن لم يستقل بالتعقل فالطريق إلى الرشد سمع أو عقل فالآية في معنى قوله : {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ } [الملك : 10] .
والمعنى : بل أ تظن أن أكثرهم لهم استعداد استماع الحق ليتبعه أو استعداد عقل الحق ليتبعه فترجو اهتداءهم فتبالغ في دعوتهم .
وقوله : {إن هم إلا كالأنعام} بيان للجملة السابقة فإنه في معنى : أن أكثرهم لا يسمعون ولا يعقلون فتنبه أنهم ليسوا إلا كالأنعام والبهائم في أنها لا تعقل ولا تسمع إلا اللفظ دون المعنى .
وقوله : {بل هم أضل سبيلا} أي من الأنعام وذلك أن الأنعام لا تقتحم على ما يضرها وهؤلاء يرجحون ما يضرهم على ما ينفعهم ، وأيضا الأنعام إن ضلت عن سبيل الحق فإنها لم تجهز في خلقتها بما يهديها إليه وهؤلاء مجهزون وقد ضلوا .
واستدل بعضهم بالآية على أن الأنعام لا علم لها بربها .
وفيه أن الآية لا تنفي عنها ولا عن الكفار أصل العلم بالله وإنما تنفي عن الكفار اتباع الحق الذي يهدي إليه عقل الإنسان الفطري لاحتجابه باتباع الهوى ، وتشبههم في ذلك بالأنعام التي لم تجهز بهذا النوع من الإدراك .
وأما ما أجاب به بعضهم أن الكلام خارج مخرج الظاهر فقول لا سبيل إلى إثباته بالاستدلال .
______________
1- الميزان ، الطباطبائي ، ج15 ، ص178-180 .
تفسير الامثل
- ذكر الشيخ ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذه الآيات (1) :
أضلُّ من الأَنعام :
الملفت للإنتباه أنّ القرآن المجيد لا يورد أقوال المشركين دفعة واحدة في آيات هذه السورة ، بل أورد بعضاً منها ، فكان يتناولها بالردّ والموعظة والإنذار ، ثمّ بعد ذلك يواصل تناول بعض آخر بهذا الترتيب .
الآيات الحالية ، تتناول لوناً آخر من منطق المشركين وكيفية تعاملهم مع رسول الإسلام(صلى الله عليه وآله وسلم) ودعوته الحقّة .
يقول تعالى أولا : {وإذا رأوك إن يتّخذونك إلاّ هزواً أهذا الذي بعث الله رسولا} . (2)
وهكذا نجد هؤلاء الكفار يتعجبون ! أيَّ ادعاء عظيم يدعي ؟ أي كلام عجيب يقول !؟ . . . إنّها مهزلة حقّاً !
لكن يجب ألا ننسى أنّ رسول الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) ، كان هو ذلك الشخص الذي عاش بينهم أربعين عاماً قبل الرسالة ، وكان معروفاً بالأمانة والصدق والذكاء والدراية ، لكنَّ رؤوسَ الكفر تناسوا صفاته هذه حينما تعرضت منافعهم الى الخطر ، وتلقوا مسألة دعوة النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ـ بالرغم من جميع تلك الشواهد والدلائل الناطقة ـ بالسخرية والإستهزاء حتى لقد اتّهموه بالجنون .
ثمّ يواصل القرآن ذكر مقولات المشركين فينقل عن لسانهم {إن كاد ليضلنا عن آلهتنا لولا أن صبرنا عليها} (3) .
لكن القرآن يجيبهم من عدّة طرق ، ففي البداية من خلال جملة واحدة حاسمة يرد على مقولات هذه الفئة التي ما كانت أهلا للمنطق : {وسوف يعلمون حين يرون العذاب من أضل سبيلا} .
يمكن أن يكون هذا العذاب إشارة إلى عذاب القيامة ، كما قال بعض المفسّرين مثل «الطبرسي» في مجمع البيان ، أو عذاب الدنيا مثل الهزيمة المنكرة يوم «بدر» وأمثالها ، كما قال «القرطبي» في تفسيره المعروف ، ويمكن أن تكون الإشارة إليهما معاً .
الملفت للنظر أنّ هذه الفئة الضالة في مقولتها هذه ، وقعت في تناقض فاضح ، فمن جهة تلقت النّبي ودعوته بالسخرية ، إشارة إلى أن ادعاءه بلا أساس ولا يستحق أن يؤخذ مأخذ الجد ، ومن جهة أُخرى أنّه لولا تمسكهم بمذهب أجدادهم ، فمن الممكن أن ـ يؤثر عليهم كلام النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ويضلّهم عن ذلك المذهب ، وهذا يدل على أنّهم كانوا يعتبرون كلامه قوياً وجدياً ومؤثراً ومحسوباً ، وهذا المنطق المضطرب ليس غريباً عن هؤلاء الأفراد الحيارى اللجوجين .
وكثيراً ما يُرى أنّ منكري الحق حينما يقفون قبالة الأمواج المتلاطمة لمنطق القادة الإلهيين ، فإنّهم يختارون اُسلوب الإستهزاء تكتيكاً من أجل توهينه ودفعه ، في حين أنّهم يخالفون سلوكهم هذا في الباطن ، بل قد يأخذوه بجدية أحياناً ويقفون ضده بجميع امكاناتهم .
الجواب القرآني الثّاني على مقولاتهم ورد في الآية التي بعدها ، موجهاً الخطاب إلى النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) على سبيل المواساة وتسلية الخاطر ، وأيضاً على سبيل بيان الدليل على أصل عدم قبول دعوة النّبي من قبل أُولئك ، فيقول : {أرأيت من اتخذ إلهه هواه} فهل أنت قادر مع هذا الحال على هدايته والدفاع عنه {أفأنت تكون عليه وكيلا} .
يعني إذا وقف أُولئك أمام دعوتك بالإستهزاء والإنكار وأنواع المخالفات ، فلم يكن ذلك لأن منطقك ضعيف ودلائلك غير مقنعة ، وفي دينك شك أو ريبة ، بل لأنّهم ليسوا أتباع العقل والمنطق ، فمعبودهم أهواؤهم النفسية ، تُرى أتنتظر أن يطيعك هكذا أشخاص ، أو تستطيع أن تؤثر فيهم !؟
أقوال مختلفة للمفسرين الكبار في معنى جملة : {أرأيت من اتّخذ إلهة هواه} :
قال جماعة ـ كما قلنا آنفاً ـ : إنّ المقصود أنّ لهم صنماً ، ذلك هو هواهم النفسي ، وكل أعمالهم تصدر من ذلك المنبع .
في حين أنّ جماعة أُخرى ترى أنّ المراد هو أنّهم لا يراعون المنطق بأي شكل في اختيارهم الأصنام ، بل إنّهم متى ما كانت تقع أعينهم على قطعة حجر ، أو شجرة جذابة ، أو شيء آخر يثير هواهم ، فإنّهم يتوهمونه «معبوداً» ، فكانوا يجثون على ركبهم أمامه ، ويقدمون القربان ، ويسألونه حل مشكلاتهم .
وذكر في سبب نزول هذه الآية رواية مؤيدة لهذا المعنى ، وهي أن إحدى السنين العجاف مرّت على قريش ، فضاق عليهم العيش ، فخرجوا من مكّة وتفرقوا فكان الرجل إذا رأى شجرة حسنة أو حجراً حسناً هويه فعبده ، وكانوا ينحرون النعم ويلطخونها بالدم ويسمونها «سعد الصخرة» ، وكان إذا أصابهم داء في إبلهم أغنامهم جاؤوا إلى الصخرة فيمسحون بها الغنم والإبل ، فجاء رجل من العرب بإبل يريدُ أن يمسح بالصخرة إبله ويتبرك بها ، فنفرت إبله فتفرقت ، فقال الرجل شعراً :
أتيتُ إلى سعد ليجمع شملنا فشتتنا سعد فما نحن من سعدِ
وما سعدِ إلاّ صخرة مستوية من الأرض لا تهدي لغيٍّ ولا رشدِ
ومرَّ به رجل من العرب والثعلب يبول عليه
فقال شعراً :
وربّ يبول الثعلبانُ برأسه لقد ذلَّ من بالت عليه الثعالب (4)
التّفسيران أعلاه لا منافاة بينهما ، فأصل عبادة الأصنام ـ التي هي وليدة الخرافات ـ هو اتباع الهوى ، كما أنّ اختيار الأصنام المختلفة بلا أي منطق ، فرع آخر عن أتباع الهوى أيضاً .
وسيأتي بحث مفصل في الملاحظات الآتية ، بصدد «اتباع الهوى والشهوات» إن شاء الله .
وأخيراً فإنّ الجواب القرآني الثّالث لهذه الفئة الضالة ، هو قوله : {أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون ، إن هم إلاّ كالأنعام بل هم أضلُّ سبيلا} .
يعني لا يؤذينك استهزاؤهم ومقولاتهم السيئة وغير المنطقية أبداً ، لأنّ الانسان إمّا أن يكون ذا عقل ، ويستخدم عقله ، فيكون مصداقاً لـ «يعقلون» .
أو أنّه فاقد للعلم ولكنّه يسمع قول العلماء ، فيكون مصداقاً لـ «يسمعون» ، لكن هذه الفئة لا من أُولئك ولا من هؤلاء ، وعلى هذا فلا فرق بينهم وبين الانعام . وواضح أنّه لا يتوقع من الأنعام غير الصياح والرفس والأفعال اللامنطقية . بل هم أتعس من الأنعام وأعجز ، إذ أن الأنعام لا تعقل ولا فكر لها ، وهؤلاء لهم عقل وفكر ، وتسافلوا إلى حال كهذه .
المهم هو أنّ القرآن يعبّر بـ «أكثرهم» هنا أيضاً ، فلا يعمم هذا الحكم على الجميع ، لأنّه قد يكون بينهم أفراد مخدوعون واقعاً ، وحينما يواجهون الحق تنكشف عن أعينهم الحجب تدريجياً ، فيتقبلوا الحق ، وهذا نفسه دليل على أن القرآن يراعي الإنصاف في المباحث القرآنية .
_______________
1- الامثل ، ناصر مكارم الشيرازي ، ج9 ، ص208-211 .
2 ـ «هزواً» مصدر ، وجاء هنا بمعنى المفعول ، وهذا الإحتمال وارد أيضاً وهو أن يكون مضافاً مقداراً (محل هزو) ، أيضاً فالتعبير بـ «هذا» للتحقير ولتصغير النّبي .
3 ـ كلمة (إنْ) في (إنْ كاد ليضلنا) مخففة ، للتوكيد ، وفي تقدير «إنّه كاد» وضميرها ضمير الشأن .
4 ـ تفسير علي بن إبراهيم القمي ، طبقاً لنقل نور الثقلين ، ج 4 ، ص 20 .
|
|
تفوقت في الاختبار على الجميع.. فاكهة "خارقة" في عالم التغذية
|
|
|
|
|
أمين عام أوبك: النفط الخام والغاز الطبيعي "هبة من الله"
|
|
|
|
|
المجمع العلمي ينظّم ندوة حوارية حول مفهوم العولمة الرقمية في بابل
|
|
|