المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية

القرآن الكريم وعلومه
عدد المواضيع في هذا القسم 17560 موضوعاً
تأملات قرآنية
علوم القرآن
الإعجاز القرآني
قصص قرآنية
العقائد في القرآن
التفسير الجامع
آيات الأحكام

Untitled Document
أبحث عن شيء أخر
تأثير الأسرة والوراثة في الأخلاق
2024-10-28
تأثير العشرة في التحليلات المنطقيّة
2024-10-28
دور الأخلّاء في الروايات الإسلاميّة
2024-10-28
ترجمة ابن عبد الرحيم
2024-10-28
ترجمة محمد بن لب الأمي
2024-10-28
من نثر لسان الدين
2024-10-28

قاعدة « الفراغ »
18-9-2016
تاريخ صناعة شمع الاساس
17-11-2017
من ادلة امامة الصادق(عليه السلام)
17-04-2015
نطاق حق التصرف ووسائل حمايته
2-8-2017
ماهي الحشرات اللافة للأوراق؟
21-3-2021
نبات (ملكة الخريف) الكريزاتثم (الأراولا)
2024-08-14


تفسير الآية (46-51) من سورة الروم  
  
5227   05:35 مساءً   التاريخ: 21-8-2020
المؤلف : إعداد : المرجع الإلكتروني للمعلوماتية
الكتاب أو المصدر : تفاسير الشيعة
الجزء والصفحة : .....
القسم : القرآن الكريم وعلومه / التفسير الجامع / حرف الراء / سورة الروم /

قال تعالى : {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (46) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47) اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48) وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (49) فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتَى وَهُو عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (50) وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ} [الروم : 46 - 51] .

 

تفسير مجمع البيان

- ذكر الطبرسي في تفسير هذه الآيات (1) :

 

لما وعد الله سبحانه وأوعد فكان قائلا قال ما أصل ما يجزي الله عليه بالخير فقيل العبادة وأصل عبادة الله معرفته ومعرفته إنما تكون بأفعاله فقال {ومن آياته} أي ومن أفعاله الدالة على معرفته {أن يرسل الرياح مبشرات} بالمطر فكأنها ناطقات بالبشارة لما فيها من الدلالة عليه وإرسال الرياح تحريكها وإجراؤها في الجهات المختلفة تارة شمالا وتارة جنوبا صبا وأخرى دبورا على حسب ما يعلم الله في ذلك من المصلحة {وليذيقكم من رحمته} أي وليصيبكم من نعمته وهي الغيث وتقديره أنه يرسل الرياح للبشارة والإذاقة من الرحمة {ولتجري الفلك} بها {بأمره ولتبتغوا من فضله} أي ولتطلبوا بركوب السفن الأرياح وقيل لتطلبوا بالأمطار فيما تزرعونه من فضل الله {ولعلكم تشكرون} نعمة الله تلطف سبحانه بلفظ لعلكم في الدعاء إلى الشكر كما تلطف في الدعاء إلى البر بقوله {من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا} .

ثم خاطب سبحانه نبيه (صلى الله عليه وآله وسلّم) تسلية له في تكذيب قومه إياه فقال {ولقد أرسلنا من قبلك} يا محمد {رسلا إلى قومهم فجاؤهم بالبينات} أي بالمعجزات والآيات الباهرات وهاهنا حذف تقديره فكذبوهم وجحدوا ب آياتنا فاستحقوا العذاب {فانتقمنا من الذين أجرموا} أي عاقبناهم بتكذيبهم {وكان حقا علينا نصر المؤمنين} معناه ودفعنا السوء والعذاب عن المؤمنين وكان واجبا علينا نصرهم بإعلاء الحجة ودفع الأعداء عنهم إلا أنه دل على المحذوف قوله {وكان حقا علينا نصر المؤمنين} وجاءت الرواية عن أم الدرداء أنها قالت سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) يقول ما من امرىء مسلم يرد عن عرض أخيه إلا كان حقا على الله أن يرد عنه نار جهنم يوم القيامة ثم قرأ {وكان حقا علينا نصر المؤمنين} .

ثم قال سبحانه مفسرا لما أجمله في الآية المتقدمة {الله الذي يرسل الرياح فتثير سحابا} أي فتهيج سحابا فتزعجه {فيبسطه} الله {في السماء كيف يشاء} إن شاء بسطه مسيرة يوم وإن شاء بسطه مسيرة يومين ويجريها إلى أي جهة شاء وإلى أي بلد شاء {ويجعله كسفا} أي قطعا متفرقة عن قتادة وقيل متراكبا بعضه على بعض حتى يغلظ عن الجبائي وقيل قطعا تغطي ضوء الشمس عن أبي مسلم {فترى الودق} أي القطر {يخرج من خلاله} أي من خلال السحاب {فإذا أصاب به} أي بذلك الودق {من يشاء من عباده إذا هم يستبشرون} أي يفرحون ويبشر بعضهم بعضا به {وإن كانوا من قبل أن ينزل عليهم من قبله لمبلسين} معناه وإنهم كانوا من قبل إنزال المطر عليهم قانطين آيسين من نزول المطر عن قتادة وكرر كلمة {من قبل} للتوكيد عن الأخفش وقيل إن الأول من قبل الإنزال للمطر والثاني من قبل الإرسال للرياح .

{فانظر إلى آثار رحمت الله كيف يحيي الأرض} حتى أنبت شجرا ومرعى {بعد موتها} أي بعد أن كانت مواتا يابسة جعل الله سبحانه اليبس والجدوبة بمنزلة الموت وظهور النبات فيها بمنزلة الحياة توسعا {أن ذلك لمحي الموتى} أي إن الله تعالى يفعل ما ترون وهو الله تعالى ليحيي الموتى في الآخرة بعد كونهم رفاتا {وهو على كل شيء قدير} مر معناه .

ثم عاب سبحانه كافر النعمة فقال {ولئن أرسلنا ريحا} مؤذنة بالهلاك باردة {فرأوه مصفرا} أي فرأوا النبت والزرع الذي كان من أثر رحمة الله مصفرا من البرد بعد الخضرة والنضارة وقيل إن الهاء يعود إلى السحاب ومعناه فرأوا السحاب مصفرا لأنه إذا كان كذلك لم يكن فيه مطر {لظلوا من بعده يكفرون} أي لصاروا من بعد أن كانوا راجين مستبشرين يكفرون بالله وبنعمته ولم يرضوا بقضاء الله تعالى فيه فعل من جهل صانعه ومدبره ولا يعلم أنه حكيم لا يفعل إلا الأصلح فيشكر عند النعمة ويصبر عند الشدة .

_____________

1- مجمع البيان ، الطبرسي ، ج8 ، ص68-70 .

 

تفسير الكاشف

- ذكر محمد جواد مغنية في تفسير هذه الآيات (1) :

 

{ومِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ ولِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ ولِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ ولِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} . كل شيء يترتب على وجوده حكمة لا غنى عنها فهو دليل قاطع على نفي الصدفة ووجود القصد والإرادة ، وهذا الدليل هو المراد بآية اللَّه الدالة على وجوده . وللرياح فوائد كثيرة ، فهي - إذن - آية دالة على وحدانية اللَّه وقدرته ، ومن فوائدها إثارة السحاب الذي يبشر الناس بالخير ، وجريان السفن على متن الماء تحمل الأقوات من بلد إلى بلد ، وغير ذلك مما أشار إليه الإمام جعفر الصادق بقوله : (لوكفت الريح ثلاثة أيام لفسد كل شيء على وجه الأرض ونتن ، لأن الريح بمنزلة المروحة تذب وتدفع الفساد عن كل شيء وتطيبه فهي بمنزلة الروح إذا خرجت من البدن نتن وتغير . . فتبارك اللَّه أحسن الخالقين) .

{ولَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} أي تتقون معاصي اللَّه في السر والعلانية . وأشرنا فيما تقدم أكثر من مرة ان اللَّه يجري الأشياء على أسبابها ، ويسندها إليه لأنه السبب الأول الذي تنتهي إليه جميع الأسباب .

لَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُوهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ . أرسل اللَّه محمدا (صلى الله عليه واله وسلم) بالحجة الوافية ، كما أرسل من قبله بالحجج الواضحة إبراهيم وموسى وعيسى وغيرهم من الأنبياء ، فكذّب بهم كثير ، وآمن بهم قليل ، فأخذ اللَّه المكذبين بعذاب يوم عظيم ، ونصر اللَّه الأنبياء ومن معهم ، وهذا النصر واجب على اللَّه ، وهو الذي أوجبه وكتبه على نفسه تماما كما كتب عليها الرحمة . . ومحال ان تضيع عند اللَّه ظلامة مظلوم وإلا كان الظالم أحسن حالا من المظلوم عند اللَّه . انظر ج 4 ص 132 فقرة : {الحساب والجزاء حتم} . والغرض من هذه الآية تهديد الذين كذبوا محمدا (صلى الله عليه واله وسلم) ان يصيبهم مثل ما أصاب الذين كذبوا أنبياءهم من قبل .

{اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ ويَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ} . هذا توضيح للآية السابقة ، وهي : {ومِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ} ويتلخص المعنى بأن اللَّه سبحانه يرسل الرياح ، فتحرك السحاب ، وتنشره في السماء ، ثم تقسمه بأمره إلى قطع ، وتدفع بكل قطعة إلى البلد الذي أراده اللَّه ، فإذا وصلت إليه خرج الماء من السحابة وتساقط على البلد المقصود ، فيفرح أهله ، ويبشر بعضهم بعضا بالخير ، ومن قبل كانوا قانطين يائسين . وتقدم مثله في الآية 57 من سورة الأعراف ج 3 ص 342 .

 

العقل وفكرة البعث :

 

{فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى وهُو عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} . المراد برحمة اللَّه هنا المطر ، وبآثاره إحياء الأرض بعد موتها ، وهذا الإحياء ثابت بالعيان ، وهو دليل قاطع ومحسوس على أن فكرة البعث والإحياء بعد الموت من حيث هي صحيحة لا تقبل الشك ، لأن العاقل إذا تنبه وتدبر إحياء الأرض بعد موتها لا بد أن يسلم ويؤمن بفكرة البعث كفكرة ، وإلا كان من الذين يجمعون بين الايمان بوجود الشيء والايمان بعدمه في آن واحد . .

وبداهة ان هذا الجمع ممتنع بذاته وطبعه . . وهنا يكمن السر في تكرار الآيات التي تنبه العقول إلى إحياء الأرض بعد موتها كدليل على إمكان البعث ، ومن هذه الآية قوله تعالى : {فَأَحْيَيْنا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ} - 9 فاطر ، وقوله : {ومِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خاشِعَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ ورَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى} - 39 فصلت . وغيرها كثير .

{ولَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ} . الهاء في رأوه تعود إلى الزرع المفهوم من سياق الكلام ، ومصفرا صفة له ، لا للريح ، والمعنى إذا أرسل اللَّه ريحا يصفر منها زرعهم بعد خضرته يئسوا من رحمة اللَّه ، واعترضوا على حكمته ، وكفروا به وبنعمته ، وان دل هذا على شيء فإنما يدل على أن إيمانهم باللَّه وهم وخيال ، ولوكان مستقرا في القلوب لثبتوا عليه في السراء والضراء . قال الإمام علي (عليه السلام) : (من الايمان ما يكون ثابتا مستقرا في القلوب ، ومنه ما يكون عواري بين القلوب والصدور إلى أجل معلوم) . . ان المؤمن يتألم ويحزن كإنسان إذا أصيب في نفسه أو ولده أو ماله ، ولكنه لا يخرج عن دينه .

قال الرسول الأعظم (صلى الله عليه واله وسلم) عند وفاة ولده إبراهيم : تدمع العين ، ويحزن القلب ، ولا نقول ما يسخط الرب .

________________

1- تفسير الكاشف ، محمد جواد مغنية ، ج6 ، ص 149-151 .

 

تفسير الميزان

- ذكر الطباطبائي في تفسير هذه الآيات (1) :

 

قوله تعالى : {ومن آياته أن يرسل الرياح مبشرات وليذيقكم من رحمته ولتجري الفلك بأمره ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون} ، المراد بكون الرياح مبشرات تبشيرها بالمطر حيث تهب قبيل نزوله .

وقوله : {وليذيقكم من رحمته} عطف على موضع مبشرات لما فيه من معنى التعليل والتقدير يرسل الرياح لتبشركم وليذيقكم من رحمته والمراد بإذاقة الرحمة إصابة أنواع النعم المترتبة على جريان الرياح كتلقيح الأشجار ودفع العفونات وتصفية الأجواء وغير ذلك مما يشمله إطلاق الجملة .

وقوله : {ولتجري الفلك بأمره} أي لجريان الرياح وهبوبها .

وقوله : {ولتبتغوا من فضله} أي لتطلبوا من رزقه الذي هومن فضله .

وقوله : {ولعلكم تشكرون} ، غاية معنوية كما أن الغايات المذكورة من قبل غايات صورية ، والشكر هو استعمال النعمة بنحو ينبىء عن إنعام منعمه أو الثناء اللفظي عليه بذكر إنعامه ، وينطبق بالأخرة على عبادته ولذلك جيء بلعل المفيدة للرجاء فإن الغايات المعنوية الاعتبارية ربما تخلفت .

قوله تعالى : {ولقد أرسلنا من قبلك رسلا إلى قومهم فجاءوهم بالبينات فانتقمنا من الذين أجرموا وكان حقا علينا نصر المؤمنين} قال الراغب : أصل الجرم - بالفتح فالسكون - قطع الثمرة عن الشجر - إلى أن قال - وأجرم صار ذا جرم نحو أثمر وأتمر وألبن واستعير ذلك لكل اكتساب مكروه ، ولا يكاد يقال في عامة كلامهم للكيس المحمود انتهى .

والآية كالمعترضة وكأنها مسوقة لبيان أن للمؤمنين حقا على ربهم وهو نصرهم في الدنيا والآخرة ومنه الانتقام من المجرمين ، وهذا الحق مجعول من قبله تعالى لهم على نفسه فلا يرد عليه محذور لزوم كونه تعالى مغلوبا في نفسه مقهورا محكوما لغيره .

وقوله : {فانتقمنا من الذين أجرموا} الفاء فصيحة أي فآمن بعضهم وأجرم آخرون فانتقمنا من المجرمين وكان حقا علينا نصر المؤمنين بإنجائهم من العذاب وإهلاك مخالفيهم ، وفي الآية بعض الإشعار بأن الانتقام من المجرمين لأجل المؤمنين فإنه من النصر .

 

وقوله تعالى : { اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48) وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (49) فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (50) وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ} [الروم : 48 - 51] .

 

هذا هو الفصل الثالث من الآيات المحتجة من طريق أفعاله تعالى وإن شئت فقل : أسماء أفعاله وعمدة غرضها الاحتجاج على المعاد ، ولما كان عمدة إنكارهم وجحودهم متوجها إلى المعاد وبإنكاره يلغو الأحكام والشرائع فيلغو التوحيد عقب الاحتجاج بإيئاس النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأمره بأن يشتغل بدعوة في نفسه استعداد الإيمان وصلاحية الإسلام والتسليم للحق .

قوله تعالى : {الله الذي يرسل الرياح فتثير سحابا فيبسطه في السماء كيف يشاء} إلى آخر الآية ، الإثارة التحريك والنشر والسحاب الغمام والسماء جهة العلو فكل ما علاك وأظلك فهو سماء والكسف بالكسر فالفتح جمع كسفة وهي القطعة والودق القطر من المطر والخلال جمع خلة وهي الفرجة .

والمعنى : الله الذي يرسل الرياح فتحرك وتنشر سحابا ويبسط ذلك السحاب في جهة العلو من الجو كيف يشاء سبحانه ويجعله قطعات متراكبة متراكمة فترى قطر المطر يخرج من فرجه فإذا أصاب بذلك المطر من يشاء من عباده إذا هم يستبشرون لأنه مادة حياتهم وحياة الحيوان والنبات .

قوله تعالى : {وإن كانوا من قبل أن ينزل عليهم من قبله لمبلسين} الإبلاس : اليأس والقنوط .

وضمير {ينزل} للمطر وكذا ضمير {من قبله} على ما قيل ، وعليه يكون {من قبله} تأكيدا لقوله : {من قبل أن ينزل عليهم} وفائدة التأكيد - على ما قيل - الإعلام بسرعة تقلب قلوب البشر من اليأس إلى الاستبشار ، وذلك أن قوله : {من قبل أن ينزل عليهم} يحتمل الفسحة في الزمان فجاء {من قبله} للدلالة على الاتصال ودفع ذلك الاحتمال .

وفي الكشاف ، أن قوله : {من قبله} من باب التكرير والتوكيد كقوله تعالى : {فكان عاقبتهما أنهما في النار خالدين فيها} ومعنى التوكيد فيه الدلالة على أن عهدهم بالمطر قد تطاول وبعد فاستحكم يأسهم وتمادى إبلاسهم فكان الاستبشار على قدر اغتمامهم بذلك . انتهى .

وربما قيل : إن ضمير {من قبله} لإرسال الرياح ، والمعنى : وإن كانوا من قبل أن ينزل عليهم المطر من قبل إرسال الرياح لآيسين قانطين .

قوله تعالى : {فانظر إلى آثار رحمة الله كيف يحيي الأرض بعد موتها إن ذلك لمحيي الموتى وهو على كل شيء قدير} الآثار جمع الأثر وهوما يبقى بعد الشيء فيدل عليه كأثر القدم وأثر البناء واستعير لكل ما يتفرع على شيء ، والمراد برحمة الله المطر النازل من السحاب الذي بسطته الرياح ، وآثارها ما يترتب على نزول المطر من النبات والأشجار والأثمار وهي بعينها آثار حياة الأرض بعد موتها .

ولذا قال : {فانظر إلى آثار رحمة الله كيف يحيي الأرض بعد موتها} فجعل آثار الرحمة التي هي المطر كيفية إحياء الأرض بعد موتها ، فحياة الأرض بعد موتها من آثار الرحمة والنبات والأشجار والأثمار من آثار حياتها وهي أيضا من آثار الرحمة والتدبير تدبير إلهي يتفرع على خلقة الرياح والسحاب والمطر .

وقوله : {إن ذلك لمحيي الموتى} الإشارة بذلك إليه تعالى بما له من الرحمة التي من آثارها إحياء الأرض بعد موتها ، وفي الإشارة البعيدة تعظيم ، والمراد بالموتى موتى الإنسان أو الإنسان وغيره من ذوي الحياة .

والمراد بقوله : {إن ذلك لمحيي الموتى} الدلالة على المماثلة بين إحياء الأرض الميتة وإحياء الموتى إذ في كل منهما موت هو سقوط آثار الحياة من شيء محفوظ وحياة هي تجدد تلك الآثار بعد سقوطها ، وقد تحقق الإحياء في الأرض والنبات وحياة الإنسان وغيره من ذوي الحياة مثلها وحكم الأمثال فيما يجوز وفيما لا يجوز واحد ، فإذا جاز الإحياء في بعض هذه الأمثال وهو الأرض والنبات فليجز في البعض الآخر .

وقوله : {وهو على كل شيء قدير} تقرير للإحياء المذكور ببيان آخر وهو عموم القدرة فإن القدرة غير محدودة ولا متناهية فيشمل الإحياء بعد الموت وإلا لزم تقيدها وقد فرضت مطلقة غير محدودة .

قوله تعالى : {ولئن أرسلنا ريحا فرأوه مصفرا لظلوا من بعده يكفرون} ضمير {فرأوه} للنبات المفهوم من السياق ، وقوله {لظلوا} جواب للقسم قائم مقام الجزاء ، والمعنى : وأقسم لئن أرسلنا ريحا باردة فضربت زروعهم وأشجارهم بالصفار ورأوه لظلوا بعده كافرين بنعمه .

ففي الآية توبيخهم بالتقلب السريع في النعمة والنقمة ، فإذا لاحت لهم النعمة بادروا إلى الاستبشار ، وإذا أخذ بعض ما أنعم الله به من فضله لم يلبثوا دون أن يكفروا بالمسلمات من النعم .

وقيل : ضمير {فرأوه} للسحاب لأن السحاب إذا كان أصفر لم يمطر ، وقيل : للريح فإنه يذكر ويؤنث ، والقولان بعيدان .

______________

1- الميزان ، الطباطبائي ، ج16 ، ص162-165 .

 

تفسير الامثل

- ذكر الشيخ ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذه الآيات (1) :

 

 انظر إلى آثار رحمة الله :

 

قلنا : إن في هذه السورة قسماً مهمّاً «يستلفت النظر» من دلائل التوحيد وآيات الله ، مبيناً في سبع آيات تبدأ كل منها بقوله : {ومن آياته} قرأنا ست آيات منها بصورة متتابعة ، والآية الأُولى من الآيات اعلاه هي سابع الآيات التي مرت . وآخرها .

وحيث كان الكلام في الآيات السابقة عن الإيمان والعمل الصالح ، فبيان دلائل التوحيد ـ أيضاً ـ تأكيداً على ذلك !

تقول هذه الآية : {ومن آياته أن يرسل الرياح مبشرات} فهي تمضي سابقةً للغيث في حركتها ، فتجمع القطع المتفرقة من الغيوم وتربط بينها وتؤلفها وتحملها إلى الأرض اليابسة العطشى ، وتغطي صفحة السماء ، ومع تغير درجة حرارة الجو تهيء المطر للنزول من هذه الغيوم .

ولعلّ أهمية قدوم الرياح المبشرات ـ لأهل المدن المتنعمة ـ ليست جليّة واضحة . . إلاّ أن أهل الصحاري اليابسة الظمأى إلى المطر ، ما إن تتحرك الرياح مصحوبة بالسحاب التي هطلت في نقطة أُخرى ـ والنسيم يحمل رائحة الطلّ والرطوبة منها ، حتى يلمع وميض الأمل في قلوبهم .

وبالرغم من أنّ آيات القرآن تستند إلى البشارة في نزول الغيث أكثر من غيرها ، إلاّ أنّه لا يمكن تحديد كلمة «مبشرات» في هذا المضمون فحسب ، لأنّ الرياح تصحب بشائر أخر أيضاً .

فالرياح تبدل حرارة الجو وبرودته الشديدة إلى «الإعتدال» .

والرياح تستهلك العفونة في الفضاء الكبير وتصفي الهواء .

والرياح تخفف من وطء حرارة الشمس على الأوراق والنباتات ، وتمنع من احتراقها بحرارة الشمس .

كما أنّ الرياح تنقل غاز الأوكسجين المتولد من النباتات وأوراق الشجر ـ إلى الإنسان ، وتهب غاز ثاني أوكسيد الكاربون الخارج مع زفير الإنسان وتنفسه إلى النباتات أيضاً .

وهي كذلك تؤدي وظيفة أُخرى ، فقد أرسلها الله لواقح تنقل معها لقاح الأزهار الذكور للاناث .

والرياح تحرك الطواحين الهوائية وتصفي البيادر .

والرياح تنقل البذور من المناطق التي قد تجمعت فيها وتنثرها وتبسطها على الصحراء ، كأنّها فلاح مشفق ، فتغدو خضراء ممرعة بعد أن كانت يباباً .

والرياح تنقل السفن مع مسافريها وأثقالهم إلى نقاط مختلفة .

وحتى في هذا العصر الذي حلت الوسائل الحديثة «الماكنات» مكان الرياح ، فما تزال الرياح ذات أثر بالنسبة للسفن في اتجاهاتها المخالفة لها أو الموافقة لها . . . سرعةً وبطأً !

أجل ، أنّ الرياح مبشرات من جهات شتى .

ولذلك فنحن نقرأ في تعقيب الآية قوله تعالى : {وليذيقكم من رحمته ولتجري الفلك بأمره ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون} .

أجل ، إنّ الرياح هي وسيلة لتكاثر النعم العديدة في مجال الزراعة والتدجين ، وهي وسيلة للحمل والنقل أيضاً ، وأخيراً فهي سبب للإزدهار التجاري .

وقد أشير إلى الموضوع الأوّل بجملة {وليذيقكم من رحمته} وإلى الثّاني بجملة {ولتجري الفلك بأمره} وللثالث بجملة {ولتبتغوا من فضله} !

والطريف هنا أن جميع هذه البركات منشؤها الحركة ، الحركة في ذرات الهواء في الفضاء الجوي لكن لا يُعرف قدر أية نعمة حتى تسلب عن الإنسان ! فيعرفها حينذاك . فما لم تتوقف هذه الرياح والنسائم ، فلا يعرف الإنسان ماذا يحلّ به من بلاء ؟ !

فتوقف الهواء يجعل الحياة في أفضل الحقول كالحياة في أشد المطامير والسجون ظلمةً! وعلى العكس فلو أن نسيماً عليلا هب في خلايا السجون الإنفرادية لجعلها كالفضاء الرحب «المفتوح» ، وعادةً فإنّ واحداً من أساليب التعذيب في السجون هو سدّ منافذ الهواء ! .

حتى أنّ الهواء لو توقف في المحيطات وهدأت الأمواج ، لأصبحت حياة الحيوانات البحرية مهددة بالخطر على أثر قلّة الأوكسجين ، ويتحول البحر حينذاك إلى مستنقع متعفن موحش !

يقول «الفخر الرازي» إن جملة {وليذيقكم من رحمته} مع ملاحظة أن الإذاقة تستعمل في الشيء القليل ، فهي إشارة أن جميع الدنيا ونعمها لاتتجاور الرحمة القليلة ، أمّا الرحمة الواسعة {من قبل الله) فهي خاصة بالحياة الأُخرى ! .

وفي الآية التالية يقع الكلام عن إرسال الأنبياء إلى قومهم ، في حين أن الآية التي بعدها تتحدث عن هبوب الرياح مرّة أُخرى ، ولعل وجود هذه الآية بين آيتين تتحدثان عن نعمة هبوب الرياح له جانب اعتراضي ، كما يذهب إلى ذلك بعض المفسّرين .

ولعل ذكر النبوّة إلى جانب هذه المسائل ، إنّما هو لإكمال البحث المتعلق بالمبدأ و المعاد ، إذْ ورد البحث عنهما مراراً في هذه السورة كما قاله بعض المفسّرين .

ويمكن أن يكون وجود هذه الآية إنذاراً لأُولئك الذين يتمتعون بجميع هذه النعم الكثيرة ويكفرون بها .

وعلى كل حال ، فإنّ الآية تقول : {ولقد أرسنا رسلنا إلى قومهم فجاءوهم بالبيّنات} أي المعجزات والدلائل الواضحة والبراهين العقلية ، فاستجاب جماعة منهم لهذه الدلائل ، ولم يستجب آخرون لها برغم النصائح {فانتقمنا من الذين أجرموا} ونصرنا المؤمنين {وكان حقّاً علينا نصر المؤمنين} .

والتعبير بـ «كان» التي تدل على أن هذه السنة لها جدر عميق ، والتعبير بـ «حقّاً» وبعده التعبير بـ «علينا» هو بنفسه مبين للحق ومشعر به ، جميع هذه الألفاظ تأكيدات متتابعة في هذا المجال وتقديم «حقاً علينا» على «نصر المؤمنين» الذي يدل على الحصر ، هو تأكيد آخر . وبالمجموع تعطي الآية هذا المعنى «إن نصر المؤمنين من المسلّم به هو في عهدتنا وهذا الوعد سنجعله عملياً دون الحاجة إلى نصر من الآخرين» .

وهذه الجملة ـ ضمناً ـ فيها تسلية وطمأنة لقلوب المسلمين ، الذين كانوا حينئذ في مكّة تحت ضغوط الأعداء واضطهادهم وكان الأعداء أكثر عَدَداً وعُدَداً .

وأساساً فإنّ أعداء الله طالما كانوا غرقى في الآثام والذنوب ، فإنّ ذلك بنفسه أحد عوامل انتصار المؤمنين ، لأنّ الذنب سيدمرهم آخر الأمر ويهيء وسائل هلاكهم بأيديهم ، ويرسل عليهم نقمة الله .

أمّا الآية الأُخرى فتعود ثانية لذكر نعمة هبوب الرياح فتقول : {الله الذي يرسل الرياح فتثير سحاباً فيبسطه في السماء كيف يشاءُ ويجعله كسفاً} (2) أي القطع الصغيرة المتراكمة ثمّ تخرج قطرات المطر منها على شكل حبات صغيرة {فترى الودق (3) يخرج من خلاله} .

أجل ، إن واحداً من الآثار المهمة عند نزول الغيث ، يقع على عاتق الرياح ، إذ تحمل قطعات السحاب من البحر إلى الأرض العطشى واليابسة ، والرياح هي المأمورة ببسط السحاب والغيوم في السماء جعلها متراكمة بعضها فوق بعض ، وبعد أن تلطف الجو وتصيره رطباً تهيء الغيث للنزول .

إن مثل الرياح كمثل راعي الغنم المحنّك ، الذي يجمع قطيع الغنم عند الإقتضاء من أطراف الصحراء ، ويسير بها في مسير معيّن ليقوم بالتالي على حلب لبنها ! .

وجملة (فترى الودق يخرج من خلاله} لعلها إشارة إلى أن غلظة الغيوم وشدة هبوب الرياح ، ليستا في تلك الدرجة التي تمنع خروج قطرات الغيث الصغيرة من الغيم ونزولها على الأرض ، بل إن هذه الذرات الصغيرة ـ على الرغم من الغيوم المغطاة بها صفحة السماء ـ تجد طريقها من خلال الغيوم إلى الأرض ، وتتناثر ناعمةً على الأراضي العطشى حتى ترويها بصورة جيدة وفي الوقت ذاته لا تدمر الثمر .

إن الرياح الشديدة والاعاصير التي تقلع الشجرة من أصلها أحياناً ـ على عظمتها وتحرك الصخور ، تأذن للقطرة الناعمة أن تمرّ من خلالها وتستقر على الأرض !

وينبغي الإلتفات الى أن كون السحاب قطعات متراكمة «كِسَفاً» ـ وإن لم يكن لنا جلياً بهذه الصورة ـ في اليوم الغائم ، حيث تغطي هذه القطع صفحة السماء ، فلا نحس بأنّها على شكل قطع ، بل نراه سحاباً مبسوطاً . . لكن حين تقلّنا الطائرة وتحلق بنا فوق السحاب أومن خلاله ، نلمس هذه الظاهرة بوضوح !

ويضيف القرآن في نهاية الآية قائلا : {وإذا أصاب به من يشاء من عباده إذا هم يستبشرون} .

ثمّ تأتي الآية الأُخرى بعدها فتقول : {وإن كانوا من قبل أن ينزل عليهم من قبله لمبلسين} (4) .

وإنّما يدرك هذا اليأس أو تلك البشارة أمثال العرب الذين يعيشون في رحلاتهم وتنقّلهم في الصحراء ، ولحياتهم علاقة وصلة قريبة مع هذه القطرات ، فأُولئك يتفق أحياناً أن يلقى اليأس ظلاله السوداء على أنفسهم الظمأى ، كما أن أراضيهم ومزارعهم تبدو عليها آثار العطش ، وفجأة تهب الرياح المبشرة بنزول المطر ، الرياح التي يشمّ من خلالها رائحة «الغيث» ! وتمرّ لحظات ، فتتسع الغيوم في السماء ثمّ تغلظ وتكون أكثر كثافةً ، ثمّ ينزل «القطر» والغيث ، وتمتلىء الحفر بالماء الزلازل ، وتفيض الروافد والسواقي الصغيرة والكبيرة من هذه المائدة السماوية ، وتعود الحياة النضرة إلى الأرض اليابسة ، كما تتبرعم الآمال في قلوب الرحّل في الصحراء ويشرق الأمل في قلوبهم ، وتنجلي عنها غيوم الظلمة واليأس والقنوط!

ويبدو أن تكرار كلمة «من قبل» في الآية للتأكيد ، إذ تبيّن الآية أن الوجوه كانت عابسة متجهمة من قبل المطر بلحظات ، أجل . . . لحظات قبل المطر ، وهم قلقون ولكن حين ينزل عليهم الغيث . . . تشرق فجأة الوجوه وتبتسم الشفاه ، فكم هو موجود ضعيف هذا الإنسان ! وكم هو رحيم هذا الربّ .

ومثل هذا التعبير وارد في كلماتنا العرفية حيث نقول مثلا : إن فلاناً كان بالامس ، نعم بالامس صديقاً لنا ، واليوم هومن اعدائنا . . . والهدف من هذا التكرار هو التأكيد على تغيير حالات الإنسان .

وفي آخر آية ـ من الآيات محل البحث ـ يتوجه الخطاب إلى النّبي(صلى الله عليه وآله) قائلا : (فانظر إلى آثار رحمة الله كيف يحي الأرض بعد موتها} .

والإهتمام أو الإعتماد على كلمة «انظر» هو إشارة إلى أن آثار رحمة الله في إحياء الأرض بالمطر ، هي من الوضوح بمكان بحيث تكفي نظرة واحدة لمشاهدة هذه الآثار ، دون حاجة للبحث والتدقيق .

والتعبير بـ(رحمة الله ) في شأن المطر هو إشارة الآثار المباركة فيه من جهات مختلفة ! .

فالمطر يسقي الأرض ويرعى بذور النباتات . . . ويهب الأشجار الحياة الجديدة !

وهو ينقىّ الجو والمحيط من الغبار المتراكم أو المتناثر في الفضاء .

وهو يغسل النباتات ويمنحها النضرة والطراوة ! .

وهو يمضي إلى أعماق التربة والأرض ، وبعد فترة يعود على شكل عيون وقنوات إلى سطح الأرض .

والمطر يدفع الأنهار والسيول وبعد تجمعها خلف السدود يتولد منها «الكهرباء» أو الطاقة والنور والحركة ! .

وأخيراً فإنّ قطر السماء يحسّن الجو إذ يخفف من شدّة الحر ، ويهدىء من شدّة البرودة .

والتعبير بـ «الرحمة» عن المطر مذكور في عدة آيات من القرآن كما في الآية (48) من سورة الفرقان ، والآية (63) من سورة النمل ، ونقرأ كذلك في سورة الشورى الآية (28) قوله تعالى : { وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ } [الشورى : 28] .

ومع الإلتفات إلى العلاقة بين المبدأ والمعاد في المسائل المختلفة فإن «القرآن» يضيف قائلا في نهاية الآية : {إنّ ذلك لمحي الموتى وهو على كل شيء قدير} .

والتعبير بـ «محيي» بصيغة اسم الفاعل مكان الفعل المضارع ، وخاصّة مع كونه مسبوقاً بلام التوكيد ، دليل على منتهى التأكيد .

ولقد رأينا مراراً في آيات القرآن الكريم ، أن هذا الكتاب السماوي ـ من أجل إثبات مسألة المعاد ـ ينتخب نزول الغيث وإحياء الأرض بعد موتها شاهداً على ذلك ! .

ففي سورة (ق) الآية (11) يعقب القرآن بعد التعبير بحياة الأرض بعد موتها قائلا : (كذلك الخروج) !

ويشبه هذا التعبير في الآية (9) من سورة فاطر إذ يقول القرآن : {كَذَلِكَ النُّشُورُ} [فاطر : 9] .

والواقع أن قانون الحياة والموت في كل مكان متشابه . . فالذي يحي الأرض الميتة بقطرات السماء ، ويهبها الحركة والبهجة ، ويتكرر هذا العمل على طول السنة ، وأحياناً في كل يوم ، فإن له هذه القدرة على إحياء الناس بعد الموت ، فالموت بيده في كل مكان ، كما أن الحياة بأمره أيضاً .

صحيح أن الأرض الميتة لا تحيى ظاهراً ، بل تنمو البذور التي في قلب الأرض ، ولكننا نعلم أن هذه البذور الصغيرة تجذب مقداراً عظيماً من أجزاء الأرض إلى نفسها ، وتحوّل الموجودات الميتة إلى موجودات حية! وحتى بقايا هذه النباتات المتلاشية ـ أيضاً ـ تمنح القدرة والقوة للأرض لكي تحيى من جديد .

وفي الحقيقة لم يكن لمنكري المعاد أي دليل على مدعاهم سوى الاستبعاد ، والقرآن المجيد إنّما يستشهد بهذه الأمثال لإحباط هذا الاستبعاد منهم أيضاً .

وقوله تعالى : {وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرّاً لَّظَلُّواْ مِن بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ }

 

الموتى والصُّمّ لا يسمعون كلامك :

حيث أنّ الكلام كان ـ في الآيات السابقة ـ عن الرياح المباركة التي كانت مبشرات بالغيث والرحمة ، ففي أوّل آية من الآيات أعلاه إشارة إلى الرياح المدمرّة والتي تجلب الضرر ، إذ يقول القرآن في هذا الصدد : {ولئن أرسلنا ريحاً فرأوه مصفرّاً لظلّوا من بعده يكفرون} .

أُولئك هم الضعفاء الحمقى فهم قبل نزول الغيث مبلسون آيسون ، وبعد نزوله مستبشرون ، وإذا هبت ريح صفراء في بعض الأيّام وابتلُوا مؤقتاً تراهم يتصارخون وبالكفر يجأرون ويتجرأون ! على العكس من المؤمنين الصادقين الذين هم بنعمة الله مستبشرون وعليها يشكرون ، وعند نزول المصائب والمشاكل تراهم صابرون ، ولا يؤثر التغيير المعاشي والحياتي المادي في إيمانهم أبداً ، وليسوا كعمي القلوب ضعيفي الإيمان ، الذين يظهرون إيمانهم بمجرّد هبوب الريح ، ويكفرون مرّة أُخرى إذا هبت الريح بشكل آخر !

وكلمة «مصفراً» مشتقّة من «الصُفرة» على زنة «سفرة» وهي لون معروف ، ويعتقد أكثر المفسّرين أن الضمير في «رأوه» يعود على الشجر والنباتات التي تصفر وذبل على أثر هبوب الرياح المخربة .

واحتمل بعضهم أنّ الضمير يعود على السحاب ، والسحاب المصفّر طبعاً سحاب خفيف ، وهو عادة لا يحمل قطراً ، على العكس من الغيوم السود الكثيرة ، فإنّها تولد الغيث والقطر .

كما يعتقد بعضهم أنّ الضمير في «رأوه» يعود على الريح ، لأنّ الرياح الطبيعية عادة لا لون فيها (فهي عديمة اللون) إلاّ أن الرياح التي تهب وهي مصفرة ، فهي ريح سموم وهجير ، وفي كثير من الأحيان تحمل معها الغبار .

وهناك احتمال رابع ، وهو أنّ «المصفّر» معناه الخالي ، لأنّه كما يقول الراغب في مفرداته ، يطلق على الإناء الخالي ، والبطن الخالية من الطعام ، والأوردة من الدم أنّها (صفر) على وزن (سفر) ، فعلى هذا يكون هذا التعبير آنف الذكر في شأن الرياح الخالية من القطر والغيث .

وفي هذه الصورة يعود الضمير في «رأوه» على الريح (فلاحظوا بدقة) .

إلاّ أنّ التّفسير الأوّل أشهر من الجميع !

وما يستلفت النظر ، هو أنّ الرياح النافعة ذات الغيث جاءت هنا بصيغة الجمع ، ولكن على العكس منها الريح التي تجلب الضرر فقد جاءت بصيغة المفرد ، وهي إشارة إلى أنّ معظم الرياح نافعة ومفيدة ، غير أن ريح السموم هي من الحالات الإستثنائية التي تهب أحياناً في السنة مرّة أوفي الشهر مرّة . . لكن الرياح المفيدة تهب دائماً (ليل نهار) .

أو أنّها إشارة إلى أنّ الرياح النافعة إنّما تكون كذلك ويكون لها أثرها المفيد ، إذا تتابعت ، غير أن الريح السيئة تترك أثرها عند هبوبها في المرّة الأولى .

وآخر ما ينبغي الإشارة إليه من اللطائف الضرورية في ذيل هذه الآية ، هو التفاوت ما بين {يستبشرون} في شأن الرياح النافعة التي ذكرتها الآية المتقدمة ، وجملة {لظلوا من بعده يكفرون} الواردة في الآية محل البحث .

وهذا الإختلاف أو التفاوت يدل على أنّهم يرون هذه النعم العظيمة المتتابعة التي أنعمها الله عليهم فيفرحون ويستبشرون ، غير أنّهم لو أصيبوا مرّة واحدة أو يوماً واحداً بمصيبة ، فإنّهم يضجون ويكفرون حتى كأنّهم غير تاركين للكفر ، حل بهم! .

وهذا تماماً يشابه حال أُولئك الذين يعيشون عمراً بسلامة ولا يشكرون الله ، لكنّهم إذا مرضوا ليلة واحدة بالحمى «واشتعلوا بحرارتها» فإنّهم يظهرون الكفر وهذه هي حال الجهلة من ضعفاء الإيمان ، وكان لنا في هذا الصدد في الآية (35) من هذه السورة ، والآيتين (9) و(10) من سوره هود ، والآية (11) من سورة الحج بحوث أخر أيضاً .

 ____________

1- الامثل ، ناصر مكارم الشيرازي ، ج10 ، ص187-196 .

2 ـ «الكِسَف» جمع «كسفَة» على وزن «حجلة» ومعناها القطعة ، وهي هناـ كما يبدوـ إشارة إلى القطعات

[من الغيوم] المتراكمة بعضها فوق بعض فتجعلها غليظة وشديدة ، وذلك حين تكون الغيوم مهيأة لنزول المطر .

3 ـ «الودق» على وزن (الحلق) وتطلق على ذرات الماء الصغيرة كمثل الغبار أحياناً ، إذ تتناثر عند نزول الغيث في السماء ، كما تطلق على قطرات «المطر» المتفرقة أحياناً . . .

4 ـ «مبلس» مأخوذة من مادة الإبلاس ، ومعناها اليأس وعدم الرجاء .




وهو تفسير الآيات القرآنية على أساس الترتيب الزماني للآيات ، واعتبار الهجرة حدّاً زمنيّاً فاصلاً بين مرحلتين ، فكلُّ آيةٍ نزلت قبل الهجرة تُعتبر مكّيّة ، وكلّ آيةٍ نزلت بعد الهجرة فهي مدنيّة وإن كان مكان نزولها (مكّة) ، كالآيات التي نزلت على النبي حين كان في مكّة وقت الفتح ، فالمقياس هو الناحية الزمنيّة لا المكانيّة .

- المحكم هو الآيات التي معناها المقصود واضح لا يشتبه بالمعنى غير المقصود ، فيجب الايمان بمثل هذه الآيات والعمل بها.
- المتشابه هو الآيات التي لا تقصد ظواهرها ، ومعناها الحقيقي الذي يعبر عنه بـ«التأويل» لا يعلمه الا الله تعالى فيجب الايمان بمثل هذه الآيات ولكن لا يعمل بها.

النسخ في اللغة والقاموس هو بمعنى الإزالة والتغيير والتبديل والتحوير وابطال الشي‏ء ورفعه واقامة شي‏ء مقام شي‏ء، فيقال نسخت الشمس الظل : أي ازالته.
وتعريفه هو رفع حكم شرعي سابق بنص شرعي لا حق مع التراخي والزمان بينهما ، أي يكون بين الناسخ والمنسوخ زمن يكون المنسوخ ثابتا وملزما بحيث لو لم يكن النص الناسخ لاستمر العمل بالسابق وكان حكمه قائما .
وباختصار النسخ هو رفع الحكم الشرعي بخطاب قطعي للدلالة ومتأخر عنه أو هو بيان انتهاء امده والنسخ «جائز عقلا وواقع سمعا في شرائع ينسخ اللاحق منها السابق وفي شريعة واحدة» .