المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية

القرآن الكريم وعلومه
عدد المواضيع في هذا القسم 17560 موضوعاً
تأملات قرآنية
علوم القرآن
الإعجاز القرآني
قصص قرآنية
العقائد في القرآن
التفسير الجامع
آيات الأحكام

Untitled Document
أبحث عن شيء أخر
تأثير الأسرة والوراثة في الأخلاق
2024-10-28
تأثير العشرة في التحليلات المنطقيّة
2024-10-28
دور الأخلّاء في الروايات الإسلاميّة
2024-10-28
ترجمة ابن عبد الرحيم
2024-10-28
ترجمة محمد بن لب الأمي
2024-10-28
من نثر لسان الدين
2024-10-28

شُبهات حول إعجاز القرآن ومناقشاتها
23-09-2014
أثر الايمان في الطفل
27-12-2016
معركة ذي قار
9-11-2016
Least Squares Fitting--Logarithmic
28-3-2021
Euler,s Addition Theorem
20-8-2018
القواعد التي تحكم التولية على الوقف المشروطة
5-2-2016


تفسير الآية (12-19) من سورة لقمان  
  
28550   05:14 مساءً   التاريخ: 11-8-2020
المؤلف : إعداد : المرجع الإلكتروني للمعلوماتية
الكتاب أو المصدر : تفاسير الشيعة
الجزء والصفحة : .....
القسم : القرآن الكريم وعلومه / التفسير الجامع / حرف اللام / سورة لقمان /

قال تعالى : {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12) وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُو يَعِظُهُ يَابُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15) يَابُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوفِي السَّمَاوَاتِ أَوفِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16) يَابُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17) وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ } [لقمان : 12 - 19]

 

تفسير مجمع البيان

- ذكر الطبرسي في تفسير هذه الآيات (1) 

 

لما ذكر سبحانه الأدلة الدالة على توحيده وقدرته وحكمته بين عقيب ذلك قصة لقمان وأنه أعطاه الحكمة فقال {ولقد آتينا لقمان الحكمة} أي أعطيناه العقل والعلم والعمل به والإصابة في الأمور واختلف فيه فقيل إنه كان حكيما ولم يكن نبيا عن ابن عباس ومجاهد وقتادة وأكثر المفسرين وقيل إنه كان نبيا عن عكرمة والسدي والشعبي وفسروا الحكمة هنا بالنبوة وقيل إنه كان عبدا أسود حبشيا غليظ المشافر (2) مشقوق الرجلين في زمن داود (عليه السلام) وقال له بعض الناس أ لست كنت ترعى؟ معنا فقال نعم قال فمن أين أوتيت ما أرى ؟ قال قدر الله وأداء الأمانة وصدق الحديث والصمت عما لا يعنيني وقيل إنه كان ابن أخت أيوب عن وهب وقيل كان ابن خالة أيوب عن مقاتل وروي عن نافع عن ابن عمر قال سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) يقول ((حقا أقول لم يكن لقمان نبيا ولكن كان عبدا كثير التفكر حسن اليقين أحب الله فأحبه ومن عليه بالحكمة كان نائما نصف النهار إذ جاءه نداء يا لقمان هل لك أن يجعلك الله خليفة في الأرض تحكم بين الناس بالحق فأجاب الصوت إن خيرني ربي قبلت العافية ولم أقبل البلاء وإن عزم علي فسمعا وطاعة فإني أعلم أنه إن فعل بي ذلك أعانني وعصمني فقالت الملائكة بصوت لا يراهم لم يا لقمان قال لأن الحكم أشد المنازل وآكدها يغشاه الظلم من كل مكان إن وقى فبالحري أن ينجو وإن أخطأ أخطأ طريق الجنة ومن يكن في الدنيا ذليلا وفي الآخرة شريفا خير من أن يكون في الدنيا شريفا وفي الآخرة ذليلا ومن يختر الدنيا على الآخرة تفته الدنيا ولا يصيب الآخرة فتعجبت الملائكة من حسن منطقه فنام نومة فأعطي الحكمة فانتبه يتكلم بها ثم كان يؤازر داود بحكمته فقال له داود طوبى لك يا لقمان أعطيت الحكمة وصرفت عنك البلوى)) .

{أن اشكر لله} معناه وقلنا له اشكر لله تعالى على ما أعطاك من الحكمة {ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه} أي من يشكر نعمة الله ونعمة من أنعم عليه فإنه إنما يشكر لنفسه لأن ثواب شكره عائد عليه ويستحق مزيد النعمة والزيادة الحاصلة بالشكر تكون له {ومن كفر فإن الله غني} عن شكر الشاكرين {حميد} أي محمود على أفعاله وقيل مستحمد إلى خلقه بالإنعام عليهم والشكر لا يكون إلا على نعمة سبقت فهو يقتضي منعما فعلى هذا لا يصح أن يشكر الإنسان نفسه كما لا يصح أن يكون منعما على نفسه ويجري مجرى الدين في أنه حق لغيره عليه يلزمه أداؤه فكما لا يصح أن يقرض نفسه فكذلك لا يصح أن ينعم على نفسه .

{وإذ قال لقمان لابنه} معناه واذكر يا محمد إذ قال لقمان لابنه ويجوز أيضا أن يتعلق إذ بقوله {ولقد آتينا لقمان الحكمة} إذ قال لابنه {وهو يعظه} أي يؤدبه ويذكره أي في حال ما يعظه {يا بني لا تشرك بالله} أي لا تعدل بالله شيئا في العبادة {إن الشرك لظلم عظيم} أصل الظلم النقصان ومنع الواجب فمن أشرك بالله فقد منع ما وجب لله عليه من معرفة التوحيد فكان ظالما وقيل إنه ظلم نفسه ظلما عظيما بأن أو بقها {ووصينا الإنسان بوالديه} لما قدم الأمر بشكر النعمة أتبعه بالتنبيه على وجوب الشكر لكل منعم فبدأ بالوالدين أي أمرناه بطاعة الوالدين وشكرهما والإحسان إليهما وإنما قرن شكرهما بشكره لأنه الخالق المنشىء وهما السبب في الإنشاء والتربية .

ثم بين سبحانه زيادة نعمة الأم فقال {حملته أمه وهنا على وهن} معناه ضعفا على ضعف عن الضحاك والحسن يعني ضعف نطفة الوالد على ضعف نطفة الأم عن أبي مسلم وقيل لأن الحمل يؤثر فيها فكلما ازداد الحمل ازدادت ضعفا على ضعف وقيل لأنها ضعيفة الخلقة فازدادت ضعفا بالحمل وقيل وهنا على وهن أي شدة على شدة وجهدا على جهد عن ابن عباس وقتادة {وفصاله في عامين} أي وفطامه من الرضاع في انقضاء عامين لأن العامين جملة مدة الرضاع فهو كقوله {يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة} والمراد أنها بعد ما تلده ترضعه عامين وتربيه فتلحقها المشقة بذلك أيضا {أن اشكر لي ولوالديك} هذا تفسير قوله {ووصينا الإنسان} أي وصيناه بشكرنا وشكر والديه فشكر الله سبحانه بالحمد والطاعة وشكر الوالدين بالبر والصلة {إلي المصير} وفيه تهديد أي إلي مرجعكم فأجازيكم على حسب أعمالكم {وإن جاهداك} أيها الإنسان أي جاهداك والداك .

{على أن تشرك بي} معبودا آخر فلا تطعهما وهو قوله {ما ليس لك به علم} لأن ما يكون حقا تعلم صحته فما لا تعلم صحته فهو باطل فكأنه قال فإن دعواك إلى باطل {فلا تطعهما} في ذلك {وصاحبهما في الدنيا معروفا} أي وأحسن إليهما وارفق بهما في الأمور الدنيوية وإن وجبت مخالفتهما في أبواب الدين لمكان كفرهما {واتبع سبيل من أناب إلي} أي واسلك طريقة من رجع إلى طاعتي وأقبل إلي بقلبه وهو النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) والمؤمنون قال {ثم إلي} أي إلى حكمي {مرجعكم} ومنقلبكم {فأنبئكم} أي أخبركم {بما كنتم تعملون} في دار الدنيا من الأعمال وأجازيكم عليها بحسبها .

ثم عاد سبحانه إلى الإخبار عن لقمان ووصيته لابنه وأنه قال له {يا بني إنها إن تك مثقال حبة من خردل} معناه أن فعلة الإنسان من خير أوشر إن كانت مقدار حبة خردل في الوزن ويجوز أن يكون الهاء في أنها ضمير القصة كما في قوله {فإنها لا تعمى الأبصار} قال الزجاج يروى أن ابن لقمان سأل لقمان فقال أ رأيت الحبة تكون في مقل البحر أي مغاص البحر يقال مقل يمقل إذا غاص أ يعلمها الله فقال إنها أي أن التي سألتني عنها إن تك مثقال حبة من خردل {فتكن في صخرة} أي فتكن تلك الحية في جبل عن قتادة والمعنى في صخرة(3)عظيمة لأن الحبة فيها أخفى وأبعد من الاستخراج .

{أوفي السماوات أوفي الأرض} ذكر السماوات والأرض بعد ذكر الصخرة وإن كان لا بد وإن تكون الصخرة في الأرض على وجه التأكيد كما قال {اقرأ باسم ربك الذي خلق} ثم قال {خلق الإنسان} وقال السدي هذه الصخرة ليست في السماوات ولا في الأرض هي تحت سبع أرضين وهذا قول مرغوب عنه {يأت بها الله} أي يحضرها الله يوم القيامة ويجازي عليها أي يأت بجزاء ما وازنها من خير أوشر وقيل معناه يعلمها الله فيأتي بها إذا شاء كذلك قليل العمل من خير أوشر يعلمه الله فيجازي عليه فهو مثل قوله {فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره} .

وروى العياشي بالإسناد عن ابن مسكان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال اتقوا المحقرات من الذنوب فإن لها طالبا لا يقولن أحدكم أذنب واستغفر الله إن الله تعالى يقول {إن تك مثقال حبة من خردل} الآية {إن الله لطيف} باستخراجها {خبير} بمستقرها عن قتادة وقيل اللطيف العالم بالأمور الخفية والخبير العالم بالأشياء كلها {يا بني} إنما صغر اسمه في هذه المواضيع للرقة والشفقة لا للتحقير {أقم الصلوة} أي أد الصلاة المفروضة في ميقاتها بشروطها {وأمر بالمعروف} وهو الطاعة {وأنه عن المنكر} وهو كل معصية وقبيح سواء كان من القبائح العقلية أو الشرعية فإن المعروف ما يدعو إليه العقل والشرع والمنكر ما يزجر عنه العقل والشرع .

{واصبر على ما أصابك} من المشقة والأذى في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عن علي (عليه السلام) وقيل ما أصابك من شدائد الدنيا ومكارهها من الأمراض وغيرها عن الجبائي {إن ذلك من عزم الأمور} أي من العقد الصحيح على فعل الحسن بدلا من القبيح والعزم الإرادة المتقدمة للفعل بأكثر من وقت وهو العقد على الأمر لتوطين النفس على فعله والتلون في الرأي يناقض العزم وقيل معناه أن ذلك من الأمور التي يجب الثبات والدوام عليها وقيل العزم القوة والحزم الحذر ومنه المثل الأخير في عزم بغير حزم وقيل الحزم التأهب للأمر والعزم النفاد فيه ومنه قيل في المثل ((روبحزم(4) فإذا استوضحت فاعزم)) {ولا تصعر خدك للناس} أي ولا تمل وجهك من الناس تكبرا ولا تعرض عمن يكلمك استخفافا به وهذا معنى قول ابن عباس وأبي عبد الله (عليه السلام) يقال أصاب البعير صعر أي داء يلوي منه عنقه فكان المعنى لا تلزم خدك للصعر لأنه لا داء للإنسان أدوى من الكبر قال :

وكنا إذا الجبار صعر خده *** أقمنا له من درئه فتقوما (5)

 وقيل هو أن يكون بينك وبين إنسان شيء فإذا لقيته أعرضت عنه عن مجاهد وقيل هو أن يسلم عليك فتلوي عنقك تكبرا عن عكرمة {ولا تمش في الأرض مرحا} أي بطرا وخيلاء {إن الله لا يحب كل مختال فخور} أي كل متكبر فخور على الناس {واقصد في مشيك} أي اجعل في مشيك قصدا مستويا على وجه السكون والوقار كقوله {الذين يمشون على الأرض هونا} قال قتادة معناه تواضع في مشيك وقال سعيد بن جبير ولا تختل في مشيك .

{واغضض من صوتك} أي أنقص من صوتك إذا دعوت وناجيت ربك عن عطا وقيل لا تجهر كل الجهر واخفض صوتك ولا ترفعه مطاولا به {إن أنكر الأصوات لصوت الحمير} أي أقبح الأصوات صوت الحمير أوله زفير وآخره شهيق عن قتادة يقال وجه منكر أي قبيح . أمر لقمان ابنه بالاقتصاد في المشي والنطق وروي عن زيد بن علي أنه قال أراد صوت الحمير من الناس وهم الجهال شبههم بالحمير كما شبههم بالأنعام في قوله {أولئك كالأنعام} وروي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال هي العطسة المرتفعة القبيحة والرجل يرفع صوته بالحديث رفعا قبيحا إلا أن يكون داعيا أو يقرأ القرآن .

 ______________

1- مجمع البيان ، الطبرسي ، ج8 ، ص80-82 .

2- جمع المشفر : الشفة .

3- وفي المخطوطتين : ((في حجرة)) بدل ((في صخرة)) .

4- امر من روى في الامر : نظر فيه وتفكر .

5- قائله : جرير . والدرء : الميل والعوج ، يقول : اذا أمال متكبر خده أذللناه حتى يتقوم ميله . وفي اللسان : ((من سيله)) مكان (من درئه) .

 

تفسير الكاشف

- ذكر محمد جواد مغنية في تفسير هذه الآيات (1) 

 

{ولَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ} . تطلق الحكمة على معان ، منها العلم باللَّه وصفاته ، ومنها وضع الشيء في محله ، ومنها الكلمة الواعظة ، ومنها طاعة اللَّه ، وفي الحديث : (رأس الحكمة مخافة اللَّه) . وكان لقمان من أهل العلم باللَّه وطاعته والدعاة إليه تعالى بأسلوب هادئ ورزين ، وواضح ومقنع {ومَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ ومَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهً غَنِيٌّ حَمِيدٌ} . تقدم في الآية 40 من سورة النمل .

واختلفوا : هل كان لقمان نبيا أو عبدا صالحا وكفى . ولا يمت هذا الاختلاف بسبب إلى العقيدة والحياة ، والذي يجب الايمان به هوما نص عليه القرآن الكريم من أن اللَّه سبحانه منّ على لقمان بالحكمة التي هي العلم باللَّه وطاعته والدعوة إلى سبيله بالموعظة الحسنة . وذكر المفسرون وأهل السير الكثير من حكم لقمان وفطنته ، من ذلك أنه كان عبدا مملوكا ، وكان أهون مملوك على سيده ، وفي ذات يوم بعثه مع غيره من مماليكه إلى بستان له ليأتوه بشيء من ثمره ، ولما وصلوا إلى البستان أكلوا ثمره ما عدا لقمان . . فتآمروا عليه لأنه لم يشاركهم في الجريمة ، وكادوا له عند سيدهم حيث قالوا له : ان لقمان أكل الثمر ولم يبق منه شيئا . .

ولما سأل لقمان قال له : اسقنا جميعا دواء نتقيأ به ما في بطوننا وعندئذ تظهر لك الحقيقة ، وهكذا كان . . تقيأوا الفاكهة دون لقمان ، وحاق المكر السيئ بمن أساء .

ومن ذلك أيضا ان سيده سكر يوما ، وراهن قوما على مال كثير ان يشرب بحيرة هناك ، ولما أفاق ندم وعلم أنهم اصطادوه من حيث لا يشعر ، فالتجأ إلى لقمان وقال له : هذا يومك . فقال لقمان للقوم : ان للبحيرة أنهرا تصب فيها ، فاحبسوها عن البحيرة كي يشرب ماءها . قالوا لا نستطيع ذلك . فقال لهم لقمان :

انه راهن على شربها ، ولم يراهن على مواردها ومصادرها .

وسواء أصحت هذه الرواية ، أم لم تصح فإنها أوضح مثال على أن اللَّه سبحانه قد منح لقمان الحكمة والمعرفة ، ويظهر من أقوال المفسرين وأهل السير انه كان معاصرا للنبي داود . انظر تفسير الآية 80 من الأنبياء .

{وإِذْ قالَ لُقْمانُ لِابْنِهِ وهُو يَعِظُهُ} . بعد ان ذكر سبحانه انه قد منّ على لقمان بالحكمة ذكر طرفا من مواعظه لابنه رفقا به وشفقة عليه ، وقد أوصى الإمام علي ولده الإمام الحسن (عليه السلام) بوصية طويلة جاء في مقدمتها : (وجدتك بعضي بل وجدتك كلي حتى كأن شيئا لو أصابك أصابني ، وكأن الموت لو أتاك أتاني فعناني من أمرك ما يعنيني من أمر نفسي) . قال لقمان :

1 – { يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} . يرى بعض المفسرين ان هذا القول من لقمان لابنه يشعر بأن ابنه كان مشركا . والحق ان النهي عن الشيء لا يدل على صدوره من المخاطب ، فقد خاطب سبحانه خليله إبراهيم (عليه السلام) بقوله : {أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً} - 26 الحج ، وقال لحبيبه محمد (صلى الله عليه واله وسلم) :

{فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ} - 52 الفرقان . وقال الإمام علي (عليه السلام) للإمام الحسن (عليه السلام) :

اعتصم باللَّه . . وليكن له تعبدك . . ولوكان لربك شريك لأتتك رسله .

2 - {ووَصَّيْنَا الإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ} . هذه الآية والتي بعدها استطراد في سياق وصية لقمان لابنه . . والوهن الضعف والجهد ، وكلما نما الجنين في بطن أمه زادها ضعفا وجهدا {وفِصالُهُ فِي عامَيْنِ} . ترضع الأم ولديها عامين ، ثم تفطمه عن الرضاع ، وتقاسي خلالهما الشدائد بالإضافة إلى ما قاسته أيام الحمل وعند الوضع . وتقدم الكلام مفصلا عن مدة الرضاع عند تفسير الآية 233 من سورة البقرة ج 1 ص 356 وما بعدها {أَنِ اشْكُرْ لِي ولِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} فأسألك يومئذ : هل كنت من أهل الشكر والطاعة أو العقوق والمعصية لي ولوالديك {وإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما} حيث لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق {وصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً} بخفض الصوت وطيب الكلام ولين العريكة ، والحرص على ما يرغبان . وتقدم الكلام عن البر بالوالدين مفصلا عند تفسير الآية 23 من سورة الإسراء ج 5 ص 35 وتفسير الآية 8 من سورة العنكبوت .

{واتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ} . بعد أن أمر سبحانه بالشكر له وللوالدين أمر بطاعة اللَّه في كل شيء ، لا في بر الوالدين فقط ، وعبّر عن ذلك بمتابعة الصالحين الذين أطاعوا اللَّه في أوامره ونواهيه . قال الإمام زين العابدين (عليه السلام) : اللهم ألحقني بصالح من مضى ، واجعلني من صالح من بقي ، وخذ بي سبيل الصالحين {ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} . هذا تهديد ووعيد لمن يعصي اللَّه والوالدين .

الصخرة وقرن الثور :

3 - {يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوفِي السَّماواتِ أَوفِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهً لَطِيفٌ خَبِيرٌ} . عاد الكلام إلى وصية لقمان لابنه . . وضمير انها يعود على الفعلة من الحسنات والسيئات ، ولفظ الفعلة وان لم يذكر في الكلام ، ولكن السياق يدل عليها و{مثقال حبة من خردل} كناية عن الفعلة الصغيرة ، و{فِي صَخْرَةٍ أَوفِي السَّماواتِ أَوفِي الأَرْضِ} كناية عن السر والخفاء ، والمعنى الجملي ان اللَّه سبحانه يعلم مقاصد الإنسان وأقواله وأفعاله ما خفي منها وما ظهر ، لا يغادر منها صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها وحاسب عليها . . والقصد من سياق هذا الكلام هو إنذار الضالين المضلين الذين يعيشون مع الناس بألسنتهم ، ومع أعداء اللَّه والإنسانية بقلوبهم ، وان يعلموا ان مصيرهم إلى الخزي والوبال .

وتساءل بعض المفسرين وقال : كيف ذكر اللَّه السماوات والأرض بعد أن ذكر الصخرة مع العلم بأن الصخرة لا بد أن تكون في الأرض ، لا في السماء .

وأجابه آخر بأن هذه الصخرة ليست في السماء ولا في الأرض ، وانما هي تحت سبع أرضين ، وبالضبط هي نفس الصخرة التي يقف الثور عليها وهو يحمل الأرض على قرنه ، وقال قائل : كلا ، ان هذه الصخرة قائمة في الهواء بمحض خلق اللَّه تعالى . وقال ثالث : هي خضراء اللون . ( انظر تفسير الطبري والرازي ) .

والقرآن الذي وصفه اللَّه بالنور والهدى وفصل الخطاب منزه عن هذه التأويلات التي يتخذ العدو منها وسيلة للطعن والاستهزاء بالدين . . وان دلت هذه التفاسير وما إليها على شيء فإنما تدل على أن أصحابها لا يعرفون حكمة اللَّه في إرسال رسله وانزال كتبه ، ويجهلون ان الإسلام هو دين الفطرة والحياة ، وان أساس دعوته الايمان والإخلاص ، وضوءها العلم والعدل ، وطريقها الجد والعمل ، وهدفها السعادة والهناء .

4 - {يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ} لأنها تذكرك باللَّه وتنزهك عن الكبر {وأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ} . ومن أمر بالمعروف شد أزر المؤمنين ، وأرغم أنوف المنافقين {واصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} والمراد بعزم الأمور قوة الإرادة الخيرة ، والثبات على الحق . . والأمر بالصبر بعد الأمر بالمعروف يومئ إلى أن من دعا دعوة الحق لاقى في ذات اللَّه ما يلاقيه كل مجاهد مخلص من سرّ المبطلين والانتهازيين .

{ولا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ} لا تمل بوجهك عنهم تكبرا ، بل أقبل عليهم ، وتواضع لهم . . وفي نهج البلاغة : لا وحدة أوحش من العجب ، ولا حسب كالتواضع {ولا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهً لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ} . .

بعد أن نهى عن مشي المرح بيّن معناه بأنه المشي باختيال وفخر ، والاختيال هو الزهو ، والفخر هو المباهاة ، ولا شيء أدل على الجهل والنقص من هذه الصفات .

{واقْصِدْ فِي مَشْيِكَ} لا تبطئ ، ولا تسرع ، واتخذ بين ذلك سبيلا {واغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} . وأنكرها أوحشها وأقبحها ، وفيه إيماء إلى أن رفع الصوت أكثر مما تدعو الحاجة إليه - يدل على البلادة ، ومثله الإخفات المخل ، ومن أخذ بالقصد والاعتدال فقد عرف السبيل ، وانما يحسن الكلام مع القصد في الصوت إذا كان في موضعه ، والا فالسكوت أجمل وأكمل ، ومما جاء في وصف لقمان انه كان يسمع كثيرا ويتكلم قليلا ، فإذا تكلم جاءت كلمته كالدرة بين الحصى . وإلى مثلها ينبغي السكوت والإصغاء ، وفي بعض الروايات : ان الصمت باب من أبواب الحكمة . أي من الحكمة السكوت والإصغاء للحكمة ، أما قول من قال : إذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب فمعناه السكوت عن الباطل والفضول ، وإلا فان كلمة الحق نور وجهاد بخاصة إذا كانت ضد الظلم والجور ، وفي الحديث : الساكت عن الحق شيطان أخرس .

______________

1- تفسير الكاشف ، محمد جواد مغنية ، ج6 ، ص ١٦٠-163 .

 

تفسير الميزان

- ذكر الطباطبائي في تفسير هذه الآيات (1) 

 

في الآيات إشارة إلى إيتاء لقمان الحكمة ونبذة من حكمه ومواعظه لابنه ولم يذكر في القرآن إلا في هذه السورة ويناسب المورد من حيث مقابلة قصته الممتلئة حكمة وموعظة لما قص من حديث من كان يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوا .

قوله تعالى : {ولقد آتينا لقمان الحكمة أن اشكر لله} إلخ ، الحكمة على ما يستفاد من موارد استعمالها هي المعرفة العلمية النافعة وهي وسط الاعتدال بين الجهل والجربزة . وقوله : {أن اشكر لي} قيل : هو بتقدير القول أي وقلنا : أن اشكر لي .

والظاهر أنه تفسير إيتائه الحكمة من غير تقدير القول ، وذلك أن حقيقة الشكر هي وضع النعم في موضعها الذي ينبغي له بحيث يشير إلى إنعام المنعم ، وإيقاعه كما هو حقه يتوقف على معرفة المنعم ومعرفة نعمه بما هي نعمة وكيفية وضعها موضعه بحيث يحكي عن إنعامه فإيتاؤه الحكمة بعث له إلى الشكر فإيتاء الحكمة أمر بالشكر بالملازمة .

وفي قوله : {أن اشكر لله} التفات من التكلم مع الغير إلى الغيبة وذلك أن التكلم مع الغير من المتكلم إظهار للعظمة بالتكلم عن قبل نفسه وخدمه وقول أن اشكر لنا على هذا لا يناسب التوحيد في الشكر وهو ظاهر .

وقوله : {ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن الله غني حميد} استغناء منه تعالى أن نفع الشكر إنما يرجع إلى نفس الشاكر والكفر لا يتضرر به إلا نفسه دونه سبحانه ومن يشكر فإنما يوقع الشكر لنفع نفسه ولا ينتفع به الله سبحانه لغناه المطلق ومن كفر فإنما يتضرر به نفسه إن الله غني لا يؤثر فيه الشكر نفعا ولا ضرا حميد محمود على ما أنعم سواء شكر أو كفر .

وفي التعبير عن الشكر بالمضارع الدال على الاستمرار وفي الكفر بالماضي الدال على المرة إشعار بأن الشكر إنما ينفع مع الاستمرار لكن الكفر يتضرر بالمرة منه .

قوله تعالى : {وإذ قال لقمان لابنه وهو يعظه يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم} عظمة كل عمل بعظمة أثره وعظمة المعصية بعظمة المعصي فإن مؤاخذة العظيم عظيمة فأعظم المعاصي معصية الله لعظمته وكبريائه فوق كل عظمة وكبرياء بأنه الله لا شريك له وأعظم معاصيه معصيته في أنه الله لا شريك له .

وقوله : {إن الشرك لظلم عظيم} حيث أطلق عظمته من غير تقييد بقياسه إلى سائر المعاصي يدل على أن له من العظمة ما لا يقدر بقدر .

قوله تعالى : {ووصينا الإنسان بوالديه} إلى آخر الآية ، اعتراض واقع بين الكلام المنقول عن لقمان وليس من كلام لقمان وإنما اطرد هاهنا للدلالة على وجوب شكر الوالدين كوجوب الشكر لله بل هومن شكره تعالى لانتهائه إلى وصيته وأمره تعالى ، فشكرهما عبادة له تعالى وعبادته شكر .

وقوله : {حملته أمه وهنا على وهن وفصاله في عامين} ذكر بعض ما تحملته أمه من المحنة والأذى في حمله وتربيته ليكون داعيا له إلى شكرهما وخاصة الأم .

والوهن الضعف وهو حال بمعنى ذات وهن أو مفعول مطلق والتقدير تهن وهنا على وهن ، والفصال الفطم وترك الإرضاع ، ومعنى كون الفصال في عامين تحققه بتحقق العامين فيئول إلى كون الإرضاع عامين ، وإذا ضم إلى قوله تعالى : { وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا } [الأحقاف : 15] ، بقي لأقل الحمل ستة أشهر ، وستكرر الإشارة إليه فيما سيأتي .

وقوله : {أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير} تفسير لقوله : {وصينا} إلخ ، في أول الآية أي كانت وصيتنا هو أمرنا بشكرهما كما أمرناه بشكر الله ، وقوله : {إلي المصير} إنذار وتأكيد للأمر بالشكر .

والقول في الالتفات الواقع في الآية في قوله : {أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير} إلخ ، من سياق التكلم مع الغير إلى سياق التكلم وحده كالقول في الالتفات في قوله السابق : {أن اشكر لله} .

قوله تعالى : {وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما} إلى آخر الآية .

أي إن ألحا عليك بالمجاهدة أن تجعل ما ليس لك علم به أو بحقيقته شريكا لي فلا تطعهما ولا تشرك بي ، والمراد بكون الشريك المفروض لا علم به كونه معدوما مجهولا مطلقا لا يتعلق به علم فيئول المعنى : لا تشرك بي ما ليس بشيء ، هذا محصل ما ذكره في الكشاف ، وربما أيده قوله تعالى : {أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ} [يونس : 18] .

وقيل : {تشرك} بمعنى تكفر و{ما} بمعنى الذي ، والمعنى : وإن جاهداك أن تكفر بي كفرا لا حجة لك به فلا تطعهما ويؤيده تكرار نفي السلطان على الشريك في كلامه تعالى كقوله : {مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} [يوسف : 40] ، إلى غير ذلك من الآيات .

وقوله : {وصاحبهما في الدنيا معروفا واتبع سبيل من أناب إلي} الجملتان كالتلخيص والتوضيح لما تقدم في الآيتين من الوصية بهما والنهي عن إطاعتهما إن جاهدا على الشرك بالله .

يقول سبحانه : يجب على الإنسان أن يصاحبهما في الأمور الدنيوية غير الدين الذي هو سبيل الله صحابا معروفا ومعاشرة متعارفة غير منكرة من رعاية حالهما بالرفق واللين من غير جفاء وخشونة وتحمل المشاق التي تلحقه من جهتهما فليست الدنيا إلا أياما معدودة متصرمة ، وأما الوالدين فإن كانا ممن أناب إلى الله فلتتبع سبيلهما وإلا فسبيل غيرهما ممن أناب إلى الله .

ومن هنا يظهر أن في قوله : {واتبع سبيل من أناب إلي} إيجازا لطيفا فهو يفيد أنهما لوكانا من المنيبين إلى الله فلتتبع سبيلهما وإلا فلا يطاعا ولتتبع سبيل غيرهما ممن أناب إلى الله .

وقوله : {ثم إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون} أي هذا الذي ذكر ، تكليفكم في الدنيا ثم ترجعون إلي يوم القيامة فأظهر لكم حقيقة أعمالكم التي عملتموها في الدنيا فأقضي بينكم على حسب ما تقتضيه أعمالكم من خير أوشر .

وبما مر يظهر أن قوله : {في الدنيا} يفيد أولا قصر المصاحبة بالمعروف في الأمور الدنيوية دون الدينية ، وثانيا : تهوين أمر الصحبة وأنها ليست إلا في أيام قلائل فلا كثير ضير في تحمل مشاق خدمتهما ، وثالثا المقابلة ليوم الرجوع إلى الله المشار إليه بقوله : {ثم إلي مرجعكم} إلخ .

قوله تعالى : {يا بني إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أوفي السماوات أوفي الأرض يأت بها الله} إلخ ، ذكروا أن الضمير في {أنها} للخصلة من الخير والشر لدلالة السياق على ذلك وهو أيضا اسم كان و{مثقال حبة} خبره ، والمراد بكونها في صخرة اختفاؤها بالاستقرار في جوف الصخرة الصماء أوفي السماوات أوفي الأرض ، والمراد بالإتيان بها إحضارها للحساب والجزاء .

كان الفصل السابق من كلامه المنقول راجعا إلى التوحيد ونفي الشريك وما في هذه الآية فصل ثان في المعاد وفيه حساب الأعمال ، والمعنى : يا بني إن تكن الخصلة التي عملت من خير أوشر أخف الأشياء وأدقها كمثقال حبة من خردل فتكن تلك الخصلة الصغيرة مستقرة في جوف صخرة أوفي أي مكان من السماوات والأرض يأت بها الله للحساب والجزاء لأن الله لطيف ينفذ علمه في أعماق الأشياء ويصل إلى كل خفي خبير يعلم كنه الموجودات .

قوله تعالى : {يا بني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور} الآية وما بعدها من كلامه راجع إلى نبذة من الأعمال والأخلاق الفاضلة .

فمن الأعمال الصلاة التي هي عمود الدين ويتلوها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومن الأخلاق الصبر على ما يصيب من مصيبة .

وقوله : {إن ذلك من عزم الأمور} الإشارة إلى الصبر والإشارة البعيدة للتعظيم والترفيع وقول بعضهم : إن الإشارة إلى جميع ما تقدم من الصلاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصبر ليس في محله لتكرر عد الصبر من عزم الأمور في كلامه تعالى كقوله : {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ } [الشورى : 43] ، وقوله : {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [آل عمران : 186] .

والعزم - على ما ذكره الراغب - عقد القلب على إمضاء الأمر وكون الصبر – وهو حبس النفس في الأمر - من العزم إنما هومن حيث إن العقد القلبي ما لم ينحل وينفصم ثبت الإنسان على الأمر الذي عقد عليه فالصبر لازم الجد في العقد والمحافظة عليه وهومن قدرة النفس وشهامتها .

وقول بعضهم : إن المعنى أن ذلك من عزيمة الله وإيجابه في الأمور بعيد وكذا قول بعضهم : إن العزم هو الجزم وهو لغة هذيل .

قوله تعالى : {ولا تصعر خدك للناس ولا تمش في الأرض مرحا إن الله لا يحب كل مختال فخور} قال الراغب : الصعر ميل في العنق والتصعير إمالته عن النظر كبرا قال : {ولا تصعر خدك للناس} وقال : المرح شدة الفرح والتوسع فيه انتهى .

فالمعنى : لا تعرض بوجهك عن الناس تكبرا ولا تمش في الأرض مشية من اشتد فرحه إن الله لا يحب كل من تأخذه الخيلاء – وهو التكبر بتخيل الفضيلة - ويكثر من الفخر .

وقال بعضهم إن معنى : {لا تصعر خدك للناس} لا تلو عنقك لهم تذللا عند الحاجة وفيه أنه لا يلائمه ذيل الآية .

قوله تعالى : {واقصد في مشيك واغضض من صوتك إن أنكر الأصوات لصوت الحمير} القصد في الشيء الاعتدال فيه والغض - على ما ذكره الراغب - النقصان من الطرف والصوت فغض الصوت النقص والقصر فيه .

والمعنى : وخذ بالاعتدال في مشيك وبالنقص والقصر في صوتك إن أنكر الأصوات لصوت الحمير لمبالغتها في رفعه .

____________________

1- الميزان ، الطباطبائي ، ج16 ، ص174-177 .

 

تفسير الامثل

- ذكر الشيخ ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذه الآيات (1) 

 

إحترام الوالدين :

لتكميل البحوث السابقة حول التوحيد والشرك ، وأهميّة وعظمة القرآن ، والحكمة التي استعملت واتّبعت في هذا الكتاب السماوي ، فقد ورد الكلام في هذه الآيات التي نبحثها والآيات الاُخرى التالية عن لقمان الحكيم ، وعن جانب من المواعظ المهمّة لهذا الرجل المتألّه في باب التوحيد ومحاربة الشرك ، وقد إنعكست المسائل الأخلاقيّة المهمّة في مواعظ لقمان لإبنه .

إنّ هذه المواعظ العشرة التي ذكرت ضمن ستّ آيات ، قد بيّنت باُسلوب رائع المسائل العقائدية ، إضافةً إلى اُصول الواجبات الدينيّة والمباحث الأخلاقية .

وسنبحث فيما بعد ـ في بحث الملاحظات ـ إن شاء الله تعالى ، من هو لقمان؟ وأيّة خصائص كان يمتلكها؟ ولكنّ ما نذكره هنا هو أنّ القرائن تبيّن أنّه لم يكن نبيّاً ، بل كان رجلا ورعاً مهذّباً إنتصر في ميدان جهاد هوى النفس ، فكان أن فجّر الله تعالى في قلبه ينابيع العلم والحكمة .

ويكفي في عظمة مقامه أنّ الله قد قرن مواعظه بكلامه ، وذكرها في طيّات آيات القرآن .

أجل . . عندما يتنوّر قلب الإنسان بنور الحكمة نتيجة للطهارة والتقوى ، فإنّ الكلام الإلهي يجري على لسانه ، ويقول ما يقوله الله ، ويفكّر بالشكل الذي يرضاه الله !

بعد هذا التوضيح الموجز نعود إلى تفسير الآيات :

تقول الآية الاُولى : {ولقد آتينا لقمان الحكمة أن اشكر لله ومن يشكر فإنّما يشكر لنفسه ومن كفر فإنّ الله غنيّ حميد}(2) .

فما هي الحكمة ؟

في معرض الحديث عن ماهية الحكمة ينبغي القول : إنّهم قد ذكروا للحكمة معاني كثيرة ، مثل : معرفة أسرار عالم الوجود ، والإحاطة والعلم بحقائق القرآن ، والوصول إلى الحقّ من جهة القول والعمل ، ومعرفة الله .

إلاّ أنّ كلّ هذه المعاني يمكن جمعها في تعريف واحد ، فالحكمة التي يتحدّث عنها القرآن ، والتي كان الله قد آتاها لقمان ، كانت مجموعة من المعرفة والعلم ، والأخلاق الطاهرة والتقوى ونور الهداية .

وفي حديث عن الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) ، أنّه قال لهشام بن الحكم في تفسير هذه الآية : «إنّ الحكمة هي الفهم والعقل» (3) .

وفي حديث آخر عن الإمام الصادق (عليه السلام) في تفسير هذه الآية ، أنّه قال : «اُوتي معرفة إمام زمانه»(4) .

ومن الواضح أنّ كلاًّ من هذه المفاهيم يعتبر أحد فروع معنى الحكمة الواسع ، ولا منافاة بينها .

وعلى كلّ حال ، فإنّ لقمان بإمتلاكه هذه الحكمة كان يشكر الله ، فقد كان يعلم الهدف من وراء هذه النعم الإلهيّة ، وكيفيّة إستغلالها والإستفادة منها ، وكان يضعها بدقّة وصواب كامل في مكانها المناسب لتحقيق الهدف الذي خلقت من أجله ، وهذه هي الحكمة ، هي وضع كلّ شيء في موضعه ، وبناءً على هذا فإنّ الشكر والحكمة يعودان إلى نقطة واحدة .

وقد اتّضحت نتيجة الشكر والكفران للنعم بصورة ضمنية في الآية ، وهي أنّ شكر النعمة سيكون من صالح الإنسان وفي منفعته ، وأنّ كفران النعمة سيكون سبباً لضرره أيضاً ، لأنّ الله سبحانه غنيّ عن العالمين ، فلو أنّ كلّ الممكنات قد شكرته فلا يزيد في عظمته شيء ، ولو أنّ كلّ الكائنات كفرت فلا ينقص من كبريائه شيء !

إنّ «اللام» في جملة (أن اشكر لله) لام الإختصاص ، و«اللام» في (لنفسه)لام النفع ، وبناءً على هذا ، فإنّ نفع الشكر ، والذي هو دوام النعمة وكثرتها ، إضافة إلى ثواب الآخرة يعود على الإنسان نفسه ، كما أنّ مضرّة الكفر تحيق به فقط .

والتعبير بـ (غنيّ حميد) إشارة إلى شكر الناس للأفراد العاديين أمّا أن يؤدّي إلى النفع المادّي للمشكور ، أو زيادة مكانة صاحبه في أنظار الناس ، إلاّ أنّ أيّاً من هذين الأمرين لا معنى له ولا مصداق في حقّ الله تعالى ، فإنّه غنيّ عن الجميع ، وهو أهل لحمد كلّ الحامدين وثنائهم ، فالملائكة تحمده ، وكلّ ذرّات الوجود والموجودات مشغولة بتسبيحه ، وإذا ما نطق إنسان بالكفر فليس له أدنى تأثير ، فحتّى ذرّات وجوده مشغولة بحمده وثنائه بلسان الحال!

وممّا يجدر ذكره أنّ الشكر قد ذكر بصيغة المضارع ، والذي يدلّ على الإستمرار ، أمّا الكفر فقد جاء بصيغة الماضي الذي يصدق حتّى على المرّة الواحدة ، وهذا إشارة إلى أنّ الكفران ولو لمرّة واحدة يمكن أن يؤدّي إلى عواقب وخيمة مؤلمة ، أمّا الشكر فإنّه لازم ، ويجب أن يكون مستمرّاً ليطوي الإنسان مسيره التكاملي .

وبعد تعريف لقمان ومقامه العلمي والحِكَمي ، أشارت الآية التالية إلى اُولى مواعظه ، وهي في الوقت نفسه أهمّ وصاياه لولده ، فقالت : {وإذ قال لقمان لإبنه وهو يعظه يابني لا تشرك بالله إنّ الشرك لظلم عظيم} .

إنّ حكمة لقمان توجب عليه أن يتوجّه قبل كلّ شيء إلى أهمّ المسائل الأساسية ، وهي مسألة التوحيد . . التوحيد في كلّ المجالات والأبعاد ، لأنّ كلّ حركة هدّامة ضدّ التوجّه الإلهي تنبع من الشرك ، من عبادة الدنيا والمنصب والهوى وأمثال ذلك ، والذي يعتبر كلّ منها فرعاً من الشرك .

كما أنّ أساس كلّ الحركات الصحيحة البنّاءة هو التوحيد والتوجّه إلى الله ، وإطاعة أوامره ، والإبتعاد عن غيره ، وكسر كلّ الأصنام في ساحة كبريائه!

وممّا يستحقّ الإشارة أنّ لقمان الحكيم قد جعل علّة نفي الشرك هو أنّ الشرك ظلم عظيم ، وقد اُحيط بالتأكيد من عدّة جهات (5) .

وأيّ ظلم أعظم منه ، حيث جعلوا موجودات لا قيمة لها في مصافّ الله ودرجته ، هذا من جانب ، ومن جانب آخر يجرّون الناس إلى الضلال والإنحراف ، ويظلمونهم بجناياتهم وجرائمهم ، وهم يظلمون أنفسهم أيضاً حيث ينزلونها من قمّة عزّة العبودية لله ويهوون بها إلى منحدر ذلّة العبودية لغيره .

والآيتان التاليتان جمل معترضة ذكرها الله تعالى في طيّات مواعظ لقمان ، لكنّ هذا الإعتراض لا يعني عدم الإتّصال والإرتباط ، بل يعني الصلة الواضحة لكلام الله عزّوجلّ بكلام لقمان ، لأنّ في هايتن الآيتين بحثاً عن نعمة وجود الوالدين ومشاقّهما وخدماتهما وحقوقهما ، وجعل شكر الوالدين في درجة شكر الله .

إضافةً إلى أنّهما تعتبران تأكيداً على كون مواعظ لقمان لإبنه خالصة ، لأنّ الوالدين مع هذه العلاقة القويّة وخلوص النيّة لا يمكن أن يذكرا في مواعظهما إلاّ ما فيه خير وصلاح الولد ، فتقول أوّلا : {ووصّينا الإنسان بوالديه} وعندئذ تشير إلى جهود ومتاعب الاُمّ العظيمة ، فتقول : {حملته اُمّه وهناً على وهن} (6) .

وهذه المسألة قد ثبتت من الناحية العلمية ، إذ أوضحت التجارب أنّ الاُمّهات في فترة الحمل يصبن بالضعف والوهن ، لأنّهنّ يصرفن خلاصة وجودهنّ في تغذية وتنمية الجنين ، ويقدّمن له من موادهنّ الحياتية أفضلها ، ولذلك فإنّ الاُمّهات أثناء فترة الحمل يبتلين بنقص أنواع الفيتامينات وفي حالة عدم تعويض هذا النقص فسيؤدّي إلى آلام ومتاعب كثيرة .

وهذا الأمر يستمر حتّى في فترة الرضاعة ، لأنّ اللبن عصارة وجود الاُمّ ، ولهذا تضيف بعد ذلك فترة رضاعه سنتان (وفصاله في عامين) كما اُشير إلى ذلك في موضع آخر من القرآن : {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} [البقرة : 233] ، والمراد فترة الرضاعة الكاملة ، وإن كانت تتمّ أحياناً بفترة أقلّ .

وعلى كلّ حال ، فإنّ الاُمّ في هذه الـ (33) شهراً ـ فترة الحمل ، وفترة الرضاع ـ تبدي وتقدّم أعظم تضحية لولدها ، سواء كان من الجانب الروحي والعاطفي ، أوالجسمي ، أومن جهة الخدمات والرعاية .

والملفت للنظر هنا أنّها توصي في البداية بالوالدين معاً ، إلاّ أنّها عند بيان المشاقّ والمتاعب تؤكّد على متاعب الاُمّ ، لتنبّه الإنسان إلى إيثارها وتضحياتها وحقّها العظيم .

ثمّ تقول : {أن اشكر لي ولوالديك} فاشكرني لأنّي خالقك والمنعم الأصليّ عليك ، ومنحتك مثل هذين الأبوين العطوفين الرحيمين ، واشكر والديك لأنّهما واسطة هذا الفيض وقد تحمّلا مسؤولية إيصال نعمي إليك . فما أجمل أن يجعل شكر الوالدين قرين شكر الله! وما أعمق مغزاه!

ويقول الله تعالى في نهاية الآية بنبرة لا تخلو من التهديد والعتاب : (إليّ المصير) . نعم ، فإنّك إذا قصّرت هنا فستحاسب على كلّ هذه الحقوق والمصاعب والخدمات بدقّة فيجب على الإنسان أن يؤدّي ما عليه من شكر مواهب الله . وكذلك شكر نعمة وجود الأبوين وعواطفهما الصادقة الطاهرة لينجح في ذلك الحساب وتلك المحكمة .

وفي هذا المجال التفت بعض المفسّرين إلى مسألة لطيفة ، وهي أنّه قد ورد التأكيد على رعاية حقوق الأبوين مراراً في القرآن المجيد ، إلاّ أنّ التوصية بالأولاد تلاحظ قليلا ـ ما عدا مورد النهي عن قتل الأولاد ، والتي كانت عادةً مشؤومة قبيحة وإستثنائية في عصر الجاهلية ـ وذلك لأنّ الوالدين ، وبحكم عواطفهما القويّة ، قلّ ما يهملوا أولادهما بيد النسيان ، في حين يلاحظ بكثرة أنّ الأولاد ينسون الأبوين ، وخاصّة عند الكبر والعجز ، وتعتبر هذه آلم وأشدّ حالة لهما ، وأسوأ صور كفران النعمة بالنسبة للأولاد (7) .

إنّ الوصيّة بالإحسان إلى الأبوين قد توجد الإشتباه والوهم عند البعض وذلك حينما يظنّ أنّه يجب مداراتهما واتّباعهما حتّى في مسألة العقيدة والكفر والإيمان ، لكنّ الآية التالية تقول : {وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما} فيجب أن لا تكون علاقة الإنسان باُمّه وأبيه مقدّمة على علاقته بالله مطلقاً ، وأن لا تكون عواطف القرابة حاكمة على عقيدته الدينيّة أبداً .

جملة (جاهداك) إشارة إلى أنّ الأبوين قد يظنّان أحياناً أنّهما يريدان سعادة الولد ، ويسعيان إلى جرّه إلى عقيدتهما المنحرفة والإيمان بها ، وهذا يلاحظ لدى كلّ الآباء والاُمّهات .

إنّ واجب الأولاد أن لا يستسلموا أبداً أمام هذه الضغوط ، ويجب أن يحافظوا على إستقلالهم الفكري ، ولا يساوموا على عقيدة التوحيد ، أو يبدّلوها بأيّ شيء .

ثمّ إنّ جملة (ما ليس لك به علم) تشير ضمناً إلى أنّنا لو نتجاهل أدلّة بطلان الشرك ، ولم نقم لها وزناً ، فإنّه لا يوجد دليل على إثباته ، ولا يستطيع أيّ متعنّت إثبات الشرك بالدليل .

وإذا تجاوزنا ذلك ، فإنّ الشرك إن كانت له حقيقة ، فينبغي أن يكون هناك دليل على إثباته ، ولمّا لم يكن هناك دليل على إثباته ، فإنّ هذا بنفسه دليل على بطلانه .

ولمّا كان من الممكن أيضاً أن يوجد هذا الأمر توهّم وجوب إستخدام الخشونة مع الوالدين المشركين وعدم إحترامهما ، ولذلك أضافت الآية أنّ عدم طاعتهما في مسألة الشرك ليس دليلا على وجوب قطع العلاقة معهما ، بل تأمره الآية أن {وصاحبهما في الدنيا معروفاً} .

فلاطفهما وأظهر المحبّة لهما في الحياة الدنيويّة والمعاشرة ، ولا تستسلم لأفكارهما وإقتراحاتهما من الناحية العقائدية والبرامج الدينيّة ، وهذه بالضبط نقطة الإعتدال الأصليّة التي تجمع فيها حقوق الله والوالدين ، ولذا يضيف بعد ذلك (واتّبع سبيل من أناب إليّ) لأنّ المصير إليه سبحانه {ثمّ إليّ مرجعكم فاُنبّئكم بما كنتم تعملون} .

إنّ سبب النفي والإثبات المتلاحق ، والأوامر والنواهي المتتابعة في الآيات أعلاه هو أن يجد المسلمون الخطّ الأصلي ويشخّصوه في مثل هذه المسائل ، حيث يبدو في أوّل الأمر أنّ هناك تناقضاً في أداء هذين الواجبين ، فإن تفكّروا قليلا فإنّ المسير الصحيح سيكون نصب أعينهم ، وسيسيرون فيه دون أدنى إفراط ولا تفريط ، وهذه الدقّة واللطافة القرآنية في أمثال هذه الدقائق من صور فصاحة القرآن وبلاغته العميقة .

وعلى كلّ حال ، فإنّ الآية أعلاه تشبه ما جاء في الآية (8) من سورة العنكبوت ، حيث تقول : {ووصّينا الإنسان بوالديه حسناً وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما إليّ مرجعكم فاُنبّئكم بما كنتم تعملون} وقد أوردنا في ذيل الآية (8) من سورة العنكبوت سبب نزول لها ذُكر في بعض التفاسير .

 

 

وقوله تعالى : {يَابُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16) يَابُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17) وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} [لقمان : 16 - 19]

 

أثبت كالجبل ، وعامل الناس بالحسنى !

كانت اُولى مواعظ لقمان عن مسألة التوحيد ومحاربة الشرك ، وثانيتها عن حساب الأعمال والمعاد ، والتي تكمّل حلقة المبدأ والمعاد ، فيقول : {يابنيّ إنّها إن تك مثقال حبّة من خردل فتكن في صخرة أوفي السماوات أوفي الأرض يأت بها الله} أي في يوم القيامة ويضعها للحساب {إنّ الله لطيف خبير} .

«الخردل» : نبات له حبّات سوداء صغيرة جدّاً يضرب المثل بصغرها ، وهذا التعبير إشارة إلى أنّ أعمال الخير والشرّ مهما كانت صغيرة لا قيمة لها ، ومهما كانت خفيّة كخردلة في بطن صخرة في أعماق الأرض ، أوفي زاوية من السماء ، فإنّ الله اللطيف الخبير المطّلع على كلّ الموجودات ، صغيرها وكبيرها في جميع أنحاء العالم ، سيحضرها للحساب والعقاب والثواب ، ولا يضيّع شيء في هذا الحساب .

والضمير في «إنّها» يعود إلى الحسنات والسيّئات ، والإحسان والإساءة (8) .

إنّ الإلتفات والتوجّه إلى هذا الإطّلاع التامّ من قبل الخالق سبحانه على أعمال الإنسان وعلمه بها ، وبقاء كلّ الحسنات والسيّئات محفوظة في كتاب علم الله ، وعدم ضياع وتلف شيء في عالم الوجود هذا ، هو أساس كلّ الإصلاحات الفرديّة والإجتماعية ، وهو قوّة وطاقة محرّكة نحو الخيرات ، وسدّ منيع من الشرور والسيّئات . وذكر السماوات والأرض بعد بيان الصخرة ، هو في الواقع من قبيل ذكر العامّ بعد الخاصّ .

وفي حديث روي عن الإمام الباقر (عليه السلام) : «اتّقوا المحقّرات من الذنوب ، فإنّ لها طالباً ، يقول أحدكم : أُذنب وأستغفر ، إنّ الله عزّوجلّ يقول : {سنكتب ما قدّموا وآثارهم وكلّ شيء أحصيناه في إمام مبين} . وقال عزّوجلّ : {إنّها إن تك مثقال حبّة من خردل فتكن في صخرة أوفي السماوات أوفي الأرض يأت بها الله إنّ الله لطيف خبير} (9) .

وبعد تحكيم اُسس المبدأ والمعاد ، والتي هي أساس كلّ الإعتقادات الدينيّة ، تطرّق لقمان إلى أهمّ الأعمال ، أي مسألة الصلاة ، فقال : {يا بنيّ أقم الصلاة} لأنّ الصلاة أهمّ علاقة وإرتباط مع الخالق ، والصلاة تنوّر قلبك ، وتصفّي روحك ، وتضيء حياتك ، وتطهّر روحك من آثار الذنب ، وتقذف نور الإيمان في أنحاء وجودك ، وتمنعك عن الفحشاء والمنكر .

وبعد الصلاة يتطرّق لقمان إلى أهمّ دستور إجتماعي ، أي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فيقول : {وأمر بالمعروف وانه عن المنكر} .

وبعد هذه الأوامر العمليّة المهمّة الثلاثة ، ينتقل إلى مسألة الصبر والإستقامة ، والتي هي من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد ، فيقول : {واصبر على ما أصابك إنّ ذلك من عزم الاُمور} .

من المسلّم أنّه توجد مشاكل وعقبات كثيرة في سائر الأعمال الإجتماعية ، وخاصّة في مسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ومن المسلّم أيضاً أنّ أصحاب المصالح والمتسلّطين ، والمجرمين والأنانيّين لا يستسلمون بهذه السهولة ، بل يسعون إلى إيذاء وإتّهام الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر ، ولا يمكن الإنتصار على هذه المصاعب والعقبات بدون الصبر والتحمّل والإستقامة أبداً .

«العزم» بمعنى الإرادة المحكمة القويّة ، والتعبير بـ (عزم الاُمور) هنا إمّا بمعنى الأعمال التي أمر الله بها أمراً مؤكّداً ، أو الاُمور والأعمال التي يجب أن يمتلك الإنسان فيها إرادة فولاذية وتصميماً راسخاً ، وأيّاً من هذين المعنيين كان فإنّه يشير إلى أهميّة تلك الأعمال .

والتعبير بـ «ذلك» إشارة إلى الصبر والتحمّل ، ويحتمل أيضاً أن يعود إلى كلّ الاُمور والمسائل التي ذكرت في الآية أعلاه ، ومن جملتها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، إلاّ أنّ هذا التعبير قد ورد بعد مسألة الصبر في بعض الآيات القرآنية الاُخرى ، وهذا يدعم ويقوّي الإحتمال الأوّل .

ثمّ إنتقل لقمان إلى المسائل الأخلاقية المرتبطة بالناس والنفس ، فيوصي أوّلا بالتواضع والبشاشة وعدم التكبّر ، فيقول : {ولا تصعّر خدّك للناس} أي لا تعرض بوجهك عن الناس {ولا تمش في الأرض مرحاً إنّ الله لا يحبّ كلّ مختال فخور} .

«تُصَعّر» : من مادّة (صعّر) ، وهي في الأصل مرض يصيب البعير فيؤدّي إلى إعوجاج رقبته .

و«المرح» : يعني الغرور والبطر الناشيء من النعمة .

و«المختال» : من مادّة (الخيال) و(الخيلاء) ، وتعني الشخص الذي يرى نفسه عظيماً وكبيراً ، نتيجة سلسلة من التخيّلات والأوهام .

و«الفخور» : من مادّة (الفخر) ويعني الشخص الذي يفتخر على الآخرين .

والفرق بين كلمتي المختال والفخور ، أنّ الاُولى إشارة إلى التخيّلات الذهنيّة للكبر والعظمة ، أمّا الثّانية فهي تشير إلى أعمال التكبّر الخارجي .

وعلى هذا ، فإنّ لقمان الحكيم يشير هنا إلى صفتين مذمومتين جدّاً وأساس توهين وقطع الروابط الإجتماعية الصميميّة : إحداهما التكبّر وعدم الإهتمام بالآخرين ، والاُخرى الغرور والعجب بالنفس ، وهما مشتركتان من جهة دفع الإنسان إلى عالم من التوهّم والخيال ونظرة التفوّق على الآخرين ، وإسقاطه في هذه الهاوية ، وبالتالي تقطعان علاقته بالآخرين وتعزلانه عنهم ، خاصّة وأنّه بملاحظة الأصل اللغوي لـ «صعّر» سيتّضح أنّ مثل هذه الصفات مرض نفسي وأخلاقي ، ونوع من الإنحراف في التشخيص والتفكير ، وإلاّ فإنّ الإنسان السالم من الناحية الروحية والنفسية لا يبتلى مطلقاً بمثل هذه الظنون والتخيّلات .

ولا يخفى أنّ مراد لقمان لم يكن مسألة الإعراض عن الناس ، أو المشي بغرور وحسب ، بل المراد محاربة كلّ مظاهر التكبّر والغرور ، ولمّا كانت هذه الصفات تظهر في طليعة الحركات العاديّة اليوميّة ، فإنّه وضع إصبعه على مثل هذه المظاهر الخاصّة .

ثمّ بيّن في الآية التالية أمرين وسلوكين أخلاقيين إيجابيّين في مقابل النهيين عن سلوكين سلبيين في الآية السابقة فيقول : ابتغ الإعتدال في مشيك : (واقصد في مشيك) وابتغ الإعتدال كذلك في كلامك ولا ترفع صوتك عالياً {واغضض من صوتك إنّ أنكر الأصوات لصوت الحمير} (10) .

إنّ هاتين الآيتين في الحقيقة أمرتا بصفتين ، ونهتا عن صفتين :

فالنهي عن «التكبّر» و«العجب» ، فإنّ أحدهما يؤدّي إلى أن يتكبّر الإنسان على عباد الله ، والآخر يؤدّي إلى أن يظنّ الإنسان أنّه في مرتبة الكمال وأسمى من الآخرين ، وبالتالي سيغلق أبواب التكامل بوجهه ، وإن كان لا يقارن بينه وبين الآخرين .

وبالرغم من أنّ هاتين الصفتين مقترنتان غالباً ، ولهما أصل مشترك ، إلاّ أنّهما قد تفترقان أحياناً .

أمّا الأمر بصفتين ، فهما رعاية الإعتدال في العمل والكلام ، لأنّ التأكيد على الإعتدال في المشي أو إطلاق الصوت هومن باب المثال في الحقيقة .

والحقّ أنّ الإنسان الذي يتّبع هذه النصائح الأربع موفّق وسعيد وناجح في الحياة ، ومحبوب بين الناس ، وعزيز عند الله .

وممّا يستحقّ الإنتباه أنّ من الممكن أن نسمع أصواتاً أزعج من أصوات الحمير في محيط حياتنا ، كصوت سحب بعض القطع الفلزّية إلى بعضها الآخر ، حيث يحسّ الإنسان عند سماعه بأنّ لحمه يتساقط ، إلاّ أنّ هذه الأصوات لا تمتلك صفة عامّة ، إضافةً إلى وجود فرق بين المزعج والقبيح من الأصوات ، والحقّ هو أنّ صوت الحمار أقبح من كلّ الأصوات العاديّة التي يسمعها الإنسان ، وبه شُبّهت صرخات ونعرات المغرورين البله .

وليس القبح من جهة إرتفاع الصوت وطريقته فحسب ، بل من جهة كونه بلا سبب أحياناً ، لأنّ بعض المفسّرين يقولون : إنّ أصوات الحيوانات تعبّر غالباً عن حاجة ، إلاّ أنّ هذا الحيوان يطلق صوته أحياناً بدون مبرّر أو داع ، وبدون أيّ حاجة أو مقدّمة! وربّما كان ما ورد في بعض الرّوايات من أنّ الحمار كلّما أطلق صوته فقد رأى شيطاناً ، لهذا السبب .

وقال البعض : إنّ صراخ كلّ حيوان تسبيح إلاّ صوت الحمار !

وعلى كلّ حال ، فإنّنا إذا تجاوزنا كلّ ذلك ، فإنّ كون هذا الصوت قبيحاً من بين الأصوات لا يحتاج إلى بحث ، وإذا رأينا في الرّوايات المرويّة عن الإمام الصادق (عليه السلام) ، والتي فسّرت هذه الآية بالعطسة بصوت عال ، أو الصراخ عند التكلّم والتحدّث ، فإنّه في الحقيقة مصداق واضح لذلك(11) .

______________

1- الامثل ، ناصر مكارم الشيرازي ، ج10 ، ص228-242 .

2 ـ هناك بحث بين المفسّرين في أنّه هل يوجد لجملة (أن اشكر لله) شيء مقدّر أم لا؟ فالبعض يعتقد أنّ جملة (قلنا له) مقدّرة قبلها ، والبعض يقولون : لا تحتاج إلى تقدير ، و(أنّ) في جملة (أن اشكر) تفسيرية ، لأنّ الشكر بنفسه عين الحكمة ، والحكمة عينه . وكلا التّفسيرين يمكن قبوله .

3 ـ اُصول الكافي ، ج2 ، ص13 . كتاب العقل والجهل حديث 12 .

4 ـ نور الثقلين ، الجزء 4 ، صفحة 196 .

5 ـ إنّ كلاّ من (أن) و«اللام» ، وكون الجملة إسمية من أدوات التأكيد .

6 ـ إنّ جملة (وهناً على وهن) يمكن أن تكون حالا للاُمّ بتقدير كلمة «ذات» ، فكان تقديرها (حملته اُمّه ذات وهن على وهن) . واحتُمل أيضاً أن تكون مفعولا مطلقاً لفعل مقدّر من مادّة (وهن) فكان تقديره : (تهن وهناً على وهن) .

7 ـ تفسير في ظلال القرآن ، الجزء 6 ، ص 484 .

8 ـ إحتمل البعض أنّ الضمير أعلاه ضمير الشأن والقصّة ، أو يعود إلى مفهوم الشرك ، وكلا الإحتمالين بعيد .

9 ـ نور الثقلين ، الجزء 4 ، صفحة 204 .

10 ـ «أنكر» أفعل التفضيل ، ومع أنّه لا يأتي عادةً في مورد المفعول ، إلاّ أنّ هذه الصيغة وردت بصورة نادرة في باب العيوب .

11 ـ مجمع البيان ، ذيل الآية مورد البحث .




وهو تفسير الآيات القرآنية على أساس الترتيب الزماني للآيات ، واعتبار الهجرة حدّاً زمنيّاً فاصلاً بين مرحلتين ، فكلُّ آيةٍ نزلت قبل الهجرة تُعتبر مكّيّة ، وكلّ آيةٍ نزلت بعد الهجرة فهي مدنيّة وإن كان مكان نزولها (مكّة) ، كالآيات التي نزلت على النبي حين كان في مكّة وقت الفتح ، فالمقياس هو الناحية الزمنيّة لا المكانيّة .

- المحكم هو الآيات التي معناها المقصود واضح لا يشتبه بالمعنى غير المقصود ، فيجب الايمان بمثل هذه الآيات والعمل بها.
- المتشابه هو الآيات التي لا تقصد ظواهرها ، ومعناها الحقيقي الذي يعبر عنه بـ«التأويل» لا يعلمه الا الله تعالى فيجب الايمان بمثل هذه الآيات ولكن لا يعمل بها.

النسخ في اللغة والقاموس هو بمعنى الإزالة والتغيير والتبديل والتحوير وابطال الشي‏ء ورفعه واقامة شي‏ء مقام شي‏ء، فيقال نسخت الشمس الظل : أي ازالته.
وتعريفه هو رفع حكم شرعي سابق بنص شرعي لا حق مع التراخي والزمان بينهما ، أي يكون بين الناسخ والمنسوخ زمن يكون المنسوخ ثابتا وملزما بحيث لو لم يكن النص الناسخ لاستمر العمل بالسابق وكان حكمه قائما .
وباختصار النسخ هو رفع الحكم الشرعي بخطاب قطعي للدلالة ومتأخر عنه أو هو بيان انتهاء امده والنسخ «جائز عقلا وواقع سمعا في شرائع ينسخ اللاحق منها السابق وفي شريعة واحدة» .