المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية

القرآن الكريم وعلومه
عدد المواضيع في هذا القسم 16371 موضوعاً
تأملات قرآنية
علوم القرآن
الإعجاز القرآني
قصص قرآنية
العقائد في القرآن
التفسير الجامع
آيات الأحكام

Untitled Document
أبحث عن شيء أخر

الأفعال التي تنصب مفعولين
23-12-2014
صيغ المبالغة
18-02-2015
الجملة الإنشائية وأقسامها
26-03-2015
اولاد الامام الحسين (عليه السلام)
3-04-2015
معاني صيغ الزيادة
17-02-2015
انواع التمور في العراق
27-5-2016


تفسير الآية (103-109) من سورة هود  
  
6785   04:35 مساءً   التاريخ: 11-6-2020
المؤلف : المرجع الإلكتروني للمعلوماتية
الكتاب أو المصدر : تفاسير الشيعة
الجزء والصفحة : ......
القسم : القرآن الكريم وعلومه / التفسير الجامع / حرف الهاء / سورة هود /


أقرأ أيضاً
التاريخ: 13-6-2020 13682
التاريخ: 2-5-2020 4160
التاريخ: 6-5-2020 8417
التاريخ: 7-6-2020 4178

 

قال تعالى:{ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (103) وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (104) يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (105) فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (107) وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108) فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ } [هود: 103، 109]

تفسير مجمع البيان
- ذكر الطبرسي في تفسير هذه  الآيات (1) :

{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً} أي: إن فيما قصصنا عليك من إهلاك من ذكرناه على وجه العقوبة لهم على كفرهم لعبرة وتبصرة وعلامة عظيمة { لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ} أي: لمن خشي عقوبة الله يوم القيامة وخص الخائف بذلك لأنه هو الذي ينتفع به بالتدبر والتفكر فيه { ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ} أي: يجمع فيه الناس كلهم الأولون والآخرون منهم للجزاء والحساب والهاء في له راجعة إلى اليوم {وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ} أي: يشهده الخلائق كلهم من الجن والإنس وأهل السماء وأهل الأرض أي : يحضره ولا يوصف بهذه الصفة يوم سواه وفي هذا دلالة على إثبات المعاد وحشر الخلق.

ثم أخبر سبحانه عن اليوم المشهود وهو يوم القيامة فقال {وَمَا نُؤَخِّرُهُ} أي: وما نؤخر هذا اليوم {إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ} وهو أجل قد عده الله تعالى لعلمه أن صلاح الخلق في إدامة التكليف عليهم إلى ذلك الوقت. وفيه إشارة إلى قربه لأن ما يدخل تحت العد فكان قد نفد وإنما قال لأجل ولم يقل إلى أجل لأن اللام يدل على الغرض وأن الحكمة اقتضت تأخيره وإلى لا يدل على ذلك {يوم يأت} أي: حين يأتي القيامة والجزاء {لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ} أي: لا يتكلم أحد فيه إلا بإذن الله تعالى وأمره ومعناه أنه لا يتكلم فيه إلا بالكلام الحسن المأذون فيه لأن الخلق ملجئون هناك إلى ترك القبائح فلا يقع منهم فعل القبيح وأما ما هو غير قبيح فإنه مأذون فيه عن الجبائي والأظهر أن يقال: معناه أنه لا يتكلم أحد في الآخرة بكلام نافع من شفاعة ووسيلة إلا بإذنه فإن قيل: كيف يجمع بين هذه الآية وبين قوله {هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ (35) وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} وقوله: { فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ} على أنه سبحانه قال في موضع آخر وقفوهم إنهم مسئولون وهل هذا إلا ظاهر التناقض؟ فالجواب: أن يوم القيامة يشتمل على مواقف قد أذن لهم في الكلام في بعض تلك المواقف ولم يؤذن لهم في الكلام في بعضها عن الحسن وقيل: أن معنى قوله {لا ينطقون} أنهم لا ينطقون لحجة وإنما يتكلمون بالإقرار بذنوبهم ولوم بعضهم بعضا وطرح بعضهم الذنوب على بعض وهذا كما يقول القائل لمن تكلم بكلام كثير فارغ عن الحجة ما تكلمت بشيء ولا نطقت بشيء فسمي من يتكلم بما لا حجة فيه غير متكلم كما قال سبحانه صم بكم عمي وهم كانوا يسمعون ويتكلمون ويبصرون إلا أنهم في أنهم لا يقبلون الحق ولا يتأملون بمنزلة الصم البكم العمي وكلا الوجهين حسن وأما قوله فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان فمعناه أنهم لا يسألون عن ذنوبهم للتعرف من حيث أن الله سبحانه علم أعمالهم وإنما يسألون سؤال توبيخ وتقريع وتقرير لإيجاب الحجة عليهم كما في قوله وقفوهم إنهم مسئولون فأثبت سبحانه سؤال التقريع في آية ونفي سؤال التعرف والاستعلام في أخرى فلا تناقض .

وقوله { فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ} إخبار منه سبحانه بأنهم قسمان أشقياء وهم المستحقون للعقاب وسعداء وهم المستحقون للثواب والشقاء قوة أسباب البلاء والسعادة قوة أسباب النعمة والشقي من شقي بسوء عمله في معصية الله والسعيد من سعد بحسن عمله في طاعة الله والضمير في قوله { فمنهم} يعود إلى الناس في قوله ذلك يوم مجموع له الناس وقيل إنه يعود إلى نفس في قوله { لا تكلم نفس إلا بإذنه } لأن النفس اسم الجنس { فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ} يعني أن الذين شقوا باستحقاقهم العذاب جزاء على أعمالهم القبيحة داخلون في النار وإنما وصفوا بالشقاوة قبل دخولهم النار لأنهم على حال تؤديهم إلى دخولها.

 وأما ما روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) أنه قال الشقي من شقي في بطن أمه فإن المراد بذلك أن المعلوم من حاله أنه سيشقى بارتكاب القبائح التي تؤديه إلى عذاب النار كما يقال لابن الشيخ الهرم أنه يتيم بمعنى أنه سييتم { لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ} قال الزجاج الزفير والشهيق من أصوات المكروبين المحزونين والزفير من شديد الأنين وقبيحة بمنزلة ابتداء صوت الحمار والشهيق الأنين الشديد المرتفع جدا بمنزلة آخر صوت الحمار وعن ابن عباس قال : يريد ندامة ونفسا عاليا وبكاء لا ينقطع .

{ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} اختلف العلماء في تأويل هذا في الآيتين وهما من المواضع المشكلة في القرآن والإشكال فيه من وجهين  أحدهما : تحديد الخلود بمدة دوام السماوات والأرض  والآخر : معنى الاستثناء بقوله { إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} فالأول فيه أقوال : أحدها : أن المراد ما دامت السماوات والأرض مبدلتين أي: ما دامت سماء الآخرة وأرضها وهما لا يفنيان إذا أعيدا بعد الإفناء عن الضحاك والجبائي . وثانيها : أن المراد ما دامت سماوات الجنة والنار وأرضهما وكل ما علاك فأظلك فهو سماء وكل ما استقر عليه قدمك فهو أرض وهذا مثل الأول أوقريب منه  وثالثها : أن المراد ما دامت الآخرة وهي دائمة أبدا كما أن دوام السماء والأرض في الدنيا قدر مدة بنائها عن الحسن  ورابعها : أنه لا يراد به السماء والأرض بعينها بل المراد التبعيد فإن للعرب ألفاظا للتبعيد في معنى التأبيد يقولون: لا أفعل ذلك ما اختلف الليل والنهار وما دامت السماء والأرض وما نبت النبت وما أطت الإبل وما اختلف الجرة والدرة وما ذر شارق(2)، وفي أشباه ذلك كثرة ظنا منهم أن هذه الأشياء لا تتغير ويريدون بذلك التأبيد لا التوقيت فخاطبهم سبحانه بالمتعارف من كلامهم على قدر عقولهم وما يعرفون قال عمروبن معد يكرب :

وكل أخ مفارقة أخوه                   لعمر أبيك إلا الفرقدان (3)

وقال زهير :

ألا لا أرى على الحوادث باقيا             ولا خالدا إلا الجبال الرواسيا

وإلا السماء والنجوم وربنا             وأيامنا معدودة واللياليا

 لأنه توهم أن هذه الأشياء لا تفنى وتخلد وأما الكلام في الاستثناء: فقد اختلف فيه أقوال العلماء على وجوه أحدها  أنه استثناء في الزيادة من العذاب لأهل النار والزيادة من النعيم لأهل الجنة والتقدير: إلا ما شاء ربك من الزيادة على هذا المقدار كما يقول الرجل لغيره: لي عليك ألف دينار إلا الألفين اللذين أقرضتكهما وقت كذا فالألفان زيادة على الألف بغير شك لأن الكثير لا يستثني من القليل عن الزجاج والفراء وعلي بن عيسى وجماعة وعلى هذا فيكون {إلا} بمعنى سوى أي: سوى ما شاء ربك كما يقال ما كان معنا رجل إلا زيد أي: سوى زيد  وثانيها : أن الاستثناء واقع على مقامهم في المحشر والحساب لأنهم حينئذ ليسوا في جنة ولا نار ومدة كونهم في البرزخ الذي هو ما بين الموت والحياة لأنه تعالى لو قال خالدين فيها أبدا ولم يستثن لظن الظان أنهم يكونون في النار والجنة من لدن نزول الآية أومن بعد انقطاع التكليف فحصل للاستثناء فائدة عن المازني وغيره واختاره البلخي فإن قيل كيف يستثني من الخلود في النار ما قبل الدخول فيها؟ فالجواب: أن ذلك جائز إذا كان الإخبار به قبل دخولهم فيها  وثالثها : أن الاستثناء الأول يتصل بقوله { لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ} وتقديره إلا ما شاء ربك من أجناس العذاب الخارجة عن هذين الضربين ولا يتعلق الاستثناء بالخلود وفي أهل الجنة يتصل بما دل عليه الكلام فكأنه قال لهم فيها نعيم إلا ما شاء ربك من أنواع النعيم وإنما دل عليه قوله { عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} عن الزجاج . ورابعها : أن يكون إلا بمعنى الواوأي وما شاء ربك من الزيادة عن الفراء واستشهد على ذلك بقول الشاعر :

وأرى لها دارا بأغدرة السيدان                 لم يدرس لها رسم

إلا رمادا هامدا دفعت                         عنه الرياح خوالد سحم(4)

 قال: والمراد بإلا الواوهاهنا وإلا كان الكلام متناقضا وهذا القول قد ضعفه محققو النحويين  وخامسها : أن المراد بالذين شقوا  من أدخل النار من أهل التوحيد الذين ضموا إلى إيمانهم وطاعتهم ارتكاب المعاصي فقال سبحانه: أنهم معاقبون في النار إلا ما شاء ربك من إخراجهم إلى الجنة وإيصال ثواب طاعاتهم إليهم ويجوز أن يريد  بالذين شقوا  جميع الداخلين إلى جهنم ثم استثنى بقوله { إلا ما شاء ربك } أهل الطاعات منهم ممن استحق الثواب ولا بد أن يوصل إليه وتقديره إلا ما شاء ربك أن يخرجه بتوحيده من النار ويدخله الجنة وقد يكون ما بمعنى من قال سبحانه {سبح لله ما في السماوات} وقالت العرب عند سماع الرعد: سبحان ما سبحت له وأما في أهل الجنة فهو استثناء من خلودهم أيضا لما ذكرناه لأن من ينقل إلى الجنة من النار وخلد فيها لا بد في الإخبار عنه بتأييد خلوده أيضا من استثناء ما تقدم فكأنه قال خالدين فيها إلا ما شاء ربك من الوقت الذي أدخلهم فيه النار قبل أن ينقلهم إلى الجنة فما في قوله { ما شاء ربك } هاهنا على بابه والاستثناء من الزمان والاستثناء في الأول من الأعيان.

 و الذين شقوا على هذا القول هم الذين سعدوا بأعيانهم وإنما أجري عليهم كل لفظ في الحال الذي تليق به فإذا أدخلوا النار وعوقبوا فيها فهم من أهل الشقاء وإذا نقلوا منها إلى الجنة فهم من أهل السعادة وهذا قول ابن عباس وجابر بن عبد الله وأبي سعيد الخدري وقتادة والسدي والضحاك وجماعة من المفسرين وروي أبو روق عن الضحاك عن ابن عباس قال: الذين شقوا  ليس فيهم كافر وإنما هم قوم من أهل التوحيد يدخلون النار بذنوبهم ثم يتفضل الله عليهم فيخرجهم من النار إلى الجنة فيكونون أشقياء في حال سعداء في حال أخرى وقال: قتادة الله أعلم بمشيئته ذكر لنا أن ناسا يصيبهم سفع (5) من النار بذنوبهم ثم يدخلهم الله الجنة برحمته يسمون الجهنميين وهم الذين أنفذ فيهم الوعيد ثم أخرجوا بالشفاعة قال وحدثنا أنس بن مالك أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) قال: يخرج قوم من النار قال ولا تقول ما يقوله أهل حروراء وهذا القول هو المختار المعول عليه.

  وسادسها أن تعليق ذلك بالمشيئة على سبيل التأكيد للخلود والتبعيد للخروج لأن الله تعالى لا يشاء إلا تخليدهم على ما حكم به فكأنه تعليق لما لا يكون بما لا يكون لأنه لا يشاء أن يخرجهم منها  وسابعها : ما قاله الحسن: أن الله سبحانه استثنى ثم عزم بقوله { إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} أنه أراد أن يخلدهم وقريب منه ما قاله الزجاج وغيره أنه استثناء تستثنيه العرب وتفعله كما تقول والله لأضربن زيدا إلا أن أرى غير ذلك وأنت عازم على ضربه والمعنى في الاستثناء على هذا إني لو شئت أن لا أضربه لفعلت  وثامنها:  قال يحيى بن سلام البصري :أنه يعني بقوله { إلا ما شاء ربك } ما سبقهم به الذين دخلوا قبلهم من الفريقين واحتج بقوله تعالى{ وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا} قال: إن الزمرة تدخل بعد الزمرة فلا بد أن يقع بينهما تفاوت في الدخول والاستثناء أن على هذا من الزمان  وتاسعها : أن المعنى : خالدون في النار دائمون فيها مدة كونهم في القبور ما دامت السماوات والأرض في الدنيا وإذا فنيتا وعدمتا انقطع عقابهم إلى أن يبعثهم الله للحساب وقوله { إلا ما شاء ربك }: استثناء وقع على ما يكون في الآخرة أورده الشيخ أبوجعفر (قدس الله روحه) وقال: ذكره قوم من أصحابنا في التفسير وعاشرها : أن المراد إلا ما شاء ربك أن يتجاوز عنهم فلا يدخلهم النار والاستثناء لأهل التوحيد عن أبي مجلز قال هي جزاؤهم وإن شاء سبحانه تجاوز عنهم والاستثناء يكون على هذا من الأعيان.

 { وأما الذين سعدوا } أي: سعدوا بطاعة الله وانتهائهم عن المعاصي { ففي الجنة } يكونون في الجنة { خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ} أي مدة دوام السماوات والأرض { إلا ما شاء ربك } يتأتى فيه جميع ما ذكرناه في الاستثناء من الخلود في النار إلا ما مضى ذكره من جواز إخراج بعض الأشقياء من تناول الوعيد لهم وإخراجهم من النار بعد دخولهم فيها فإن ذلك لا يتأتى هاهنا لإجماع الأمة على أن من استحق الثواب فلا بد أن يدخل الجنة وأنه لا يخرج منها بعد دخوله فيها { عطاء غير مجذوذ } أي: غير مقطوع .

{ فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ } أي في شك { مما يعبد هؤلاء } من دون الله تعالى أنه باطل وأنهم يصيرون بعبادتهم إلى عذاب النار { مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ} يعني ما يعبدون غير الله تعالى إلا على جهة التقليد كما كان آباؤهم كذلك { وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ} أي إنا لمعطوهم جزاء أعمالهم وعقاب أعمالهم وافيا { غير منقوص } عن مقدار ما استحقوه آيسهم سبحانه بهذا القول عن العفو وقيل معناه أنا نعطيهم ما يستحقونه من العقاب بعد أن نوفيهم ما حكمنا لهم به من الخير في الدنيا عن ابن زيد.

_____________________

1- تفسير مجمع البيان ،الطبرسي،ج5،ص328-341.

2- الاطيط:صوت الابل وحنينها، أو صوت أجوافها من الكظة أذا شربت . والجرة بلكسرة: ما يخرجه البعير من بطنه ليمضغه ثم يبلعه .والدرة اللبن إذا كثر وسال . وذرت الشمس : طلعت . والشارق : الشمس .

3- الشعر مذكور في ( جامع الشواهد ).

4-قائله المخبل السعدي.وأغدرة السيدان : موضع بين البصرة والبحرين. والرماد الهامد : المتبلد بعضه على بعض . والخوالد : البواقي:عنى بها الثافي . والسمحة: لون يضرب الى السواد . والشاهد في أن ((الإ)) هاهنا بمعنى الواو حيث قال : إن الاثافي دفعت عنها الرياح ، فهو داخل في جملة لم يدرس ، ولم يستثنه.

5- السفع السواد.

تفسير الكاشف
- ذكر محمد جواد مغنية في تفسير هذه  الآيات (1) :

{ إِنَّ فِي ذلِكَ لآيَةً لِمَنْ خافَ عَذابَ الآخِرَةِ ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ } . ان في ذلك إشارة إلى أخذه تعالى للقرى الظالم أهلها بالعذاب الشديد ، والمعنى ان في هذا الأخذ الأليم عبرة لمن آمن باللَّه ، وتذكيرا لمن يخاف عذاب يوم تشهده جميع الخلائق حين يجمعهم اللَّه فيه للحساب والجزاء .

وتسأل : ان الطوفان أو الزلزال ونحوه كثيرا ما يحدث لأسباب طبيعية ، والطبيعة عمياء لا تميز بين المؤمن والجاحد ، والمجرم والبريء ، فمن الجائز أن يكون الذي حدث لأقوام الأنبياء من هذا الباب ؟

الجواب : لقد كان النبي ينذر قومه بحدوث العذاب ، ويحدد نوعه ووقته قبل حدوثه ، فيأتي قوله على وفق الواقع ومن صلبه ، ولا يمكن تفسير ذلك بالتنبؤ العلمي حيث لا مراصد ولا أدوات للعلم في ذاك العهد ، وأيضا لا يمكن تفسيره بالبديهة والحدس لأن النبي كان يخبر عن ثقة وبلسان الجزم ، ويقول :

هذه هي الحقيقة وسترون ، ولا بالصدفة لمكان التكرار ، وإذا بطلت جميع هذه الفروض والتفسيرات تعين التفسير بالوحي ومشيئة اللَّه لأنه هو وحده الفرض الصحيح .

{ وما نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لأَجَلٍ مَعْدُودٍ } . لكل شيء عند اللَّه مدة وأجل لا يسبقه ولا يتجاوزه ، ومن ذلك فناء الدنيا ومجئ الآخرة { يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ } فيؤذن لها بالكلام والدفاع في موقف دون موقف ، كما هو الشأن في الكثير من محاكم الدنيا { فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وسَعِيدٌ } وشقاوة الإنسان غدا أو سعادته انما تكون بعمله في الدنيا ، لا بقضاء اللَّه وقدره ، أما خبر « الشقي شقي في بطن أمه ، والسعيد سعيد في بطن أمه » فمشكوك فيه ، وظاهره يناقض عدل اللَّه ورحمته . . إلى جانب انه من اخبار الآحاد ، وهي حجة في الأحكام الشرعية كالحلال والحرام والطاهر والنجس ، لا في أصول العقيدة وما يتصل بها .

ثم حدد أهل الشقاوة بقوله : { فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وشَهِيقٌ } .

وبديهة ان اللَّه لا يعذب إلا من تمرد وأفسد ، فالشقاوة - إذن - تكون بالكسب والعمل ، لا بالقضاء والقدر . . والزفير والشهيق كناية عن أحزان أهل النار

وآلامهم { خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ والأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ } . وقد أطال المفسرون الكلام حول التعليق على مشيئة اللَّه هنا ، وذكروا وجوها جعلت المعنى من الطلاسم والمتشابهات ، وهو من المحكمات والواضحات ، ويتلخص بأن من يدخل جهنم بأي ذنب من الذنوب فلا يستطيع الخروج منها بنفسه ، ولا بشفيع ومعين ، ولا بفداء ، فهو من هذه الجهة خالد فيها . . ولكن إذا شاء اللَّه أن يخرجه منها خرج ، وانتفى عنه وصف الخلود في النار ، لأن إرادته تعالى لا يحدها شيء { إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ } ، وكل شيء يرجع في النهاية إلى إرادته ولا ترجع إرادته إلا إليه وحده ، فسبب الخلود يؤثر أثره ما دام الخالق مريدا له ذلك وان لم يشأ لم يكن عملا بمبدأ : { إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون } .

وكما حدد أهل الشقاوة بالخالدين في النار حدد أهل السعادة بالخالدين في الجنة { وأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ والأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ } أي غير مقطوع . وتسأل : ان من يدخل الجنة فلا يخرج منها ، إذن ، ما هو القصد من التعليق على مشيئة اللَّه تعالى ؟ .

وقيل في الجواب : ان اللَّه يخرجهم من نعيم الجنة إلى نعيم مثله أو أحسن . .

أما الذي نفهمه نحن من هذا التعليق فهو مجرد الإشارة إلى قدرة اللَّه وعظمته ، وان الأسباب المعروفة انما تفعل فعلها إذا لم تصطدم بإرادته تعالى ، فالنار تحرق إذا لم يقل لها الخالق : كوني بردا وسلاما .

{ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ } . الخطاب لمحمد ( صلى الله عليه واله وسلم  ) ، وهؤلاء إشارة إلى قومه الذين كذبوه ، وما شك محمد ، ولن يشك أبدا في أنهم على باطل في عبادتهم ، ولكن القصد توبيخهم وتحذيرهم ( ما يَعْبُدُونَ إِلَّا كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ } . هذا تعليل لليقين وعدم الريب في بطلان ما يعبد هؤلاء ، لأنه مثل ما عبد الأولون الذين جل بهم العذاب لشركهم وعبادتهم الأصنام . { وإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ } تماما كما وفينا لآبائهم النصيب الذي استحقوه من العذاب ، ولم ننقص منه شيئا .

وتسأل : ان هذا تقنيط من عفو اللَّه ورحمته ، وهو يتنافى مع قوله تعالى :

{ قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ 52 الزمر } .

الجواب : ان المراد بقوله : { لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ } هو الترغيب في التوبة ، وان من تاب تاب اللَّه عليه . والمراد من قوله : { غَيْرَ مَنْقُوصٍ } ان من أصر على الشرك ، ولم يتب فإن اللَّه يجازيه بما يستحق . . ولسنا نشك في أن اللَّه يعفو ويرحم من يرحم الناس ، ويعمل لصالحهم ، أما الذين يعتدون على حريتهم وحقوقهم فلا يخفف عنهم العذاب ، ولا هم ينصرون .

__________________

1- التفسير الكاشف، محمد جواد مغنية، ج 4 ،ص 269-271.

تفسير الميزان
- ذكر الطباطبائي في تفسير هذه الآيات (1) :

قوله تعالى:{ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ} إلى آخر الآية الإشارة إلى ما أنبأه الله من قصص تلك القرى الظالمة التي أخذها بظلمها أخذا أليما شديدا.

وأنبأ أن أخذه كذلك يكون، وفي ذلك آية لمن خاف عذاب الحياة الآخرة وعلامة تدل على أن الله سبحانه وتعالى سيأخذ في الآخرة المجرمين بأجرامهم، وإن أخذه سيكون أليما شديدا فيوجب اعتباره بذلك وتحرزه مما يستتبع سخط الله تعالى.

وقوله:{ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ} أي ذلك اليوم الذي يقع فيه عذاب الآخرة يوم مجموع له الناس فالإشارة إلى اليوم الذي يدل عليه ذكر عذاب الآخرة،{ولذلك أتي بلفظ المذكر} كما قيل، ويمكن أن يكون تذكير الإشارة ليطابق المبتدأ الخبر.

ووصف اليوم الآخر بأنه مجموع له الناس دون أن يقال.

سيجمع أويجمع له الناس إنما هوللدلالة على أن جمع الناس له من أوصافه المقضية له التي تلزمه ولا تفارقه من غير أن يحتاج إلى الإخبار عنه بخبر.

فمشخص هذا اليوم أن الناس مجموعون لأجله - واللام للغاية - فلليوم شأن من الشأن لا يتم إلا بجمع الناس بحيث لا يغادر منهم أحد ولا يتخلف عنه متخلف: وللناس شأن من الشأن يرتبط به كل واحد منهم بالجميع، ويمتزج فيه الأول مع الآخر والآخر مع الأول ويختلط فيه الكل بالبعض والبعض بالكل، وهو حساب أعمالهم من جهة الإيمان والكفر والطاعة والمعصية، وبالجملة من حيث السعادة والشقاوة.

فإن من الواضح أن العمل الواحد من إنسان واحد يرتضع من جميع أعماله السابقة المرتبطة بأحواله الباطنة، ويرتضع منه جميع أعماله اللاحقة المرتبطة أيضا بما له من الأحوال القلبية، وكذلك عمل الواحد بالنسبة إلى أعمال من معه من بني نوعه من حيث التأثير والتأثر، وكذلك أعمال الأولين بالنسبة إلى أعمال الآخرين وأعمال اللاحقين بالنسبة إلى أعمال السابقين، وفي المتقدمين أئمة الهدى والضلال المسئولون عن أعمال المتأخرين، وفي المتأخرين الأتباع والأذناب المسئولون عن غرور متبوعيهم المتقدمين، قال تعالى:{فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين}: الأعراف 6، وقال:{ونكتب ما قدموا وآثارهم وكل شيء أحصيناه في إمام مبين}: يس: 12.

ثم الجزاء لا يتخلف الحكم الفصل.

وهذا الشأن على هذا النعت لا يتم إلا باجتماع من الناس بحيث لا يشذ منهم شاذ.

ومن هنا يظهر أن مسألة الآحاد من الناس في قبورهم وجزاءهم فيها بشيء من الثواب والعقاب على ما تشير إليه آيات البرزخ وتذكره بالتفصيل الأخبار الواردة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأئمة أهل البيت (عليهم السلام) غير ما أخبر الله تعالى به من حساب يوم القيامة والجزاء المقضي به هناك من الجنة والنار الخالدتين فإن الذي يستقبل الإنسان في البرزخ هو المسألة لتكميل صحيفة أعماله ليدخر لفصل القضاء يوم القيامة، وما يسكن فيه في البرزخ من جنة أو نار إنما هو كالنزل المعجل للنازل المتهيء للقاء والحكم، وليس ما هناك حسابا تاما ولا حكما فصلا ولا جزاء قاطعا كما يشير إليه نظائر قوله.

}النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب}: المؤمن: 46، وقوله:{يسحبون في الحميم ثم في النار يسجرون}: المؤمن: 72 فترى الآية تعبر عن عذابهم بالعرض على النار ثم يوم القيامة بدخولها وهو أشد العذاب، وتعبر عن عذابهم بالسحب في الحميم ثم بالسجر في النار وهو الاشتعال وقوله تعالى:{بل أحياء عند ربهم يرزقون فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون}: آل عمران: 170 فالآية صريحة في عالم القبر ولم تذكر حسابا ولا جنة الخلد وإنما ذكرت شيئا من التنعم إجمالا.

وقوله تعالى:{حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون لعلي أعمل صالحا فيما تركت كلا إنها كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون}: المؤمنون: 100 تذكر الآية أنهم بعد الموت في حياة برزخية متوسطة بين الحياة الدنيوية التي هي لعب ولهو والحياة الأخروية التي هي حقيقة الحياة كما قال:{وما هذه الحياة الدنيا إلا لهوولعب وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون}: العنكبوت: 64.

وبالجملة الدنيا دار عمل والبرزخ دار تهيؤ للحساب والجزاء، والآخرة دار حساب وجزاء، قال تعالى:{يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم يقولون ربنا أتمم لنا نورنا واغفر لنا}: التحريم: 8 فهم يحضرونه بما كسبوه في الدنيا من النور وهيئوه في البرزخ ثم يسألونه يوم القيامة إتمام نورهم وإذهاب ما معهم من بقايا عالم اللهو واللعب.

وقوله:{وذلك يوم مشهود} كالمتفرع بظاهره على الجملة السابقة.

}ذلك يوم مجموع له الناس} إذ الجمع يوجب المشاهدة غير أن اللفظ غير مقيد بالناس وإطلاقه يشعر بأنه مشهود لكل من له أن يشهد كالناس والملائكة والجن، والآيات الكثيرة الدالة على حشر الجن والشياطين وحضور الملائكة هناك يؤيد إطلاق الشهادة كما ذكر.

قوله تعالى:{وما نؤخره إلا لأجل معدود} أي إن لذلك اليوم أجلا قضى الله أن لا يقع قبل حلول أجله والله يحكم لا معقب لحكمه ولا راد لقضائه، ولا يؤخر اليوم إلا لأجل يعده فإذا تم العدد وحل الأجل حق القول ووقع اليوم.

قوله تعالى:{يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه} فاعل{يأت} ضمير راجع إلى الأجل السابق الذكر أي يوم يأتي الأجل الذي تؤخر القيامة إليه لا تتكلم نفس إلا بإذنه، قال تعالى:{من كان يرجوا لقاء الله فإن أجل الله لآت}: العنكبوت: 5.

وذكر بعضهم كما في المجمع أن المعنى يوم يأتي القيامة والجزاء، ولازمه إرجاع الضمير إلى القيامة والجزاء لدلالة سابق الكلام إليه بوجه، وهو تكلف لا حاجة إليه.

وذكر آخرون - كما في تفسير صاحب المنار - أن المعنى في الوقت الذي يجيء فيه ذلك اليوم المعين لا تتكلم نفس من الأنفس الناطقة إلا بإذن الله تعالى فالمراد باليوم في الآية مطلق الوقت أي غير المحدود لأنه ظرف لليوم المحدود الموصوف بما ذكر الذي هو فاعل يأتي.

وهو خطأ لاستلزامه ظرفية اليوم لليوم لعود المعنى حقيقة إلى قولنا: في الوقت الذي يجيء فيه ذلك الوقت المعين أو اليوم الذي يجيء فيه ذلك اليوم المعين، والتفرقة بين اليومين يجعل أحدهما خاصا ومعينا والآخر عاما ومرسلا لا ينفع في دفع محذور ظرفية الشيء لنفسه ومظروفية الزمان - وهو ظرف بذاته - لزمان آخر وهومحال لا ينقلب ممكنا بتغيير اللفظ.

وما ذكره من التفرقة بين اليومين بالإطلاق والتحديد مجرد تصوير لا تغني شيئا فإن اليوم الذي يأتي فيه ذلك اليوم الموصوف وذلك اليوم الموصوف متساويان إطلاقا وتحديدا وسعة وضيقا، نعم ربما يؤخذ الزمان متحدا بما يقع فيه من الحوادث فيصير حادثا من الحوادث وتلغى ظرفيته فيجعل مظروفا لزمان آخر كما يقال يوم الأضحى في شهر ذي الحجة ويوم عاشوراء في المحرم، قال تعالى:{ويوم تقوم الساعة}: الجاثية: 27 فإن صحت هذه العناية في الآية أمكن به أن يعود ضمير يأتي إلى اليوم.

وقوله:{لا تكلم نفس إلا بإذنه} أي لا تتكلم نفس ممن حضر إلا بإذن الله سبحانه، وحذف أحد التاءين المجتمعين في المستقبل من باب التفعل شائع قياسي.

والباء في قوله:{بإذنه} للمصاحبة فالاستثناء في الحقيقة من الكلام لا من المتكلم كما في قوله:{لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن}: النبأ: 38 والمعنى لا تتكلم نفس بشيء من الكلام إلا بالكلام الذي يصاحب إذنه لا كالدنيا يتكلم فيها الواحد منهم بما اختاره وأراده، أذن فيه الله إذن تشريع أم لم يأذن.

وقد ذكرت الصفة أعني عدم تكلم نفس إلا بإذنه من خواص يوم القيامة المعرفة له، وليست بمختصة به فإنه لا تتكلم أي نفس من النفوس ولا يحدث أي حادث من الحوادث دائما إلا بإذنه من غير أن يختص ذلك بيوم القيامة.

وقد تقدم في بعض أبحاثنا السابقة أن غالب ما ورد في القرآن الكريم من معرفات يوم القيامة في سياق الأوصاف الخاصة به يعمه وغيره كقوله تعالى:{ يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ: غافر - 16 وقوله يوم تولون مدبرين ما لكم من الله من عاصم: المؤمن: 33 وقوله:{يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله}: الانفطار: 19 إلى غير ذلك من الآيات، ومن المعلوم أنه تعالى لا يخفى عليه شيء دائما، وليس لشيء منه عاصم دائما، ولا يملك نفس لنفس شيئا إلا بإذنه دائما، وله الخلق والأمر دائما.

لكن الذي يهدي إليه التدبر في أمثال قوله تعالى: لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد}: ق: 22 وقوله حكاية عن المجرمين:{ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ}: الم السجدة: 12، وقوله:{ وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ (28) فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ (29) هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ }: يونس: 30 إن يوم القيامة ظرف يجمع الله فيه العباد ويزيل الستر والحجاب دونهم فيظهر فيه الحقائق ظهورا تاما وينجلي ما هو وراء غطاء الغيب في هذه النشأة وعند ذلك لا يختلج في صدورهم شك أوريب، ولا يهجس قلوبهم هاجس، ويعاينون أن الله هو الحق المبين، ويشاهدون أن القوة لله جميعا، وأن الملك والعصمة والأمر والقهر له وحده لا شريك له.

وتسقط الأسباب عما كان يتوهم لها من الاستقلال في نشأة الدنيا وينقطع البين وتزول روابط التأثير التي بين الأشياء وعند ذلك تنتثر كواكب الأسباب وتنطمس نجوم كانت تهتدي به الأوهام في ظلماتها، ولا تبقى لذي ملك ملك يستقل به، ولا لذي سلطان وقوة ما يتعزز معه، ولا لشيء ملجأ وملاذ يلجأ إليه ويلوذ به ويعتصم بعصمته، ولا ستر يستر شيئا عن شيء ويحجبه دونه، والأمر كله لله الواحد القهار لا يملك إلا هو.

وهذا معنى قوله:{يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شيء} وقوله:{ما لكم من الله من عاصم} وقوله:{يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله} إلى غير ذلك من الآيات وهي جميعا تنفي ما تزينه أوهام الناس في هذه النشأة الدنيوية التي ليست إلا لهوا ولعبا إن هذه الأسباب تملك معنى التأثير، وتتلبس بأوصاف الملك والسلطنة والقوة والعصمة والعزة والكرامة تلبسا حقيقيا استقلاليا، وأنها هي المعطية والمانعة والنافعة والضارة لا بغية في سواها ولا خير فيما عداها.

ومن هنا يمكن الاستئناس بمعنى قوله.

}يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه} وقد تكرر هذا المعنى في آيات أخرى بما يقرب من هذا اللفظ كقوله تعالى:{ لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا }: النبأ: 38، وقوله: هذا يوم لا ينطقون}: المرسلات: 35.

وذلك أن الله تعالى يقول فيما يصف هذا اليوم{يوم تبلى السرائر: الطارق - 9 ويقول:{إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله}: البقرة: 284 فيبين أن الحساب يومئذ بما في النفوس من الأحوال والأعراض الحسنة أو السيئة لا بما يستكشف منها بأسباب الكشف كما في هذه النشأة الدنيوية.

فما كان تحت أستار الخفاء في الدنيا من خبايا النفوس ومطويات القلوب فهو ظاهر مكشوف الغطاء يوم القيامة، وما هو من الغيب اليوم فهو شهادة غدا، والتكلم الذي نتداوله نحن معاشر الناس فيما بيننا إنما هوباستخدام أصوات مؤلفة تدل بنحو من الوضع والاعتبار على معان تستكن في ضمائرنا، وإنما الباعث لنا على وضعها وتداولها الحاجة الاجتماعية إلى اهتداء بعضنا إلى ما في ضمير آخرين لامتناعه من تعلق الحس به.

والتكلم من الأسباب الاجتماعية نتوسل به لكشف ما في الضمير من المعاني المكنونة وهو متقوم بخروج ما في الأذهان عن إحاطة الإنسان، ولو كنا ممدين بحس ينال المعاني الذهنية ويعاينها كما يهتدي - مثلا البصر إلى الأضواء والألوان واللمس إلى الحرارة والبرودة والخشونة - والملاسة لم نحتج إلى وضع اللغات والتكلم بها ولا كان بيننا ما يسمى كلمة أوكلاما، وكذا لوكان النوع الإنساني يعيش في حياته الدنيا عيشة انفرادية غير اجتماعية لم يكن من النطق خبر ولا انعقدت له نطفة.

كل ذلك لأن النشأة الدنيا كالمؤلف من شهادة وغيب وهو المحسوس المعاين وما هو وراء الحس، والناس في حاجة مبرمة إلى الكشف عما في ضميرهم من المقاصد والاطلاع عليه، فلو فرضت نشأة من الحياة ممحضة في الشهادة مؤلفة من أمور معاينة لم يكن فيها ما يحوج إلى التكلم والنطق ولو تبرعنا إطلاق الكلام على شيء من الحالات الموجودة هناك لكان مصداقه ظهور بعض ما في نفوس الناس لبعضهم واطلاع ذلك البعض على ذلك.

وهذه النشأة الموصوفة بذلك هي نشأة القيامة على ما يصفه الله سبحانه بأمثال قوله:{يوم تبلى السرائر}، وهذا هو الذي يظهر من قوله تعالى:{لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان} إلى أن قال:{يعرف المجرمون بسيماهم فيؤخذ بالنواصي والأقدام:} الرحمن: 41.

فإن قلت فعلى هذا لا معنى لتحقق الكذب والزور هناك وقد نص القرآن الكريم عليه كما في قوله تعالى:{ وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (22) ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (23) انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ }: الأنعام: 24، وقوله تعالى:{ يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ: المجادلة - 18.

قلت: هذا من ظهور الملكات كما أن الإنسان عند التفكير يشاهد خبايا نفسه من غير حاجة إلى أن يخبر نفسه بما يفكر فيه ويكشف عما في ضميره لنفسه بالتكلم لأنه على شهادة من باطن نفسه لا في غيب، وهو مع ذلك يتصور صورة كلام يدل ما يطالعه من المعاني الذهنية، وربما يتكلم بلسانه أيضا بما يخطره بباله من أجزاء الفكرة والباعث له على ذلك ما اعتاده من التكلم والنطق عند ما يلفظ ما في ضميره إلى الغير.

وهؤلاء المشركون والمنافقون لما اعتادوا الكذب في نشأتهم الدنيا وعاشوا على كذبات الوهم ظهر منهم ذلك يوم يظهر فيه الملكات والعادات النفسانية وإلا فمن المحال أن يوقف الإنسان عند ربه وهو تعالى يعاين باطنه وظاهره وأعماله محضرة، وصحيفته منشورة، والأشهاد قائمة وجوارحه بما عملت ناطقة، والأسباب ومنها الكذب ساقطة هالكة، وقد انقلب سره علانية ثم يكذب رجاء أن يغر الله سبحانه وتعالى فيظهر عليه بحجة مدلسة كاذبة، وينجو بذلك.

وهذا نظير دعوتهم يوم القيامة إلى السجود ثم عدم استطاعتهم، قال تعالى:{ يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ (42) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ}: القلم: 43 فعدم استطاعتهم للسجود ليس إلا لرسوخ ملكة الاستكبار في نفوسهم، ولو كان بمنع جديد من جانبه تعالى لكانت الحجة لهم عليه.

فإن قلت: لوكان كما ذكرت ولم يكن هناك إلى التكلم حاجة ولا له مصداق فما معنى الاستثناء الذي في قوله:{لا تكلم نفس إلا بإذنه} وما في معناها من الآيات؟ وما معنى ما تكرر في مواضع من كلامه تعالى من حكاية أقوالهم.

قلت: لا ريب أن الإنسان وهو في هذه النشأة مختار في أعماله التي منها التكلم فله نسبة متساوية إلى كل فعل من أفعاله وتركه وهما بالقياس إليه سواء، فإذا اقترف الفعل مثلا تعين أحد الجانبين تعينا اضطراريا لا خبر عن الاختيار بعد ذلك، والآثار الضرورية التي تترتب على الفعل ومنها الجزاء الذي يكتسب بالفعل حالها حال الفعل بعد التحقق.

والنشأة الآخرة دار جزاء لا دار عمل فلا خبر هناك عن الاختيار الإنساني وليس هناك إلا الإنسان وعمله الذي أتى به وقد لزمه لزوما ضروريا، وما يرتبط به العمل من الصحائف والأشهاد وربه الذي إليه يرجع الأمر وبيده الحكم الفصل فإذا دعي استجاب اضطرارا، كما قال تعالى{يومئذ يتبعون الداعي لا عوج له:} طه: 108 وقد كانوا في الدنيا يدعون إلى الحق فلا يستجيبون، وإذا تكلم عن سؤال لم يكن من سنخ التكلم الدنيوي الذي كان ناشئا عن اختياره وكاشفا عن أمر خبيء في نفسه فقد ختم على فمه ولا سبيل له إلى التكلم بما يريد، وكيفما يريد، قال تعالى:{اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون}: يس: 65، وقال:{ هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ (35) وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ}: المرسلات: 36 فإن العذر إنما يكون في الجزاء الذي فيه شوب اختيار ولتحققه إمكان وجود وعدم وأما العمل السيىء المفروغ منه والجزاء الذي تعقبه ضرورة فلا مجرى للعذر فيه، قال تعالى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}: التحريم: 7 أي إن جزاءكم نفس عملكم الذي عملتموه، ولا يتغير ذلك بعذر ولا تعلل وإنما كان يتغير لو كان جزاء دنيويا أمره بيد الحاكم المجازي يختار فيه ما يراه ويشاؤه.

وبالجملة: إذا تكلم هو عن سؤال كان تكلمه عن اضطرار إليه ومطابقا لما عنده من العمل الظاهر الذي لا ستر عليه هناك البتة، ولو تكلم كذبا كان ذلك من قبيل ظهور الملكات كما تقدم وعملا من أعماله يظهر ظهورا لا كلاما يعد جوابا لسؤال فيختم على فيه ويستنطق سمعه وبصره وجلده ويده ورجله ويحضر العمل الذي عمله ويستشهد الأشهاد والله على كل شيء شهيد.

فقد تلخص من جميع ما قدمناه أن معنى قوله:{لا تكلم نفس إلا بإذنه} أن التكلم يومئذ ليس على وتيرة التكلم الدنيوي كشفا اختياريا عما في الضمير بحيث يمكن معه للمتكلم أن يصدق في كلامه أويكذب فإن هذا التملك الاختياري الذي هومن لوازم دار العمل مرفوع هناك فلا اختيار للإنسان في تكلمه وإنما هو منوط بإذن الله ومشيئته، وإن أحسنت التدبر وجدت أن مآل هذا الوجه أعني ارتفاع حكم الاختيار عن تكلم الإنسان وسائر أفعاله وإحاطة معنى الاضطرار بالجميع يومئذ يرجع إلى ما افتتحنا به الكلام أن خاصة هذا اليوم هي انكشاف حقائق الأشياء فيه ورجوع الغيب شهادة وعليك بإحكام التدبر في المعارف التي يلقنها الكلام الإلهي في المعاد فإنها معضلة عويصة عميقة.

وذكر بعضهم أن معنى قوله:{لا تكلم نفس إلا بإذنه} أنها لا تتكلم فيه إلا بالكلام الحسن المأذون فيه شرعا لأن الناس ملجئون هناك إلى ترك القبائح فلا يقع منهم قبيح وأما غير القبيح فهو مأذون فيه.

وفيه أنه تخصيص من غير مخصص فاليوم ليس بيوم عمل حتى يؤذن فيه في إتيان الفعل الحسن ولا يؤذن في القبيح، والإلجاء الذي منشؤه كون الظرف ظرف جزاء لا عمل لا يفرق فيه بين العمل الحسن والقبيح مع كون كليهما اختياريين لأن الحسن والقبح إنما يعنون بهما الأفعال الاختيارية.

على أن الله تعالى يقول:{ هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ (35) وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} ومن المعلوم أن الإتيان بالأعذار ليس من الفعل القبيح في شيء.

وقال آخرون: إن معنى الآية أنه لا يتكلم أحد في الآخرة بكلام نافع من شفاعة ووسيلة إلا بإذنه.

وهذا إرجاع للآية بحسب المدلول إلى مثل قوله تعالى:{ يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ}: طه: 109 وفيه أن ذلك تقييد من غير شاهد عليه ولو كان المراد ذلك لكان من حق الكلام أن يقال: لا تكلم نفس عن نفس أوفي نفس إلا بإذنه كما وقع في نظيره من قوله:{لا يملك نفس لنفس شيئا}.

وقد تحصل مما قدمناه وجه الجمع بين الآيات المثبتة للتكلم يوم القيامة والآيات النافية له.

توضيحه: أن الآيات المتعرضة لمسألة التكلم فيه صنفان: صنف ينفي التكلم أو يثبته لأفراد الناس من غير استثناء كقوله:{ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ}: الرحمن: 39، وقوله:{ يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا}: النحل: 111.

وصنف ينفي الكلام على أي نعت كان من صدق أو كذب كقوله:{ هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ}: المرسلات: 35، وقوله:{فما لنا من شافعين ولا صديق حميم}: الشعراء: 101.

والصنف الأول يجمع بين طرفيه بمثل قوله تعالى:{لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن}: النبأ: 38 والصنف الثاني يرتفع التنافي بين طرفيه بالآية المبحوث عنها:{يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه} لكن بالبناء على ما تقدم توضيحه في معنى إناطة التكلم بإذنه حتى يفيد أنهم ملجئون في ما تكلموا به مضطرون إلى ما يأذن الله سبحانه فيه ليس لهم أن يتكلموا بما يختارون ويريدون كما كان لهم ذلك في الدنيا ليكون ذلك مما يختص بيوم القيامة من الوصف.

وبذلك يظهر وجه القصور فيما ذكره صاحب المنار في تفسيره حيث قال في تفسير الآية: ونفي الكلام في ذلك اليوم إلا بإذنه تعالى يفسر لنا الجمع بين الآيات النافية له مطلقا والمثبتة له مطلقا انتهى.

وقد ذكر قبله آيات فيها مثل قوله:{هذا يوم لا ينطقون} وقوله:{اليوم نختم على أفواههم الآية.

وذلك أنه - أولا - لم يفرق بين الصنفين من الآيات فأوهم ذلك أن نفي الكلام إلا بإذنه في الآية المبحوث عنها كاف في رفع التنافي بين الآيات مطلقا، وليس كذلك.

و- ثانيا - لم يبين معنى كون الكلام بإذنه تعالى فتوجه إليه إشكال تخصيص يوم القيامة في الآية بما لا يختص به.

وقد يجاب عن إشكال التنافي بوجه آخر وهو أن يوم القيامة يشتمل على مواقف قد أذن لهم في الكلام في بعض تلك المواقف، ولم يؤذن لهم في الكلام في بعضها، وقد ورد ذلك في بعض الروايات.

وهذا الجواب وإن كان بظاهره متميزا من الوجه السابق إلا أنه لا يستغني عن مسألة الإذن فهو في الحقيقة راجع إليه.

وقد يجاب بأن المراد بعدم التكلم والنطق أنهم لا ينطقون بحجة، وإنما يتكلمون بالإقرار بذنوبهم، ولو بعضهم بعضا، وطرح بعضهم الذنوب على بعض، وهذا كما يقول القائل لمن أكثر من الكلام ولا يشتمل على حجة: ما تكلمت بشيء ولا نطقت بشيء فسمي من يتكلم بما لا حجة فيه غير متكلم لأنه لم يأت بحق الكلام الذي كان من الواجب أن يشتمل على حجة فكأنه ليس بكلام فنفي التكلم ناظر إلى عد الكلام الذي لا جدوى فيه غير كلام ادعاء.

وفيه: أنه لو صح فإنما يصح في مثل قوله:{هذا يوم لا ينطقون} وأما مثل قوله:{يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه} فلا يرجع إلى معنى محصل.

وقد يجاب كما نقله الآلوسي عن الغرر والدرر للمرتضى أن يوم القيامة يوم طويل ممتد فيجوز أن يمنعوا النطق في بعضه، ويؤذن لهم في بعض آخر منه.

وفيه أن الإشارة إلى يوم القيامة بطوله، وعلى قولهم يكون مثلا معنى قوله:{هذا يوم لا ينطقون} هذا يوم لا ينطقون في بعضه وهو خلاف الظاهر، ويرد نظير الإشكال على الوجه الثاني الذي أجيب فيه عن الإشكال باختلاف المواقف فإن مرجع الوجهين أعني الوجه الثاني وهذا الوجه الرابع واحد وإنما الفرق أن الوجه الثاني يرفع التنافي باختلاف الأمكنة وهذا الوجه يرفعه باختلاف الأزمنة كما أن الوجه الثالث يرفعه باختلاف الكلام باشتماله على الجدوى وعدم اشتماله عليه.

وقد يجاب بما يظهر من قول بعضهم: أن الاستثناء في قوله:{لا تكلم نفس إلا بإذنه} منقطع لا متصل أي لا تتكلم نفس باقتدار من عندها إلا بإذنه تعالى ومحصل الوجه أن الممنوع من التكلم يوم القيامة هو الذي يكون بقدرة من الإنسان، والجائز الواقع ما يكون بإذنه تعالى.

وفيه: أن تكلم الإنسان كسائر أفعاله الاختيارية ليس مستندا إلى قدرته محضا في وقت قط بل هو منسوب إلى قدرته مستمدا من قدرة الله تعالى وإذنه فكلما تكلم الإنسان أوفعل فعلا بقدرته صدر عنه ذلك عن قدرته بمصاحبة من إذن الله تعالى ويعود معنى الاستثناء حينئذ إلى إلغاء جميع الأسباب العاملة في التكلم يوم القيامة إلا واحدا منها هوإذنه تعالى، ويصير الاستثناء متصلا ويرجع إلى ما قدمناه من الوجه أولا أن التكلم الممنوع هو الاختياري منه على حد التكلم الدنيوي، والجائز ما كان مستندا إلى السبب الإلهي فقط وهو إذنه وإرادته، والظرف ظرف الاضطرار والإلجاء لكنهم يرون أن سبب الإلجاء يوم القيامة مشاهدة أهواله فإن الناس ملجئون عند مشاهدة الأهوال إلى الاعتراف والإقرار وقول الصدق واتباع الحق، وقد قدمنا أن السبب في ذلك كون الظرف ظرف جزاء لا عمل وبروز الحقائق عند ذلك.

قوله تعالى:{فمنهم شقي وسعيد} السعادة والشقاوة متقابلان فسعادة كل شيء أن ينال ما لوجوده من الخير الذي يكمل بسببه ويلتذ به فهي في الإنسان - وهو مركب من روح وبدن - أن ينال الخير بحسب قواه البدنية والروحية فيتنعم به ويلتذ، وشقاوته أن يفقد ذلك ويحرم منه، فهما بحسب الاصطلاح من العدم والملكة، والفرق بين السعادة والخير إن السعادة هي الخير الخاص بالنوع أو الشخص والخير أعم.

وظاهر قوله تعالى:{فمنهم شقي وسعيد} لا تفيد حصر أهل الجمع في الفريقين.

وهو الملائم ظاهرا لتقسيمه تعالى الناس إلى مؤمن وكافر ومستضعف كالأطفال والمجانين وكل من لم تتم عليه الحجة في الدنيا إلا أن الغرض المسرودة له الآيات ليس بيان أصناف الناس بحسب العمل والاستحقاق بل من حيث شأن هذا اليوم وهو أنه يوم مجموع له الناس ويوم مشهود لا يتخلف عنه أحد، وأنه ينتهي إلى جنة أونار.

والمستضعفون وإن كانوا صنفا ثالثا بالنسبة إلى من استحق بعمله الجنة ومن استحق بعمله النار لكن من الضروري أنهم لا يذهبون سدى ولا يدوم عليهم الحال بالإبهام والانتظار فهم بالآخرة ملحقون بإحدى الطائفتين: السعداء أو الأشقياء داخلون فيما دخلوا فيه من جنة أو نار، قال تعالى:{وآخرون مرجون لأمر الله إما يعذبهم وإما يتوب عليهم والله عليم حكيم}: التوبة: 106 ولازم هذا السياق أن ينحصر أهل الجمع في الفريقين: السعداء والأشقياء فما منهم إلا سعيد أو شقي.

فالآية نظير قوله تعالى في موضع آخر:{ وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (7) وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ}: الشورى: 8 حيث إن الجملة{فريق في الجنة وفريق في السعير} بمعونة السياق تفيد الحصر وإن كانت وحدها بمعزل من الدلالة.

والذي تدل عليه الآية أن من كان هناك من أهل الجمع إما شقي متصف بالشقاء وإما سعيد متلبس بالسعادة وأما إن هذين الوصفين بما ذا ثبتا لموضوعيهما؟ وأنهما هل هما ذاتيان لموصوفيهما أو ثابتان بإرادة أزلية لا يتخلف مرادها عنها أو يثبتان لهما عن اكتساب وعمل مع كون الموضوعين خاليين عنهما بالنظر إلى ذاتهما؟ فلا نظر في الآية إلى شيء من ذلك غير أن وقوع الآية في سياق الدعوة إلى الإيمان والعمل الصالح، والندب إلى اختيار الطاعة وترك المعصية يدل على تيسير سبيل الوصول إلى السعادة كما قال تعالى:{ثم السبيل يسره}: عبس: 20.

وبذلك يظهر فساد ما استفاده بعضهم من الآية من لزوم السعادة والشقاوة للإنسان من حكمه تعالى في الآية بذلك قال الرازي في تفسيره في ذيل الآية: اعلم أنه تعالى حكم الآن على بعض أهل القيامة بأنه سعيد وعلى بعضهم بأنه شقي، ومن حكم الله عليه بحكم وعلم منه ذلك الأمر امتنع كونه بخلافه.

وإلا لزم أن يصير خبر الله تعالى كذبا وعلمه جهلا، وذلك محال فثبت أن السعيد لا ينقلب شقيا، وإن الشقي لا ينقلب سعيدا.

قال: وروي عن عمر أنه قال: لما نزل قوله تعالى:{فمنهم شقي وسعيد} قلت: يا رسول الله فعلى ما ذا نعمل؟ على شيء قد فرغ منه أم على شيء لم يفرغ منه؟ فقال: على شيء قد فرغ منه يا عمر وجفت به الأقلام وجرت به الأقدار ولكن كل ميسر لما خلق له. قال وقالت المعتزلة: روي عن الحسن أنه قال: فمنهم شقي بعمله وسعيد بعمله. قلنا الدليل القاطع لا يدفع بهذه الروايات.

وأيضا فلا نزاع أنه إنما شقي بعمله وإنما سعد بعمله ولكن لما كان ذلك العمل حاصلا بقضاء الله وقدره كان الدليل الذي ذكرناه باقيا. انتهى.

وهو من عجيب المغالطة أما الذي سماه دليلا قاطعا فقد غالط فيه بأخذ زمان الحكم زمانا لنتيجته وأثره فمن البديهي أن الحكم الحق الآن باتصاف موضوع ما بصفة في المستقبل لا يستلزم الاتصاف بها إلا في المستقبل لا في زمان الحكم القائم بالحاكم وهو الآن كما أن حكمنا في الليل بأن الهواء مضيء بعد كم ساعة - وهو حكم حق - لا يوجب إضاءة الهواء ليلا.

وحكمنا بأن الصبي سيصبح شيخا فانيا بعد ثمانين سنة، لا يستدعي كونه شيخا فانيا في زمان الحكم.

فقوله:{فمنهم شقي وسعيد} وهو خبر منه تعالى بأن جماعة منهم أشقياء يوم القيامة وآخرون سعداء يوم القيامة أن كان حكما بشقاوتهم وسعادتهم كذلك فإنما هو حكم صادر منه في هذا الآن بأنهم كذا وكذا يوم القيامة ومن المسلم أنه لا يتغير عما هو عليه في ظرفه وإلا لزم أن يكون خبره تعالى كذبا وعلمه جهلا لا أنه حكم صادر منه هذا الآن بأنهم كذا وكذا هذا الآن، ولا أنه حكم صادر منه هذا الآن بأنهم كذا وكذا دائما. وهو ظاهر.

وليت شعري ما الذي منعه أن يحكم بمثل هذا الحكم في سائر ما أخبر الله تعالى به من صفات الناس يوم القيامة فيحكم بأنهم مؤمنون دائما أو كافرون دائما وفي الجنة قبل يوم القيامة وفي النار قبل يوم القيامة لجريان دليله فيها وفي غيرها كالشقاوة والسعادة على حد سواء.

وأما ما أورده من الرواية وفيها قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم):{ولكن كل ميسر لما خلق له} فلا دلالة لها على ما ذكره أصلا وسيجيء توضيح ذلك في البحث الروائي الآتي إن شاء الله تعالى.

وأما قوله أخيرا:{لا نزاع أنه إنما شقي بعمله وإنما سعد بعمله ولكن لما كان ذلك العمل حاصلا بقضاء الله وقدره كان الدليل الذي ذكرناه باقيا} يريد أن تعلق القضاء بالعمل - ومن المحال أن يتخلف متعلقه عما قضى عليه - توجب صيرورته ضروري الثبوت، ويكون الفعل بذلك مجبرا عليه لا اختياريا متساوي الفعل والترك بالنسبة إلى الفاعل، لا تأثير للفاعل فيه ولا تأثير للعمل في حصول شقاوة أوسعادة، وإنما بين الفاعل وفعله، وبين الفعل والأثر الحاصل بعده من شقاوة أو سعادة، صحابة اتفاقية جرت عادة الله سبحانه أن يوجد هذا قبل ذلك وذلك بعد هذا من غير رابطة حقيقية بين الأمرين ولا تأثير حقيقي لأحدهما في الآخر.

وهذه مغالطة أخرى ناشئة من الخلط بين نسبة الوجوب ونسبة الإمكان فإن للعمل علة تامة يجب بها وجوده، وهي إرادة الإنسان، وسلامة أدوات العمل منه، ووجود مادة قابلة للعمل، والزمان، والمكان، وعدم الموانع والعوائق إلى غير ذلك فإذا اجتمعت وتمت وكملت كان ثبوت العمل ضروريا، فللعمل إليها نسبة هي نسبة الوجوب، وله إلى كل واحد من أجزاء علته التامة ومن جملتها إرادة الإنسان نسبة هي نسبة الإمكان فإن العمل لا يجب وجوده بمجرد تحقق الإرادة فقط بل يمكن وإنما يجب لو انضمت إليه بقية أجزاء العلة.

فالعمل المتحقق بضرورة العلة التامة في عين هذا الحال له نسبة الوجوب إلى مجموع العلة التامة، ونسبة الإمكان إلى إرادة الإنسان، ولا تبطل نسبته الوجوبية إلى العلة التامة نسبته الإمكانية إلى إرادة الإنسان، ولا تقلبها عن الإمكان إلى الضرورة بل نسبة العمل إلى الإنسان بالإمكان دائما كما أن نسبته إلى المجموع الحاصل من الإنسان وبقية أجزاء العلة التامة بالوجوب دائما وطرفا الفعل والترك متساويان بالنسبة إلى الإنسان أبدا كما أن أحد الطرفين من الفعل والترك متعين بالنظر إلى العلة التامة أبدا.

ينتج أن الفعل اختياري للإنسان في عين أنه لا يخلوفي وجوده عن علة تامة موجبة له، والقضاء الحتم من صفاته تعالى الفعلية منتزع عن مقام الفعل وهو سلسلة العلل المترتبة بحسب نظام الوجود، وكون المعلولات ضرورية بالنسبة إلى عللها أي ضرورة كل مقضي بالنسبة إلى ما تعلق به من القضاء الإلهي لا ينافي كونه اختياريا للإنسان نسبته إليه نسبة الإمكان.

فقد بان أنه أخذ نسبة العمل إلى الإنسان نسبة وجوب لا إمكان بتوهم أن كون العمل واجب الثبوت بالقضاء الإلهي يوجب كونه واجب الثبوت بالنسبة إلى الإنسان لا ممكنه.

وبتقرير آخر واضح تعلق علمه تعالى مثلا بأن خشبة كذا ستحرق بالنار يوجب وجوب تحقق الاحتراق المقيد بالنار لأنه الذي تعلق به العلم الحق لا وجوب تحقق الاحتراق مطلقا سواء كانت هناك نار أولم تكن إذ لم يتحقق علم بهذه الصفة، وكذا علمه تعالى بأن الإنسان سيعمل باختياره وإرادته عملا أو أنه سيشقى لعمل اختياري كذا يوجب وجوب تحقق العمل من طريق اختيار الإنسان لا وجوب تحقق عمل كذا سواء كان هناك اختيار أولم يكن وسواء كان هناك إنسان أو لم يكن حتى تنقطع به رابطة التأثير بين الإنسان وعمله، ونظيره علمه بأن إنسانا كذا سيشقى بكفره اختياريا يستوجب تحقق الشقوة التي عن الكفر دون الشقوة مطلقة سواء كان هناك كفر أو لا.

فاتضح أن علمه تعالى بعمل الإنسان لا يستوجب بطلان الاختيار وثبوت الإجبار وإن كان معلومه تعالى لا يتخلف عن علمه له الحكم لا معقب لحكمه.

قوله تعالى:{فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق} قال في المجمع، الزفير أول نهاق الحمار والشهيق آخر نهاقه انتهى.

وقال في الكشاف،: الزفير إخراج النفس والشهيق رده انتهى.

وقال الراغب في المفردات، الزفير تردد النفس حتى ينتفخ الضلوع منه.

وقال: الشهيق طول الزفير وهو رده والزفير مده، قال تعالى:{لهم فيها زفير وشهيق}{سمعوا لها تغيظا وزفيرا} وقال تعالى:{سمعوا لها شهيقا} وأصله من جبل شاهق أي متناهي الطول. انتهى.

والمعاني - كما ترى - متقاربة وكان في الكلام استعارة، والمراد أنهم يردون أنفاسهم إلى صدورهم ثم يخرجونها فيمدونها برفع الصوت بالبكاء والأنين من شدة حر النار وعظم الكربة والمصيبة كما يفعل الحمار ذلك عند نهيقه.

وكان الظاهر من سياق قوله:{فمنهم شقي وسعيد} أن يقال بعده: فأما الذي شقي ففي النار له فيها زفير وشهيق{إلخ} لكن السياق السابق عليه الذي افتتح به وصف يوم القيامة أعني قوله:{ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ} مبني على الكثرة والجماعة، ومقتضاها المضي على هيئة الجمع: الذين شقوا والذين سعدوا، وإنما عبر بقوله، شقي وسعيد لما قيل قبله:{لا تكلم نفس} فاختير المفرد المنكر ليفيد النفي بذلك الاستغراق والعموم فلما حصل الغرض بقوله:{ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ} عاد السياق السابق المبني على الكثرة والجماعة فقيل:{فأما الذين شقوا} بلفظ الجمع إلى آخر الآيات الثلاث.

قوله تعالى:{ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ}.

بيان لمكث أهل النار فيها كما أن الآية التالية:{ وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} بيان لمكث أهل الجنة فيها وتأييد لاستقرارهم في مأواهم.

قال الراغب في المفردات: الخلود هو تبري الشيء من اعتراض الفساد وبقاؤه على الحالة التي هو عليها، وكل ما يتباطأ عنه التغيير والفساد يصفه العرب بالخلود كقولهم للأثافي: خوالد وذلك لطول مكثها لا لدوام بقائها يقال خلد يخلد خلودا قال تعالى:{لعلكم تخلدون} والخلد - بالفتح فالسكون - اسم للجزء الذي يبقى من الإنسان على حالته فلا يستحيل ما دام الإنسان حيا استحالة سائر أجزائه، وأصل المخلد الذي يبقى مدة طويلة، ومنه قيل: رجل مخلد لمن أبطأ عنه الشيب، ودابة مخلدة هي التي تبقى ثناياها حتى تخرج رباعيتها ثم استعير للمبقي دائما.

والخلود في الجنة بقاء الأشياء على الحالة التي عليها من غير اعتراض الفساد عليها قال تعالى:{أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون}{أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون}{ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها}.

وقوله تعالى:{يطوف عليهم ولدان مخلدون} قيل: مبقون بحالتهم لا يعتريهم الفساد، وقيل: مقرطون بخلدة، والخلدة ضرب من القرطة، وإخلاد الشيء جعله مبقى والحكم عليه بكونه مبقى، وعلى هذا قوله سبحانه:{ولكنه أخلد إلى الأرض} أي ركن إليها ظانا أنه يخلد فيها. انتهى.

وقوله:{ما دامت السماوات والأرض} نوع من التقييد يفيد تأكيد الخلود والمعنى دائمين فيها دوام السماوات والأرض لكن الآيات القرآنية ناصة على أن السماوات والأرض لا تدوم دوام الأبد وهي مع ذلك ناصة على بقاء الجنة والنار بقاء لا إلى فناء وزوال.

ومن الآيات الناصة على الأول قوله تعالى:{ما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى}: الأحقاف: 3، وقوله:{ يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ}: الأنبياء: 104، وقوله:{والسماوات مطويات بيمينه}: الزمر: 67، وقوله:{إذا رجت الأرض رجا وبست الجبال بسا فكانت هباء منبثا}: الواقعة: 6.

ومنها في النص على الثاني قوله تعالى:{ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا}: التغابن: 9، وقوله:{وأعد لهم سعيرا خالدين فيها أبدا لا يجدون وليا ولا نصيرا}: الأحزاب: 65.

وعلى هذا يشكل الأمر في الآيتين من جهتين: إحداهما تحديد الخلود المؤبد بمدة دوام السماوات والأرض وهما غير مؤبدتين لما مر من الآيات.

وثانيتهما تحديد الأمر الخالد الذي تبتدىء من يوم القيامة وهو كون الفريقين في الجنة والنار واستقرارهما فيهما، بما ينتهي أمد وجوده إلى يوم القيامة وهو السماوات والأرض، وهذا الإشكال الثاني أصعب من الأول لأنه وارد حتى على من لا يرى الخلود في النار أوفي الجنة والنار معا بخلاف الأول.

والذي يحسم الإشكال أنه تعالى يذكر في كلامه أن في الآخرة أرضا وسماوات وإن كانت غير ما في الدنيا بوجه، قال تعالى:{ يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ}: إبراهيم: 48، وقال حاكيا عن أهل الجنة:{ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ}: الزمر: 74، وقال يعد المؤمنين ويصفهم:{ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ}: الرعد: 22.

فللآخرة سماوات وأرض كما أن فيها جنة ونارا ولهما أهلا وقد وصف الله سبحانه الجميع بأنها عنده، وقال:{ مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ}: النحل: 96 فحكم بأنها باقية غير فانية.

وتحديد بقاء الجنة والنار وأهلهما بمدة دوام السماوات والأرض إنما هو من جهة أن السماوات والأرض مطلقا ومن حيث أنهما سماوات وأرض مؤبدة غير فانية، وإنما تفنى هذه السماوات والأرض التي في هذه الدنيا على النظام المشهود وأما السماوات التي تظل الجنة مثلا والأرض التي تقلها وقد أشرقت بنور ربها فهي ثابتة غير زائلة فالعالم لا تخلومنهما قط، وبذلك يندفع الإشكالان جميعا.

وقد أشار في الكشاف إلى هذا الوجه إجمالا حيث قال:{والدليل على أن لها سماوات وأرضا قوله سبحانه:{ يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ} وقوله سبحانه:{ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ} ولأنه لا بد لأرض الآخرة مما تقلهم وتظلهم إما سماء يخلقها الله تعالى أو يظلهم العرش، وكل ما أظلك فهو سماء انتهى.

وإن كان الوجه الذي أشار إليه ثانيا سخيفا لأنه إثبات للسماء والأرض من جهة الإضافة وأن الجنة والنار لا بد أن يتصور لهما فوق وتحت فيكون الجنة والنار أصلا وسماؤهما وأرضهما تبعين لهما في الوجود، ولازمه تحديد بقاء سمائهما وأرضهما بمدة دوامها لا بالعكس كما فعل في الآية.

على أن لازم هذا الوجه لزوم أن يتحقق للجنة والنار أرض وسماء وأما السماوات بلفظ الجمع كما في الآية فلا، فيبقى الإشكال في السماوات على حاله.

وبما تقدم يندفع أيضا ما أورده عليه القاضي في تفسيره حيث قال: وفيه نظر لأنه تشبيه بما لا يعرف أكثر الخلق وجوده ودوامه ومن عرفه فإنما عرفه بما يدل على دوام الثواب والعقاب فلا يجدي له التشبيه. انتهى.

ومراده أن الآية تشبه دوام الجنة والنار بأهلهما بدوام السماوات والأرض فلو كان المراد بهما سماوات الآخرة وأرضها ولا يعرف أكثر الخلق وجودها ودوامها كان ذلك من تشبيه الأجلى بالأخفى وهو غير جائز في الكلام البليغ.

وجوابه: أنا إنما عرفنا دوام الجنة والنار بأهلهما من كلامه تعالى كما عرفنا وجود سماوات وأرض لهما وكذا أبدية الجميع من كلامه فأي مانع من تحديد إحدى حقيقتين مكشوفتين من كلامه من حيث البقاء بالأخرى في كلامه، وإن كانت إحدى الحقيقتين أعرف عند الناس من الأخرى بعد ما كانت كلتاهما مأخوذتين من كلامه لا من خارج.

ويندفع به أيضا ما ذكره الآلوسي في ذيل هذا البحث أن المتبادر من السماوات والأرض هذه الأجرام المعهود عندنا فالأولى أن يلتمس هناك وجه آخر غير هذا الوجه انتهى ملخصا.

وجه الاندفاع أن الآيات القرآنية إنما تتبع فهم أهل اللسان في مفاهيمها الكلية التي تعطيها اللغة والعرف، وأما في مقاصدها وتشخيص المصاديق التي تجري عليها المفاهيم فلا، بل السبيل المتبع فيها هو التدبر الذي أمر به الله سبحانه وإرجاع المتشابه إلى المحكم وعرض الآية على الآية فإن القرآن يشهد بعضه على بعض وينطق بعضه ببعض ويصدق بعضه بعضا - كما في الروايات - فليس لنا إذا سمعناه تعالى يقول: إنه واحد أحد أوعالم قادر حي مريد سميع بصير أوغير ذلك أن نحملها على ما هو المتبادر عند العرف من المصاديق بل على ما يفسرها نفس كلامه تعالى ويكشفه التدبر البالغ من معانيها، وقد استوفينا هذا البحث في الكلام على المحكم والمتشابه في الجزء الثالث من الكتاب.

وقد وردت في الروايات وفي كلمات المفسرين توجيهات أخرى للآية نورد منها ما عثرنا عليه وليكن الذي أوردناه أولها.

الوجه الثاني: أن المراد سماوات الجنة والنار وأرضهما أي ما يظلهما وما يقلهما فإن كل ما علاك وأظلك فهو سماء وما استقرت عليه قدمك فهو أرض، وبعبارة أخرى المراد بهما ما هو فوقهما وما تحتهما.

وهذا هو الوجه الذي ذكره الزمخشري في آخر ما نقلناه من كلامه آنفا، وقد عرفت الإشكال فيه.

على أن هذا الوجه لا يفي لبيان السبب في إيراد السماوات في الآية بلفظ الجمع كما تقدم.

الوجه الثالث: أن المراد ما دامت الآخرة وهي دائمة أبدا كما أن دوام السماء والأرض في الدنيا قدر مدة بقائها، ولعل المراد أن قوله:{ما دامت السماوات والأرض} موضوع وضع التشبيه كقولك: كلمته تكليم المستهزىء الهازىء به أي مثل تكليم من يستهزىء ويهزأ به.

وفيه: أنه لو أريد بذلك التشبيه كما ذكرناه أفاد خلاف المقصود أعني الانقطاع، ولو أريد غير ذلك لم يف بذلك اللفظ.

الوجه الرابع: أن المراد به التبعيد وإفادة الأبدية لا أن المراد به التحديد بمدة بقاء السماوات والأرض بعينها فإن للعرب ألفاظا كثيرة يستخدمونها في إفادة التأبيد من غير أن يريدوا بها المعاني التي تحت تلك الألفاظ كقولهم: الأمر كذا وكذا ما اختلف الليل والنهار، وما ذر شارق، وما طلع نجم، وما هبت نسيم، وما دامت السماوات وقد استراحوا إليها وإلى أشباهها ظنا منهم أن هذه الأشياء دائمة باقية لا تبيد أبدا ثم استعملوها كأنها موضوعة للتبعيد.

وفيه: أنهم إنما استعملوها في التأبيد وأكثروا منه ظنا منهم أن هذه الأمور دائمة مؤبدة، وأما من يصرح في كلامه بأنها مؤجلة الوجود منقطعة فانية ويعد الإيمان بذلك إحدى فرائض النفوس فلا يحسن منه وضعها في الكلام موضع التأبيد بأي صورة تصورت.

كيف لا؟ وقد قال تعالى:{ مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى}: الأحقاف: 3 وكيف يصح مع ذلك أن يقال: إن الجنة والنار خالدتان أبدا ما دامت السماوات والأرض.

الوجه الخامس: أن يكون المراد أنهم خالدون بمدة بقاء السماوات والأرض التي يعلم انقطاعها ثم يزيدهم الله سبحانه على ذلك، ويخلدهم ويؤبد مقامهم، وهذا مثل أن يقال: هم خالدون كذا وكذا سنة، ثم يضيف تعالى إلى ذلك ما لا يتناهى من الزمان كما يقال في قوله تعالى:{لابثين فيها أحقابا}: النبأ: 23 أي أحقابا ثم يزادون على ذلك.

وفيه: أنه على الظاهر مبني على استفادة بعض المدة من قوله:{ما دامت السماوات والأرض} والبعض الآخر الذي لا يتناهى من قوله:{إلا ما شاء ربك} ودلالته على ذلك تتوقف على تقدير أمور لا دلالة عليه من اللفظ أصلا.

الوجه السادس: أن المراد بالنار والجنة نار البرزخ وجنتها وهما خالدتان ما دامت السماوات والأرض، وإذا انتهت مدة بقاء السماوات والأرض بقيام القيامة خرجوا منها لفصل القضاء في عرصات المحشر.

وفيه: أنه خلاف سياق الآيات فإن الآيات تفتتح بذكر يوم القيامة وتوصيفها بما له من الأوصاف، ومن المستبعد أن يشرع في البيان بذكر أنه يوم مجموع له الناس، وأنه يوم مشهود، وأنه يوم إذا أتى لا تكلم نفس إلا بإذنه حتى إذا اتصل بأخص أوصافه وأوضحها وهو الجزاء بالجنة والنار الخالدتين عدل إلى ذكر ما في البرزخ من الجنة والنار الخالدتين إلى ظهور يوم القيامة المنقطعتين به.

على أن الله سبحانه يذكر عذاب أهل البرزخ بالعرض على النار لا بدخول النار قال تعالى:{ وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (45) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ}: غافر: 46.

الوجه السابع: أن المراد بدخول النار الدخول في ولاية الشيطان وبالكون في الجنة الكون في ولاية الله فإن ولاية الله هي التي تظهر جنة في الآخرة يتنعم فيها السعداء.

وولاية الشيطان هي التي تتصور بصورة النار فتعذب المجرمين يوم القيامة كما تفيده الآيات الدالة على تجسم الأعمال.

فالأشقياء بسبب شقائهم يدخلون النار وربما خرجوا منها إن أدركتهم العناية والتوفيق كالكافر يؤمن بعد كفره والمجرم يتوب عن إجرامه، والسعداء يدخلون الجنة بسعادتهم وربما خرجوا منها إن أضلهم الشيطان وأخلدوا إلى الأرض واتبعوا أهواءهم كالمؤمن يرتد كافرا والصالح يعود طالحا.

وفيه: ما أوردناه على سابقه من كونه خلاف ما يظهر بمعونة السياق فإن الآيات تعد ما ليوم القيامة من الأوصاف الخالصة الهائلة المدهشة التي تذوب القلوب وتطير العقول باستماعها والتفكر فيها لتنذر به أولوا الاستكبار والجحود من الكفار ويرتدع به أهل المعاصي والذنوب.

فيستبعد أن يذكر فيها أنه يوم مجموع له الناس ويوم مشهود ويوم لا تتكلم فيه نفس إلا بإذنه ثم يذكر أن الكفار وأهل المعاصي في نار منذ كفروا وأجرموا إلى يوم القيامة، وأهل الإيمان والعمل الصالح في جنة منذ آمنوا وعملوا صالحا فإن هذا البيان لا يلائم السياق - أولا - من جهة أن الآيات تذكر أوصاف يوم القيامة الخاصة به لا ما قبله المنتهي إليه، و- ثانيا - من جهة أن الآيات مسوقة للإنذار والتبشير، وهؤلاء الكفار والمجرمون أهل الاستكبار والطغيان لا يعبئون بمثل هذه الحقائق المستورة عن حواسهم، ولا يرون لها قيمة، ولا ينتهون بالخوف من مثل هذه الشقاوة والرجاء لمثل هذه السعادة المعنوية وهو ظاهر، نعم هو معنى صحيح في نفسه في باطن القرآن.

وهاهنا وجوه أخر يمكن أن تستفاد من مختلف أنظارهم في تفسير قوله تعالى:{إلا ما شاء ربك} طوينا ذكرها هاهنا إيثارا للاختصار لأنها تشترك مع الوجوه الآتية التي سنوردها في تفسير الجملة، ما يرد عليها من الإشكال فنكتف بذلك.

وقوله تعالى:{إلا ما شاء ربك} استثناء مما سبقه من حديث الخلود في النار، ونظيرتها الجملة الواقعة بعد ذكر الخلود في الجنة، و{ما} في قوله:{ما شاء ربك} مصدرية والتقدير - على هذا - إلا أن يشاء ربك عدم خلودهم ولكن يضعفه قوله بعد:{إن ربك فعال لما يريد} فإن{ما} هاهنا موصولة، والمراد بقوله{ما شاء} وقوله:{ما يريد} واحد.

وإما موصولة والاستثناء من مدة البقاء المحكوم بالدوام الذي يستفاد من السياق، والمعنى هم خالدون في جميع الأزمنة المستقبلة المتتالية إلا ما شاء ربك من الزمان، أوالاستثناء من ضمير الجمع المستتر في خالدين والمعنى هم جميعا خالدون فيها إلا من شاء الله أن يخرج منها ويدخل في الجنة فيكون تصديقا لما في الأخبار أن المذنبين والعصاة من المؤمنين لا يدومون في النار بل يخرجون منها ويدخلون الجنة بالآخرة للشفاعة، فإن خروج البعض من النار كاف في انتفاض العموم وصحة الاستثناء.

ويبقى الكلام في إيقاع ما في قوله ما شاء على من يعقل ولا ضير فيه وإن لم يكن شائعا لوقوعه في كلامه تعالى كقوله {فانكحوا ما طاب لكم من النساء}: النساء - 3.

والكلام في الآية التالية وأما الذين سعدوا إلخ نظير الكلام في هذه الآية لاشتراكهما في السياق غير أن الاستثناء في آية الجنة يعقبه قوله عطاء غير مجذوذ ولازمه أن لا يكون الاستثناء مشيرا إلى تحقق الوقوع فإنه لا يلائم كون الجنة عطاء غير مقطوع بل مشيرا إلى إمكان الوقوع والمعنى أن أهل الجنة فيها أبدا إلا أن يخرجهم الله منها لكن العطية دائمية وهم غير خارجين والله غير شاء ذلك أبدا.

فيكون الاستثناء مسوقا لإثبات قدرة الله المطلقة وإن قدرة الله سبحانه لا تنقطع عنهم بإدخالهم الجنة الخالدة وسلطنته لا تنفد وملكه لا يزول ولا يبطل وإن الزمان بيده وقدرته وإحاطته باقية على ما كانت عليه قبل فله تعالى أن يخرجهم من الجنة وإن وعد لهم البقاء فيها دائما لكنه تعالى لا يخرجهم لمكان وعده والله لا يخلف الميعاد.

والكلام في الاستثناء الواقع في هذه الآية أعني آية النار نظيره في آية الجنة لوحدة السياق بالمقابلة والمحاذاة وإن اختتمت الآية بقوله إن ربك فعال لما يريد وفيه من الإشارة إلى التحقق ما لا يخفى.

فأهل الخلود في النار كأهل الخلود في الجنة لا يخرجون منها أبدا إلا أن يشاء الله سبحانه ذلك لأنه على كل شيء قدير ولا يوجب فعل من الأفعال إعطاء أومنع سلب قدرته على خلافه أو خروج الأمر من يده لأن قدرته مطلقة غير مقيدة بتقدير دون تقدير أو بأمر دون أمر قال تعالى ويفعل الله ما يشاء: إبراهيم - 27 وقال يمحوا الله ما يشاء ويثبت: الرعد - 39 إلى غير ذلك من الآيات.

ولا منافاة بين هذا الوجه وبين ما ورد في الأخبار من خروج بعض المجرمين منها بمشية الله كما لا يخفى.

هذا وجه في الاستثناء وهنا وجوه أخر أنهى الجميع في مجمع البيان، إلى عشرة فليكن ما ذكرناه أولها.

وثانيهما أنه استثناء في الزيادة من العذاب لأهل النار والزيادة من النعيم لأهل الجنة والتقدير إلا ما شاء ربك من الزيادة على هذا المقدار كما يقول الرجل لغيره لي عليك ألف دينار إلا الألفين اللذين أقرضتكهما وقت كذا فالألفان زيادة على الألف بغير شك لأن الكثير لا يستثنى من القليل وعلى هذا فيكون إلا بمعنى سوى أي سوى ما شاء ربك كما يقال ما كان معنا رجل إلا زيد أي سوى زيد.

وفيه أنه مبني على عدم إفادة قوله ما دامت السماوات والأرض الدوام والأبدية وقد عرفت خلافه.

وثالثها أن الاستثناء واقع على مقامهم في المحشر لأنهم ليسوا في جنة ولا نار ومدة كونهم في البرزخ الذي هو ما بين الموت والحياة لأنه تعالى لو قال خالدين فيها أبدا ولم يستثن لظن الظان أنهم يكونون في النار والجنة من لدن نزول الآية أو من بعد انقطاع التكليف فحصل للاستثناء فائدة.

فإن قيل كيف يستثنى من الخلود في النار ما قبل الدخول فيها فالجواب أن ذلك جائز إذا كان الإخبار به قبل الدخول فيها.

وفيه أنه لا دليل عليه من جهة اللفظ على أن هذا الوجه بظاهره مبني على إفادة قوله فمنهم شقي وسعيد الشقاوة والسعادة الجبريتين من غير اكتساب واختيار وقد عرفت ما فيه.

ورابعها أن الاستثناء الأول متصل بقوله لهم فيها زفير وشهيق وتقديره إلا ما شاء ربك من أجناس العذاب الخارجة عن هذين الضربين ولا يتعلق الاستثناء بالخلود وفي أهل الجنة متصل بما دل عليه الكلام فكأنه قال لهم فيها نعيم إلا ما شاء ربك من أنواع النعيم وإنما دل عليه قوله عطاء غير مجذوذ.

وفيه أنه قطع لاتصال السياق ووحدته من غير دليل وفيه أخذ إلا الأولى بمعنى سوى وإلا الثانية بمعنى الاستثناء على أنه لا قرينة هناك على تعلق إلا الأولى بقوله لهم فيها زفير وشهيق ولا أن قوله عطاء غير مجذوذ يدل على ما ذكره فإنه إنما يدل على دوام العطاء لا على جميع أنواع العطاء أو بعضها.

ثم أية فائدة في استثناء بعض أنواع النعيم وإظهار ذلك للسامعين والمقام مقام التطميع والتبشير والظرف ظرف الدعوة والترغيب فهذا من أسخف الوجوه.

وخامسها أن إلا بمعنى الواو وإلا كان الكلام متناقضا والمعنى خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض وما شاء ربك من الزيادة على ذلك.

وفيه أن كون إلا بمعنى الواو لم يثبت وإنما ذكره الفراء لكنهم ضعفوه على أن الوجه مبني على عدم إفادة التقدير والتحديد السابق على الاستثناء في الآيتين الدوام وقد عرفت ما فيه.

وسادسها أن المراد بالذين شقوا من أدخل النار من أهل التوحيد وهم الذين ضموا إلى إيمانهم وطاعتهم ارتكاب معاص توجب دخول النار فأخبر سبحانه أنهم معاقبون في النار إلا ما شاء ربك من إخراجهم منها إلى الجنة وإيصال ثواب طاعاتهم إليهم.

وأما الاستثناء الذي في أهل الجنة فهو استثناء من خلودهم أيضا لأن من ينقل من النار إلى الجنة ويخلد فيها لا بد في الإخبار عنه بتأبيد خلوده من استثناء ما تقدم من حاله فكأنه قال إنهم في الجنة خالدين فيها إلا ما شاء ربك من الوقت الذي أدخلهم فيه النار.

قالوا والذين شقوا في هذا القول هم الذين سعدوا بأعيانهم وإنما أجري علهيم كل من الوصفين في الحال الذي يليق به ذلك فإذا أدخلوا في النار وعوقبوا فيها فهم أهل شقاء وإذا أدخلوا في الجنة وأثبتوا فيها فهم أهل سعادة ونسبوا هذا القول إلى ابن عباس وجابر بن عبد الله وأبي سعيد الخدري من الصحابة وجماعة من التابعين.

وفيه أنه لا يلائم السياق فإنه تعالى بعد ما ذكر في صفة يوم القيامة أنه يوم مجموع له الناس قسم أهل الجمع إلى قسمين بقوله فمنهم شقي وسعيد ومن المعلوم أن قوله فأما الذين شقوا إلخ وقوله وأما الذين سعدوا مبدوين بأما التفصيلية مسوقان لتفصيل ما أجمل في قوله فمنهم شقي وسعيد ولازم ذلك كون المراد بالذين شقوا جميع أهل النار لا طائفة منهم خاصة والمراد بالذين سعدوا جميع أصحاب الجنة لا خصوص من أخرج من النار وأدخل الجنة.

اللهم إلا أن يقال المراد بقوله فمنهم شقي وسعيد أيضا وصف طائفة خاصة بأعيانهم كما أن المراد بالذين شقوا والذين سعدوا طائفة واحدة بأعيانهم والمعنى أن بعض أهل الجمع شقي وسعيد معا وهم الذين أدخلوا النار واستقروا فيها خالدين ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك أن يخرجهم منها ويدخلهم الجنة ويسعدهم بها فيخلدوا فيها ما دامت السماوات والأرض إلا مقدارا من الزمان كانوا فيه أشقياء ساكنين في النار قبل أن يدخلوا الجنة.

لكن ينتقل ما قدمناه من الإشكال حينئذ إلى ما ادعي من معنى قوله فمنهم شقي وسعيد فالسياق الظاهر في وصف أهل الجمع عامة لا يساعد على إرادة طائفة خاصة منهم بقوله فمنهم شقي وسعيد أولا ثم تفصيل حالهم بتفريقهم وهم جماعة واحدة بعينهم وإيرادهم في صورة موضوعين اثنين لحكمين مع تحديدين بدوام السماوات والأرض ثم استثناءين ليس المراد بهما إلا واحد وأي فائدة في هذا التفصيل دون أن يورث لبسا في المعنى وتعقيدا في النظم ويمكن أن يقرر هذا الوجه على وجه التعميم بأن يقال المراد بقوله فمنهم شقي وسعيد تقسيم عامة أهل الجمع إلى الشقي والسعيد والمراد بقوله الذين شقوا جميع أهل النار وبقوله الذين سعدوا جميع أصحاب الجنة ويكون المراد بالاستثناء في الموضعين استثناء حال الفساق من أهل التوحيد الذين يخرجهم الله تعالى من النار ويدخلهم الجنة وحينئذ يسلم من جل ما كان يرد على الوجه السابق من الإشكال.

وسابعها أن التعليق بالمشية إنما هوعلى سبيل التأكيد للخلود والتبعيد للخروج لأن الله سبحانه لا يشاء إلا خلودهم على ما حكم به فكأنه تعليق لما لا يكون بما لا يكون لأنه لا يشاء أن يخرجهم منها.

وهذا الوجه يشارك الوجه الأول في دعوى أن الاستثناء في الموردين غير مسوق لنقض الخلود غير أن الوجه الأول يختص بدعوى أن الاستثناء لبيان إطلاق القدرة الإلهية وهذا الوجه يختص بدعوى أن الاستثناء لبيان أن الخلود لا ينتقض بسبب من الأسباب إلا أن يشاء الله انتقاضه ولن يشاء أصلا.

وهذا هو وجه الضعف فيه فإن قوله ولن يشاء أصلا لا دليل عليه هب أن قوله في أهل الجنة عطاء غير مجذوذ يشعر أويدل على ذلك لكن قوله إن ربك فعال لما يريد لا يشعر به ولا يدل عليه لو لم يشعر بخلافه كما هو ظاهر.

وثامنها أن المراد به استثناء الزمان الذي سبق فيه طائفة من أهل النار دخولها قبل طائفة وكذا في الطوائف الذين يدخلون الجنة فإنه تعالى يقول وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا وسيق الذين اتقوا إلى الجنة زمرا فالزمرة منهم يدخل بعد الزمرة ولا بد أن يقع بينهما تفاوت في الزمان وهو الذي يستثنيه تعالى بقوله إلا ما شاء ربك ونقل الوجه عن سلام بن المستنير البصري.

وفيه أن الظاهر من قوله:{ففي النار خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض} وكذا في قوله:{ففي الجنة خالدين} إلخ أن الوصف ناظر إلى مدة الكون في النار أوالجنة من جهة النهاية لا من جهة البداية.

على أن المبدأ للاستقرار في النار أو في الجنة على أي حال هويوم القيامة، ولا يتفاوت الحال في ذلك من جهة دخول زمرة بعد زمرة والتفاوت الزماني الحاصل من ذلك.

وتاسعها: أن المعنى كونهم خالدين في النار معذبين فيها مدة كونهم في القبور ما دامت السماوات والأرض في الدنيا، وإذا فنيتا وعدمتا انقطع عذابهم إلى أن يبعثهم الله للحساب، وقوله:{إلا ما شاء ربك} استثناء وقع على ما يكون في الآخرة، نقله في مجمع البيان، عن شيخنا أبي جعفر الطوسي في تفسيره ناقلا عن جمع من أصحابنا في تفاسيرهم.

وفيه: أن مرجعه إلى الوجه الثاني المبني على أخذ{إلا} بمعنى سوى مع اختلاف ما في التقرير، وقد عرفت ما يرد عليه.

وعاشرها: أن المراد إلا من شاء ربك أن يتجاوز عنهم فلا يدخلهم النار فالاستثناء من الضمير العائد إلى الذين شقوا، والتقدير فأما الذين شقوا فكائنون في النار إلا من شاء ربك، والظاهر أن هذا القائل يوجه الاستثناء في ناحية أهل الجنة{وأما الذين سعدوا - إلى قوله - إلا ما شاء ربك} بأن المراد به أهل التوحيد الخارجون من النار إلى الجنة كما تقدم في بعض الوجوه السابقة، والمعنى أن السعداء في الجنة خالدين فيها إلا الفساق من أهل التوحيد فإنهم في النار ثم يخرجون فيدخلون الجنة، ونسب الوجه إلى أبي مجاز.

وفيه: أن ما ذكره إنما يجري في أول الاستثنائين فالثاني من الاستثناءين لا بد أن يوجه بوجه آخر، وهو كائنا ما كان يوجب انتقاض وحدة السياق في الآيتين.

على أن العصاة من المؤمنين الذين يعفو عنهم الله سبحانه فلا يدخلهم النار من رأس لا يعفى عنهم جزافا وإنما يعفى لصالح عمل عملوه أو لشفاعة فيصيرون بذلك سعداء فيدخلون في الآية الثانية:{ وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ} إلخ من غير أن يدخلوا في زمرة الأشقياء ثم يستثنوا لعدم دخولهم النار، وبالجملة هم ليسوا بأشقياء حتى يستثنوا بل سعداء داخلون في الجنة من أول.

وقوله:{ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} تعليل للاستثناء، وتأكيد لثبوت قدرته تعالى مع العمل على حال إطلاقها كما تقدم.

قوله تعالى:{ وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} قرىء سعدوا بالبناء للمجهول وبالبناء للمعلوم والثاني أوفق باللغة لأن مادة سعد لازمة في المعروف من استعمالهم لكن الأول وهو سعدوا بالبناء للمجهول مع كون{شقوا} في الآية السابقة بالبناء للمعلوم لا يخلو عن إشارة لطيفة إلى أن السعادة والخير من الله سبحانه والشر الملحق بهم هو من عندهم كما قال تعالى:{ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا}: النور: 21.

والجذ: هو القطع وعطاء غير مجذوذ أي غير مقطوع، وعده تعالى الجنة عطاء غير مجذوذ مع سبق الاستثناء من الخلود بقوله:{إلا ما شاء ربك} من أحسن الشواهد على أن مراده باستثناء المشية إثبات بقاء إطلاق قدرته وأنه مالك الأمر لا يخرج زمامه من يده قط.

ويجري في هذه الآية جميع ما تقدم من الأبحاث المشابهة في الآية السابقة إلا ما كان من الوجوه مبنيا على كون المستثنى في قوله:{إلا ما شاء ربك} من دخل النار أولا ثم خرج منها إلى الجنة ثانيا، وذلك أن من الجائز أن يخرج من نار الآخرة بعض من دخله لكن لا يخرج من جنة الآخرة وهي جنة الخلد أحد ممن دخلها جزاء أبدا، وهو كالضروري من الكتاب والسنة، وقد تكاثرت الآيات والروايات في ذلك بحيث لا يرتاب في دلالتها على ذلك ذوريب، وإن كانت دلالة الكتاب على خروج بعض من في النار منها ليس بذاك الوضوح.

قال في مجمع البيان، في وجوب دخول أهل الطاعة الجنة وعدم جواز خروجهم منها: لإجماع الأمة على أن من استحق الثواب فلا بد أن يدخل الجنة، وأنه لا يخرج منها بعد دخوله فيها. انتهى.

مسألة{وجوب دخول أهل الثواب الجنة} مبنية على قاعدة عقلية مسلمة وهي أن الوفاء بالوعد واجب دون الوفاء بالوعيد لأن الذي تعلق به الوعد حق للموعود له، وعدم الوفاء به إضاعة لحق الغير وهو من الظلم وأما الوعيد فهو جعل حق للموعد على التخلف الذي يوعد به له، وليس من الواجب لصاحب الحق أن يستوفي حقه بل له أن يستوفي وله أن يترك والله سبحانه وعد عباده المطيعين الجنة بإطاعتهم، وأوعد العاصين النار بعصيانهم فمن الواجب أن يدخل أهل الطاعة الجنة توفية للحق الذي جعله لهم على نفسه، وأما عقاب العاصين فهو حق جعله لنفسه عليهم فله أن يعاقبهم فيستوفي حقه وله أن يتركهم بترك حق نفسه.

وأما مسألة عدم الخروج من الجنة بعد دخولها فهو مما تكاثرت عليه الآيات والروايات، والإجماع الذي ذكره مبني على الذي تسلموه من دلالة الكتاب والسنة أوالعقل على ذلك، وليس بحجة مستقلة.

لما فصل تعالى فيما قصة لنبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) قصص الأمم الغابرة وما أداهم إليه شركهم وفسقهم وجحودهم لآيات الله واستكبارهم عن قبول الحق الذي كان يدعوهم إليه أنبياؤهم وساقهم إلى الهلاك وعذاب الاستئصال ثم إلى عذاب النار الخالد في يوم مجموع له الناس، ثم لخص القول في أمرهم في الآيات السابقة.

أمر في هذه الآيات نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يعتبر هو ومن معه بذلك، ويستيقنوا أن الشرك بالله والفساد في الأرض لا يهدي الإنسان إلا إلى الهلاك والبوار فعليهم أن يلزموا طريق العبودية ويمسكوا بالصبر والصلاة ولا يركنوا إلى الذين ظلموا فتمسهم النار وما لهم من دون الله من أولياء ثم لا ينصرون، ويعلموا أن كلمة الله هي العليا، وكلمة الذين كفروا السفلى وإن مهلتهم فيما يمهلهم الله ليس إلا لتحقيق كلمة الحق التي سبقت منه وستتم بما يجازيهم به يوم القيامة.

قوله تعالى:{ فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ} إلخ تفريع لما تقدم من تفصيل قصص الأمم الماضية التي ظلموا أنفسهم باتخاذ الشركاء والفساد في الأرض فأخذهم الله بالعذاب، والمشار إليهم بقوله:{هؤلاء} هم قوم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقوله:{مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ} أي إنهم يعبدونها تقليدا كآبائهم فالآخرون يسلكون الطريق الذي سلكه الأولون من غير حجة، والمراد بنصيبهم ما هو حظهم قبال شركهم وفسقهم.

وقوله:{غير منقوص} حال من النصيب وفيه تأكيد لقوله:{لموفوهم} فإن التوفية تأدية حق الغير بالتمام والكمال، وفيه إيئاس الكافرين من العفو الإلهي.

ومعنى الآية: فإذا سمعت قصص الأولين وأنهم كانوا يعبدون آلهة من دون الله ويكذبون بآياته، وعلمت سنة الله تعالى فيهم وأنها الهلاك في الدنيا والمصير إلى النار الخالدة في الآخرة لا تكن في شك ومرية من عبادة هؤلاء الذين هم قومك ما يعبدون إلا كعبادة آبائهم على التقليد من غير حجة ولا بينة، وإنا سنعطيهم ما هو نصيبهم من جزاء أعمالهم من غير أن ننقص من ذلك شيئا بشفاعة أو عفو كيفما كان.

ويمكن أن يكون المراد بآبائهم، الأمم الماضية الهالكة دون آباء العرب بعد إسماعيل مثلا وذلك أن الله سماهم آباء لهم أولين كما في قوله:{ أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ}: المؤمنون: 68 وهذا أنسب وأحسن والمعنى - على هذا - فلا تكن في شك من عبادة قومك ما يعبد هؤلاء إلا كمثل عبادة أولئك الأمم الهالكة الذين هم آباؤهم، ولا شك أنا سنعطيهم حظهم من الجزاء كما فعلنا ذلك بآبائهم.

______________________

1- تفسير الميزان ،الطباطبائي،ج11،ص6-38.

تفسير الامثل
- ذكر الشيخ ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذه  الآيات (1) :

وبما أنّ هذا قانون كلّي وعام فإنّ القرآن يقول مباشرةً { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ }.

لانّ الدنيا لا تعدُّ شيئاً إِزاء الآخرة، وجميع ما في الدنيا حقير حتى ثوابها وعقابها، والعالم الآخر أوسع ـ من جميع النواحي ـ من هذه الدنيا. فالمؤمنين بيوم القيامة يعتبرون لدى مشاهدة واحد من هذه المُثُل والنماذج في الدنيا، ويواصلون طريقهم.

وفي ختام الآية إِشارة الى وصفين من أوصاف يوم القيامة حيث يقول القرآن { ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ}.

هي إِشارة الى أنّ القوانين والسنن الإِلهية كما هي عامّة في هذا العالم، فإنّ اجتماع الناس في تلك المحكمة الإِلهية أيضاً عام، وسيكون في زمان واحد ويوم مشهود للجميع يحضره الناس كلّهم ويرونه.

من الطريف هنا أنّ الآية تقول {ذلك يوم مجموع له الناس} ولم تقل «مجموع فيه الناس» وهذا التعبير إِشارة الى أنّ يوم القيامة ليس ظرفاً لإِجتماع الناس فحسب، بل هو هدف يمضي إِليه الناس في مسيرهم التكاملي.

ونقرأ في الآية (9) من سورة التغابن { يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ}.

وبما أنّ البعض قد يتوهم أنّ الحديث عن ذلك اليوم لم يحن أجله فهو نسيئة وغير معلوم وقت حلوله، لهذا فإنّ القرآن يقول مباشرة: { وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ }.

وذلك أيضاً لمصلحة واضحة جليّة ليرى الناس ميادين الإِختبار والتعلم، وليتجلى آخر منهج للأنبياء وتظهر آخر حلقة للتكامل الذي يمكن لهذا العالم أن يستوعبها ثمّ تكون النهاية.

والتعبير بكلمة «معدود» إِشارة الى قُرب يوم القيامة، لأنّ كل شيء يقع تحت العدّ والحساب فهو محدود وقريب.

والخلاصة أنّ تأخير ذلك اليوم لا ينبغي أن يغترّ به الظالمون، لأنّ يوم القيامة وإِن تأخر فهو آت لا محالة، وإنّ التعبير بتأخره أيضاً غير صحيح.

السّعادة الشّقاوة:

أشير في الآيات المتقدّمة الى مسألة القيامة واجتماع الناس كلّهم في تلك المحكمة العظيمة ... وهذه الآيات ـ محل البحث ـ بيّنت زاوية من عواقب الناس ومصيرهم في ذلك اليوم، إِذ تقول الآيات أوّلا: { يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ}.

قد يُتصور أحياناً أنّ هذه الآية الدالة على تكلّم الناس في ذلك اليوم بإذن الله، تنافي الآيات التي تنفي التكلم هناك مطلقاً، كالآية (65) من سورة يس { الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}، وكالآية (35) من سورة المرسلات حيث نقرأ: {هذا يوم لا ينطقون}.

ولهذا السبب قال بعض المفسّرين الكبار: إِنّ التكلم هناك «يوم القيامة» لا مفهوم له أساساً. لأنّ التكلم وسيلة لكشف باطن الأشخاص وداخلهم، ولو كان لدينا إِحساس نستطيع أن نطّلع به على أفكار كل شخص لم يكن حاجة الى التكلم أبداً.

فعلى هذا لمّا كانت الأسرار وجميع الأشياء تنكشف «يوم القيامة» على حالة «الظهور والبروز» فلا معنى للتكلم أصلا.

وببيان آخر: إِنّ الدار الآخرة دار مكافأة وجزاء لا دار عمل، وعلى هذا فلا معنى هناك لإِختيار الإِنسان وتكلمه حسب رغبته وإِرادته، بل هو الإِنسان وعمله وما يتعلق به، فلو أراد التكلم فلا يكون كلامه عن اختيار وارادة وحاكيا عمّا في ضميره كما في الدنيا، بل كل ما يتكلم به هناك فهو نوع من الإِنعكاس عن أعماله التي تظهر جليّة ذلك اليوم. أي أنّ الكلام هناك ليس كالكلام في الدنيا بحيث يستطيع الإِنسان على حسب ميله أن يتكلم صادقاً أو كاذباً.

وعلى كل حال فإِنّ ذلك اليوم هو يوم كشف حقائق الأشياء وعودة الغيب الى الشهود، ولا شبه له بهذه الدنيا.

ولكن هذا الإِستنتاج من الآية المتقدّمة لا ينسجم مع ظاهر الآيات الأُخرى في القرآن، لأنّ القرآن يتحدث عن كثير من كلام المؤمنين والمجرمين والقادة والجبابرة وأتباعهم، والشيطان والمنخدعين به، وأهل النّار وأهل الجنّة، بحيث يدل على أنّ هناك كلاماً كالكلام في هذه الدنيا أيضاً.

حتى أنّ بعض الآيات يستفاد منها أنّ قسماً من المجرمين يكذبون في ردهم على بعض الأسئلة، كما هو مذكور في سورة الأنعام الآيات (22) الى (24) حيث تقول الآيات { وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (22) ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (23) انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ}.

فعلى هذا، من المستحسن أن يجاب على السؤال المتعلق بتناقض ظواهر الآيات حول التكلم بما ذكره كثير من المفسّرين، وهو أنّ الناس يقطعون في ذلك اليوم مراحل مختلفة ... وكل مرحلة لها خصوصياتها، ففي قسم من المراحل لا يُسألون أبداً حتى أنّ أفواههم يُختم عليها فلا يتكلمون، وإِنّما تنطق أعضاء أجسادهم التي حفظت آثار أعمالها بلغة من دون لسان، وفي المراحل الأُخرى يرفع الختم أو القفل عن أفواههم ويتكلمون بإذن الله فيعترفون بأخطائهم وذنوبهم ويلوم المخطئون بعضهم بعضاً، بل يحاولون أن يُلقوا تبعات أوزارهم على غيرهم.

ويشار في نهاية الآية الى تقسيم الناس جميعاً الى طائفتين: طائفة محظوظة، وأُخرى بائسة تعيسة { فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ}.

و«السعيد» مشتق من مادة «السعادة» ومعناها توفر أسباب النعمة.

و«الشقي» مشتق من مادة «الشقاء» ومعناه توفر أسباب البلاء والمحنة.

فالسعداء ـ إِذاً ـ هم الصالحون الذين يتمتعون بأنواع النعم في الجنّة والأشقياء هم المسيئون الذين هم يتقلبون في أنواع العذاب والعقاب في جهنم.

وليس هذا الشقاء ـ على كل حال ـ وتلك السعادة سوى نتيجة الأعمال والأقوال والنيّات التي سلفت من الإِنسان في الدنيا.

والعجيب أن بعض المفسّرين يتخذون هذه الآية ذريعة لعقيدتهم الباطلة في مجال الجبر، في حين أنّ الآية ليس فيها أقلّ دليل على هذا المعنى، بل هي تتحدث عن السعداء والأشقياء في يوم القيامة وأنهم وصلوا جميعاً بأعمالهم الى هذه المرحلة، ولعلهم توهموا هذه النتيجة من هذه الآية بالخلط بينها وبين بعض الأحاديث التي تتكلم عن شقاء الإِنسان أو سعادته وهو في بطن أُمّه قبل الولادة، ولكن هذه المسألة ليس هنا مجالها إِذ لها قصّة أُخرى وحديث طويل.

ثمّ تشرح الآيات حالات السعداء والأشقياء في عبارات موجزة وأخّاذة حيث تقول { فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ} وتضيف حاكية عن حالهم أيضاً: { خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (107) وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ}.

الاستقامة والثّبات:

هذه الآيات ـ في الحقيقة ـ بمثابة تسلية لخاطر النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، كما أنّها نازلة لبيان وظيفته ومسؤوليته، وفي الواقع إِنّ من أهم النتائج التي يُتوصل إِليها من القصص السابقة للأُمم الماضية هي أن لا يكترث النّبي ومن معه من أتباعُه المؤمنون حقّاً من كثرة الأعداء، ولا يخافوا منهم، ولا يشكّوا أو يتردّدوا في هزيمة عَبَدة الأصنام والظالمين الذي يقفون بوجوههم، وأن يواصلوا طريقهم ويعتمدوا على الله واثقين به.

لذلك يقول القرآن الكريم في هذا الصدد: { فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ}(2).

ويقول بعدها مباشرةً: { وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ} على أنّ جملة موفوهم نصيبم تعني أداء الحق كاملا، لكن ذكر كلمة غير منقوص للتأكيد أكثر على هذه المسألة.

وفي الحقيقة إِنّ هذه الآية تجسّم هذه الحقيقة، وهي أنّ ما قرأناه من قصص الأُمم السابقة لم يكن أسطورة، كما أنّها لا تختص بالماضين، فهي سنّة أبدية وخالدة وهي لجميع الناس ماضياً وحاضراً ومستقبلا.

غاية ما فيه الأمر أنّ هذا العقاب في كثير من الأُمم السابقة نزل على شكل بلايا مهولة وعظيمة، لكنّه وجد شكلا آخر في شأن أعداء نبي الإِسلام، وهو أنّ الله أعطى القدرة والقوة العظيمة لنبيّه وأصحابه المؤمنين بحيث استطاع أن يهزم أعداءه الظالمين اللجوجين الذين اصروا على انحرافهم وغرورهم.

____________________

1- تفسير الامثل ،مكارم الشيرازي،ج6،ص164-182.

2- «المِرية» على وزن «جِزيَة» كما تأتي على وزن «قَرْيَة» ومعناها التردد في التصميم على أمر ما ... وقد قال البعض: إنّها تعني الشكّ المقترن بالتُهمة، والجذر الأصلي لهذه الكلمة معناه عصر ثدي الناقة بعد احتلابها. على أمل أن يكون شيء من اللبن لا يزال باقياً في الثدي، ولأنّ هذا العمل منشؤهُ التردد والشك فلذلك أطلقت الكلمة على كل ما فيه شكّ وتردد.




وهو تفسير الآيات القرآنية على أساس الترتيب الزماني للآيات ، واعتبار الهجرة حدّاً زمنيّاً فاصلاً بين مرحلتين ، فكلُّ آيةٍ نزلت قبل الهجرة تُعتبر مكّيّة ، وكلّ آيةٍ نزلت بعد الهجرة فهي مدنيّة وإن كان مكان نزولها (مكّة) ، كالآيات التي نزلت على النبي حين كان في مكّة وقت الفتح ، فالمقياس هو الناحية الزمنيّة لا المكانيّة .

- المحكم هو الآيات التي معناها المقصود واضح لا يشتبه بالمعنى غير المقصود ، فيجب الايمان بمثل هذه الآيات والعمل بها.
- المتشابه هو الآيات التي لا تقصد ظواهرها ، ومعناها الحقيقي الذي يعبر عنه بـ«التأويل» لا يعلمه الا الله تعالى فيجب الايمان بمثل هذه الآيات ولكن لا يعمل بها.

النسخ في اللغة والقاموس هو بمعنى الإزالة والتغيير والتبديل والتحوير وابطال الشي‏ء ورفعه واقامة شي‏ء مقام شي‏ء، فيقال نسخت الشمس الظل : أي ازالته.
وتعريفه هو رفع حكم شرعي سابق بنص شرعي لا حق مع التراخي والزمان بينهما ، أي يكون بين الناسخ والمنسوخ زمن يكون المنسوخ ثابتا وملزما بحيث لو لم يكن النص الناسخ لاستمر العمل بالسابق وكان حكمه قائما .
وباختصار النسخ هو رفع الحكم الشرعي بخطاب قطعي للدلالة ومتأخر عنه أو هو بيان انتهاء امده والنسخ «جائز عقلا وواقع سمعا في شرائع ينسخ اللاحق منها السابق وفي شريعة واحدة» .



شعبة التوجيه الدينيّ النسويّ تحيي ذكرى شهادة الإمام الصادق (عليه السلام)
شركة الكفيل: معمل المياه مستمرّ بالإنتاج ويشهد إقبالاً متزايداً
المجمع العلمي يستأنف سلسلة محاضراته التطويرية لملاكاته في بغداد
العتبة العباسية تنظّم محاضرة ثقافية ودينية لعددٍ من أعضاء تدريسيّي جامعة ذي قار