أقرأ أيضاً
التاريخ: 4-5-2020
3434
التاريخ: 4-5-2020
2811
التاريخ: 2-5-2020
5772
التاريخ: 7-6-2020
5379
|
قال تعالى:{ فَلَعَلَّك تَارِك بَعْض مَا يُوحَى إِلَيْك وضائقُ بِهِ صدْرُك أَن يَقُولُوا لَولا أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوجَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنت نَذِيرٌ واللَّهُ عَلى كلِّ شىْء وَكيلٌ(12) أَمْ يَقُولُونَ افْترَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشرِ سوَر مِّثْلِهِ مُفْترَيَت وادْعُوا مَنِ استَطعْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صدِقِينَ(13) فَإِلَّمْ يَستَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وأَن لا إِلَهَ إِلا هُوفَهَلْ أَنتُم مُّسلِمُونَ} [هود: 12 - 14]
أمر سبحانه رسوله بالثبات على الأمر وحثه على حجاج القوم بما يقطع العذر فقال: { فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ} أي:ولعلك تارك بعض القرآن وهوما فيه سب آلهتهم ولا تبلغهم إياه دفعا لشرهم وخوفا منهم { وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ}أي:ولعلك يضيق صدرك مما يقولونه. وبما يلحقك من أذاهم وتكذيبهم وقيل باقتراحاتهم {أن يقولوا} أي: كراهة أن يقولوا أومخافة أن يقولوا {لولا أنزل عليه كنز} من المال {أوجاء معه ملك} يشهد له فليس قوله {فلعلك} على وجه الشك بل المراد به النهي عن ترك أداء الرسالة والحث على أدائها كما يقول أحدنا لغيره وقد علم من حاله أنه يطيعه ولا يعصيه ويدعوه غيره إلى عصيانه لعلك تترك ما آمرك به لقول فلان وإنما يقول ذلك ليوئس من يدعوه إلى ترك أمره فمعناه لا تترك بعض ما يوحى إليك ولا يضق صدرك بسبب مقالتهم هذه {إنما أنت نذير} أي: منذر {والله على كل شيء وكيل} أي: حفيظ يجلب النفع إليه ويدفع الضرر عنه {أم يقولون افتراه} معناه: بل أ يقولون اختلق القرآن واخترعه وأتى به من عند نفسه .وقيل: إن هاهنا محذوفا وتقديره أ يكذبونك فيما أتيتهم به من القرآن أم يقولون افتريته على ربك وحذف لدلالة ما أبقي على ما ألقي وعلى هذا فيكون أم هذه هي متصلة {قل} يا محمد لهم { فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ} أي: إن كان هذا مفترى على الله كما زعمتم فأتوا أنتم بعشر سور مثله في النظم والفصاحة مفتريات على زعمكم فإن القرآن نزل بلغتكم وقد نشأت أنا بين أظهركم فإن لم يمكنكم ذلك فاعلموا أنه من عند الله تعالى وهذا صريح في التحدي وفيه دلالة على جهة إعجاز القرآن وأنها هي البلاغة والفصاحة في هذا النظم المخصوص لأنه لوكان جهة الإعجاز غير ذلك لما قنع في المعارضة بالافتراء والاختلاق لأن البلاغة ثلاث طبقات فأعلى طبقاتها معجز وأدناها وأوسطها ممكن فالتحدي في الآية إنما وقع في الطبقة العليا منها ولوكان وجه الإعجاز الصرفة لكان الركيك من الكلام أبلغ في باب الإعجاز والمثل المذكور في الآية لا يجوز أن يكون المراد به مثله في الجنس لأن مثله في الجنس يكون حكايته فلا يقع بها التحدي وإنما يرجع ذلك إلى ما هومتعارف بين العرب في تحدي بعضهم بعضا كما اشتهر من مناقصات امرىء القيس وعلقمة وعمروبن كلثوم والحرث بن حلزة وجرير والفرزدق وغيرهم.
وقوله { وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} معناه: ادعوهم ليعينوكم على معارضة القرآن إن كنتم صادقين في قولكم إني افتريته ويريد بقوله {من استطعتم} :من خالف نبينا محمدا من جميع الأمم وهذا غاية ما يمكن في التحدي والمحاجة وفيه الدلالة الواضحة على إعجاز القرآن لأنه إذا ثبت أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) تحداهم به وأوعدهم بالقتل والأسر بعد أن عاب دينهم وآلهتهم وثبت أنهم كانوا أحرص الناس على إبطال أمره حتى بذلوا مهجهم وأموالهم في ذلك فإذا قيل لهم افتروا أنتم مثل هذا القرآن وأدحضوا حجته وذلك أيسر وأهون عليكم من كل ما تكلفتموه فعدلوا عن ذلك وصاروا إلى الحرب والقتل وتكلف الأمور الشاقة فذلك من أدل الدلائل على عجزهم إذ لوقدروا على معارضته مع سهولة ذلك عليهم لفعلوه لأن العاقل لا يعدل عن الأمر السهل إلى الصعب الشاق مع حصول الغرض بكل واحد منهما فكيف ولوبلغوا غاية أمانيهم في الأمر الشاق وهو قتله (صلى الله عليه وآله وسلّم) لكان لا يحصل غرضهم من إبطال أمره فإن المحقق قد يقتل.
فإن قيل: لم ذكر التحدي مرة بعشر سور ومرة بحديث مثله؟ فالجواب: أن التحدي إنما يقع بما يظهر فيه الإعجاز من منظوم الكلام فيجوز أن يتحدى مرة بالأقل ومرة بالأكثر { فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ } قيل: أنه خطاب للمسلمين والمراد فإن لم يجبكم هؤلاء الكفار إلى الإتيان بعشر سور مثله معارضة لهذا القرآن {فاعلموا} أيها المسلمون {إنما أنزل} القرآن {بعلم الله} عن مجاهد واختاره الجبائي. وقيل :هوخطاب للكفار وتقديره :فإن لم يستجب لكم من تدعونهم إلى المعاونة ولم يتهيأ لكم المعارضة فقد قامت عليكم الحجة وقيل إن الخطاب للرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم) أي فإن لم يجيبوك وذكره بلفظ الجمع تفخيما والغرض التنبيه على إعجاز القرآن وأنه المنزل من عند الله سبحانه على نبيه (صلى الله عليه وآله وسلّم) وذكر في قوله {بعلم الله} وجوه أحدها : أن معناه إن الله عالم به وبأنه حق منزل من عنده وثانيها:أن معناه بعلم الله مواقع تأليفه في علوطبقته وأنه لا يقدر أحد على معارضته وثالثها : أنه أنزله الله على علم بترتيبه ونظمه ولا يعلم غيره ذلك { وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} أي: واعلموا أنه لا إله إلا هولأن مثل هذا المعجز لا يقدر عليه إلا الله الواحد الذي لا إله إلا هو{ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} أي: هل أنتم بعد قيام الحجة عليكم بما ذكرناه من كلام الله مستسلمون منقادون لتوحيده؟ وهذا استفهام في معنى الأمر مثل قوله فهل {أنتم منتهون} .
___________________
1- تفسير مجمع البيان ،الطبرسي،ج5،ص249-251.
{فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ}. كان النبي (صلى الله عليه واله وسلم) يتلوعلى المشركين آيات من القرآن داعيا إلى الايمان بالوحدانية والبعث ، وكانوا يهزؤون حينا ، وحينا يقترحون عليه معجزات تعنتا ، لا استرشادا ، وكان موقفهم هذا من دعوة النبي (صلى الله عليه واله وسلم) يحزنه ويؤلمه ، فقال له المولى جل ثناؤه مخففا عنه : امض في دعوتك ، ولا تبال بما يقولون ويقترحون . . وما ذا تصنع لتتقي أقوالهم وتعنتهم ؟ هل تترك بعض ما يوحى إليك ، وتحذف من القرآن ما لا يعجبهم من آياته ؟ . كلا ، انك لن تفعل . إذن ، لما ذا الحزن وضيق الصدر ؟ . هذا هوالمعنى المراد من قوله تعالى : {فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ}لأن النبي (صلى الله عليه واله وسلم) معصوم ، لا يترك شيئا مما يوحى إليه ، ومحال ان يترك ، فالآية أشبه بقوله تعالى : {يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ - 42 المائدة » .
{وضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَولا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوجاءَ مَعَهُ مَلَكٌ}اقترح المشركون على النبي فيما اقترحوا ان تمطر السماء ذهبا وفضة ، أويأتي ملك من الملائكة يشهد بنبوته . . هكذا يفكر أصحاب الأموال والثروات قديما وحديثا ، ويؤمنون بأن المناصب الشريفة يجب أن تكون وقفا على الأغنياء ، أما الفقراء فيجب ان يكونوا بمعزل عن القيادات والمناصب . . وكان تعنتهم هذا يسبب للنبي الهمّ والكرب ، فقال له المولى : {إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ}عليك ان تبلغ ما أوحي إليك ، ولا تكترث بسفاهة السفهاء ، وجهل الجهلاء {واللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ}.
فالأقوال لديه محفوظة ، والسرائر مبلوّة ، وكل نفس بما كسبت رهينة . . ويتصل بهذه الآية ما ذكرناه في ج 3 ص 248 بعنوان : « طراز من الناس » .
{أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ}. سبق نظير هذه الآية مع الكلام مفصلا عن اعجاز القرآن في ج 1 ص 64 عند تفسير الآية 23 من سورة البقرة .
{فَإِن لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وأَنْ لا إِلهً إِلَّا هُوَ}.
ضمير لم يستجيبوا للمكذبين بالقرآن ، وخطاب {لكم} للنبي وكل داعية إلى الإسلام ، وخطاب فاعلموا لكل من كذب بالقرآن في كل عصر ومصر ، والمعنى فليعلم المكذبون الذين عجزوا عن معارضة القرآن انه نزل على محمد (صلى الله عليه واله وسلم) من عند اللَّه الذي لا إله سواه {فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} حيث لا سبيل لكم بعد العجز عن المعارضة إلا التسليم والإذعان .
وكفى القرآن اعجازا انه باق على قيمته وعظمته رغم القرون الطوال ، وسيبقى كذلك يجذب إليه كل قارئ وسامع إلى آخر يوم ، وما ذاك إلا لأن حقائقه انسانية وجدانية يعترف بها كل ذي لبّ أيا كان مذهبه ومشربه .
_________________________
1- التفسير الكاشف، محمد جواد مغنية،ج4،ص215-216.
قوله تعالى:{ فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ}إلى آخر الآية، لما كانت رسالة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بما أيدت به من القرآن الكريم والآيات البينات والحجج والبراهين مما لا يسع لذي عقل إنكارها ولا لإنسان صحيح المشاعر ردها والكفر بها كان ما حكى من كفر الكافرين وإنكار المشركين أمرا مستبعدا بحسب الطبع، وإذا كان وقوع أمر على صفة من الصفات مستبعدا أخذ الإنسان في تقرير ذلك الأمر من غير مجرى الاستبعاد طلبا للمخرج من نسبة الوقوع إلى ما يستبعده الطبع.
ولما كان المقام في الآية الكريمة هذا المقام وكان ما حكاه الله سبحانه من كفر المنكرين وإنكار المشركين لما جاء به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إليهم من الحق الصريح وما أنزل إليه من كلام الله تعالى مع ما يتلوه من البينات والحجج مما لا ينبغي أن يذعن به لبعده طبعا بين تعالى لذلك وجها بعد وجه على سبيل الترجي فقال:{ولعلك تارك بعض ما يوحى إليك}إلخ،{أم يقولون افتراه}إلخ.
فكأنه قيل: من المستبعد أن تهديهم إلى الحق الواضح ويسمعوا منك كلامي ثم لا يستجيبوا دعوتك ويكفروا بالحق بعد وضوحه فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وغير داعيهم إليه ولذلك جبهوك بالإنكار أم يقولون إن القرآن ليس من كلام الله بل هوافتراء افتريته على الله ولذلك لم يؤمنوا به.
فإن كنت تركت بعض الوحي خوفا من اقتراحهم عليك الآيات فإنما أنت نذير وليس لك إلا ما شاء الله، وأن يقولوا افتراه فقل لهم يأتوا بعشر سور مثله مفتريات{إلخ}.
ومما تقدم يظهر أن إيراد الكلام مورد الترجي والاحتمال لرعاية ما يقتضيه المقام من طبع الاستبعاد فالمقام مقام الاستبعاد ومقتضاه ذكر كل سبب محتمل التأثير في الحادثة المستبعدة، اعتبر ذلك في ملك ينتهي إليه تمرد بعض ضعفاء رعيته فيبعث بعض عماله إلى دعوتهم إلى السمع والطاعة ويكتب في ذلك كتابا يأمره أن يقرأه عليهم ويلومهم على تمردهم واستكبارهم على ما بهم من الضعف والذلة ولمولاهم من القوة والسطوة والعزة ثم يبلغ الملك أنهم ردوا على رسوله ما بلغهم من قبله، ويكتب إليه كتابا ثانيا يأمره بقراءته عليهم وإذا فيه: لعلك لم تقرأ كتابي عليهم مخافة أن يقترحوا عليك بما لا تقدر عليه أوأنهم زعموا أن الكتاب ليس من قبلي وإنما افتريته علي افتراء فإن كان الأول فإنك رسول ليس عليك إلا البلاغ وإن كان الثاني فإن الكتاب بخطي كتبته بيدي وختمت عليه بخاتمي ولا يقدر أحد غيري أن يقلدني في ذلك.
والتأمل في هذا المثال يعطي أن المقام فيما يتضمنه الكتاب الثاني من الخطاب مقام الاستبعاد وأن القصد من ذكر الاحتمالين ترك الإبلاغ وزعم الافتراء ليس هوتوبيخ الرسول جدا أواحتمال زعمهم الكذب والفرية جدا، وإنما ذكر الوجهان لداعي أن يكونا كالمقدمة لذكر ما يزول به الشبهتان وهوأن الرسول ليس له من الأمر شيء حتى يقترح، عليه بما يقترح وأن الكتاب للملك ليس فيه ريب ولا شك.
ومن هنا يظهر أن قوله تعالى:{ فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ}إلخ، ليس يفيد الترجي الجدي ولا مسوقا لتوبيخ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ولا مرادا به تسليته وتطييب نفسه إثر ما كان يناله من الحزن والأسى بكفرهم وجحودهم لما أتى به من الحق الصريح بل الكلام مسوق ليتوصل به إلى ذكر قوله:{ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ}.
فما ذكره بعض المفسرين أن الكلام مسرود لنهي النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن الحزن وضيق الصدر بما كانوا يواجهونه به من الكفر والجحود، والنهي نهي تسلية وتطييب للنفس نظير ما في قوله:{ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون:}النحل: - 127، وقوله:{لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين:}الشعراء: - 4 كلام ليس في محله.
ويظهر أيضا أن قوله:{فلعلك تارك}إلخ، وقوله:{أم يقولون افتراه}إلخ، كشقي الترديد ويتصلان معا بما قبلهما من وجه واحد كما ذكرناه.
وقوله:{تارك بعض ما يوحى إليك}إنما ذكر البعض لأن الآيات السابقة متضمنة لتبليغ الوحي في الجملة أي لعلك تركت بعض ما أوحينا إليك من القرآن فما تلوته عليهم فلم ينكشف لهم الحق كل الانكشاف حتى لا يجبهوك بما جبهوك به من الرد والجحود، وذلك أن القرآن بعضه يوضح بعضا وشطر منه يقرب شطرا منه من القبول كآيات الاحتجاج توضح الآيات المشتملة على الدعاوي، وآيات الثواب والعقاب تقرب الحق من القبول بالتطميع والتخويف، وآيات القصص والعبر تستميل النفوس وتلين القلوب.
وقوله:{وضائق به صدرك أن يقولوا}إلخ، قال في المجمع، ضائق وضيق بمعنى واحد إلا أن ضائق هاهنا أحسن لوجهين: أحدهما: أنه عارض والآخر أنه أشكل بقوله تارك انتهى.
والظاهر أن ضمير{به}راجع إلى قوله:{بعض ما يوحى}وإن ذكر بعضهم أن الضمير راجع إلى قولهم:{لولا أنزل عليه كنز}إلخ، أوإلى اقتراحهم وهذا أوفق بكون قوله{أن يقولوا}إلخ، بدلا من الضمير في{به}وما ذكرناه أوفق بكونه مفعولا له لقوله:{تارك}والتقدير: لعلك تارك ذلك مخافة أن يقولوا: لولا أنزل عليه كنز أوجاء معه ملك.
وقوله:{إنما أنت نذير}جواب عن اقتراحهم بقولهم: لولا أنزل عليه كنز أوجاء معه ملك، وقد تكرر في مواضع من كلامه تعالى ذكر ما اقترحوه اقتصر في بعضها على ذكر مجيء الملك وزيد في بعضها عليه غيره كاقتراح الإتيان بالله سبحانه ليشهد على الرسالة وأن يكون له جنة يأكل منها وأن ينزل من السماء كتابا يقرءونه. وقد أجاب الله سبحانه عنها جميعا بمثل ما أجاب به هاهنا وهوأن رسوله ليس له إلا الرسالة فليس بيده وهوبشر رسول أن يجيبهم إلى ما اقترحوا به عليه إلا أن يشاء الله في ذلك شيئا ويأذن في إتيان آية كما قال:{وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله:}المؤمن: - 78.
ثم عقب قوله:{إنما أنت نذير}بقوله:{والله على كل شيء وكيل}لتتميم الجواب عن اقتراحهم على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالمعجزات ومحصله: أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بشر مثلهم ولم يؤمر إلا بالإنذار وهوالرسالة بإعلام الخطر، والقيام بالأمور كلها وتدبيرها سواء كانت جارية على العادة أوخارقة لها إنما هوإلى الله سبحانه فلا وجه لتعلقهم بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فيما ليس إليه.
وذلك أن الله سبحانه هوالموجد للأشياء كلها وفاطرها وهوالقائم على كل شيء فيما يجري عليه من النظام فما من شيء إلا وهوتعالى المبدأ في أمره وشأنه والمنتهى سواء الأمور الجارية على العادة والخارقة لها فهوتعالى الذي يسلم إليه أمره ويدبر شأنه فهوتعالى الوكيل عليه فإن الوكيل هوالذي يسلم إليه الأمر وينفذ فيه منه الحكم فهوتعالى على كل شيء وكيل.
وبذلك يظهر أن قوله:{والله على كل شيء وكيل}بمعونة من قوله:{إنما أنت نذير}يفيد قصر القلب فإنهم سألوا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أمرا ليس إليه وإنما هوإلى الله تعالى.
قوله تعالى:{ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ}قد تقدم من الكلام ما يصح به أخذ{أم}متصلة لكون قوله:{فلعلك تارك}إلخ، في معنى الاستفهام، والتقدير: أ فأنت تارك بعض ما يوحى إليك خوفا من اقتراحهم المعجزة أم يقولون إنك افتريته علينا فإن من المستبعد أن يقرأ عليهم كلامي ثم لا يؤمنوا به وقيل: إن أم مقطعة والمعنى: بل يقولون افتراه.
وقوله:{ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ}في الكلام تحد ظاهر والضمير راجع إلى القرآن أوإلى السورة بما أنها قرآن والفاء في{فأتوا}تفيد تفريع الأمر على قوله:{افتراه}وفي الكلام حذف وإيصال رعاية للإيجاز، والتقدير: قل لهم: إن كان هذا القرآن مما افتريته على الله كان من عندي وكان من الجائز أن يأتي بمثله غيري فإن كنتم صادقين في دعواكم ومجدين غير هازلين فأتوا بعشر سور مثله مفتريات واستعينوا في ذلك بدعوة كل من تستطيعون من دون الله من أوثانكم الذين تزعمون أنهم آلهة تتسرعون إليهم في الحاجات وغيرهم من سائر الخلق حتى يتم لكم جميع الأسباب والوسائل ولا يبقى أحد ممن يطمع في تأثير إعانته ويرجى نفعه في ذلك فلوكان من عندي لا من عند الله جاز أن تأتوا حينئذ بمثله.
وقد بان بهذا البيان أن التحدي بالقرآن في الآية الكريمة ليس من حيث نظمه وبلاغته فحسب فإنه تعالى يأمرهم بالاستمداد من كل من استطاعوا دعوته من دون الله سواء في ذلك آلهتهم وغير آلهتهم وفيهم من لا يعرف الكلام العربي أوجزالة نظمه وصفة بلاغته فالتحدي عام لكل ما يتضمنه القرآن الكريم من معارف حقيقية والحجج والبراهين الساطعة والمواعظ الحسنة والأخلاق الكريمة والشرائع الإلهية والأخبار الغيبية والفصاحة والبلاغة نظير ما في قوله تعالى:{ قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا:}إسراء: - 88، وقد تقدمت الإشارة إلى ذلك في الكلام على إعجاز القرآن في الجزء الأول من الكتاب.
وبذلك يظهر فساد ما قيل إن جهة إعجاز القرآن إنما هي البلاغة والفصاحة في هذا النظم المخصوص لأنه لوكان جهة الإعجاز غير ذلك لما قنع في المعارضة بالافتراء والاختلاق لأن البلاغة ثلاث طبقات فأعلى طبقاتها معجز وأدناها وأوسطها ممكن فالتحدي في الآية إنما وقع في الطبقة العليا منها، ولوكان وجه الإعجاز الصرفة لكان الركيك من الكلام أبلغ في باب الإعجاز.
والمثل المذكور في الآية لا يجوز أن يكون المراد به مثله في الجنس لأن مثله في الجنس يكون حكايته فلا يقع بها التحدي، وإنما يرجع في ذلك إلى ما هومتعارف بين العرب في تحدي بعضهم بعضا كما اشتهر من مناقضات امرىء القيس وعلقمة وعمر بن كلثوم والحارث بن حلزة وجرير والفرزدق وغيرهم. انتهى.
فإن فيه أولا: أن لوكانت جهة الإعجاز في القرآن هي بلاغته فحسب وهي أمر لا يعرفه غير العرب لم يكن لتشريك غيرهم في التحدي معنى، ولم يرجع قوله:{ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ}على ما فيه من العموم وكذا قوله:{لئن اجتمعت الإنس والجن}الآية إلى معنى محصل ولكان من الواجب أن يقال: لئن اجتمعت العرب}وادعوا من استطعتم من آلهتكم ومن أهل لغتكم.
وثانيا: أنه لوكانت جهة الإعجاز هي البلاغة فقط لم يصح الاحتجاج بمثل قوله:{ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا:}النساء: - 82، الظاهر في نفي مطلق الاختلاف فإن أكثر الاختلافات وهي التي يرجع إلى المعاني لا تضر بلاغة اللفظ.
وثالثا: أنه تعالى يتحدى بمثل قوله:{فليأتوا بحديث مثله:}الطور: - 34، وبقوله في سورة يونس:{فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله:}آية - 38، وقد استفدنا فيما تقدم أن سورة يونس قبل سورة هود في ترتيب النزول ويؤيده الأثر، ثم بقوله في هذه السورة:{ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ }ولو كان جهة الإعجاز هي البلاغة خاصة لكانت هذه التحديات خارجة عن النظم الطبيعي إذ لا يصح أن يكلف البلغاء من العرب المنكرين لكون القرآن من عند الله بإتيان مثل سورة منه ثم بعده بإتيان عشر سور مفتريات بل مقتضى الطبع أن يتحدى بتكليفهم بإتيان مثل القرآن أجمع فإن عجزوا فبإتيان عشر سور مثله مفتريات فإن عجزوا فبإتيان سورة مثله.
وقد ذكر بعضهم في التفصي عن هذا الإشكال أن الترتيب بين السور ونزول بعضها قبل بعض لا يستلزم الترتيب بين آيات السور فكم من آية مكية موضوعة في سورة مدنية وبالعكس فمن الجائز حينئذ أن تكون آيات التحدي بتمام القرآن نازلة قبل غيرها مطلقا ثم تكون آية التحدي بعشر سور مفتريات نازلة بعدها، وآية التحدي بسورة واحدة نازلة بعد الجميع.
وفيه: أنه إنما ينفع لو صح نزول الآيات على ما صوره وإلا فالإشكال على حاله والحق أن القرآن معجز في جميع صفاته المختصة به من بلاغة وفصاحة وما فيه من المعارف الحقيقية والأخلاق الكريمة والشرائع الإلهية والقصص والعبر والإخبار بالمغيبات وما له من السلطان على القلوب والجمال الحاكم في النفوس.
وأما الوجه في التحدي بعشر سور مع ما في سورة يونس من التحدي بواحدة فقد قال في المجمع،: فإن قيل: لم ذكر التحدي مرة بعشر سور ومرة بسورة ومرة بحديث مثله؟ فالجواب: أن التحدي إنما يقع بما يظهر فيه الإعجاز من منظوم الكلام فيجوز أن يتحدى مرة بالأقل ومرة بالأكثر. انتهى.
أقول: وهو يصلح وجها لأصل التحدي بالواحد والكثير وأما التحدي بالعشر بعد الواحدة ولا سيما على ما يراه من كون إعجازه بالبلاغة فحسب فلا.
وذكر بعضهم في توجيه ذلك أن القرآن الكريم معجز في جميع ما يتضمنه من المعارف والأخلاق والأحكام والقصص وغيرها وينعت به من الفصاحة والبلاغة وانتفاء الاختلاف، وإنما يظهر صحة المعارضة والإتيان بالمثل عند إتيان عدة من السور يظهر به ارتفاع الاختلاف وخاصة من بين القصص المودعة فيها مع سائر الجهات كالفصاحة والبلاغة والمعارف وغيرها.
وإنما يتم ذلك بإتيان أمثال السور الطويلة التي تشتمل على جميع الشئون المذكورة وتتضمن المعرفة والقصة والحجة وغير ذلك كسورتي الأعراف والأنعام.
والتي نزلت من السور الطويلة القرآنية مما يشتمل على جميع الفنون المذكورة قبل سورة هود على ما ورد في الرواية هي سورة الأعراف وسورة يونس وسورة مريم وسورة طه وسورة الشعراء وسورة النمل وسورة القصص وسورة القمر وسورة ص فهذه تسع من السور عاشرتها سورة هود، وهذا الوجه هوفي التحدي بأمرهم أن يأتوا بعشر سور مثله مفتريات، انتهى بتلخيص منا وقد أطنب في كلامه.
أقول: فيه أولا: أن لا تعويل على الأثر الذي عول عليه في ترتيب نزول السور فإنما هو من الآحاد التي لا تخلوعن ضعف ولا ينبغي بناء البحث التفسيري على أمثالها.
وثانيا: أن ظاهر قوله:{ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ}أن رميهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالافتراء على الله سبحانه قول تقولوه بالنسبة إلى جميع السور القرآنية طويلتها وقصيرتها من غير أن يخصوا به سورة دون سورة فمن الواجب أن يجابوا بما يحسم مادة الشبهة بالنسبة إلى كل سورة قرآنية، والتحدي بما يفي بذلك، وعجزهم عن إتيان عشر سور مفتريات طويلة تجمع الفنون القرآنية لا يثبت به كون الجميع حتى السور القصار كسورتي الكوثر والعصر من عند الله اللهم إلا ببيان آخر يضم إليه واللفظ خال من ذلك.
وثالثا: أن قوله:{بعشر سور مثله}إن كان ما فيه من الضمير راجعا إلى القرآن كما هوظاهر كلام هذا القائل أفاد التحدي بإتيان عشر سور مفتريات مثله مطلقا سواء في ذلك الطوال والقصار فتخصيص التحدي بعشر سور طويلة جامعة تقييد للفظ الآية من غير مقيد وهوتحكم وأشد منه تحكما القول بأن المراد بالمثل مثل السور العشر التي عدها.
وإن كان الضمير راجعا إلى سورة هود كان مستبشعا من القول وكيف يستقيم أن يقال لمن يقول: إن سورة الكوثر والمعوذتين من الافتراء على الله: ائت بعشر سور مفتريات مثل سورة هود ويقتصر على ذلك؟ اللهم إلا أن يهذروا بأن سورة هود وحدها من الافتراء على الله تعالى فيتحدى عندئذ بأن يأتوا بمثلها، ولم نسمع أحدا منهم تفوه بذلك.
ويمكن أن يقال في وجه الاختلاف الذي يلوح من آيات التحدي كقوله:{فأتوا بسورة مثله:}يونس: - 38 الظاهر في التحدي بسورة واحدة وقوله:{فأتوا بعشر سور مثله مفتريات}الظاهر في التحدي بعدد خاص فوق الواحد وقوله:{فليأتوا بحديث مثله:}الطور: - 34 الظاهر في التحدي بحديث يماثل القرآن وإن كان دون السورة أن كل واحدة من الآيات تؤم غرضا خاصا في التحدي.
بيان ذلك: أن جهات القرآن وشئونه التي تتقوم به حقيقته وهوكتاب إلهي مضافا إلى ما في لفظه من الفصاحة وفي نظمه من البلاغة إنما ترجع إلى معانيه ومقاصده لست أعني من المعنى ما يقصده علماء البلاغة في قولهم: إن البلاغة من صفات المعنى والألفاظ مطروحة في الطريق يعنون به المفاهيم من جهة ترتبها الطبعي في الذهن فإن الذي يعنون به من المعنى موجود في الكذب الصريح من الكلام وفي الهزل وفي الفحش والهجووالفرية إذا جرت على أسلوب البلاغة وتوجد في الكلام الموروث من البلغاء نظما ونثرا شيء كثير من هذه الأمور.
بل المراد من معنى القرآن ومقصده ما يصفه تعالى بأنه كتاب حكيم، ونور مبين، وقرآن عظيم، وفرقان، وهاد يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم، وقول فصل وليس بالهزل، وكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وذكر وأنه يحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، وأنه شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا، وأنه تبيان لكل شيء ولا يمسه إلا المطهرون.
فمن البين أن هذه كلها صفات لمعنى القرآن.
وليست صفات لما يقصده علماء البلاغة بالمعنى البليغ الذي ربما يشتمل عليه الباطل من الكلام الذي يسميه القرآن الكريم لغوا من القول وإثما وينهى الإنسان عن تعاطيه والتفوه به وإن كان بليغا بل المعنى المتصف بهذه الصفات هوشيء من المقاصد الإلهية التي تجري على الحق الذي لا يخالطه باطل، وتقع في صراط الهداية، ويكون الكلام المشتمل على معنى هذا نعته وغرض هذا شأنه هوالذي تتعلق العناية الإلهية بتنزيله وجعله رحمة للمؤمنين وذكرا للعالمين.
وهذا هوالذي يصح أن يتحدى به بمثل قوله:{فليأتوا بحديث مثله}فإنا لا نسمي الكلام حديثا إلا إذا اشتمل على غرض هام يتحدث به فينقل من ضمير إلى ضمير، وكذا قوله:{فأتوا بسورة مثله}فإن الله لا يسمي جماعة من آيات كتابه وإن كانت ذات عدد سورة إلا إذا اشتملت على غرض إلهي تتميز بها من غيرها.
ولولا ذلك لم يتم التحدي بالآيات القرآنية وكان للخصم أن يختار من مفردات الآيات عددا ذا كثرة كقوله تعالى:{والضحى}{والعصر}{والطور}{في كتاب مكنون}{مدهامتان}{الحاقة}{ما الحاقة وماأدراك ماالحاقة}{الرحمن}{ملك الناس}{إله الناس}{وخسف القمر}{كلا والقمر}{سندع الزبانية}إلى غير ذلك من مفردات الآيات ثم يقابل كلا منها بما يناظرها من الكلام العربي من غير أن يضمن ارتباط بعضها ببعض واشتمالها على غرض يجمعها ويخرجها في صورة الوحدة.
فالذي كلف به الخصم في هذه التحديات هوأن يأتي بكلام يماثل القرآن مضافا إلى بلاغة لفظه في بيان بعض المقاصد الإلهية المشتملة على أغراض منعوته بالنعوت التي ذكرها الله سبحانه.
والكلام الإلهي مع ما تحدى به في آيات التحدي يختلف بحسب ما يظهر من خاصته فمجموع القرآن الكريم يختص بأنه كتاب فيه ما يحتاج إليه نوع الإنسان إلى يوم القيامة من معارف أصلية وأخلاق كريمة وأحكام فرعية، والسورة من القرآن تختص ببيان جامع لغرض من الأغراض الإلهية المتعلقة بالهدى ودين الحق على بلاغتها الخارقة وهذه خاصة غير الخاصة التي يختص بها مجموع القرآن الكريم، والعدة من السور كالعشر والعشرين منها تختص بخاصة أخرى وهي بيان فنون من المقاصد والأغراض والتنوع فيها فإنها أبعد من احتمال الاتفاق فإن الخصم إذا عجز عن الإتيان بسورة واحدة كان من الممكن أن يختلج في باله أن عجزه عن الإتيان بها إنما يدل على عجز الناس عن الإتيان بمثلها لا على كونها نازلة من عند الله موحاة بعلمه فمن الجائز أن يكون كسائر الصفات والأعمال الإنسانية التي من الممكن في كل منها أن يتفرد به فرد من بين أفراد النوع اتفاقا لتصادق أسباب موجبة لذلك كفرد من الإنسان موصوف بأنه أطول الأفراد أو أكبرهم جثة أوأشجعهم أوأسخاهم أوأجبنهم أوأبخلهم.
وهذا الاحتمال وإن كان مدفوعا عن السورة الواحدة من القرآن أيضا التي يقصدها الخصم بالمعارضة فإنها كلام بليغ مشتمل على معان حقة ذات صفات كريمة خالية عن مادة الكذب، وما هذا شأنه لا يقع عن مجرد الاتفاق والصدفة من غير أن يكون مقصودا في نفسه ذا غرض يتعلق به الإرادة.
إلا أنه أعني ما مر من احتمال الاتفاق والصدفة عن السور المتعددة أبعد لأن إتيان السورة بعد السورة وبيان الغرض بعد الغرض والكشف عن خبيىء بعد خبيىء لا يدع مجالا لاحتمال الاتفاق والصدفة وهو ظاهر.
إذا تبين ما ذكرناه ظهر أن من الجائز أن يكون التحدي بمثل قوله:{قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولوكان بعضهم لبعض ظهيرا:}إسراء: - 88 واردا مورد التحدي بجميع القرآن لما جمع فيه من الأغراض الإلهية ويختص بأنه جامع لعامة ما يحتاج إليه الناس إلى يوم القيامة، وقوله:{قل فأتوا بسورة مثله}لما فيها من الخاصة الظاهرة وهي أن فيها بيان غرض تام جامع من أغراض الهدى الإلهي بيانا فصلا من غير هزل، وقوله:{قل فأتوا بعشر سور}تحديا بعشر من السور القرآنية لما في ذلك من التفنن في البيان والتنوع في الأغراض من جهة الكثرة، والعشرة من ألفاظ الكثرة كالمائة والألف قال تعالى:{يود أحدهم لو يعمر ألف سنة:}البقرة: - 96.
فالمراد بعشر سور - والله أعلم - السور الكثيرة الحائزة لبعض مراتب الكثرة المعروفة بين الناس فكأنه قيل: فأتوا بعده من سورها ولتكن عشرا ليظهر به أن تنوع الأغراض القرآنية في بيانه المعجز ليس إلا من قبل الله.
وأما قوله:{فليأتوا بحديث مثله}فكأنه تحد بما يعم التحديات الثلاثة السابقة فإن الحديث يعم السورة والعشر سور والقرآن كله فهو تحد بمطلق الخاصة القرآنية وهو ظاهر.
بقي هنا أمران أحدهما أنه: لم يقع في شيء من آيات التحدي المذكورة توصيف ما يأتي به الخصم بالافتراء إلا في هذه الآية إذ قيل فيها:{فأتوا بعشر سور مثله مفتريات}بخلاف قوله:{فأتوا بسورة مثله}فلم يقل فيه:{فأتوا بسورة مثله مفتراة}وكذا في سائر آيات التحدي.
ولعل الوجه في ذلك أن نوع العناية في الآية المبحوث عنها غير نوع العناية في سائر آيات التحدي فإن العناية في سائر الآيات متعلقة بأنهم لا يقدرون على الإتيان بمثل القرآن أوبمثل السورة لما أنه قرآن مشتمل على جهات لا تتعلق بها قدرة الإنسان ولا يظهر عليها غيره تعالى وقد أطلق القول فيها إطلاقا.
وأما هذه الآية فلما عقبت بقوله:{ فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ}دل ذلك على أن التحدي فيها إنما هوبكون القرآن متضمنا لما يختص علمه بالله تعالى ولا سبيل لغيره إليه، وهذا أمر لا يقبل الافتراء بذاته فكأنه قيل: إن هذا القرآن لا يقبل بذاته افتراء فإنه متضمن لأمور من العلم الإلهي الذي لا سبيل لغيره تعالى إليه، وإن ارتبتم في ذلك فأتوا بعشر سور مثله مفتريات تدعون أنها افتراء، واستعينوا بمن استطعتم من دون الله فإن لم تقدروا عليه فاعلموا أنه من العلم المخصوص به تعالى. فافهم ذلك.
وثانيهما: معنى التحدي بالمثل حيث قيل:{بمثل هذا القرآن}{بحديث مثله}{بسورة مثله}{بعشر سور مثله}والوجه الظاهر فيه أن الكلام لما كان آية معجزة فلوأتى إنسان بما يماثله لكفى في إبطال كونه آية معجزة ولم يحتج إلى الإتيان بما يترجح عليه في صفاته ويفضل عليه في خواصه.
وربما يورد عليه أن عدم قدرة غيره (صلى الله عليه وآله وسلم) على ذلك لا يدل على كونه معجزة غير مستندة إليه لأن صفات الكمال التي توجد في النوع الإنساني كالبلاغة والكتابة والشجاعة والسخاء وغيرها لها مراتب متفاوتة مختلفة يفضل بعضها على بعض، وإذا كان كذلك كان من المراتب ما هوفوق الجميع وهوغاية ما يمكن أن ترتقي إليه النفس الإنسانية البتة.
فكل صفة من صفات الكمال يوجد بين الأفراد الموصوفين بها من هوحامل للدرجة العليا والغاية القصوى منها بحيث لا يعدله غيره ولا يعارضه أحد ممن سواه فبالضرورة بين أفراد الإنسان عامة من هوأبلغهم أوأكتبهم أوأشجعهم أوأسخاهم كما أن بينهم من هوأطولهم قامة وأكبرهم جثة، ولم لا يجوز أن يكون النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أفصح الناس جميعا وأبلغهم والقرآن من كلامه الذي لا يسع لأحد أن يعارضه فيه لوقوفه موقفا ليس لغيره فيه موضع قدم فلا؟ يكون عندئذ عجز غيره عن الإتيان دليلا على كونه كلاما إلهيا غير بشري لجواز كونه كلاما بشريا مختصا به (صلى الله عليه وآله وسلم) مضنونا عن غيره.
هذا.
ويدفعه أن الصفات الإنسانية التي يقع فيها التفاضل وإن كانت على ما ذكر لكنها أياما كانت فهي مما تسمح بها الطبيعة الإنسانية بما أودع الله فيها من الاستعداد من غير أن تنشأ عن اتفاق ومن غير سبب يمكن الفرد الموصوف من الاتصاف بها.
وإذا كان كذلك وفرض فرد من الإنسان اختص بصفة فاضلة لا يعدله غيره ولا يفوقه سواه كان لغيره أن يسلك ما مهده من السبيل ويتعود بالتمرن والتدرب والارتياض بما يأتيه من الأعمال التي تصدر عما عنده من صفة الكمال فيأتي بما يماثل بعض ما يختص به من الكمال ويقلده في نبذة من أعماله وإن لم يقدر على أن يزاحمه في الجميع ويماثله في الكل، ويبقى للفرد النابغ المذكور مقام الأصالة والسبقة والتقدم في ذلك فالحاتم مثلا وإن كان هوالمتفرد غير المعارض في سخائه وجوده من غير أن يسع غيره أن يتقدم عليه ويسبقه لكن من الممكن أن يرتاض مرتاض في سبيله فيتمرن ويتدرب فيه فيأتي بشيء من نوع سخائه وجوده وإن لم يقدر على مزاحمته في الجميع وفي أصل مقامه، والكمالات الإنسانية التي هي منابع للأعمال سبيلها جميعا هذا السبيل، ويتمكن الإنسان بالتمرن والتدرب على سلوك سبيل السابقين المبدعين فيها والإتيان بشيء من أعمالهم وإن لم يسع مزاحمتهم في أصل موقفهم.
فلوكان القرآن من كلام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على فرض أنه أبلغ إنسان وأفصحه كان من الجائز أن يهتم غيره فيتمرن على سلوك ما أبدعه في كلامه من النظم البديع فيقدر على تقليده في شيء من الكلام وإتيان شيء من القول بسورة مثله وإن لم يقدر على تقليد القرآن كله والإتيان بجميعه.
ولم يقل فيما تحدى به: فليأتوا بحديث أبلغ منه أوأحسن أوبسورة هي أبلغ أوأحسن حتى يقال: إن القرآن أبلغ كلام بشري أوأحسنه ليس هناك ما هوأبلغ أوأحسن منه حتى يأتي به آت فلا يدل عدم القدرة على الإتيان بذلك على كونه كلاما لغير البشر، بل إنما قال:{فليأتوا بحديث مثله}{قل فأتوا بسورة مثله}وهكذا وفي وسع البشر الإتيان بمثل كلام غيره من البشر وإن فرض كون ذلك الغير ذا موقف من الكلام لا يعارضه غيره على ما بيناه فالشبهة مندفعة بقوله تعالى{مثله}.
قوله تعالى:{ فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}إجابة الدعوة واستجابتها بمعنى.
والظاهر من السياق أن الخطاب في الآية للمشركين، وأنه من تمام كلام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي أمر بقوله تعالى:{قل}إن يلقيه إليهم، وعلى هذا فضمير الجمع في قوله:{لم يستجيبوا}راجع إلى الآلهة وكل من استعانوا به المدلول عليهم بقوله:{وادعوا من استطعتم من دون الله}.
والمعنى: فإن لم يستجب لكم معاشر المشركين هؤلاء الذين دعوتموهم من آلهتكم ومن بلغاء أهل لسانكم العارفين بأساليب الكلام وعلماء أهل الكتاب الذين عندهم الكتب السماوية وأخبار الأنبياء والأمم والكهنة المستمدين من إلقاء شياطين الجن، وجهابذة العلم والفهم من سائر الناس المتعمقين في المعارف الإنسانية بأطرافها فاعلموا أنما أنزل هذا القرآن بعلم الله ولم يختلق عن علمي أنا ولا غيري ممن تزعمون أنه يعلمني ويملي علي، واعلموا أيضا أن ما أدعوكم إليه من التوحيد حق فإنه لوكان هناك إله من دون الله لنصركم على ما دعوتموه إليه فهل أنتم أيها المشركون مسلمون لله تعالى منقادون لأمره؟.
فقوله تعالى:{فإن لم يستجيبوا لكم}في معنى قولنا: فإن لم تقدروا على المعارضة بعد الاستعانة والاستمداد بمن استطعتم أن تدعوهم من دون الله، وذلك أن الأسباب التي توجب قدرتهم على المعارضة هي ما عندهم من قدرة البيان وقريحة البلاغة وهم يرون أن ذلك من مواهب آلهتهم من دون الله وكذا ما عند آلهتهم مما لم يهبوهم بعد، ولهم أن يؤيدوهم به إن شاءوا على زعمهم، وأيضا ما عند غير آلهتهم من المدد، وإذا لم يستجبهم الذين يدعونهم في معارضة القرآن فقد ارتفع جميع الأسباب الموجبة لقدرتهم وارتفعت بذلك قدرتهم فعدم إجابته الشركاء على معارضة القرآن ملازم لعدم قدرتهم عليها حتى بما عند أنفسهم من القدرة ففي الكلام كناية.
وقوله:{فاعلموا أنما أنزل بعلم الله}الظاهر أن المراد بعلم الله هوالعلم المختص به وهوالغيب الذي لا سبيل لغيره تعالى إليه إلا بإذنه كما قال تعالى:{لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه:}النساء: - 166، وقال:{ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك:}يوسف: - 102، وقال:{عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحد إلا من ارتضى من رسول:}الجن: - 27، وقال:{إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون لا يمسه إلا المطهرون تنزيل من رب العالمين:}الواقعة: - 80.
فالمعنى: فإن لم تقدروا على معارضته بأي سبب ممد تعلقتم به من دون الله فتيقنوا أنه لم ينزل إلا عن سبب غيبي وأنه من أنباء الغيب الذي يختص به تعالى فهوالذي أنزله علي وكلمني به وأراد تفهيمي وتفهيمكم بما فيه من المعارف الحقة وذخائر الهداية.
وذكر بعضهم أن المراد به أنه إنما أنزل على علم من الله بنزوله وشهادة منه له، وذكر آخرون أن المراد أنه إنما أنزل بعلم من الله أنه لا يقبل المعارضة أوبعلم من الله بنظمه وترتيبه ولا يعلم غيره ذلك وهذه معان واهية بعيدة عن الفهم.
والجملة أعني قوله:{إنما أنزل بعلم الله}إحدى النتيجتين المأخوذتين من عدم استجابة شركائهم لهم.
والنتيجة الأخرى قوله:{وأن لا إله إلا هو}ولزوم هذه النتيجة من وجهين: أحدهما: أنهم إذا دعوا آلهتهم لما يهمهم من الأمور فلم يجيبوهم كشف ذلك عن أنهم ليسوا بآلهة فليس الإله إلا من يجيب المضطر إذا دعاه وخاصة إذا دعاه لما فيه نفع الإله المدعوفإن القرآن الذي أتى به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يقطع دابرهم ويميت ذكرهم ويصرف الناس عن التوجه إليهم فإذا لم يجيبوا أولياءهم إذا دعوهم لمعارضة كتاب هذا شأنه كان ذلك من أوضح الدليل على نفي ألوهيتهم.
وثانيهما: أنه إذا صح أن القرآن حق نازل من عند الله صادق فيما يخبر به، ومما يخبر به أنه ليس مع الله إله آخر علم بذلك أنه لا إله إلا الله سبحانه.
وقوله:{فهل أنتم مسلمون}أي لما علمتم واتضح لكم من جهة عدم استجابة شركائكم من دون الله وعجزكم عن المعارضة فهل أنتم مسلمون لما وقع عليه علمكم هذا من توحيد الله سبحانه وكون هذا القرآن كتابا نازلا بعلمه؟ وهوأمر بالإسلام في صورة الاستفهام هذا كله ما يقتضيه ظاهر الآية.
وقيل: إن الخطاب في قوله:{فإن لم يستجيبوا لكم}إلخ، للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) خوطب بلفظ الجمع تعظيما له وتفخيما لشأنه وضمير الجمع الغائب راجع إلى المشركين أي فإن لم يستجب المشركون لما دعوتهم أيها النبي إليه من المعارضة فاعلم أنه منزل بعلم الله وأن الله واحد فهل أنت مسلم لأمره.
وفيه أنه قد صح أن التعظيم بلفظ الجمع والكثرة يختص في الكلام العربي بالمتكلم وأما الخطاب والغيبة فلا تعظيم فيها بلفظ الجمع.
مضافا إلى أن استناد الوحي الإلهي والتكليم الرباني إليه تعالى استناد ضروري لا يقبل الشك حتى يستعان عليه بالدليل فما يتلقاه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) دلالته على كونه كلاما من الله دلالة ضرورية غير محتاجة إلى حجة حتى يحتج عليه بعدم إجابة المشركين إلى معارضة القرآن وعجزهم عنها بخلاف كلام المخلوقين من الإنسان والجن والملك وأي هاتف آخر فإنه يحتاج في حصول العلم باستناده إلى متكلمه إلى دليل خارجي من حسن أوعقل، وقد تقدمت إشارة إلى ذلك في قصة زكريا من سورة آل عمران، وسيجيء البحث المستوفى عن ذلك فيما يناسبه من المورد إن شاء الله تعالى.
على أن خطاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بمثل قوله:{وأن لا إله إلا هو}، وقوله:{فهل أنتم مسلمون}لا يخلوعن بشاعة.
على أن نفس الاستدلال أيضا غير تام كما سنبين.
وقيل: إن الخطاب في الآية للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والمؤمنين جميعا أوللمؤمنين خاصة لأن المؤمنين يشاركونه (صلى الله عليه وآله وسلم) في الدعوة الدينية والتحدي بالقرآن الذي هوكتاب ربهم المنزل عليهم والمعنى: فإن لم يستجب المشركون لكم في المعارضة فاعلموا أن القرآن منزل بعلم الله وأن لا إله إلا هوفهل تسلمون أنتم لله؟.
ولما تفطن بعضهم أن لا معنى لدعوة المؤمنين وهم مؤمنون بالله وحده وبكتابه إلى العلم بأنه كتاب نازل من عند الله وبأنه تعالى واحد لا شريك له أصلحه بأن المراد فاثبتوا على علمكم أنه إنما أنزل بعلم الله وازدادوا به إيمانا ويقينا وأنه لا إله إلا هوولا يستحق العبادة سواه فهل أنتم ثابتون على إسلامكم والإخلاص فيه؟.
وفيه أنه تقييد للآية من غير مقيد والحجة غير تامة وذلك أن المشركين لوكانوا وقفوا موقف المعارضة بما عندهم من البضاعة واستعانوا عليها بدعوة آلهتهم وسائر من يطمعون فيه من الجن والإنس ثم عجزوا كان ذلك دليلا واضحا يدلهم على أن القرآن فوق كلام البشر وتمت بذلك الحجة عليهم، وأما عدم استجابة الكفار للمعارضة فليس يدل على كونه من عند الله لأنهم لم يأتمروا بما أمروا به بقوله:{فأتوا بعشر سور مثله مفتريات}إما لعلمهم بأنه كلام الله الحق وإنما كان قولهم:{افتراه}قولا ناشئا عن العناد واللجاج لا عن إذعان به أوشك فيه، أولأنهم كانوا آيسين من استجابة شركائهم للدعوة على المعارضة، أولأنهم كانوا هازلين في قولهم ذلك يهذرون هذرا.
وبالجملة عدم استجابة المشركين للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أوللمؤمنين أولهم جميعا لا يدل بنفسه على كون القرآن نازلا من عند الله إلا إذا كان عدم الاستجابة المذكورة بعد تحقق دعوتهم شركاءهم إلى المعارضة وعدم استجابتهم لهم، ولم يتحقق من المشركين دعوة على هذه الصفة، ومجرد عدم استجابة المشركين أنفسهم لا ينفع شيئا، ولا يبقى إلا أن يقال: إن معنى الآية: فإن دعا المشركون من استطاعوا من دون الله فلم يستجيبوا لهم ولم يستجب المشركون لكم أيها النبي ومعاشر المؤمنين فاعلموا أنما أنزل بعلم الله إلخ، وهذا هوالذي أومأنا إليه آنفا أنه تقييد للآية من غير مقيد.
على أن فيه أمرا للمؤمنين أن يهتدوا في إيمانهم ويقينهم بأمر فرضي غير واقع وكلامه تعالى يجل عن ذلك، ولوأريدت الدلالة على أنهم غير قادرين على ذلك وإن دعوا شركاءهم إلى المعارضة كان من حق الكلام أن يقال: فإن لم يستجيبوا لكم ولن يستجيبوا فاعلموا إلخ، كما قيل كذلك في نظيره قال تعالى:{ وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ:}البقرة: - 23،24.
__________________
1- تفسير الميزان،الطباطبائي،ج10،ص123-136.
القرآن المعجزة الخالدة:
يبدومن هذه الآيات أنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) كان يوكل إِبلاغ الآيات ـ نظراً للجاجة الأعداء ومخالفتهم ـ لأخر فرصة، لذا فإِنّ الله سبحانه ينهي نبيّه في أوّل آية نبحثها عن ذلك بقوله:{ فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ} لئلا يطلبوا منك معاجز مقترحة كنزول كنز من السماء، أومجيء الملائكة لتصديقه {أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوجَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ}.
وكما يستفاد من آيات القرآن الأُخرى كما في سورة الإِسراء (الآيات 90 ـ 93) ـ إِنّ هؤلاء لا يطلبون هذه المعاجز ليصدقوا دعوى النّبي ويتبعوا الحق، بل هدفهم اللجاجة والعناد والتّحجج الواهي، فلذلك تأتي الآية معقبة{إِنّما أنت نذير} سواءاً قبلوا دعواك أم لم يقبلوا، وسخروا منك أم لم يسخروا، فالله هوالحافظ والناظر على كل شيء{والله على كل شيء وكيل} أي لا تكترث بكفرهم وإيمانهم فإنّ ذلك لا يعنيك، وإنّما وظيفتك أن تبلغهم، والله سبحانه هوالذي يعرف كيف يحاسبهم، وكيف يعاملهم.
وبما أنّ الذين يتذرعون بالحجج ويشكلون على النّبي كانوا أساساً منكرين لِوحي الله، ويقولون: إنّ هذه الآية ليست نازلة من قبل الله، وإنّ هذا الكلام افتراه محمّد ـ وحاشاه من ذلك ـ على الله كذباً، لذلك تأتي الآية التالية لتبيّن بصراحة تامة:{أم يقولون افتراه}.
فقلْ لهم يا رسول الله ـ إِن كانوا صادقين في دعواهم أنّ ما تقوله ليس من الله وأنّه من صنع الإِنسان ـ فيأتوا بعشر سور مثل هذا الكلام مفتريات، وليدعوا ـ سوى الله ـ ماشاؤوا{قل فأتوا بعشر سور مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إِن كنتم صادقين}.
أمّا إِذا لم يستجيبوا لدعوتك ولا للمسلمين، ولم يلبوا طلبك على الإِتيان بعشر سور مفتريات كسور القرآن، فاعلموا أن ذلك الضعف وعدم القدرة دليل على أن هذه الآيات نزلت من خزانة علم الله، ولوكانت من صنع بشر، فهم بشرٌ أيضاً .. فلماذا لا يقدرون على ذلك{فإِن لم يستجيبوا لكم فاعلموا إِنّما أنزل بعلم الله)واعلموا أيضاً أنّه لا معبود سوى الله، ونزول هذه الآيات دليل على هذه الحقيقة{وأن لا إِله إِلاّ الله) فهل يسلم المخالفون مع هذه الحالة{فهلْ أنتم مسلمون}؟
أي بعد ما دعوناكم للإِتيان بمثل هذه السور، وظهر عجزكم وعدم قدرتكم على ذلك، فهل يبقى شك في أن هذه الآيات منزلة من قبل الله، ومع هذه المعجزة البينة أمّا زلتم منكرين، أم أنّكم تسلمون وتقرّون حقاً؟!
________________
1- تفسير الامثل ،مكارم الشيرازي،ج6،ص32-33.
|
|
تفوقت في الاختبار على الجميع.. فاكهة "خارقة" في عالم التغذية
|
|
|
|
|
أمين عام أوبك: النفط الخام والغاز الطبيعي "هبة من الله"
|
|
|
|
|
قسم شؤون المعارف ينظم دورة عن آليات عمل الفهارس الفنية للموسوعات والكتب لملاكاته
|
|
|