أقرأ أيضاً
التاريخ: 5-6-2020
2934
التاريخ: 2-5-2020
4428
التاريخ: 11-6-2020
7340
التاريخ: 6-5-2020
6259
|
قال تعالى:{وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (6) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } [هود: 6 - 8]
{ وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ}أي: ليس من دابة تدب على وجه الأرض ويدخل فيه جميع ما خلقه الله تعالى على وجه الأرض من الجن والإنس والطير والأنعام والوحوش والهوام { إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا}أي: إلا والله سبحانه يتكفل برزقها ويوصله إليها على تقتضيه المصلحة وتوجبه الحكمة { وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا}أي: يعلم موضع قرارها والموضع الذي أودعها فيها وهو أصلاب الآباء وأرحام الأمهات عن مجاهد وقيل مستقرها حيث تأوي إليه من الأرض ومستودعها حيث تموت وتبعث منه عن ابن عباس والربيع وقيل مستقرها ما يستقر عليه عملها ومستودعها ما يصير إليه .
{ كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ}هنا إخبار منه سبحانه أن جميع ذلك مكتوب في كتاب ظاهر وهو اللوح المحفوظ وإنما أثبت سبحانه ذلك مع أنه عالم لذاته لا يعزب عن علمه شيء من مخلوقاته لما فيه من اللطف للملائكة أولمن يخبر بذلك { وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} هذا إخبار منه سبحانه عن نفسه بأنه أنشأهما في هذا المقدار من الزمان مع قدرته على أن يخلقهما في مقدار لمح البصر والوجه في ذلك أنه سبحانه أراد أن يبين بذلك أن الأمور جارية في التدبير على منهاج الحكمة منشأة على ترتيب لما في ذلك من المصلحة والمراد بقوله {ستة أيام} ما مقداره مقدار ستة أيام لأنه لم يكن هناك أيام بعد فإن اليوم عبارة عما بين طلوع الشمس وغروبها { وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} في هذا دلالة على أن العرش والماء كانا موجودين قبل خلق السموات والأرض وكان الماء قائما بقدرة الله تعالى على غير موضع قرار بل كان الله يمسكه بكمال قدرته وفي ذلك أعظم الاعتبار لأهل الإنكار وقيل إن المراد بقوله {عرشه} بناؤه يدل عليه قوله ومما يعرشون أي يبنون والمعنى وكان بناؤه على الماء فإن البناء على الماء أبدع وأعجب عن أبي مسلم .
{لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} معناه:أنه خلق الخلق ودبر الأمور ليظهر إحسان المحسن فإنه الغرض في ذلك أي: ليعاملكم معاملة المبتلي المختبر لئلا يتوهم أنه سبحانه يجازي العباد على حسب ما في معلومه أنه يكون منهم قبل أن يفعلوه وفي قوله {أحسن عملا} دلالة على أنه قد يكون فعل حسن أحسن من حسن آخر لأن حقيقة لفظة أفعل يقتضي ذلك {ولئن قلت} يا محمد لهم {إنكم مبعوثون من بعد الموت}للحساب والجزاء { لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ}أي: ليس هذا القول إلا تمويه ظاهر لا حقيقة له ومن قرأ ساحر فالمراد ليس هذا يعنون النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) إلا ساحر قال الجبائي وفي الآية دلالة على أنه كان قبل خلق السماوات والأرض الملائكة لأن خلق العرش على الماء لا وجه لحسنه إلا أن يكون فيه لطف لمكلف يمكنه الاستدلال به فلا بد إذا من حي مكلف وقال علي بن عيسى لا يمتنع أن يكون في الأخبار بذلك مصلحة للمكلفين فلا يجب ما قاله الجبائي وهو الذي اختاره المرتضى قدس الله روحه .
{وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ} معناه:ولئن أخرنا عن هؤلاء الكفار عذاب الاستئصال إلى أجل مسمى ووقت معلوم.والأمة :الحين كما قال سبحانه وادكر بعد أمة وهو قول ابن عباس ومجاهد وقيل: {إلى أمة} أي: إلى جماعة يتعاقبون فيصرون على الكفر ولا يكون فيهم من يؤمن كما فعلنا بقوم نوح عن علي بن عيسى وقيل :معناه إلى أمة بعد هؤلاء نكلفهم فيعصون فتقتضي الحكمة إهلاكهم وإقامة القيامة عن الجبائي وقيل إن الأمة المعدودة هم أصحاب المهدي (عليه السلام) في آخر الزمان ثلثمائة وبضعة عشر رجلا كعدة أهل بدر يجتمعون في ساعة واحدة كما يجتمع قزع الخريف وهو المروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليه السلام) {ليقولن}على وجه الاستهزاء {ما يحبسه}أي:أي شيء يؤخر هذا العذاب عنا إن كان حقا { أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ}أي: إن هذا العذاب الذي يستبطنونه إذا نزل بهم في الوقت المقدور لا يقدر أحد على صرفه عنهم إذا أراد الله أن يأتيهم به ولا يتمكن من إذهابه عنهم إذا أراد الله أن يأتيهم به { وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ}أي: ونزل بهم الذي كانوا يسخرون به من نزول العذاب ويحققونه .
_______________
1- تفسير مجمع البيان ،الطبرسي،ج5،ص244-246.
{وما مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها}. خلق سبحانه الأرض ، وأودع فيها ما يحتاجه كل حي يدب عليها من الذرّة والبعوضة إلى الفيل والإنسان ، وأيضا أودع في كل من دبّ القدرة على السعي لتحصيل رزقه من الأرض ، وعلى هذا يكون معنى الآية ان اللَّه قد جعل لكل حي رزقا مدخورا في الأرض ، وليس معناها ان اللَّه قدّر لكل حي رزقه الخاص به الذي لا يزيد بالسعي ، ولا ينقص بتركه ، كما توهم البعض ، قال صاحب « تفسير المنار » : « لقد زعم بعض العباد والشعراء ان الكسب وعدمه سواء ، كقول بعض الجاهلين المتواكلين غير المتوكلين :
جرى قلم القضاء بما يكون * فسيان التحرك والسكون
جنون منك ان تسعى لرزق * ويرزق في غشاوته الجنين
ان هذا الشاعر « أحق بالجنون ممن يسعى لرزقه » . وتراجع فقرة : « اللَّه أصلح الأرض والإنسان أفسدها » ج 3 من هذا التفسير ص 340 ، وفقرة :
« هل الرزق صدفة أو قدر ص 131 » ، وفقرة : « الرزق وفساد الأوضاع ص 94 » .
{ويَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها ومُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ}. المستودع المكان الذي كانت فيه قبل ان تدب على الأرض ، والمستقر الذي قرت فيه بعد الدبيب ، والكتاب المبين كناية عن أن اللَّه قد أحاط بكل شيء علما ، والمعنى ان اللَّه يوجد أسباب العيش والحياة لكل دابة ، حيث كانت وتكون لأنه قادر على كل شيء ، عالم بكل شيء .
{وهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ والأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ}. تقدم مثله مع التفسير في سورة الأعراف الآية 54 ج 3 ص 338 .
{وكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ}المراد بعرش اللَّه ملكه واستيلاؤه ، والماء معروف ، وتدل الآية على أن الماء كان موجودا قبل خلق السماوات والأرض ، أما من أين
جاء ؟ وهل كان قائما على قرار ؟ فلا نص على شيء من ذلك في آية ، أو رواية متواترة ، والعقل وحده لا يملك العلم به ، لذا نترك البحث عنه ، وكل ما قرأنا في هذا الباب لا يعدو الحدس والتخمين ، أما المادة الأولى التي وجد منها الكون فلا تفسير لها عندنا إلا قوله تعالى : كوني فكانت ، ومن أنكر هذا علينا تلونا قوله سبحانه : « لَكُمْ دِينُكُمْ ولِيَ دِينِ » .
{لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}أي ان اللَّه أودع فينا وفي الأرض ما أودع من الطاقات ليميز بين الذين يعيشون بكدّ اليمين ، والذين يعيشون على حساب المستضعفين ، فيعاقب هؤلاء على عصيانهم ويثيب أولئك على طاعتهم .
{ولَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ}. هذه الآيات كغيرها من الآيات الكثيرة التي أخبرت عن المكذبين بالبعث ، مع فارق واحد ، وهو الاخبار عنهم هنا بأنهم شبهوا الحديث عن البعث بالسحر في التمويه على الناس وخداعهم ، لينقادوا إلى طاعة النبي ، ويضمن لنفسه الرئاسة عليهم .
{ولَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ} - أي مدة مقدرة – {لَيَقُولُنَّ ما يَحْبِسُهُ}؟ وما الذي منع من وقوع العذاب علينا الآن ان كان حقا {أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ}- العذاب - {لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ}لأن بأسه تعالى لا يرد عن القوم المجرمين {وحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُونَ}أي ينزل بهم العذاب جزاء استخفافهم به ، وعدم خوفهم من اللَّه وغضبه . . وأشد الذنوب ما استخف به صاحبه ، كما قال الإمام علي ( عليه السلام ) . ومن أقواله : ان أحسن الناس ظنا باللَّه أشدهم خوفا منه .
__________________
1- التفسير الكاشف، محمد جواد مغنية،ج4، ص210-211.
قوله تعالى:{ وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا}إلى آخر الآية، الدابة 44
على ما في كتب اللغة كل ما يدب و يتحرك، و يكثر استعماله في النوع الخاص منه، وقرينة المقام تقتضي كون المراد منه العموم لظهور أن الكلام مسوق لبيان سعة علمه تعالى، ولذلك عقب به قوله:{ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}.
وهذا المعنى أعني كون ذكر وجوب رزق كل دابة على الله لبيان سعة علمه لكل دابة في جميع أحوالها يستوجب أن يكون قوله:{ وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا}بمنزلة عطف التفسير لقوله:{على الله رزقها} فيعود المعنى إلى أن كل دابة من دواب الأرض على الله أن يرزقها - ولن تبقى بغير رزق - فهو تعالى عليم بها خبير بحالها أينما كانت فإن كانت في مستقر لا تخرج منه كالحوت في الماء وكالصدف فيما وقعت واستقرت فيه من الأرض رزقها هناك وإن كانت خارجة من مستقرها وهي في مستودع ستتركه إلى مستقرها كالطير في الهواء أو كالمسافر الغارب عن وطنه أو كالجنين في الرحم رزقها هناك وبالجملة هو تعالى عالم بحال كل دابة في الأرض وكيف لا وعليه تعالى رزقها ولا يصيب الرزق المرزوق إلا بعلم من الرازق بالمرزوق وخبرة منه بما حل فيه من محل دائم أو معجل ومستقر أو مستودع.
ومن هنا يظهر أن المراد بالمستقر والمستودع المحل الذي تستقر فيه الدابة ما دامت دابة تدب في الأرض وتعيش عيشة دنيوية والمحل الذي تحل فيه ثم تودعه وتفارقه، وأما ما ذكره بعض المفسرين أن المراد بالمستقر والمستودع أماكنها في الحياة وبعد الممات أو أن المراد بهما الأصلاب والأرحام أو أن المراد بهما مساكنها من الأرض حين وجدت بالفعل ومودعها من المواد والمقار حين كانت بعد بالقوة فمعان بعيدة عن سياق الآية اللهم إلا أن يجعل قوله:{ وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا} كلاما مستأنفا بحياله غير مفسر لما قبله.
وقد تقدم في قوله تعالى:{ وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ:}الأنعام - 98 ما يناسب هذا المقام فليراجع إليه من شاء.
وأما قوله:{على الله رزقها} فهو دال على وجوب الرزق عليه تعالى وقد تكرر في القرآن أن الرزق من أفعاله تعالى المختصة به وأنه حق للخلق عليه تعالى قال تعالى:{ أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ:} الملك: - 21، وقال تعالى:{ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ:}الذاريات: - 58 وقال تعالى:{ وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ:} الذاريات: - 23.
ولا ضير في أن يثبت عليه تعالى حق لغيره إذا كان تعالى هو الجاعل الموجب لذلك على نفسه من غير أن يداخل فيه غيره، ولذلك نظائر في كلامه تعالى كما قال:{ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ:} الأنعام: - 12، وقال:{ وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ:} الروم: - 47 إلى غير ذلك من الآيات.
والاعتبار العقلي يؤيد ذلك فإن الرزق هو ما يديم به المخلوق الحي وجوده وإذ كان وجوده من فيض جوده تعالى فما يتوقف عليه من الرزق من قبله، وإذ لا شريك له تعالى في إيجاده لا شريك له في ما يتوقف عليه وجوده كالرزق.
وقد تقدم بعض الكلام في معنى الكتاب المبين في سورة الأنعام آية: 59 وفي سورة يونس آية: 61 فليراجع.
قوله تعالى:{ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ}الكلام المستوفى في توصيف خلق السماوات والأرض على ما يظهر من كلامه تعالى ويفسره ما ورد في ذلك عن أهل العصمة (عليهم السلام) موكول إلى ما سيأتي من تفسير سورة حم السجدة إن شاء الله تعالى.
وإجمال القول الذي يظهر به معنى قوله:{ستة أيام}وقوله:{وكان عرشه على الماء}هو أن الظاهر أن ما يذكره تعالى من السماوات - بلفظ الجمع - ويقارنها بالأرض ويصف خلقها في ستة أيام طبقات من الخلق الجسماني المشهود تعلو أرضنا فكل ما علاك وأظلك فهو سماء على ما قيل والعلو والسفل من المعاني الإضافية.
فهي طبقات من الخلق الجسماني المشهود تعلو أرضنا وتحيط بها فإن الأرض كروية الشكل على ما يفيده قوله تعالى:{ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا:}الأعراف - 54.
والسماء الأولى هي التي تزينه مصابيح النجوم والكواكب فهي الطبقة التي تتضمنها أو هي فوقها وتتزين بها كالسقف يتزين بالقناديل والمشاكي وأما ما فوق السماء الدنيا فلم يرد في كلامه شيء من صفتها غير ما في قوله تعالى سبع سماوات طباقا:}الملك: - 3، وقوله:{ أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا:} نوح: - 15،16 حيث يدل على مطابقة بعضها بعضا.
وقد ذكر الله سبحانه في صفة خلقها أنها كانت رتقاء ففتقها ومتفرقة متلاشية فجمعها وركمها وأنها كانت دخانا فصيرها سماوات، قال تعالى:{ أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ:}الأنبياء: - 30:{ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا:} فصلت - 12 فأفاد أن خلق السماوات إنما تم في يومين، واليوم مقدار معتد به من الزمان وليس من الواجب أن يطابق اليوم في كل ظرف ووعاء يوم أرضنا الحاصل من دورة واحدة من حركتها الوضعية كما أن اليوم الواحد في القمر الذي لهذه الأرض يعدل تسعة وعشرين يوما ونصفا تقريبا من أيام الأرض واستعمال اليوم في البرهة من الزمان شائع في الكلام.
فقد خلق الله سبحانه السماوات السبع في برهتين من الزمان كما قال في الأرض:{ خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ - إلى أن قال - وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام:}فصلت: - 10 فأنبأ عن خلقها في يومين وهما عهدان وطوران وجعل الأقوات في أربعة أيام وهي الفصول الأربعة.
فالمتحصل من الآيات أولا: أن خلق السماوات والأرض على ما هي عليه اليوم من الصفة والشكل لم يكن عن عدم بحت بل هي مسبوقة الوجود بمادة متشابهة مركومة مجتمعة ففصل بعض أجزائها عن بعض فجعلت أرضا في برهتين من الزمان وقد كانت السماء دخانا ففصلت وقضيت سبع سماوات في برهتين من الزمان.
وثانيا: أن ما نراه من الأشياء الحية إنما جعلت من الماء فمادة الماء هي مادة الحياة.
وبما قدمنا يظهر معنى الآية التي نحن فيها فقوله:{ هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} المراد بخلقها جمع أجزائها وفصلها وفتقها من سائر ما يختلط بها من المادة المتشابهة المركومة، وقد تم أصل الخلق والرتق في السماوات في يومين وفي الأرض أيضا في يومين ويبقى من الستة الأيام يومان لغير ذلك.
وأما قوله:{وكان عرشه على الماء}فهو حال والمعنى وكان عرشه يوم خلقهن على الماء وكون العرش على الماء يومئذ كناية عن أن ملكه تعالى كان مستقرا يومئذ على هذا الماء الذي هو مادة الحياة فعرش الملك مظهر ملكه، واستقراره على محل هو استقرار ملكه عليه كما أن استواءه على العرش احتواءه على الملك وأخذه في تدبيره.
وقول بعضهم: إن المراد بالعرش البناء أخذا من قوله تعالى:{مما يعرشون:}النحل: - 68 أي يبنون كلام بعيد عن الفهم.
قوله تعالى:{ليبلوكم أيكم أحسن عملا}اللام للغاية والبلاء الامتحان والاختبار، وقوله:{أيكم أحسن عملا}بيان للاختبار والامتحان في صورة الاستفهام والمراد أنه تعالى خلق السماوات والأرض على ما خلق لغاية امتحانكم وتمييز المحسنين منكم من المسيئين.
ومن المعلوم أن البلاء والامتحان أمر مقصود لغيره وهو تمييز الجيد من الردي والحسن من السيىء، وكذلك الحسنة والسيئة إنما يراد تمييزهما لأجل ما يترتب عليهما من الجزاء، وكذلك الجزاء إنما يراد لأجل ما فيه من إنجاز الوعد الحق ولذلك نجده تعالى يذكر كل واحد من هذه الأمور المترتبة غاية للخلقة فقال في كون الابتلاء غاية للخلقة:{ إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا:}الكهف: - 7، وقال في معنى التمييز والتمحيص:{ ليميز الله الخبيث من الطيب:}الأنفال: - 37، وقال في خصوص الجزاء:{ وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ:}الجاثية: - 22 وقال في كون الإعادة لإنجاز الوعد:{كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين:}الأنبياء: - 104 إلى غير ذلك من الآيات، وقال في كون العبادة غرضا في خلق الثقلين:{ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ:}الذاريات: - 56.
وعد العمل الصالح أو الإنسان المحسن غاية للخلقة لا ينافي اشتمال الخلقة على غايات أخرى بعد ما كان الإنسان أحد تلك الغايات حقيقة لأن الوحدة والاتصال الحاكم على العالم يصحح كون كل واحد من أنواع الموجودات غاية للخلقة بما أنه محصول الارتباط ونتيجة الازدواج العام بين أجزائه فمن الجائز أن يخاطب كل نوع من أنواع الخليقة أنه المطلوب المقصود من خلق السماوات والأرض بما أنها تؤدي إليه.
على أن الإنسان أكمل وأتقن المخلوقات الجسمانية من السماوات والأرض وما فيهما صنعا ولئن نمى في جانب العلم والعمل نماء حسنا كان أفضل ذاتا مما سواه وأرفع مقاما وأعلى درجة من غيره وإن كان بعض الخليقة كالسماء أشد منه خلقا كما ذكره الله تعالى ومن المعلوم أن كمال الصنع هو المقصود منه إذا اشتمل على ناقص ولذا كنا نعد مراحل وجود الإنسان المختلفة من المنوية والجنينية والطفولية وغيرها مقدمة لوجود الإنسان السوي الكامل وهكذا.
وبهذا البيان يظهر أن أفضل أفراد الإنسان - إن كان فيهم من هو أفضل مطلقا - غاية لخلق السماوات والأرض، ولفظ الآية أيضا لا يخلو عن إشارة أودلالة على ذلك فإن قوله:{أيكم أحسن عملا}يفيد أن القصد إلى تمييز من هو أحسن عملا من غيره سواء كان ذلك الغير محسنا أو مسيئا فمن كان عمله أحسن من سائر الأفراد سواء كانوا محسنين و أعمالهم دون عمله أو مسيئين كان تمييزه منهم هو الغرض المقصود من الخلقة، وبذلك يستصح ما ورد في الحديث القدسي من خطابه تعالى لنبيه (صلى الله عليه وآله وسلم):{لولاك لما خلقت الأفلاك}فإنه (صلى الله عليه وآله وسلم) أفضل الخلق.
وفي المجمع،: قال الجبائي: وفي الآية دلالة على أنه كان قبل خلق السماوات والأرض والملائكة لأن خلق العرش على الماء لا وجه لحسنه إلا أن يكون فيه لطف لمكلف يمكنه الاستدلال به فلا بد حينئذ من حي مكلف، وقال علي بن عيسى: لا يمتنع أن يكون في الإخبار بذلك مصلحة للمكلفين فلا يجب ما قاله الجبائي وهو الذي اختاره المرتضى قدس الله روحه. انتهى.
أقول: وما ذكراه مبنى على ما ذهب إليه المعتزلة: أن أفعال الله سبحانه معللة بالأغراض وتابعة للمصالح وجهات الحسن ولو كان ذلك بأن يخلق خلقا ليخبر بذلك المكلفين فيعتبروا به ويؤمنوا له فيتم بذلك مصلحة من مصالحهم، وقد تقدم في أبحاثنا السابقة أن الله سبحانه لا يحكم عليه ولا يؤثر فيه غيره سواء كان ذلك الغير مصلحة أوأي شيء آخر مفروض وأن غيره أي شيء فرض مخلوق له مدبر بأمره إن كان أمرا ذا واقعية ووجود إن الحكم إلا لله والله خالق كل شيء.
فجهات الحسن والمصلحة وهي التي تحكم علينا وتبعثنا نحو أفعالنا أمور خارجة عن أفعالنا مؤثرة فينا من جهة كوننا فاعلين نروم بها إلى سعادة الحياة، وأما هو سبحانه فإنه أجل من ذلك.
وذلك أن جهات الحسن والمصلحة هذه إنما هي قوانين عامة مأخوذة من نظام الكون والروابط الدائرة بين أجزاء الخلقة، ومن الضروري أن الكون وما فيه من النظام الجاري فعله سبحانه، ومن الممتنع جدا أن يتقدم المفهوم المنتزع على ما انتزع منه من الفعل ثم يتخطاه ولا يقنع حتى يتقدم على فاعله الموجد له.
وأما ما في الآية من تعليل خلق السماوات والأرض بقوله:{ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا }ونظائره الكثيرة في القرآن فإنما هو وأمثاله من قبيل التعليل بالفوائد المترتبة والمصالح المتفرعة وقد أخبر تعالى أن فعله لا يخلو من الحسن إذ قال:{ الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ:}الم السجدة: - 7، فهو سبحانه هو الخير لا شر فيه وهو الحسن لا قبح عنده وما كان كذلك لم يصدر عنه شر ولا قبيح البتة.
وليس مقتضى ما تقدم أن يكون معنى الحسن هو ما صدر عنه تعالى أوالذي أمر به وإن استقبحه العقل، ومعنى القبيح هو ما لا يصدر عنه أوالذي نهى عنه وإن استحسنه العقل واستصوبه فإن ذلك يأباه أمثال قوله تعالى:{ قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ:}الأعراف: - 28.
قوله تعالى:{ وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ}لما كان قوله:{ليبلوكم}إلخ، يشير إلى المعاد أشار إلى ما كان يواجه به الكفار ذكره (صلى الله عليه وآله وسلم) للمعاد برميه بأنه سحر من القول.
فظاهر الآية أنهم كما كانوا يسمون لفظ القرآن الكريم بما فيه من الفصاحة وبلاغة النظم سحرا، كذلك كانوا يسمون ما يخبر به القرآن أوالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من حقائق المعارف التي لا يصدقه أحلامهم كالبعث بعد الموت سحرا، وعلى هذا فهو من مبالغتهم في الافتراء على كتاب الله والتعنت والعناد مع الحق الصريح حيث تعدوا عن رمي اللفظ لفصاحته وبلاغته بالسحر إلى رمي المعنى لصحته واستقامته بالسحر.
ومن الممكن أن يكون المراد بالسحر المغالطة والتمويه بإظهار الباطل في صورة الحق على نحو إطلاق الملزوم وإرادة اللازم لكن لا يلائمه ظاهر قوله تعالى في نظير المورد:{قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون سيقولون لله قل فأنى تسحرون:}المؤمنون: - 89.
قوله تعالى:{ وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ }إلى آخر الآية.
اللام في صدر الآية للقسم ولذلك أكد الجواب أعني قوله:{ليقولن}باللام والنون والمعنى: وأقسم لئن أخرنا عن هؤلاء الكفار ما يستحقونه من العذاب قالوا مستهزءين: ما الذي يحبس هذا العذاب الموعود عنا ولما ذا لا ينزل علينا ولا يحل بنا.
وفي هذا إشارة أو دلالة على أنهم سمعوا من كلامه تعالى أومن كلام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ما يوعدهم بعذاب لا محيص منه وإن الله أخر ذلك تأخيرا رحمة لهم فاستهزءوا به وسخروا منه بقولهم:{ما يحبسه}ويؤيده قوله تعالى عقيب ذلك:{ألا يوم يأتيهم ليس مصروفا عنهم}إلخ.
وبهذا يتأيد أن السورة - سورة هود - نزلت بعد سورة يونس لمكان قوله تعالى فيها:{ولكل أمة رسول فإذا جاء رسولهم قضي بينهم بالقسط}إلى آخر الآيات.
وقوله:{إلى أمة معدودة}الأمة الحين والوقت كما في قوله تعالى:{وقال الذي نجا منهما وادكر بعد أمة:}يوسف: - 45 أي بعد حين ووقت.
وربما أمكن أن يراد بالأمة الجماعة فقد وعد الله سبحانه أن يؤيد هذا الدين بقوم صالحين لا يؤثرون على دينه شيئا ويمكن عند ذلك للمؤمنين دينهم الذي ارتضى لهم قال:{فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم:}المائدة: - 54، وقال:{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا:}النور: - 55، وهذا وجه لا بأس به.
وقيل: إن المراد بالأمة الجماعة وهم قوم يأتي الله بهم بعد هؤلاء فيصرون على الكفر فيعذبهم بعذاب الاستئصال كما فعل بقوم نوح، أو هم قوم يأتون بعد هؤلاء فيصرون على معصية الله فتقوم عليهم القيامة.
والوجهان سخيفان لبنائهما على كون المعذبين غير هؤلاء المستهزءين من الكفار وظاهر قوله تعالى:{ألايوم يأتيهم}إلخ، إن المعذبين هم المستهزءون بقولهم:{ما يحبسه}.
وقوله:{أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ}بمنزلة الجواب عن قولهم:{ما يحبسه}الواقع موقع الاستهزاء فإنه في معنى الرد على ما أوعدوا به من العذاب، ومحصله أن هذا العذاب الذي يهددنا لوكان حقا لم يكن لحبسه سبب فإنا كافرون غير عادلين عن الكفر ولا تاركين له فتأخر نزول العذاب من غير موجب لتأخره بل مع الموجب لتعجيله كاشف عن كونه من قبيل الوعد الكاذب.
فأجاب الله عن ذلك بأنه سيأتيهم ولا يصرفه يومئذ عنهم صارف ويحيق بهم هذا العذاب الذي كانوا به يستهزءون.
وبما تقدم يظهر أن هذا العذاب الذي يهددون به عذاب دنيوي سيحيق بهم وينزل عليهم دون عذاب الآخرة، وعلى هذا فهذه الآية والتي قبلها يذكر كل منهما شيئا من ما تهوس به الكفار بجهالتهم فالآية السابقة تذكر أنهم إذا ذكر لهم البعث وأنذروا بعذاب يوم القيامة قالوا: إن هذا إلا سحر مبين، وهذه الآية تذكر أن الله إذا أخر عنهم العذاب إلى أمة وأخبروا بذلك قالوا مستهزءين: ما يحبسه.
_________________
1- تفسير الميزان ،الطباطبائي،ج10،ص114-121.
جميع الاحياء ضيوف مأدبته:
الآية السابقة أشارت إِلى سعة علم الله وإِحاطته بالسر وما يخفون وما يعلنون، والآية محل البحث تُعدّ دليلا على تلك الآية المتقدمة، فإِنّها تتحدث عن الرازق لجميع الموجودات ولايمكن يتمّ ذلك إلاّ بالإحاطة الكاملة بجميع العالم وما فيه ..
تقول الآية{ وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا} ويعلم تقلّبها وتنقلها من مكان لآخر، وحيثما كانت فإِنّ الرزق يصل إِليها منه.
وهذه الحقائق مع جميع حدودها ثابتة في كتاب مبين ولوح محفوظ في علم الله{كلُّ في كتاب مبين}.
تقسيم الأرزاق والسعي من أجل الحياة!
هناك أبحاث مهمّة في مسألة «الرزق»، ونأخذ بنظر الإِعتبار ـ هنا ـ قسماً منها: 1 ـ «الرزق» ـ كما قلنا آنفاً ـ يعني في اللغة العطاء المستمر والدائم، وهو أعم من أن يكون رزقاً ماديّاً أو معنوياً .. فعلى هذا كل ما يكون فيه نصيب للعباد من قبل الله وينتفعون منه ـ من مواد غذائية ومسكن وملبس أو علم وعقل وفهم وإِيمان وإِخلاص ـ يسمى رزقاً، ومن ظنّ أن مفهوم الرزق خاص بالجوانب المادّية لم يلتفت إِلى موارد استعماله في القرآن الكريم بدقة .. فالقرآن يتحدث عن الشهداء في سبيل الله بأنّهم ..{أحياء عند ربّهم يرزقون}(ال عمران،169).
وواضح أن رزق الشهداء ـ في عالم البرزخ ـ ليس نعمّا مادية، بل هو عبارة عن المواهب المعنوية التي يصعب علينا تصوّرها في هذه الحياة المادية.
2 ـ مسأله تأمين الحاجات بالنسبة للموجودات الحية ـ وبتعبير آخر تأمين رزقها ـ من المسائل المثيرة التي تنكشف أسرارها بمرور الزمان وتَقدُّم العلم .. وتظهر كل يوم ميادين جديدة تدعو للتعجب والدهشة.
كان العلماء في الماضي يتساءلون فيما لو كان في أعماق البحار موجودات حيّة، فمن أين يتم تأمين غذائها؟! إِذْ أنّ أصل الغذاء يعود إِلى النباتات والحشائش، وهي تحتاج إِلى نور الشمس، ولكن على عمق 700 متر فصاعداً لا وجود لنور الشمس أبداً، بل ليل أبدي مظلم يلقي ظلاله ويبسط أسداله هناك.
ولكن اتّضح بتقدم العلم أن نور الشمس يُغذّي النباتات المجهرية في سطح الماء وبين الأمواج، وحين تبلغ مرحلة النضج تهبط إِلى أعماق البحر كالفاكهة الناضجة، وتنظم الى الارزاق الإلهية للاحياء في تلك الاعماق، مائدة نعمة الله للموجودات الحية تحت الماء !
ومن جهة أُخرى فهناك طيور كثيرة تتغذى من أسماك البحر، منها طيور تطير في الليل وتهبط الى البحر كالغواص الماهر وعن طريق أمواج رادارية خاصّة تخرج من آنافها تعرف صيدها وتصطاده بمنقارها.
ورزق بعض أنواع الطيور يكون مُدّخراً بين ثنايا أسنان حيوانات بحرية كبيرة هذا النوع من الحيوانات بعد أن يتغذى من حيوانات البحر، تحتاج أسنانه إِلى «منظف طبيعي» فيأتي إِلى ساحل البحر ويفتح فمه الواسع فتدخل هذه الطيور التي أُدّخر رزقها في فم هذا الحيوان الضخم ـ دون وحشة ولا اضطراب ـ وتبحث عن رزقها بين ثنايا أسنان هذا الحيوان الكبير، فتملأ بطونها من جهة، وتريح الحيوان الذي تزدحم بين أسنانه «هذه الفضلات» من جهة أُخرى .. وحين تخرج الطيور وتطير في الفضاء يطبق هذا الحيوان البحري فمه بكل هدوء ويعود إِلى أعماق البحر.
طريقة إِيصال الرزق من الله تعالى إِلى الموجودات المختلفة مذهلة ومحيرة حقّاً. من الجنين الذي يعيش في بطن أُمّه ولا يعلم أحد أسراره شيئاً، إِلى الحشرات المختلفة التي تعيش في طيّات الأرض، وفي الأشجار وعلى قمم الجبال أو في أعماق البحر، وفي الأصداف .. جميع هذه الموجودات يتكفل الله برزقها ولا تخفي على علمه، وكما يقول القرآن{... على الله رزقها ويعلم مستقرّها ومستودعها}.
الطريف في الآيات آنفة الذكر أنّها تعِّبُر عن الموجودات التي تطلب الرزق بـ «الدّابّة» وفيها إِشارة لطيفة إلى العلاقة بين موضوع «الطاقة» و«الحركة». ونعلم أنّه حيثما تكن حركة فلابدّ لها من طاقة، أيْ ما يكون منشأً للحركة، والقرآن الكريم يبيّن ـ في الآيات محل البحث ـ أنّ الله يرزق جميع الموجودات المتحركة، وإِذا ما توسعنا في معنى الحركة فإنّ النباتات تندرج في هذا الأمر أيضاً، لأنّ للنباتات حركة دقيقة وظريفة في نموها، ولهذا عدّوا في الفلسفة الاسلامية موضوع «النمو» واحداً من أقسام الحركة ...
3 ـ هل أنّ رزق كلّ أحد مقدر ومعين من أوّل عمره إِلى آخره، وهل أنّه يصل إليه شاء أم أبى؟! أم أنّ عليه يسعى في طلبه؟
يظنّ بعض الأفراد السذّج استناداً إِلى الآية آنفة الذكر، وإِلى بعض الرّوايات التي تذكر أنّ الرزق مقدر ومعين، أنّه لا داعي للسعي من أجل الرزق والمعاش، فإِنّه لابدّ من وصول الرزق، ويقول بكل بساطة: إِنّ من خلق الأشداق قدّر لها الأرزاق.
إِنّ سلوك مثل هؤلاء الأفراد الذين لاحظّ لهم من المعرفة الدينية يعطي ذريعة الى الاعداء حيث يدّعون أن الدين أحد عوامل الركود الإِقتصادي وتقبل الحرمان وإماتة النشاطات الإِيجابيّة في الحياة، فيقول مثلا: إِذا لم تكن الموهبة الفلانية من نصيبي فإِنّها لم تكن من رزقي قطعاً .. فلو كانت من نصيبي لوصلتني حتماً من دون تكلف عناء الكسب. وبهذا يستغل المستعمرون هذه الفرصة ليحرموا الكثير من الخلق التمتع بأسباب الحياة ... في حين أن أقل معرفة بالقرآن والأحاديث الإِسلامية تكفي في بيان أنّ الإِسلام يعدّ أساس أي استفادة مادية ومعنوية للإِنسان هو السعي والجد والمثابرة، حتى أنّنا نجد في القرآن جملة بمثابة الشعار لهذا الموضوع، وهي الآية الكريمة{ليس للإِنسان إلاّ ماسعى}.(النجم،39)
وكان أئمّة المسلمين ـ ومن أجل أن يسنّوا للآخرين نهجاً يسيرون عليه ـ يعملون في كثير من المواقع أعمالا صعبة ومجهدة.
والأنبياء السابقون ـ أيضاً ـ لم يُستثنوا من هذا القانون، فكانوا يعملون على الاكتساب، من رعي الأغنام إِلى الخياطة إِلى نسج الدروع إِلى الزراعة. فإِذا كان مفهوم الرزق من الله أن نجلس في البيت وننتظر الرزق، فما كان ينبغي للأنبياء والأئمّة ـ الذين هم أعرف بالمفاهيم الدينية ـ أن يسعوا هذا السعي إِلى الرزق!
وعلى هذا نقول: إِنّ رزق كل أحد مقدّر وثابت، إلاّ أنّه مشروط بالسعي والجد، وإِذا لم يتوفر الشرط لم يحصل المشروط. وهذا كما نقول: إِن لكلّ فرد أجلا ومدة من العمر. ولكن من المسلم والطبيعيّ أن مفهوم هذا الكلام لا يعني أنّ الإِنسان حتى لو أقدم على الإِنتحار أو أضرب عن الطعام فإِنّه سيبقى حيّاً إِلى أجل معيّن !! إِنّما مفهوم هذا الكلام أن للبدن استعداداً للبقاء إِلى مدّة معينة ولكن بشرط أن يراعي الظروف الصحيّة وأن يبتعد عن الأخطار، وأن يجنّب نفسه عمّا يكون سبباً في تعجيل الموت.
المسألة المهمّة في هذا المجال أنّ الآيات والرّوايات المتعلقة بتقدير الرزق ـ في الواقع ـ بمثابة الكابح للاشخاص الحريصين وعبّاد الدنيا الذين يلجون كل باب، ويرتكبون أنواع الظلم والجنايات، ويتصورون أنّهم إِذا لم يفعلوا ذلك لم يؤمنوا حياتهم!
إِنّ آيات القرآن والأحاديث الإِسلامية تحذر هذا النمط من الناس ألاّ يمدّوا أيديهم وأرجلهم عبثاً، وألاّ يطلبوا الرزق من طرق غير مشروعة ولا معقولة، بل يكفي أن يسعوا لتحصيل الرزق عن طريق مشروع، والله سبحانه يضمن لهم الرزق فالله الذي لم ينسهم في ظلمة الرحم.
الله الذي تكفّل رزقهم أيّام الطفولة حيث هيأ لهم أثداء الأمّهات
الله الذي جعل الأب يسعى من الصباح إِلى الليل ليهيء لهم الغذاء بكل عطف وشفقة ـ بعد أن أنهوا مرحلة الرضاعة ـ وهو مسرور بالتعب من أجلهم ...
أجل، هذا الرّب الرحيم كيف يمكن أن ينسى الإِنسان إِذا ما كبر ووجد القدرة على العمل والكسب.
تُرى هل يجيز الإِيمان والعقل أن يلجأ الإِنسان إِلى الظلم والإِثم والتجاوز على حقوق الآخرين ويحرص على غصب حقوق المستضعفين بمجرّد أنّه يظن عدم توفر رزقه؟
وبالطبع لا يمكن أن ننكر أن بعض الأرزاق تصل إِلى الإِنسان سعى لها أم لم يسع. فهل يمكن أن ننكر أن نور الشمس يضيء في بيتنا من دون سعينا، وأن المطر والهواء يصلان إِلينا دون سعي منّا؟
وهل يمكن أن ننكر أنّ العقل والفكر والإِستعداد المذخور فينا من أوّل يوم وجودنا لم يكن بسعينا؟!
ولكن هذه المواهب التي تنقلها إِلينا الريح ـ كما يقال ـ أو بتعبير أصحّ هذه المواهب التي وصلتنا بلطف الله ومن دون سعينا، إِذا لم نحافظ عليها بالجد والسعي بطريقة صحيحة فستضيع من أيدينا، أو أنّها ستبقى بلا أثر!
هناك كلام معروف منقول عن الإِمام علي(عليه السلام) في شأن الرزق فيقول «واعلم يا بني أن الرزق رزقان، رزق تطلبه ورزق يطلبك»(2) وفي هذا الكلام إِشارة إِلى هذه الحقيقة.
كما لا ينكر أن بعض موارد الرزق لا يأتي تبعاً لشيء ظاهر وملموس، بل يصلنا على أثر سلسلة من الإِتفاقات والمصادفات، هذه الحوادث وإِن كانت في نظرنا مصادفات، إلاّ أنّها في الواقع وفي نظام الخلق قائمة على حساب دقيق. ولاشك أن حساب هذا النوع من الرزق منفصل عن الأرزاق التي تأتي تبعاً للجد والسعي، والكلام آنف الذكر يمكن أن يشير إلى هذا المطلب أيضاً.
ولكن على كل حال ـ فإِن النقطة الأساسية هنا أنّ جميع التعاليم الإِسلامية تأمرنا أن نسعى أكثر فأكثر لتأمين نواحي الحياة المادية والمعنوية، وأن الفرار من العمل ـ بزعم أن الرزق مقسوم وأنّه آت لا محالة ـ غير صحيح! ..
4 ـ في الآيات المتقدمة ـ التي هي محل البحث ـ إِشارة إِلى «الرزق» فحسب، وبعدها ببضعة آيات يأتي التعبير عن التائبين والمؤمنين ويشار فيها إِلى «المتاع الحسن».
وبالموازنة والمقارنة بين هذين الأمرين يدلنا هذا الموضوع على أن الرزق معدّ لكل دابة من إنس وحشرات وحيوانات مفترسة ... الخ. وللمحسنين والمسيئين جميعاً! ... إِلاّ أن «المتاع الحسن» والمواهب الجديرة والثمينة خاصّة بالمؤمنين الذين يطهرون أنفسهم من كل ذنب وتلوّث بماء التوبة، ويتمتعون بنعم الله في مسير طاعته، لا في طريق الهوى والهوس!
الهدف من الخَلق:
في هذه الآية بُحثت ثلاث نقاط أساسية:
المطلب الأوّل: يبحث عن خلق عالم الوجود ـ وخصوصاً بداية الخلق ـ الذي يدل على قدرة الله وعظمته سبحانه{ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ...}.
ولا حاجة لبيان أنّ المقصود من كلمة «اليوم» في هذه الآية ليس هو اليوم العادي الذي هو مجموع أربع وعشرين ساعة، لأنّ الأرض والسماء لم تكونا موجودتين حينئذ .. فلا الكرة الأرضية كانت موجودة، ولا حركتها حول نفسها التي تُنتج أربعاً وعشرين ساعة .. بل المقصود منه ـ كما بينا سابقاً ـ هو الزمان،سواء كان قصيراً أو مديداً جداً بحيث يبلغ مليارات السنوات مثلا، وقد نبهنا على هذا المعنى ـ في ذيل الآية (54) من سورة الأعراف ـ بشرح واف في هذا المجال، فلا حاجة للتكرار والإِعادة.
وذكرنا هُناك أن خلق العالم كان في ستة أزمنة متوالية ومتتابعة، مع أنّ الله قادر على أن يخلق العالم كلّه في لحظة واحدة، وذلك لأنّ الخلق التدريجي يعطي صورة جديدة ولوناً جديداً وشكلا بديعاً وتتبيّن قدرة الله وعظمته أكثر وأحسن.
فهو يريد أن يبيّن قدرته في آلاف الصور لا بصورة واحدة، وحكمته في آلاف الثياب لا بثوب واحد، لتتيسر معرفته وكذلك معرفة حكمته وقدرته للناس، ولنجد الدلائل ـ من خلال عدد الأيّام والسنوات والقرون والأعصار التي مرّت على العالم ـ على معرفة الله!.. ثمّ يضيف سبحانه أن عرشه كان على الماء{ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ}.
ومن أجل أن نفهم تفسير هذه الجملة ينبغي أن نفهم المراد من كلمتي «العرش» و«الماء».
«فالعرش» في الأصل يعني السقف أو ما يكون له سقف، كما يطلق على الأسرّة العالية كأسّرة الملوك والسلاطين الماضين، ويطلق أيضاً على خشب بعض الأشجار، وغير ذلك.
ولكن هذه الكلمة استعملت بمعنى القدرة أيضاً ويقال «استوى فلان على عرشه» كناية عن بلوغه القدرة كما يقال «ثُلَّ عرش فلان» كنايةً عن ذهاب قدرته(3).
كما ينبغي الإِلتفات إِلى هذه الدقيقة، وهي أن العرش يطلق أحياناً على عالم الوجود، لأنّ عرش قدرة الله يستوعب جميع هذا العالم.
وأمّا «الماء» فمعناه معروف، وهو السائل المستعمل للشرب والتطهير، إِلاّ أنّه قد يطلق على كل سائل مائع كالفلزّات المائعة وما أشبه ذلك، وبضميمة ما قلناه في تفسير هاتين الكلمتين يستفاد أنّه في بدايه الخلق كان الكون بصورة مواد ذائبة «مع غازات مضغوطة للغاية، بحيث كانت على صورة مواد ذائبة أو مائعة».
وبعدئذ حدثت اهتزازات شديدة وانفجارات عظيمة في هذه المواد المتراكمة الذائبة، وأخذت تتقاذف أجزاء من سطحها إِلى الخارج، وأخذ هذا الوجود المترابط بالإِنفصال. ثمّ تشكلت بعد ذلك الكواكب السيّارة والمنظومات الشمسية والأجرام السماوية.
فعلى هذا نقول: إِنّ عالم الوجود ومرتكزات قدرة الله كانت مستقرة بادىء الأمر على المواد المتراكمة الذائبة، وهذا الأمر هو نفسه الذي أشير إِليه في الآية (30) من سورة الأنبياء.
{أوَ لم يرَ الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقاً ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شيء حي ...}.
وفي الخُطبة الأُولى من نهج البلاغة إِشارات واضحة إِلى هذا المعنى ..
والمطلب الثّاني: الذي تشير إِليه الآية ـ آنفة الذكر ـ هو الهدف من خلق الكون، والقسم الأساس من ذلك الهدف يعود للإِنسان نفسه الذي يمثل ذورة الخلائق .. هذا الإِنسان الذي كتب عليه أن يسير في طريق التعليم والتربية ويشقّ طريق التكامل نحو الله تعالى
يقول الله سبحانه:{ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} أي ليختبركم ويمتحنكم أيّكم الأفضل والأحسن عملا بهذه الدار الدنيا.
«ليبلوكم» كلمة مشتقّة من مادة «البلاء» و«الإِبتلاء» ومعناها ـ كما أشرنا إِليه آنفاً ـ الإِختبار والإِمتحان..
والإِمتحانات الإِلهية ليست من قبيل معرفة النفس وكشف الحالة التي عليها الإِنسان في محتواه الداخلي وفي فكره وروحه، بل بمعنى التربية (تقدم شرح هذا الموضوع في ذيل الآية 155 من سورة البقرة) والطريف في هذه الآية أنّها تجعلقيمة كل إِنسان بحسن عمله لا بكثرة عمله، وهذا يعني أن الإِسلام يستند دائماً إِلى الكيفية في العمل لا إِلى الكثرة والكمية فيه.
وفي هذا المجال ينقل عن الإِمام الصادق(عليه السلام) أنّه قال «ليس يعني أكثركم عملا ولكن أصُوَبكم عملا، وإِنّما الإِصابة خشية الله والنيّة الصادقة. ثمّ قال: الإِبقاء على العمل حتى يخلص أشدّ من العمل، والعمل الخالص الذي لا تريد أن يحمدك عليه أحد إِلاّ الله عزَّوجلّ»(4).
والمطلب الثّالث: الذي تشير إِليه الآية آنفة الذكر ـ هو مسألة المعاد الذي لا ينفصل ولا يتجزأ عن مسألة خلق العالم، وفيها بيان الهدف من الخلق وهو تكامل الإِنسان وتكامل الإِنسان يعني التهّيؤ إِلى الحياة في عالم أوسع وأكمل، ولذلك يقول سبحانه:{ وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ}.
وكلمة «هذا» التي وردت ـ في الآية آنفة الذكر ـ على لسان الكفار، إِشارة إِلى كلام النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) في شأن المعاد .. أي إِنّ ما تدّعيه أيّها النّبي في شأن المعاد سحر مكشوف وواضح، فعلى هذا تكون كلمة السحر هنا بمعنى الكلام العاري عن الحقيقة، والقول الذي لا أساس له، وبتعبير بسيط: الخدعة والسخرية !! لأنّ السَحَرة يُظهرون للناظرين بأعمالهم أُموراً لا واقع لها، ولهذا قد تطلق كلمة السحر على كل أمر عار عن الحقيقة ..
أمّا من يرى بأنّ «هذا» إِشارة إِلى القرآن المجيد، لأنّ القرآن أخّاذ وفيه جاذبية السحر فإنّه يجانب الصواب، لأنّ الآية تتكلم عن المعاد ولا تتكلم عن القرآن، وإِن كنّا لا ننكر أنّ القرآن فيه جاذبية وأنّه أخّاذ للغاية.
استيعاب المؤمنين وعدم استيعاب غيرهم:
في هذه الآيات ـ وبمناسبة البحث السابق عن غير المؤمنين ـ بيان لزوايا الحالات النفسية ونقاط الضعف في أخلاق هؤلاء الأفراد والتي تجبر الإِنسان إِلى هاوية الظلام والفساد.
وأوّل صفة تذكر لهؤلاء هي السخرية من الحقائق وعدم الإِكتراث بها وبالمسائل المصيرية، فهؤلاء بسبب جهلهم وعدم معرفتهم وغرورهم ـ حين يسمعون تهديد الانبياء في مؤاخذة المسيئين ومعاقبتهم، ثمّ تمرّ عليهم عدّة أيّام يؤخر الله تعالى بلطفه فيها العذاب عنهم، نراهم يقولون باستهزاء مبطن: ما السبب في تأخرّ العذاب الالهي، و أين عقاب الله:{ وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ }.
و «الأُمّة» مشتقّة من مادة «أمّ» وهي بمعنى الوالدة، ومعناها في الأصل انضمام الأشياء بعضها إِلى بعض، ولذلك يقال لكل مجموعة على هدف معين، أو زمان أو مكان واحد «أمة».
وقد جاءت هذه الكلمة بمعنى الوقت والزمان أيضاً، لأنّ أجزاء الزمان مرتبطة بعضها ببعض، أو لأنّ المجموعة أو الجماعة تعيش في عصر وزمان معين، فنحن نقرأ في سورة يوسف(عليه السلام) الآية (45) مثلا{وادّكر بعد أُمّة} ..
ففي الآية ـ محل البحث ـ كلمة «الأُمّة» جاءت بهذا المعنى، ولذلك وصفت بكلمة «معدودة» فمعنى الآية هو: إِذا أخرنا عن هؤلاء العذاب والمجازاة لمدّة قصيرة قالوا: أي شيء يمنعه؟! ..
وعلى كل حال، فهذه عادة الجاهلين والمغترين، فكلّما وجدوا شيئاً لا ينسجم مع ميولهم وطباعهم عدّوه سخرية، لذلك يتخذون التهديدات والنذر التي توقظ أصحاب الحق وتهزهم .. يتخذونها هزواً ويسخرون منها شأنهم شأن من يلعب بالنّار.
لكن القرآن يحذرهُم وينذرهم بصراحة في ردّه على كلامهم، ويبين لهم أن لا دافع لعذاب الله إِذا جاءهم{ألا يوم يأتيهم ليس مصروفاً عنهم} وأن الذين يسخرون منه واقع بهم ومدمّرهم{ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ}.
أجل، ستصعد صرخاتهم إِلى السماء في ذلك الحين، ويندمون على كلماتهم المخجلة، لكن لا صرخاتهم تغنيهم وتنقذهم، ولا هذا الندم ينفعهم، ولات حين مندم.
_____________________
1- تفسير الامثل ،مكارم الشيرازي ،ج6،ص16-27.
2- نهج البلاغة ،الرسالة 31.
3- قد يطلق «العرش» ويراد به «الكرسي» وله مفهوم آخر وقد بيّناه في ذيل الآية (225) من سورة البقرة.
4- تفسير البرهان، الجزء الثّاني، ص 207.أصول الكافي،ج2،ص16،ح4.
|
|
"عادة ليلية" قد تكون المفتاح للوقاية من الخرف
|
|
|
|
|
ممتص الصدمات: طريقة عمله وأهميته وأبرز علامات تلفه
|
|
|
|
|
الأمين العام للعتبة العسكرية المقدسة يستقبل معتمد المرجعية الدينية العليا وعدد من طلبة العلم والوجهاء وشيوخ العشائر في قضاء التاجي
|
|
|