نشأ النحو أول أمره صغيرا، شأن كل كائن، فوضع أبو الأسود منه ما أدركه عقله، ونفذ إليه تفكيره، ثم أقره الإمام على ما وضعه وأشار عليه أن يقتفيه، فقام بما عهد إليه خير قيام، ولم يهتد بحث العلماء إلى يقين فيما وضعه أبو الأسود أولا على ما سلف تفصيلا، وكانت هذه النهضة الميمونة بالبصرة التي كان في أهلها ميل بالطبيعة إلى الاستفادة من هذا الفن اتقاء لوباء اللحن الزاري بصاحبه وخاصة الموالي الذين كانوا أحوج الناس حينذاك إلى تلقي هذا العلم رغبة منهم في تقويم لسانهم وتخليصه من رطانة العجمة، وحبا في معرفة لغة الدين الذي اعتنقوه، وطمعا في رفع قدرهم بين العرب، فصدقت عزيمتهم في دراسته والتزيد منه، وما انفكوا جادين فيه بعدئذ حتى نبغ منهم كثير قاموا بأوفى قسط في هذا العلم، وقادوا حركته العلمية. قال المبرد "مر الشعبي بقوم من الموالي يتذاكرون النحو فقال: لئن أصلحتموه إنكم لأول من أفسده"(1)، فكان منهم علماؤه المبرزون دراسة وتأليفا حتى أشير إليه ردحا من الزمن أنه علم الموالي.
فلأبي الأسود الفضل الوافر في بدء الغرس الذي نما وترعرع وازدهر على كر الزمان بإضافة اللاحق إلى السابق ما استدركه وما ابتدعه، فازداد فيه التدوين والتصنيف شيئا فشيئا، غير أن هذا العلم لم تطل عليه الأيام كسائر الفنون فاكتمل وضعه قبلها، والباعث على النشاط فيه والسرعة شعور العرب بالحاجة إليه قبل كل علم، فإن الفتوحات الإسلامية متوالية في الأمصار، والعرب متدفقون عليها، والامتزاج مستحكم بينهم وبين من دخلوا في حوزتهم وعثير2 اللحن منتشر أقذى الأبصار، فهب العلماء لا يلوون على شيء منكمشين في تدوينه فكان يسير بخطا فسيحة تبشر بالأمل القوي العاجل حتى نضج ودنا جناه، فتم وضعه في العصر الأموي دون سائر العلوم اللسانية.
وما استهل العصر العباسي إلا وهو يدرس دراسة واسعة النطاق في العراقين "البصرة
ص20
والكوفة" وكمل وأوفى على الغاية في بغداد ولما ينقض العصر العباسي الأول وذلك قبل تمام القرن الثالث الهجري.
ولقد تلمسنا تعرف المراحل التي اجتازها هذا العلم طبقا لنواميس النشوء فلكل علم أطوار يمر بها كما يمر الحي بأطوار الحياة وليدا وناشئا وشابا وكهلا في كثير من الكتب التي يخال فيها التعرض لذلك فما وقفنا على ما يشفي الغلة وينير السبيل، فلاح لنا بعد إنعام الفكرة وإطالة النظرة أن نجعل الصلة بين هذه المراحل وبين العلماء القائمين بأمر هذا الفن إذ كان على أيديهم ما نقله من طور إلى آخر.
روى لنا التاريخ أن البصريين هم الذين وضعوه وتعهدوه بالرعاية قرابة قرن، كانت فيه الكوفة منصرفة عنه بما شغلها من رواية الأشعار والأخبار، والميل إلى التندر بالطرائف من الملح والنوادر، ثم تكاتف الفريقان على استكمال قواعده، واستحثهما التنافس الذي جد بينهما واستحرت ناره ردحا من الدهر ينيف على مائة سنة، خرج بعدها هذا الفن تام الأصول، كامل العناصر، وانتهى الاجتهاد فيه، وحينذاك التأم عقد الفريقين في بغداد، فنشأ المذهب البغدادي الذي عماده الترجيح بين الفريقين.
ثم شع نور هذا العلم في سائر البلاد الإسلامية التي احتفظت به بعد أن دالت دولة بغداد العلمية، وفي طليعتها الأندلس في عصرها الزاهر، ومصر المعزية والشام وما يتاخمها.
أطوار النحو الأربعة
وعلى ضوء هذا التاريخ قد اعتبرنا أطواره أربعة: طور الوضع والتكوين "بصري"، طور النشوء والنمو "بصري، كوفي"، طور النضوج والكمال "بصري، كوفي"، طور الترجيح والبسط في التصنيف "بغدادي وأندلسي ومصري وشامي".
على أنه ليس في الاستطاعة وضع حد توقيتي ينفصل به كل طور عما يسبقه أو يعقبه، فإن الأطوار لا بد من تداخلها، وسريان بعض أحكام سابقها على لاحقها، كما أنه لا مناص من تسرب شيء مما في تاليها على بادئها، فغير ممكن أن يوجد الطور دفعيا وإنما تلده المؤثرات التي تسبقه وتمهد له، وهي بالطبع في غيره، إلا أنها لما تكاثرت وتزايدت حتى بدا للعلم بمقتضاها طابع آخر غير الطابع السابق عليه استوجبت جعله في طور آخر جديد، ولا يكون ذلك التمييز الظاهر إلا بعد انقضاء زمن المداخلة بين الطورين.
وعلى هذا الأساس فإن تحديد هذه الأطوار إلى التقريب أقرب منه إلى التحقيق، وبدهي أن تحديدها بالأشخاص على ما سبق يعود إلى طبقاتهم التي يمثلونها، وستعرف هذه الطبقات مرتبة بحسب الزمن مع تراجم علمائها كلهم، وإننا سنكتفي في هذا التحديد بالأشخاص المبرزين المعلمين فقط للاختصار.
ص21
الأول: طور الوضع والتكوين "بصري"
هذا الطور من عصر واضع النحو أبي الأسود إلى أول عصر الخليل بن أحمد، وقد سلف أن وضعه انتهى في عصر بني أمية.
هذا هو الطور الذي استأثرت به البصرة صاحبة الفضل في وضعه وتعهده في نشأته، والكوفة منصرفة عنه بما شغلها من رواية الأشعار والأخبار والنوادر زهاء قرن، اشتغل فيه طبقتان من البصريين بعد أبي الأسود حتى تأصلت أصول منه كثيرة، وعرفت بعض أبوابه.
فإن الطبقة الأولى التي أخذت عن أبي الأسود استمرت في تثمير ما تلقته عنه ووفقت إلى استنباط كثير من أحكامه وقامت بقسط في نشره وإذاعته بين الناس وكان من أفذاذ هذه الطبقة عنبسة بن معدان الفيل، ونصر بن عاصم الليثي، وعبد الرحمن بن هرمز(2)، ويحيى بن يعمر العدواني، ولم يدرك أحد من رجال هذه الطبقة الدولة العباسية.
ويغلب على الظن أن ما تكون من نحو هذه الطبقة -فضلا عن قلته- كان شبه الرواية للمسموع، فلم تنبت بينهم فكرة القياس، ولم ينهض ما حدث في عهدهم من أخطاء إلى إحداث ثغرة خلاف بينهم لقرب عهد القوم بسلامة السليقة، كذلك لم تقو حركة التصنيف بينهم فلم يؤثر عنهم إلا بعض نتف في مواطن متفرقة من الفن لم تبلغ حد الكتب المنظمة إذ كان جل اعتمادهم على حفظهم في صدروهم ورواياتهم بلسانهم، وزعم بعض المؤرخين أن أستاذها أبا الأسود قد وضع مختصرا على ما تقدم بيانه.
أما الطبقة الثانية التي كانت أكثر عددا من سابقتها فقد كانت أوفر منها حظا في هذا الشأن، إذ وطأت لها سبيله فازدادت المباحث لديها، وأضافت كثيرا من القواعد، ونشأت حركة النقاش بينها فجدت في تتبع النصوص واستخراج الضوابط ما هيأ لها وقتها، واستطاعت التصنيف فدونت فيه بعض كتب مفيدة.
وكان من المشار إليهم فيها عبد الله بن أبي إسحاق الحضرمي الذي يقول فيه أبو الطيب: "وكان يقال عبد الله أعلم أهل البصرة وأعقلهم ففرع النحو وقاسه"(3) وكان يخطئ الفرزدق كثيرا حتى هجاه، وستعرف تفصيل ذلك في ترجمته بمشيئة الله تعالى، "وعيسى بن عمر الثقفي صاحب الكتابين في النحو: الجامع والإكمال" وقد نوه عن فضلهما الخليل بن أحمد بقوله:
ص22
ذهب النحو جميعا كله.... غير ما أحدث عيسى بن عمر
ذاك إكمال وهذا جامع.... فهما للناس شمس وقمر
وأبو عمرو بن العلاء(4) صاحب التصانيف الكثيرة على ما ستعرف في ترجمته، ورجال هذه الطبقة أظلتهم الدولة العباسية جميعا خلا عبد الله بن أبي إسحاق الذي مات سنة 117هـ.
لم ينقض هذا الطور حتى وفق العلماء إلى وضع طائفة كبيرة من أصوله بعثتهم إلى التزيد فيها، فاختمرت بينهم فكرة التعليل التي كان أول متجه لها ابن أبي إسحاق، كما أنه أول من نشط للقياس، وأعمل فكره فيه وخرج مسائل كثيرة عليه، ووافقه عليه عيسى بن عمر، وخالفهما بعض معاصريهما فانفسح ميدان القول في هذا العلم وأنس الناس به وتداولوه في كتبهم التي كانت تساير روح هذا العهد فقد كانت مزيجا من النحو والصرف واللغة والأدب وما إلى ذلك من علوم اللغة العربية لأن هذه الفروع كانت متداخلة آخذا بعضها بحجز بعض لقرب الوشيجة بينها في الغرض والمقصد، فكان الأديب حينذاك نحويا صرفيا لغويا، والنحوي أديبا لغويا صرفيا وهكذا، يحملنا على هذا ما روي لنا عنهم في نقاشهم ومحاوراتهم وإن لم تصلنا مؤلفاتهم التي طارت بها عواصف الأيام، ونالها ما نال أربابها من الزوال، وصدق المتنبي في قوله:
تتخلف الآثار عن أصحابها..... حينا ويدركها الفناء فتتبع
نعم، أخذت هذه الفروع تمتاز بعضها من بعض في البحث والتدوين من أوائل الطور تدريجيا حتى اشتهر بعض العلماء بالنحو وأشير إلى آخر باللغة ودواليك...
الثاني: طور النشوء والنمو:
(بصري كوفي)
هذا الطور من عهد "الخليل بن أحمد البصري، وأبي جعفر محمد بن الحسن الرؤاسي" إلى أول عصر "المازني البصري وابن السكيت الكوفي".
فهذا الطور مبدأ الاشتراك بين البلدين في النهوض بهذا الفن والمنافسة في الظفر بشرفه، فقد تلاقت فيه الطبقة الثالثة البصرية برئاسة الخليل، والأولي الكوفية بزعامة الرؤاسي، وكذا بعدهما طبقتان من كل من البلدين فوثب هذا الفن وثبة حيي بها حياة
ص23
قوية أبدية بعد، وكان هذا الطور حريا أن يسمى طور النشوء والنمو.
ونقصد الآن بالنحو معناه العام الذي يشمل مباحث الصرف لأن مباحث رجال الطور الماضي كانت منصرفة حول أواخر الكلمات كما عرف عنهم بخلاف رجال هذا الطور، فإنهم قد اتجهت أنظارهم إلى مراعاة أحوال الأبنية أيضا، فقد راعهم ما اعتورها من خطأ يجب درؤه، وذلك أنهم ما حاولوا صون الكلام من غوائل اللحن في أطرافه إلا ضنا به ألا ينهض بالإفادة والاستفادة المقصودتين منه، ورعاية أواخر الكلمات بقوانين النحو، وإن كفلت دفع اللحن عن الكلام وأصلحت هيكله الصوري للتأدية العامة إلا أن تلك التأدية لا تتم فيه إلا إذا سلمت جواهر أجزائه التي يتقوم بها، وما تأخرت ملاحظتها لهذا الحين إلا لقلة العثرات فيها بالإضافة إلى العثرات التي كانت تعترض الكلام في أواخر أجزائه، ولأن الخطأ فيها لا يذهب بالمعنى المقصود للمتكلم كالخطأ في أواخر الكلمات، كما لمست هذا في سبب وضع النحو.
فمن هذا الحين ظهرت مباحث الصرف في طي كتب النحو وشغلت منها فراغا وعم الأمرين اسم النحو، واستمر هذا الاندماج طويلا من الزمن حتى تدوول في بعض كتب المتأخرين، ولذا عرف بعضهم النحو بأنه: علم يعرف به أحوال الكلم العربية إفرادا وتركيبا ليشمل الأمرين.
نعم قد تقلص عن كتاب النحو من أوائل هذا الطور ما لا يتصل به هذا الاتصال الوثيق كمباحث اللغة والأدب والأخبار ولا ريب أن للصرف من بين سائر علوم اللغة العربية قرابته الدنيا بالنحو، على أن الخليل وهو غرة جبين هذا الطور قد جمع بين اللغة والنحو فإنه ذكر في كتاب العين الذي هو الأساس لكتب اللغة فيما نعلم مقدارا كبيرا من النحو.
ابتدأ هذا الطور وأخذت العلماء في كتب النحو ومباحثه سمتا آخر غير ما اتجهوا إليه في الماضي على ما عرفت ونشطوا في التقصي، والاستقراء للمأثور عن العرب وفي إعمال الفكر واستخراج القواعد، وكان مبعث ذلك النشاط هو التنافس البلدي الذي عرض إبان هذا الطور فرام كل من أهل البلدين "البصرة والكوفة" ظفرا على الآخر، فالخليل بعد أن جاب بوادي الحجاز ونجد وتهامة مواجها العرب في صحرائها مستمعا لأحاديثها يعود إلى البصرة، ويستجمع كل ما سمع ويشحذ ذهنه الحاد ويفرغ للبحث عن لآلئ هذا الفن من بحر علمه العميق حتى جمع أصوله وفرع تفاريعه وضم كل شيء إلى لِفْقِهِ، وساق الشواهد وعلل الأحكام وبلغ في ذلك غاية محمودة فاقت كل من سبقه، بيدَ أنه اكتفى عن تدوينه موسوعة فيه بطلبته الذين كان يملي عليهم، وممن حمل الراية في
ص24
البصرة مع الخليل يونس إلا أنه قصر مجهوده على التلقي عنه ونصب نفسه للإفادة فكانت له حلقات دراسة يؤمها القاصي والداني من فصحاء الأعراب وأهل العلم، وكان له في النحو أقيسة ومذاهب خاصة تفرد بها.
ولقد عاصرهما الرؤاسي الكوفي شيخ الطبقة الأولى الكوفية، فإنه بعد اشتراكه معهما في التلقي عن الطبقة الثانية البصرية يمم الكوفة وألقى عصاه فيها وقد ألفى عمه معاذ بن مسلم الهراء الذي كان أقدم منه سنا يزاول هذا العلم، إلا أنه كلف بالبحث عن الأبنية والتمارين إلى أن غلبت عليه الناحية الصرفية التي التفت إليها الكوفيون واستنبطوا للصرف كثيرا من القواعد التي سبقوا بها البصريين، حتى عدهم المؤرخون الواضعين للصرف، إذ كان الصرف عند البصريين، حتى عدهم المؤرخون الواضعين للصرف، إذ كان الصرف عند البصريين في المحل الثاني، ولم يكف ذلك الكوفيين في دفع التخلف اللاحق بهم على ما فاتهم من شرف النحو فتهالكوا عليه وتزاحموا بالمناكب شأن المفرط الذي يحاول تلافي خطئه، فظهرت فيهم علماء وانبعثت فيهم فكرة التأليف، وكان أول مؤلف تداولوه بينهم كتاب "الفيصل" للرؤاسي. روى ابن النديم وغيره "وقال الرؤاسي: بعث الخليل إلي يطلب كتابي فبعثت به إليه فقرأه، وكل ما في كتاب سيبويه"، "وقال الكوفي كذا فإنما يعني الرؤاسي"(5).
تكون على يد الإمامين الخليل ومن معه من البصريين، والرؤاسي ومن معه من الكوفيين بكل من البلدين مدرسة خاصة لها علم تنحاز إليه كل فرقة، وتتابعت الطبقات المتعاصرة من كلا البلدين.
فسطع في سماء البصرة نجوم متألقة تألف منها عقد الطبقة الرابعة بزعامة سيبويه الذي وُهب ملكة التصنيف والتنسيق، فأبدع كتابه على مثال لم يسبق إليه، ولم يدع للمتأخرين استدراكا عليه، وكان يعاصرها الطبقة الثانية الكوفية التي كان يقودها الكسائي الذي لم يأل جهدا حتى أخرج للناس مؤلفات استفادوا منها، وشد من أزره إقبال الدنيا عليه بعد اتصاله بالخلفاء والأمراء ببغداد، فاعتد2 للكوفيين فيها متكأ وسعى سعيه حتى كون من الكوفيين جبهة قوية ثبتت أمام الجبهة البصرية ووقفت منها موقف الند للند، فإنه الذي يعتبر بحق المؤسس للمذهب الكوفي، ولولا هو لذهبت ريحهم ولما خفقت بنودهم3 على بغداد التي عطفت عليهم من هذا الحين، ورفعت شأنهم، فاستفز ذلك البصريين لمناصبتهم أشد العداء وإشهار سلاح الخصام في وجوههم، وما زال كل من البلدين جد حريص على حوز قصب السبق رغبة في التغلب وحرصا على الإزراء بالآخر وتفانيا في الدنو من
ص25
العباسيين، فاتسعت رواياته واستفاض تعليمه بين الدهماء وازدادت تآليفه.
فالأخفش البصري شيخ الخامسة يصنف ويذيع على الناس ما أوتيه من علم، ومعاصره الفراء الكوفي أستاذ الثالثة تغمره عطايا المأمون وتحفزه إلى نشر العلم، وتتيح له أن يدون طوال الكتب التي راجت في بغداد والكوفة.
كل ذلك بفضل المناظرة التي بدأت هادئة أول الأمر بين البلدين على يد الخليل والرؤاسي، ثم اشتدت على مرور الأيام، وكان لها أثرها الفعال، إذ كانت وقودا صالحا لإشعال نار الاجتهاد والدأب على استكمال ما بقي من مواد هذا الفن ، فحمي وطيسها في غضون هذا الطور، واندلع لهيبها إلى نهاية الطور الثالث فصلي بنارها كثير من جلة البصريين وقليل من الكوفيين، وسنذكر لمحة عنها إن شاء الله تعالى بعد إتمام الكلام على هذين الطورين "البصريين والكوفيين" فإنه عند تلاقي الفريقين ببغداد وابتداء الطور الرابع الجديد قد انطفأت نار العصبية البلدية واختبى أوارها، فلم تك مناظرات بصرية وكوفية.
وقصارى القول أنه لم ينصرم هذا الطور حتى قطع النحو شوطا كبيرا شارف فيه النهاية فأرهفت له الأسماع وكثرت فيه المؤلفات التي أزيل منها ما ليس من فن النحو، وإن كان التصريف ما لبث مندسا فيه عند البصريين، فإن كتابه سيبويه وهو البقية الباقية بأيدينا من مؤلفات هذا الطور، والمرآة التي تنكشف بها صورة التأليف فيه قد جمع بين الفنين.
ولقد بهر العلماءَ أمر هذا الكتاب إذ قصرت هممهم عن مطاولته حينا من الدهر، فلم يروا إلا الطواف حوله تعليقا عليه في النواحي المختلفة شرحا واختصارا وانتقادا واستدراكا وردا وإعرابا للشواهد، وكان لذلك أثره في استبقاء الفنين معا بحثا وتصنيفا مدة مديدة عند كثير من العلماء الذين انتضوا للتأليف2 في كتبهم الخاصة بعد فاحتذوا حذو سيبويه ومزجوا بينهما، واستمر ذلك طويلا حتى تخطى "ابن مالك" لمن بعده.
أما الكوفيون فقد ألفوا في بعض أبواب الصرف كتبا خاصة اعتناء بشأنها، لكن لم تصل تآليفهم إلى حد يجعل الصرف منفردا عن النحو بالتأليف، صنف الرؤاسي كتاب التصغير، والكسائي كتاب المصادر والفراء كتاب فَعَلَ وأَفْعَلَ، مع هذا فإن النحو قد طفق يتخلص من الصرف ويستقل الصرف بالتأليف في مستهل الطور الآتي على ما سترى.
ص26
الثالث: طور النضوج والكمال
"بصري كوفي"
هذا الطور من عهد أبي عثمان المازني البصري إمام الطبقة السادسة ويعقوب ابن السكيت الكوفي إمام الرابعة، إلى آخر عصر المبرد البصري شيخ السابعة، وثعلب الكوفي شيخ الخامسة.
لقد هيأ الطور السالف لهذا الطور الكمال والنضوج بفضل ما بذل رجاله من جهد مضن كان له الأثر الناجع في تخريج جمهرة من العلماء امتاز بها من هذا الطور عن سابقيه في كلا البلدين.
ولقد شمر الجميع عن ساعد الجد ونزلوا الميدان تسوقهم العصبية البلدية، وكان حادي عيسهم في البصرة أبا عثمان المازني، وأبا عمر صالح الجرمي، وأبا محمد التوزي، وأبا علي الجرمازي، وأبا حاتم السجستاني، والرياشي، والمبرد وغيرهم وفي الكوفة يعقوب بن السكيت، ومحمد بن سعدان، وثعلبا والطوال وغيرهم، وكثيرا ما جمعت الفريقين بغداد بين حين وآخر على تعصب كلٍّ لمذهبه وانتقال هذا التعصب لمن يشايعهما، فكانت مناظرات وإفحامات تقض المضاجع وتحز في النفوس، حتى تلاقيا أخيرا وتوطنا بغداد على ضغن في القلوب أذهبه تعاقب الأيام وانقراض المتنافسين شيئا فشيئا.
كل ذلك دعاهم إلى الانهماك والنشاط، فأكملوا ما فات السابقين وشرحوا مجمل كلامهم، واختصروا ما ينبغي وبسطوا ما يستحق، وهذبوا التعريفات وأكملوا وضع الاصطلاحات، ولم يدعوا شيئا منه إلا نظروه ولا أمرا من غيره إلا فصلوه، فخلص النحو من الصرف الذي بقي وحده متمسكا به في التأليف إلى أول هذا الطور.
وأول من سلك هذا السبيل المازني فقد ألف في الصرف وحده وشق ذلك الطريق لمن بعده، ومن هذا الحين تشعبت مسالك التأليف في العلوم العربية، فمن مؤلف في النحو وحده، ومن مصنف في الصرف وحده، ومن خالط بينهما، وقد رعى العهد القديم المبرد في كتابه الكامل الذي جمع فيه من كل دوحة غصنا، فبينما يسبح في الأخبار إذا هو يوافيك بالتحقيق اللغوي، ثم إذا هو يباغتك بالإشكالات الغريبة في النحو والتحقيقات الممتعة في الصرف ولا تكاد تنتهي منها حتى يطل عليك بالأدب الطريف، إلا أن ذلك النهج قليل تلقاء ما كثر من مؤلفات مستقلة بالفروع العربية بعد تمييزها، وكان أكثرها مصنفات فن النحو الذي قد تحولت لهجات التصنيف فيه عن ذي قبل بما وضع فيها من العبارات التأليفية والمصطلحات النحوية التي بقيت خالدة في كتب النحاة إلى يومنا
ص27
هذا، وإنا لنرى ذلك واضحا عند الموازنة بين كتاب سيبويه وبين مخلفات هذا الطور.
لم ينسلخ هذا الطور حتى فاضت دراساته في المدن الثلاث: "البصرة، والكوفة، وبغداد" وما يصاقبها(6)، واغترف الجميع من منهله، وبذلوا الجهود الجبارة في استكماله، والإحاطة بجميع قواعده -وكان لهم ما أرادوا- فاستوى النحو قائما على قدميه ومثلت صورته بارزة للجميع وامتازت شخصيته وأوفى على الغاية التي ليس وراءها نهاية لمستزيد ولا مرتقى لذي همة، فتمت أصوله وانتهى الاجتهاد فيه بين الفريقين على يدي الإمامين: المبرد خاتم البصريين، وثعلب خاتم الكوفيين. روى ياقوت: "قال لي أبو عمر الزاهد: سألت أبا بكر بن السراج، فقلت: أي الرجلين أعلم أثعلب أم المبرد؟ فقال: ما أقول في رجلين العالم بينهما"(7).
وكان بين الإمامين ما بين المتعاصرين من الإحن والأضغان، ولكل منهما شيعته وأنصاره، والعيون لهما رامقة، فكانت المناظرات بينهما دائبة، والغلب بينهما سجالا، ورحمة الله على الجميع.
كانت نهاية هذا الطور الثالث "طور النضوج والكمال" في أخريات القرن الثالث الهجري بعد أن توافد الفريقان على بغداد أرسالا وهجرا المصرين عندما كثرت فيهما الاضطرابات، وتوالت المحن من الزط والقرامطة والزنوج وعدا عليهما حدثان الدهر بعد أن أبليا في سبيل هذا العلم بلاء حسنا خلده لهما الدهر في صحائفه، ومع ذلك فقد ظلت الحزبية قائمة إلا أنها آخذة في الاضمحلال فإن توحيد الوطن بينهما واتصالهما بالخلفاء والأمراء والشعب البغدادي عاملان على تقويض دعائم الخلاف بينهما.
وإنه لما يجمل بنا هنا أن نذكر كلمة موجزة تتعلق بالطورين الأخيرين "الثاني والثالث" نعرض فيها بعض المناظرات والمجالسات النحوية التي جرت بين البلدين فإنها حدثت فيهما فكانت سببا في آثارها المترتبة عليها.
كلمة في مناظرات الطورين "الثاني والثالث":
إن المتتبع لتراجم رجال الطورين في البلدين يرى أن كل واحد منهم قد خب فيها ووضع، وأن المشادة بين الفريقين ما فترت حينا، إذ كانت تثيرها الرغبة في الوصول إلى الحقائق والاعتزاز بالنفس والعصبية للبلد والنمط العلمي، والطمع في نائل الخلفاء
ص28
والأمراء الذين "ساهموا" بقسط قيم فيها، وكان أغلبها على أيديهم أو على كثب منهم، وحكموا في كثير منها فنصروا وخذلوا ورفعوا وخفضوا، كان لذلك كله أثره في زج العلماء بأنفسهم في هذه المعمعة التي كان يأمل كل واحد فيها أن يكون المجلي، لأن هذا العلم حينذاك لما ينضج في أغلب مسائله، ولم يتخذ شكلا ولا صورة ثابتة يقف أمامها كل رائد مكتوف اليد، بل كان يبدو لكل ما لا يلمحه الآخر، وحجة هذا تناهض دليل ذاك لاختلاف الروايات وتفاوت المسموعات وتنوع العصبيات، ولقد تطاير شررها من الخارج إلى الداخل فكانت مناظرات بين البصريين أنفسهم والكوفيين أنفسهم.
إن المناظرات تصير حيث يصير العلم وحيث يصير العلماء، فحب الغلبة جبلي في الإنسان في مظاهر الحياة المختلفة، فكيف العلم الذي هو أنبل الغايات وأسمى المقاصد؟ نعم إذا كان مبعث المناظرات محض العلم فحبذا الغرض والمطلب، لكنها فيما نحن فيه قد شيبت بالعصبية، فكانت حربا ضروسا غير أنها محمودة المغبة على كل حال لما تسفر عنه من نتائج القرائح المكنونة، فما نعمت اللغة وغنيت إلا من هذا السجال العلمي و"عند الصباح يحمد القوم السرى".
من مناظرات الطور الثاني:
إن مناظرات الطور الثاني –على كثرتها- كان قطب رحاها في الكوفيين الكسائي إذ كان دريئتهم وحامي حقيقتهم, فنازل الاصمعي وسيبويه والزبيدي وغيرهم, ولنقتصر في هذا الطور على ثلاث منها.
بين الكسائي والأصمعي
روى الزجاجي في أماليه: (كان الكسائي والأصمعي بحضرة الرشيد, وكانا ملازمين له, يقيمان بإقامته ويظعنان بظعنه, فأنشد الكسائي:
أنى جزوا عامرا سوءَى بفعلهم.... أم كيف يجزونني السوءَى من الحسن؟
أم كيف ينفع ما تعطي العلوق به.... رئمان أنف إذا ما ضن باللبن
فقال الأصمعي: إنما هو الرئمان أنف بالنصب, فقال له الكسائي: اسكت, ما انت وذاك؟ يجوز بالرفع والنصب والخفض, أما الرفع فعلى الرد على ما, لأنهما في موضع رفع بـ(ينتفع)، فيصير التقدير أم كيف ينفع رئمان أنف, والنصب بـ (تعطي) والخفض على الرد على الهاء في به, قال: فسكت الأصمعي)(8).
ص29
بين الكسائي وسيبويه
طمحت نفس سيبويه إلى الشخوص إلى بغداد أملا في الحظوة عند الخلفاء والأمراء، فارتحل إليها وما يدري ما خبأه الغيب له، فرب ساع لحتفه، وحق ما قاله خليفة بن براز الجاهلي:
والمرء قد يرجو الرجا.... ء مؤملا والموت دونه
ونزل ضيفا عند يحيى بن خالد البرمكي وزير هارون الرشيد، فاعتزم يحيى الجمع بينه وبين الكسائي بعد أن عرف الرشيد جلية الأمر وعين لذلك يوما في دار الرشيد، فحضر سيبويه أولا وتلاقى مع الفراء والأحمر تلميذي الكسائي فسألاه وخطاه في الإجابة وأغلظا له في القول، ويطول بنا الكلام ونخرج عن المقصود لو عرضان لهذه الأسئلة وما أجيب به عنها وكل ذلك معروف في كتب النحو المبسوطة، فقال لهما: لست أكلمكما حتى يحضر صاحبكما، يعني شيخهما الكسائي.
جاء الكسائي وغصت الدار بالحضور على مشهد من يحيى وابنه جعفر ثم بدأ الكسائي الحديث وقال لسيبويه: تسألني أو أسالك؟ فقال سيبويه: سل أنت، فقال له: "هل يقال كنت أظن أن العقرب أشد لسعة من الزنبور، فإذا هو هي، أو يقال مع ذلك فإذا هو إياها؟" فقال سيبويه: "فإذا هو هي" ولا يجوز النصب، فسأله عن أمثال ذلك نحو: "خرجت فإذا عبد الله القائم أو القائم"، فقال كله بالرفع، فقال الكسائي: "العرب ترفع ذلك وتنصبه"، واحتدم الخلاف بينهما طويلا، فقال يحيى: قد اختلفتما وأنتما رئيس بلديكما فمن يحكم بينكما؟ فقال الكسائي هؤلاء العرب ببابك وفدت عليك من كل صقع وقد قنع بهم أهل المصرين، يحضرون ويسألون، فقال يحيى قد أنصفت، واستدعاهم فتابعوا الكسائي فأقبل الكسائي على سيبويه وقال له: قد سمع أيها الرجل، فاستكان سيبويه عند
ص30
ذلك وانقبض خاطره،(9) فقال الكسائي ليحيى: أصلح الله الوزير، إنه قدم إليك راغبا فإن أردت أن لا ترده خائبا، فرق له يحيى وجبر كسره، فخرج من بغداد وتوجه تلقاء فارس يتوارى من الناس من سوء ما لحقه، ولم يقدر أن يعود إلى البصرة، وقد كان إمامها غير منازع، فمات غما بفارس في ريعان شبابه، وقال قرب احتضاره متمثلا:
يؤمل دنيا لتبقى له....فوافى المنية دون الأمل
حثيثا يروي أصول النخيل..... فعاش الفسيل ومات الرجل(10)
وقد رويت هذه المناظرة على صور مختلفة، ويرى جمهرة العلماء أن إصبع السياسة لعبت دورا كبيرا في هذه الحادثة الخطيرة، لأنها حكم بين البلدين لا بين الرجلين، وما وافقت العرب الكسائي إلا لعلمهم أنه ذو حظوة عند الرشيد وحاشيته، وهم على يقين من أن الحق مع سيبويه، على أنه روي أنهم قالوا: القول قول الكسائي بإيعاز رجال الدولة ولم ينطقوا بالنصب إذ لا تطاوعهم ألسنتهم، ولذا طلب سيبويه أمرهم بالنطق بها لكنه لم يستمع له.
قال "الروداني": "والذي لا ينبغي أن يشك فيه أن ذلك إذا ترك العربي وسليقته، أما لو أراد النطق بالخطأ أو بلغة غيره فلا يشك في أنه لا يعجز عن ذلك، وقد تكلمت العرب بلغة الحبش والفرس واللغة العبرانية وغيرها، وأبو الأسود عربي وقد حكى قول ابنته لأمير المؤمنين علي: ما أشد الحر بالرفع فقول سيبويه في قصته مع الكسائي في مسألة "كنت أظن أن العقرب أشد لسعة من الزنبور فإذا هو هي": مرهم أن ينطقوا بذلك، لا بد من تأويله، كأن يقال المراد من لم يسمع مقالة الكسائي ولم يدر القصة أو نحو ذلك مما يقتضي نطقهم على سليقتهم الذي هو المعيار".(11)
وبعد: فإن الحق مع سيبويه، والقرآن الكريم أصدق شاهد له، يقول الله تعالى: {...فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ}(12) وعلى نمط هذه الآية آي كثيرة، ولو ثبت النصب لكان خارجا عن القياس واستعمال الفصحاء، ولذا تمحل النحويون في تخريج هذا النصب على أوجه ثم تعقبوها، ذكر بعضها الرضي في شرح الكافية باب الظروف، وأفاض القول فيها الأعلم الشنتمري، ونقل كلامه المقري في نفح الطيب في فصل برأسه في الجزء الثاني عنوانه "المسألة الزنبورية" وأجاد التفصيل لها ابن هشام في المغني الباب الأول مبحث "إذا"
ص31
فذكر خمسة مع التعقيب على كل وجه بما يفنده، وخلاصة هذه الأوجه: الأول: أن الظرف وهو "إذا" نصب الضمير لأن فيه معنى وجدت، والثاني: أن الضمير المنصوب استعير من مكان ضمير الرفع، والثالث: أن الضمير مفعول به والأصل: فإذا هو يساويها ثم حذف الفعل فانفصل الضمير، والرابع: أن الضمير مفعول مطلق والأصل: فإذا هو يلسع لسعتها ثم حذف الفعل والمضاف، والخامس: أن الضمير منصوب على الحال من الضمير في الخبر المحذوف والأصل: فإذا هو ثابت مثلها ثم حذف المضاف فانفصل الضمير، وقد جمع هذه الأوجه الخمسة مع الاختصار أحمد بن الحسن الجوهري المتوفى سنة 1182هـ في هذا النظم:
وفي ضمير النصب تاليا إذا..... تعدد التوجيه فادر المأخذا
مفعولها أو نائب المرفوع...... أو نصبه بفعله المقطوع
أو أنه مفعول فعل مطلقا...... أو معرب حالا أنيب فارتقى(13)
ولخطورة هذه المناظره نوهت عنها أغلب كتب الأدب والتراجم والتاريخ فقد ذكرت في أمالي الزجاجي كما ذكرت في ترجمة سيبويه في طبقات الزبيدي والفهرست ونزهة الألبا ووفيات الأعيان ومعجم الأدباء وأنباه الرواه غير أنها ذكرت مرة أخرى في معجم الأدباء ترجمة الكسائي وقد نوه عنها حازم الأنصاري القرطاجني في منظومته النحوية المشهورة معترفا لسيبويه في الأشباه والنظائر أول الفن السابع "فن المناظرات والمجالسات إلخ".
ولئن ظفر الكسائي بسيبويه في هذه المناظرة ظلما لقد ثئر له منه على يد اليزيدي في المناظرة الآتية التي انحدر فيها الكسائي.
بين الكسائي واليزيدي
قال العسكري: "اجتمع الكسائي واليزيدي(14) عند الرشيد، فجرت بينهما مسائل كثيرة، فقال له اليزيدي: أتجيز هذين البيتين؟
ما رأينا خربا نقْـ.......قَر عنه البيض صقر
لا يكون العير مهرا...... لا يكون، المهر مهر
فقال الكسائي: يجوز على الإقواء، وحقه لا يكون المهر مهرا، فقال له اليزيدي:
ص32
فانظر جيدا، فنظر ثم أعاد القول، فقال اليزيدي: لا يكون المهر مهرا محال في الإعراب، والبيتان جيدان، وإنما ابتدأ فقال المهر مهر، وضرب بقلنسوته الأرض وقال: أنا أبو محمد، فقال له يحيى بن خالد: خطأ الكسائي مع حسن أدبه أحب إلينا من صوابك مع سوء أدبك، أتكتني قدام أمير المؤمنين وتكشف رأسك؟ فقال إن حلاوة الظفر، وعز الغلبة أذهبا عني التحفظ"(15).
وينبغي للكسائي أن يعبر بالإصراف لا الإقواء اصطلاح العروضيين.
من مناظرات الطور الثالث
ومن أشهر المناظرات فيه مناظرات المبرد وثعلب، ولنكتف بواحدة منها
بين المبرد(16) وثعلب(17):
اختلف المبرد وثعلب بخضرة الأمير محمد بن عبد الله بن طاهر بن الحسين -الذي كان ينفق معظم وقته في البحوث العلمية، وكان يهوى المناظرات، فكثر ما جمع له بين علماء الفريقين- البصري والكوفي، في قول امرئ القيس:
لها متنتان خظاتا كما..... أكب على ساعديه النمر(18)
فقال ثعلب: "إنه خظتا" كما يقال غزتا إلا أنه رد الألف التي كانت ساقطة في الواحد
ص33
لتاء التأنيث الساكنة لما تحركت التاء لأجل ألف التثنية، ومسوغ ذلك ضرورة النظم، وقال المبرد: "إنه خظاتان" فحذف نون المثنى للإضافة إلى "كما" فثعلب يرى أن الكلمة "فعل" وأن الألف الثانية فيها اسم، والمبرد يخالفه في الأمرين فالكلمة "اسم" والألف الثانية حرف علامة المثنى، أما الألف الأولى عندهما فهي لام الكلمة سواء أكانت فعلا كما يرى ثعلب أم اسما كما يرى المبرد، ولما طال تلاحيهما بحضرة الأمير قال ثعلب للأمير: أيصح أن يقال: مررت بالزيدين ظريفي عمرو؟ فيضاف نعت الشيء إلى غيره، فقال: لا والله ما يقال هذا، ثم التفت إلى المبرد فأمسك ولم يقل شيئا، ثم قام من المجلس مقهورا.
قال ياقوت: "لا أدري لم لا يجوز هذا؟ وما أظن أحدا ينكر قول القائل: رأيت الفرسين مركوبي زيد، ولا الغلامين عبدي عمرو، ولا الثوبين دراعتي عمرو، ومثله مررت بالزيدين ظريفي عمرو، فيكون مضافا إلى عمرو، وهو صفة لزيد، وهذا ظاهر لكل متأمل".(19)
وقال القفطي: "قال البصريون والقول ما قاله المبرد، وإنما ترك الجواب أدبا مع محمد بن عبد الله بن طاهر لما تعجل اليمين وحلف: لا يقال هذا"(20).
ومع استظهار ياقوت له ونقل القفطي موافقة البصريين له، فالنفس لا تستريح إليه، نعم لا نكران في صحة الأمثلة المنظر بها من ياقوت لكنها ليست مما ينبغي التنظير بها لأنها من قبيل الأبدال لا النعوت فلا تشفع في صحة دعوى المبرد ولهذا قال البغدادي: "وأقول هذه الأمثلة كلها أبدال لا نعوت لعدم الربط".
ومن العجب الذي يسترعي النظر أن هذا البيت نفسه قد وقع فيه الخلاف سابقا قبل المبرد وثعلب على هذا النحو بين الكسائي والفراء وكان رأي الكسائي فيه ما قال ثعلب في المناظرة، ورأي الفراء فيه ما قال المبرد فيها، غير أن الفراء اعتبر حذف النون في المثنى لضرورة النظم لا للإضافة كما قال المبرد، وعلى هذا ففي توجيه البيت أقوال ثلاثة، وتخريج الفراء مقبول وإن لزمته ضرورة حذف النون فإن مقابله وهو تخريج الكسائي قد لزمه ضرورة عوم لام الفعل فقد تساوى الرأيان والتكافؤ بينهما قائم، وقد عرض لهما في البيت ابن يعيش في شرح المفصل قسم الحروف مبحث تاء التأنيث الساكنة وابن هشام في المغني الباب الأول مبحث "كل"، وقد استشهد بالبيت الرضي في شرح الشافية مبحث التقاء الساكنين على نمط رأي الكسائي، وكتب على البيت شارح شواهده البغدادي
ص34
فأوفاه حقه، ونقل كل ما قيل فيه من خلاف بين الكسائي والفراء ومن مناظرة بين المبرد وثعلب مع الإسهاب المفيد في الشاهد الثالث والثمانين، وموطن العبرة في هذا المقام أن بيتا يحدث فيه خلاف بين السابقين مشهور متعالم تتناقله الكتب أخيرا، ثم تجد في البيت نفسه بعدئذ مناظرة يخفق فيها أحد المتناظرين وتتناقلها كتب أخرى، وبعد إذ يدع العلماء المسألة على أذلالها دون تمحيص فيها يتبين منه جلية الأمر، ومن ثم ترى انفساح الميدان للأقاويل والخلافات، وربما لو تكشفت الحقائق الأولى بصورة واحدة وتناولها كل من تناولها وهي هي دون نقص أو زيادة أو تحريف, وتكشفت مع هذا أيضا آراء العلماء بعضهم لبعض لتغير مجرى العلم في كثير من المسائل، وإنك لتأخذ من ذلك مثلا من الأمثال في عدم الوقوف على حقائق المسائل، إذ ليس في وسع كل كاتب ومؤلف أن تكون كل الرغائب في مكنة يده وتحت بصره، فللكاتب بعدئذ العذر فيما يكتب أو يملي، إذ يعتمد على معيار تفكيره ومنطقه وعلى كل حال جزى الله السابقين عن أهل العلم خير الجزاء.
هذا ويقرب من المناظرات شأنا، وإن غايرها اتجاها، ما يعرف عند المؤرخين بالمجالسات، ولقد كان يجري فيها التساؤل عرضا، ولذا حرص على تدوينها المتأدبون بل كتبت فيها أسفار خاصة، كمجالس "أبي مسلم، ومجالس ثعلب"، ولنذكر واحدا منها مما جرى في هذا الطور كضرب المثل.
مجالسة الرياشي(21) وثعلب
قال ياقوت: "قال أبو العباس ثعلب: كنت أسير إلى الرياشي لأسمع منه، وكان نقي العلم، فقال لي يوما وقد قرئ عليه:
ما تنقم الحرب العوان مني..... بازل عامين حديث سني
لمثل هذا ولدتني أمي
كيف تقول؟ بازلُ أو بازلَ؟ فقلت: أتقول هذا في العربية إنما أقصدك لغير هذا، يروي بازلُ أو بازلَ: بالرفع على الاستئناف، والخفض على الإتباع، والنصب على الحال، فاستحيا وأمسك"(22).
ص35
وقد نقل هذه المجالسة ابن هشام في المغني، الباب الأول، مبحث: أم. نعم، استشهد ثانيا بهذه الأبيات في الباب الثامن القاعدة الأولى "إعطاء الشيء حكم ما أشبه في اللفظ" على إعطاء الحرف حكم مقاربه في المخرج حتى يقعا رويين، كما في الأبيات، كما نقل هذه المجالسة السيوطي في الأشباه والنظائر، الفن السابع، فن المناظرات والمجالسات إلخ، وإيضاح هذا الإعراب أن الرفع على أنه خبر "أنا" محذوفة، والجملة مستأنفة، والخفض على "البدلية من ياء المتكلم بدل كل من كل"، إلا أنه يرد على هذا أن بدل الظاهر من ضمير المتكلم لا يكون إلا حيث تكون الإحاطة والشمول.
نعم، إذا جرينا على مذهب الأخفش المبيح للبدلية بدون شرط فلا بأس، والنصب على أنه حال من ياء المتكلم.
وبحسبنا هذا المقدار من المناظرات والمجالسات، ومن أراد أن يتزيد فعليه الرجوع إلى الأشباه والنظائر "الفن السابع، فن المناظرات، والمجالسات والمذكرات، والمراجعات والمحاورات، والمكاتبات، والمراسلات، والواقعات، والفتاوى".
بقي علينا أن نعود إلى المقصود بالذات، فنتكلم على ما يتعلق بمشاهير البصريين والكوفيين في طبقاتهما، وأسباب الخلاف بين الفريقين وتغير اتجاهيهما وحكمة تخصص كل منهما باتجاهه، ونتائج هذه الفروق، والموازنة بين المذهبين فإن ذلك متصل بالأطوار الماضية.
_______________________
(1) الكامل مع الرغبة, ج4 ص193.
(2) روى ابن لهيعة عن ابي النضر قال: كان عبد الرحمن بن هرمز أول من وضع العربية وكان أعلم الناس بأنساب قريش وأحد القراء.
(3) وقد أخذ عن النصر بن عاصم وكان أحد القرأء والفصحاء وقد وصف الزهري ابن عاصم فقال: إنه ليفلق بالعربية تفليقا. (السيرافي ص21). ويقال أن نصر بن عاصم أخذ عن أبي الأسود (ص22).
(4) راجع الفهرست: الفن الثاني من المقالة, ونزهة الألبا, ترجمة الرؤاسي, ومعجم الأدباء ترجمته أيضا ج18 ص221.
(5) يصاقبها: يجاورها, والقصب: الجار.
(6)راجع معجم الأدباء, ترجمة ثعلب ج5. طبعة دار المأمون.
(7) راجع أمالي الزجاجي, والمناظرة مذكورة أيضا في أمالي ابن الشجري, المجلس السادس, ومعجم الأدباء ترجمة الكسائي, والمغنى الباب الأول حرف أم , وخزانة الأدب شاهد 906, والعلوق: الناقة التي ترأم البو, وهو جلد الحوار يحشى تبناً أو ثماما ويقدم لها إيهاما أنه ولدها عند فقده ثم لا تدر اللبن, والرئمان مصدر لرئم كسمع سماعي, أو ضافه إلى الأنف لأنه مظهر حنوها, والمعنى: إني لأعجب من قومي كيف يعاملون بني عامر بن صعصعة بالشر مقابلة الخير؟ وأعجب من ذلك مكافأتهم لي وأنا ادفع عنهم, وماذا يجديني من وعودهم اللسانية مع انطوائهم على حرماني, وما حالهم معي إلا كهذه الناقة التي تعطف على البو بأنفها على حين ينكره قلبها فلا ترسل درها, والبيتان من قصيدة لأفنون التغلبي شاعر الجاهلية, وهي من قصائد المفضليات, وبيت المناظرة من شواهد النحاة على أم, راجع شرح المفصل, وشرح الرضي على الكافية والمغنى. قلت: والمناظرات بينهم كثيرة تجدها في طيات كتب الأدب وكتب النوادر الأدبية.
(8) ثاني بيتين نسبهما القاسم بن سلام له في كتاب الأمثال, راجع خزانة الأدب 734.
(9) وقد هجا اليزيدي الكسائي واصحابه فمما قاله فيه:
إن الكسائي واشياعه........ يرقون في النحو الى اسفل.
(10) حثيثاً: مسرعاً, والفسيل : النخل الصغير يقطع من أمه فيغرس, واحدته فسيلة.
(11) الصبان على الأشموني في كلام على (ما) العاملة عمل (ليس).
(12)سورة الشعراء الأية (33).
(13) الأبيات في الإنبابي على الصبان, وترجمة الجوهري في الجبرتي.
(14) هو أبو محمد يحيى بن المبارك اليزيدي نُسِب إلى يزيد بن منصور خال المهدي لصحبته إياه (السيرافي 40).
(15) هو أبو العباس محمد بن يزيد الثمالي الأزدي وإليه انتهى علم النحو في البصرة بعد طبقة الجرمي والمازني. وقد قال فيه عبد الصمد بن المعذل يعاتبه:
سألنا عن الثمالة كل هي ...... فقال القائلون ومن الثمالة
فقلت محمد بن يزيد منهم ...... فقالوا زدتنا بهم جهالة.
وأخبار المبرد عند السيرافي ص96- وما بعدها.
(16) راجع كتاب التصحيف والتحريف ما وهم فيه الكسائي, وذكرت هذه المناظرة أيضا في معجم الأدباء ترجمة الكسائي, وفي الوفيات ترجمة اليزيدي, وفي شرح درة الغواص الوهم 35, والخرب ذكر الحباري, ونقر: نقب البيض لخروج الفرخ. والشطر الأول من البيت الثاني تمثيل الإيضاح, و (لا يكون) في أول الشطر الثاني تأكيد لفظي وما بعدها تأكيد معنوي.
(17) كان بين المبرد وثعلب من المنافرة ما لا خفاء به وأكثر أهل التحصيل تفضلونه (أي المبرد) السيرافي (ص102). وثعلب كوفي والمبرد بصري.
(18) المتنتان: في القاموس متنا الظهر مكتنفا الصلب, وخظاتا إن كانت فعلا فالفعل من باب سما وفي القاموس خظا لحمه اكتنز, وإن كانت اسما مثنى فالمفرد خظاة, وفي الصحاح لحم خظاة بظاة مكتنز, وقوله كما أكب على ساعديه النمر يريد لها متنتان كساعدي النمر البارك في صلابتهما. والبيت في وصف فرسه من قصيدة طويلة.
(19) راجع معجم الأدباء ترجمة ثعلب.
(20) إنباه الرواة ترجمة ثعلب.
(21) هو أبو الفضل عباس بن الفرج مولى محمد بن سليمان بن على الهاشمي ورياش رجل من جذام كان أبو العباس عبداً له فبقي عليه نسبه إلى رياش, وهو نحوي بصري مات سنة (257ه) بالبصرة قتلته الزنج (السيرافي 89- 93).
(22) ذكر السيرافي لقاء الرياشي وثعلب وأن ثعلب كان يفضله ويقدمه (ص89).
(23) معجم الأدباء ترجمة ثعلب، العوان: من الحروب التي قوتل فيها مرة، والبازل: اسم فاعل من بزل البعير إذا طلع نابه وذلك في تاسع سنيه لأنه إذا دخل في العاشرة سمي مخلفا وليس له بعد الإخلاف اسم، ولكن يقال بازل عام أو عامين ومخلف عام أو عامين، ويطلق البازل أيضا على الرجل الكامل في تجربته وعليه فلا تشبيه في البيت, والشعر لأبي جهل قاله يوم بدر أو تمثل به وكان مغرورا مأفونا أكذبه الله إذ كان في هذه الموقعة هلاكه، والأبيات مذكورة في الكامل شرح الرغبة ج6 ص227.