x

هدف البحث

بحث في العناوين

بحث في المحتوى

بحث في اسماء الكتب

بحث في اسماء المؤلفين

اختر القسم

القرآن الكريم
الفقه واصوله
العقائد الاسلامية
سيرة الرسول وآله
علم الرجال والحديث
الأخلاق والأدعية
اللغة العربية وعلومها
الأدب العربي
الأسرة والمجتمع
التاريخ
الجغرافية
الادارة والاقتصاد
القانون
الزراعة
علم الفيزياء
علم الكيمياء
علم الأحياء
الرياضيات
الهندسة المدنية
الأعلام
اللغة الأنكليزية

موافق

الأدب

الشعر

العصر الجاهلي

العصر الاسلامي

العصر العباسي

العصر الاندلسي

العصور المتأخرة

العصر الحديث

النثر

النقد

النقد الحديث

النقد القديم

البلاغة

المعاني

البيان

البديع

العروض

تراجم الادباء و الشعراء و الكتاب

تطوّر الخطابة في عصر الرسول(ص)

المؤلف:  ابتسام مرهون الصفار

المصدر:  الأمالي في الأدب الإسلامي

الجزء والصفحة:  ص168-177

17-6-2017

10937

 حين أذن الله أن يبعث محمّداً(صلى الله عليه و آله ) نبياً ليدعو قومه إلى عبادة الله الواحد الأحد، وقفت قريش معارضة لهذه الدعوة فبدأت باللين أوّلاً، ثمّ بالقوّة والبطش ثانياً، فكان أن عرضت على الرسول الكريم المال والجاه، فأباهما، وكانت إجابته الخالدة الموجزة المعبّرة: (والله لو وضعت الشمس في يميني والقمر في يساري ما تركت هذا الأمر أبداً، حتّى أنفذه أو أهلك في طلبه). عند ذلك يئس كفّار قريش من ردع محمّدq، وحاولوا أن يحولوا بينه وبين الناس، وهدّدوه وآذوا من تبعه، ولم يكن للرسولq إلّا وسيلة الإقناع والارشاد، يقنع من يراه بمبادئ الدين الإسلامي. وكان الشعر والخطابة الوسيلتين الوحيدتين اللتين يمكن للمرء أن يعبّر بهما عن آرائه بين الناس. أمّا الشعر فقد نزّه الله تعالى الرسول عنه ـ كما مرّ بنا ـ فلم يبق إلّا الخطابة الوسيلة الوحيدة التي يمكن أن يجمع بها الناس حولهم، ليفهمهم مبادئ الدين الذي يدعو إليه. ويعرض عليهم أمره. وقد استفاد الرسولq منها منذ فجر الدعوة الإسلامية حين خطب في مكّة وقريش وقتذاك لم تؤمن بعد يدعوها إلى دينه.

وحين هاجر عليه الصلاة والسلام إلى المدينة، حيث المرتع الخصب الذي انطلقت منه الدعوة الإسلامية إلى نطاق واسع كانت أوّل خطبة خطبها الرسولq في المدينة، في أوّل جمعة فيها بدأها بعد الحمد بقوله:

(أمّا بعد، أيّها الناس فقدّموا لأنفسكم، تعلمنّ والله، ليصعقن أحدكم، ثمّ ليدعنّ غنمه ليس لها راع، ثمّ ليقولن له ربّه وليس له ترجمان، ولا حاجب يحجبه دونه: ألم يأتك رسولي فبلغك؟ وآتيتك مالاً، وأفضلت عليك؟، فما قدّمت لنفسك؟ فينظرنّ يميناً وشمالاً فلا يرى شيئاً، ثمّ لينظرن قدامه فلا يرى غير جهنّم ...).

هكذا بدأ الرسول الكريم دعوته في المدينة موجّهاً إلى تعاليم الدين، واعظاً الناس

ويلاحظ في هذه الخطبة أنّهq اتّبع فيها أُسلوب الترهيب واصفاً حال الإنسان يوم القيامة حيث يحشر مع أعماله التي يحاسب عليها، وهو الأُسلوب نفسه الذي نجده في الآيات والسور المكّية.

وفي الخطبة الثانية التي خطبها الرسولq في المدينة دعا الناس فيها إلى حبّ قراءة القرآن الكريم، فهو أحسن الحديث، وذكره وقراءته ذكر لله تعالى الخالق سبحانه الذي آمنوا به وعبدوه. يقول:

(إنّ أحسن الحديث كتاب الله ـ تبارك وتعالى ـ ، وقد أفلح من زيّنه الله في قلبه وأدخله في الإسلام بعد الكفر، واختاره على ما سواه من أحاديث الناس. انّه أحسن الحديث، وأبلغه. أحبّوا ما أحبّ الله، أحبّوا الله من كلّ قلوبكم، ولا تملّوا كلام الله وذكره، ولا تقس عنه قلوبكم ...).

ولمّا كان ذكر الموت مدعاة لإثارة الخشية في النفوس المؤمنة، فإنّ الرسولq كان يخطب في الناس ليحرّضهم على الثبات على الإيمان، والعمل الصالح، وتذكّر الموت الذي لابدّ منه والحساب الذي يواجهه الإنسان يوم القيامة. خطب رسول اللهq فقال:

(أيّها الناس كأنّ الموت فيها على غيرنا قد كتب، وكأنّ الحقّ فيها على غيرنا قد وجب، وكأنّ الذين نشيّع من الأموات سفر عمّا قليل راجعون، نبوؤهم أجداثهم ونأكل من تراثهم كأنّا مخلّدون بعدهم، قد نسينا كلّ واعظة، وأمّنا كلّ جائحة. طوبى لمن شغله عيبه عن عيب غيره، وأنفق من ماله كسبه من غير معصية. ورحم أهل الدين والمسكنة، وخالط أهل الفكر والحكمة.)

ولم تكن مهمّة الخطابة الوعظ والإرشاد فحسب، بل كانت وسيلة لتبليغ المسلمين الأوامر والمبادئ الإسلامية التي ينزل بها الوحي على الرسولq، فيعرضها الرسولq على المسلمين فإذا نزلت الآيات الكريمة، وفيها أمر أو واجب يقتضي التزام المسلمين به، جمعهم الرسولq وخطب فيهم. ففي السنة الثانية للهجرة أمر الرسولq باخراج زكاة الفطر. وقيل إنّه خطب الناس قبل عيد الفطر بيوم أو يومين، وأمرهم بذلك .. وخطب مرّة أُخرى وبيّن للناس أنّ الله قد افترض عليهم الجمعة وأنّه من تركها وله إمام فلا جمع الله له شمله، ولا بارك له في أمره، ولا حجّ، ولا صلاة، ولا زكاة له ..

وقد تؤدّي الخطبة ما يؤدّيه البيان الرسمي من إعلان أمر يشمل الأُمّة، أو يشمل جماعة كبيرة، وليس أدلّ على هذا من خطبته عليه الصلاة والسلام يوم فتح مكّة حين صدق الله وعده بنصر المؤمنين، وقف الرسولq على باب الكعبة ثمّ قال:

(لا إله إلّا الله، وحده، لا شريك له، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده. ألا كلّ مأثرة أو دم أو مال يدّعى، فهو تحت قدمي هاتين إلّا سدانة البيت، وسقاية الحاج ... الناس من آدم، وآدم خلق من تراب. ثمّ تلا ياأيّها الناس إنّا خلقناكم من ذكر وأُنثى، وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا ...)

واطمأنّت نفوس الناس حين سمعوا خطبة الرسولq وما ذكره من مثل سامية فلمّا سألهم: يامعشر قريش، ما ترون إنّي فاعل بكم؟ قالوا: خيراً، أخ كريم وابن أخ كريم. قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء. وقيل: انّه قال لهم: أقول لكم كما قال أخي يوسف ﴿قال لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين﴾ [يوسف: 92].

وإذا كنّا قد قلنا إنّ هذه الخطبة أدّت ما يؤدّيه البيان الرسمي، فلأنّها أعلنت العفو عن المشركين، وأسقطت ما يمكن أن يحاسبوا عليه، إلّا أنّها تختلف عن البيان بكونها تخاطب العقول والقلوب، فالحوار الذي تخلّلها يدخل الطمأنينة في نفس السامعين، ولا يكتفي باعلان العفو. وهو خطاب يحتاج إليه مشركو قريش، ليعالج الرسولq به ما كان من ضغائن وعداوات بسبب حربهم لله ولرسوله.

وفي السنة العاشرة للهجرة خطب الرسولq خطبته المشهورة بخطبة الوداع، وفيها بيّن للناس مناسكهم، وأعلمهم سنن حجّهم، ولخّص لهم مبادئ دينهم، وما عليهم من واجبات وحقوق، وأنّه عليه الصلاة والسلام شعر بدنو أجله، وقرب نهايته فرأى أن يوصي الناس فلم يجد أحسن من موسم الحجّ موسماً لتجمع أكبر عدد من المسلمين. وقد كرّر الرسولq في خطبته عبارة بين فقرة وأُخرى، الا هل بلّغت، فيقول الناس: نعم، فيقول: اللهمّ اشهد.

واستحدث الرسولq نوعاً من الخطب، وإن لم يصل إلينا منها إلّا القليل، وهي خطب التولية والتأمير، وذلك أنّه أمّر أُسامة بن زيد بن حارثة على الجيش الذي بعثه إلى الروم، قائلاً له: (سر إلى مقتل أبيك، فاوطئهم الخيل فقد وليتك على هذا الجيش، وان أظفرك الله بالعدو، فأقلل اللبث، وبثّ العيون، وقدم الطلائع). وقيل انّه لم يبق أحد في وجوه المهاجرين والأنصار إلّا كان في ذلك الجيش، فتكلّم قوم، وقالوا: يستعمل هذا الغلام على جلّة المهاجرين والأنصار، فغضب الرسولq، وخرج إلى المسجد، وصعد المنبر، وعاتب الناس على مقالتهم قائلاً:

(أيّها الناس: ما مقالة بلغتني عن بعضكم في تأميري أُسامة؟ لئن طعنتم في تأميري أُسامة، فقد طعنتم في تأميري أباه من قبله. وأيم الله، إن كان لخليقاً بالإمارة، وابنه من بعده لخليق بها، وإنّهما لمن أحبّ الناس إليّ، فاستوصوا به خيراً، فإنّه من خياركم). ثمّ نزل ودخل بيته، وجاء المسلمون يودعونه، ويمضون إلى عسكر أُسامة.

إنّ هذه النماذج من خطب الرسولq تؤكّد نشاط الخطابة في العصر الإسلامي ومواكبتها للأحداث، وملاءمتها لما تقتضيه الظروف من مواجهة القائد لأُمّته، ولم يكن سائر العرب بمنأى عن الدعوة الإسلامية. فقد كان الرسولq يبعث رجالاً من المسلمين إلى القبائل العربية يدعون الناس إلى الإسلام، أو يؤمّر أحد رجال الوفود الوافدين عليه، فيكون فقيه القوم ومعلّمهم ومبلّغهم مبادئ الإسلام، وهو أمر ذكرته المصادر القديمة، لكنّها لم تذكر نماذج لخطب هؤلاء الأُمراء. أمّا وفود القبائل التي كانت تقدم على الرسولq فقد كان خطباؤهم يخطبون أمامه، كما كان شعراؤه ينشدون الشعر مفاخرين بأمجاد قومهم وقبيلتهم. وقد ينتدب الرسولq أحد رجاله ليرد على خطبة خطيب الوفد كما حدث مع وفد بني تميم حين وفدوا على النبيq وطلبوا منه أن ينادي خطيبه ليخطب فيهم، وشاعره لينشدهم شعراً. وكان خطيب وفدهم عطارد بن حاجب بن زرارة الذي افتخر بقومه بأنّهم أكثر الناس عدداً، وأحسنهم وجوهاً، وانّ منهم رؤوس الناس وأشرافها، وانّ من يفاخرهم عليه أن يعدّد مثل ما ذكر من المفاخر. ولم يفاخر خطيب المسلمين تميماً بمثل ما فاخر خطيبهم، وإنّما كانت خطبته منسجمة مع الدعوة الإسلامية إذ أنّه حمد الله الذي خلق السموات والأرض، وقضى فيهنّ أمره، وأنّه قد اختار من خيرة خلقه رسولاً اصطفاه على العالمين. ثمّ ذكر كيف استجاب المهاجرون لدعوة الرسولq وجنّدوا أنفسهم لخدمة الرسالة السماوية، يقاتلون في سبيل الله حتّى يؤمن الناس. فمن آمن منع الرسولq ماله ودمه وأهله، ومن كفر جاهدوه في الله وكان قتله يسيراً.

وهكذا خرج خطيب المسلمين بالخطابة من اطارها القبلي إلى أُفق الإسلام الواسع، فلا فخر بالأنساب والأحساب، وإنّما فخر بالالتفاف حول النبيq، والدفاع عنه، والإيمان بمبادئه.

وإذا كان عام الوفود هو العام التاسع بعد الهجرة، فلابدّ أن تكون هناك خطب قد قيلت، خطب الرسولq، أو أحد أصحابه، وخطب الوافدين معلنين إسلامهم وطاعتهم للرسولq.

خطبة النبيq في حجّة الوداع

قالq:

(الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه؛ ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيّئات أعمالنا. من يهد الله فلا مضلّ له، ومن يضلل فلا هادي له.

وأشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّداً عبده ورسوله.

أُوصيكم عباد الله بتقوى الله، وأحثّكم على طاعته، واستفتح بالذي هو خير.

أمّا بعد؛ أيّها الناس: اسمعوا منّي أُبيّن لكم. فإنّي لا أدري لعلّي لا ألقاكم بعد عامي هذا في موقفي هذا.

أيّها الناس: إنّ دماءكم وأموالكم حرام عليكم إلى أن تلقوا ربّكم كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا.

ألا هل بلّغت؟ اللهمّ اشهد!

فمن كانت عنده أمانة فليؤدّها إلى الذي ائتمنه عليها. وإن ربا الجاهلية موضوع؛ وإنّ دماء الجاهلية موضوعة؛ وإنّ أوّل دم نبدأ به دم عامر بن ربيعة بن الحارث بن عبدالمطّلب. وإنّ مآثر الجاهلية موضوعة، غير السدانة والسقاية. والعمد قود، وشبه العمد ما قتل بالعصا والحجر، وفيه مئة بعير، فمن زاد فهو من أهل الجاهلية.

أيّها الناس: إنّ الشيطان قد يئس أن يعبد في أرضكم هذه، ولكنّه قد رضي أن يطاع فيما سوى ذلك ممّا تحقّرون من أعمالكم.

أيّها الناس: إنّ النسيء زيادة في الكفر يضلّ به الذين كفروا، يحلّونه عاماً، ويحرّمونه عاماً، ليواطئوا عدّة ما حرّم الله، فيحلّوا ما حرّم الله.

إنّ الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض. وإنّ عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض. منها أربعة حرم: ثلاثة متواليات، وواحد فرد. ذو القعدة، وذو الحجّة، والمحرّم، ورجب الذي بين جمادى وشعبان.

ألا هل بلّغت؟ اللهمّ اشهد!

أيّها الناس: إنّ لنسائكم عليكم حقّاً، ولكم عليهنّ حقّ. لكم عليهنّ ألّا يوطئن فرشكم غيركم، وألّا يدخلن أحداً تكرهونه بيوتكم إلّا بإذنكم، ولا يأتين بفاحشة مبيّنة. فإن فعلن، فإنّ الله قد أذن لكم أن تعضلوهنّ وتهجروهنّ في المضاجع، وتضربوهنّ ضرباً غير مبرّح. فإن انتهين وأطعنكم، فعليكم رزقهنّ، وكسوتهنّ بالمعروف. وإنّما النساء عندكم عوان لا يملكن لأنفسهنّ شيئاً، أخذتموهنّ بأمانة الله، واستحللتم فروجهنّ بكلمة الله. فاتّقوا الله في النساء، واستوصوا بهنّ خيراً.

ألا هل بلّغت؟ اللهمّ اشهد!

أيّها الناس: إنّما المؤمنون إخوة، ولا يحلّ لامرئ مسلم مال أخيه إلّا عن طيب نفس منه.

ألا هل بلّغت؟ اللهمّ اشهد!

فلا ترجعن بعدي كفّاراً يضرب بعضكم رقاب بعض، فإنّي قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لم تضلّوا بعده: كتاب الله.

ألا هل بلّغت؟ اللهمّ اشهد!

أيّها الناس: إنّ ربّكم واحد، وإنّ أباكم واحد. كلّكم لآدم، وآدم من تراب. أكرمكم عند الله أتقاكم. إنّ الله عليم خبير. وليس لعربي على عجمي فضل إلّا بالتقوى.

ألا هل بلّغت؟ اللهمّ اشهد!

قالوا: نعم. قال: فليبلّغ الشاهد الغائب.

أيّها الناس: إنّ الله قسم لكلّ وارث نصيبه من الميراث، فلا تجوز لوارث وصية، ولا تجوز وصية في أكثر من الثلث. والولد للفراش، وللعاهر الحجر. من ادّعى إلى غير أبيه، أو تولّى غير مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل منه صرف ولا عدل).

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

سمات خطب الرسولq

من هنا يتبيّن لنا أنّ الخطابة نشطت نشاطاً كبيراً منذ فجر الدعوة الإسلامية، وأنّ الرسولq أبلغ الخطباء قد استخدمها وسيلة لتبليغ مبادئ الدين الإسلامي وفرض التعاليم والأوامر الإسلامية، وترسيخ المعاني التي جاء بها القرآن الكريم بأُسلوب بليغ فصيح مؤثّر في النفوس، مصاحب لأحداث الدعوة الإسلامية. وقد وصف عليه الصلاة والسلام نفسه بأنّه أفصح العرب: (أنا أفصح العربي بيد أنّي من قريش).

ووصف ابن الأثير بلاغته عليه الصلاة والسلام بقوله: كان أفصح العرب لساناً، وأوضحهم بياناً، وأعذبهم نطقاً، وأشدّهم لفظاً، وأبينهم لهجة، وأقومهم حجّة، وأعرفهم بمواقع الخطاب، وأهداهم إلى طرق الصواب. إنّ دراسة خطب الرسولq توصلنا إلى ما يأتي:

ــ قلّة الخطب الكاملة التي وصلت إلينا عن الرسولq، وهي قليلة جدّاً إذا قيست بالمدّة الطويلة التي قضاها الرسولq بين المسلمين، فهل يعقل أنّه لم يخطب إلّا اثنتي عشرة خطبة، هي التي وصلت إلينا؟

ــ لقد كان من الطبيعي أن يخطب الرسولq في جماعته المسلمة، يفقّههم في الدين، ويحثّهم على الصبر لقتال الأعداء، خاصّة في غزواته. فأين هذه الخطب؟ لابدّ من القول إنّ الرسولq قد خطب خطباً كثيرة إلّا أنّها ضاعت، ولم تصل إلينا، يقول زكي مبارك: (بل إنّي لأذهب أبعد من ذلك فأُقرّر بأنّ الحركة الأدبية، والسياسية والاجتماعية في عهد النبي لم تصوّر إلى الآن بصورتها الحقيقية. فهذا رجل غيّر أُمّة كاملة في عشرين عاماً، ولقيت دعوته آلاف المصاعب. أفيمكن حقّاً الاقتناع بأنّه لم يقل أكثر من عشر خطب، وأنّ أنصاره لم يقولوا في الخطابة والرسائل ما نقله عنهم الطبري وغيره من المؤرّخين)؟.

ــ أمّا سبب ضياع خطب الرسولq، وعدم وصولها إلينا، فيعلّله شوقي ضيف بقوله: (وأكبر الظنّ أنّ خطبه أصابها ما أصاب خطب الجاهليين، فإنّها لم تدوّن لحينها، وبعد العهد بين عصرها وعصر تدوينها، ومع ذلك فقد احتفظت ذاكرة الرواة ببقايا منها تحمل خصائصها).

ــ ويمكننا أن نضيف سبباً مهمّاً لقلّة وصول خطبه عليه الصلاة والسلام إلينا كاملة وهو إنّ معظم خطبه نقلت في كتب الأحاديث على أنّها أقوال نقلت عنهq. ولم تنقل هذه الكتب خطباً كاملة، وإنّما أوردت جملاً وعبارات وزّعتها كلاً في بابها، ونقل البعض الآخر في كتب الأمثال حين اختيرت من أقوالهq جمل جرت مجرى الأمثال. على حين نجد أنّ الصوفية في كتبهم نقلوا من أقوال الرسولq وخطبه ما يتعلّق بالزهد والموعظة.

لقد وصف أبو سعيد الخدري خطبة للرسولq خطبها يوماً بعد صلاة العصر إلى المغرب وهذا يعني أنّها كانت طويلة جدّاً إلّا أنّه قال: بأنّه حفظها من حفظها، ونسيها من نسيها. وكان فيما قال: إنّ الدنيا خضرة حلوة، وإنّ الله مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون.

ــ اتّخذت الخطابة العربية في صدر الإسلام ممثّلة بخطب الرسولq سمة خاصّة احتذى حذوها الخطباء فيما بعد، وهي افتتاحها بالتحميد والتمجيد لذات الله سبحانه وتعالى. وأوّل خطبة ورد فيها التحميد كاملاً خطبته التي خطبها في المدينة. أمّا ما قبلها فاكتفى الرواة بقولهم: قال بعد أن حمد الله وأثنى عليه. ولعلّ سبب تركهم لذكر التحميد أنّه صار فيما بعد سنّة نبوية، أمّا التحميد الوارد في خطبةq فهو:

أن الحمد لله أحمده، وأستعينه، نعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيّئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلّ له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلّا الله، وحده لا شريك له).

وهو تحميد مستمد من القرآن الكريم من سورة الفاتحة. وأمّا قولهq: من يهد الله فلا مضلّ له، ومن يضلل فلا هادي له، فإنّه اقتباس من الآية (33) من سورة الرعد. وكذا الشهادة التي هي أساس إيمان المؤمن وردت في القرآن الكريم أكثر من مرّة. وقولهq: وحده لا شريك له هو من الآية (162) من سورة الأعراف وقد تكرّر هذا التحميد في خطبة الوداع مع تغيير طفيف بالحديث بضمير الجماعة بدلاً من ضمير المتكلّم: الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونعوذ بالله. كما أضافq عبارة ونتوب إليه بعد عبارة ونستعينه. وهناك عبارة قرآنية وردت في خطبه عليه الصلاة والسلام وهي ما ختم به بعض خطبه بقوله: ﴿* واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً﴾ [النساء: 36]. وهو من الآية (36) من سورة النساء وقولهq: واتّقوه حقّ تقاته عبارة قرآنية أيضاً من قوله تعالى ﴿يا أيّها الذين آمنوا اتّقوا الله حقّ تقاته﴾ سورة عمران (102). وهي عبارات أصبحت مكرّرة على ألسنة الخطباء فيما بعد.

وقد ذكر ابن قتيبة بأنّه تتبّع أكثر خطبهq فوجد أوائلها: الحمد لله نحمده، ونتوكّل عليه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيّئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلّ له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له). وقال أيضاً ووجدت في بعضها: أُوصيكم عباد الله بتقوى الله، وأحثّكم على طاعته. وهي العبارة التي أُضيفت إلى التحميد في خطبة الوداع مع عبارة أُخرى تفيد الاستفتاح بالله سبحانه وتعالى: أُوصيكم عباد الله بتقوى الله، وأحثّكم على طاعته وأستفتح بالذي هو خير. ووازن بين خطبه عليه الصلاة والسلام العامّة وخطب العيد فقال (وجدت كلّ خطبة مفتاحها الحمد إلّا خطبة العيد فإنّ مفتاحها التكبير).

ــ أمّا تزيين خطبهq بالقرآن الكريم، فذلك أمر طبيعي، فامّا أن تكون عباراته أساساً من نصّ القرآن الكريم، أو يتمثّل بالآيات الكريمة. وقد احتذى الخطباء بعده حذوه فوشّحوا خطبهم بآي من القرآن الكريم، فسمّوا الخطبة التي لم توشّح بالقرآن، وتزيّن بالصلاة على النبي بالشوهاء. وسمّيت خطبة زياد بن أبيه فيما بعد بالبتراء. لأنّه لم يفتتحها بالحمد والتمجيد. ويروي الجاحظ أنّ أعرابياً خطب، فلمّا أعجله بعض الأمر عن التصدير والتحميد والاستفتاح بالتحميد قال: أمّا بعد، بغير ملالة لذكر الله، ولا إيثار غيره عليه، فإنّا نقول كذا، وكذا. فراراً من أن تكون خطبته بتراء أو شوهاء.

ــ ومن سمات خطب الرسولq العبارة البليغة الفصيحة، والألفاظ السهلة المونقة، البعيدة عن الغرابة والثقل، ولا عجب في ذلك، فقد كانq، أفصح العرب، لقد قال عليه السلام: أُوتيت جوامع الكلم واختصر لي الكلام اختصاراً، وكلامه بعد القرآن الكريم بلاغة وجمالاً. ومن الطبيعي أن يخلو كلامه من التكلّف والصنعة، لأنّهq نهى عن التشادق، وهو التكلّف في الحديث والخطابة بقوله: (إيّاي والتشادق) كما نهى عن التفيهق، وهو التكلّف بإظهار القول وادّعاء البلاغة: (أبغضكم إليّ الثرثارون المتفيهقون).

ــ ويلاحظ أنّ خطب الرسولq لم يرد فيها السجع إلّا عفوياً، وغير متكلّف يتّسق في عبارتين، ثمّ تتغيّر السجعة إلى ترسّل، وقد تأتي بعدها عبارتان فيها سجع مثل قوله: كأنّ الموت فيها على غيرنا قد كتب، وكأنّ الحقّ فيها على غيرنا قد وجب ... نبوؤهم أجداثهم، ونأكل من تراثهم، كأنّا مخلّدون بعدهم ...

وقد تحلّ الفاصلة بدل السجعة مثل قولهq في الخطبة السابقة: قد نسينا كلّ واعظة، وأمِنا كلّ جائحة. طوبى لمن شغله عيبه عن عيب غيره، وأنفق من مال كسبه من غير معصية. فالفواصل هنا تتّسم بالإيقاع متمثّلاً في واعظة، وجائحة، وفي الايقاع الهادئ الذي بدأت به عبارة طوبى ...

ــ ولمّا كانت خطب الرسولq تقصد بالدرجة الأُولى إلى التأثير في نفوس السامعين، ليرتدعوا عن غيّهم، و يلتزموا بالدين الإسلامي، فإنّ الرسولq وشّح خطبه بما يؤكّد كلامه. ففي أوّل جمعة خطب فيها المسلمين في المدينة ورد التوكيد بعد النداء (أيّها الناس) الذي يشدّ إليه الأسماع بقولهq: فقدّموا لأنفسكم تعلمن، والله، ليصعقن أحدكم، ثمّ ليدعن غنمه. فالتوكيد هنا بتكرار نون التوكيد في تعلمن ويصعقن، ويدعن، مع اقتران الفعلين السابقين بلام التوكيد، وتوشيح الجملة بالقسم باسم الجلالة الذي يزيد الحديث ترهيباً وتخويفاً. ويترك تكرار النون وقعاً مهيباً في النفس يعضد الصورة الرهيبة التي يخوّف بها النبي الناس من المعصية.

ومن أنواع التكرار الوارد في خطب الرسولq تكرار الفعل كقولهq أحبّوا ما أحبّ الله، أحبّوا الله من كلّ قلوبكم، فتكرار الفعل (أحبّوا) ثلاث مرّات مقترناً بلفظ الجلالة، لترسيخ محبّة العمل الصالح الذي يحبّه الله سبحانه وتعالى.

وتكرّرت جملة واحدة في خطبة الوداع وردت على صيغة سؤال: ألا هل بلّغت؟ وهو استفهام تقريري لم يحتجّ فيه النبيq أن يسمع جواب الناس الذين احتشدوا لسماع خطبته، فهو عليه الصلاة والسلام يكرّر بعد هذا الاستفهام عبارة: اللهمّ اشهد. وقد ورد هذا التكرار بعد كلّ فقرة ينتهي فيها الرسولq من بيان حكم من الأحكام التي يوصي بها المسلمين باتّباعها، فيحقّق التكرار هدفين مهمّين: الأوّل شدّ انتباه الناس إلى الفقرة أو الفكرة الأُخرى التي تلي الفكرة التي انتهى منها، كما منح التكرار دفعاً ايمانياً لابدّ أن يرسّخ في نفوس المسلمين، بأنّ كلّ ما يسمعونه في الخطبة هو أمر من أوامر الله تعالى، وإنّه جزء من الرسالة السماوية التي كرّس لها الرسولq حياته لأدائها.

ــ ورود الاستفهام الذي يراد به الترهيب والتخويف أيضاً في الخطبة السابقة بقولهq: ثمّ ليقولنّ له ربّه، وليس له ترجمان، ولا صاحب يحجبه دونه: ألم يأتك رسولي فبلّغك؟ وأتيتك مالاً وأفضلت عليك؟ فما قدّمت لنفسك؟.

ــ وتبرز سمة أُخرى في خطب الرسولq والخطبة السابقة نفسها، وهي ورود الصورة الفنّية الرائعة دون اللجوء إلى التشبيه أو التمثيل. فبعد الاستفهام الذي أثار الهيبة في نفوس السامعين، وبعد التوكيد الذي يرسّخ معنى يوم القيامة والحساب، يورد الرسولq جواباً من خلال صورة ختم بها خطبته (فما قدّمت لنفسك؟ فينظر يميناً وشمالاً فلا يرى شيئاً، ثمّ لينظرنّ قدّامه، فلا يرى غير جهنّم). وهي صورة للحيرة لا يملك القارئ إلّا أن يتابع الصورة الحركية يميناً وشمالاً.

ــ ومن سمات خطب الرسولq البليغة وجود المزاوجة في المعاني فيورد عليه الصلاة والسلام عبارتين تؤدّيان المعنى نفسه كقوله حاثّاً على تعلّم القرآن وقراءته:

(قد أفلح من زيّنه الله في قلبه)، والمعنى هو نفسه الذي تؤدّيه عبارة (أدخله في الإسلام بعد الكفر)، لأنّ من زيّن الله في قلبه حبّ القرآن معناه أنّه آمن، وخرج من الكفر. ولكن تكرار المعنى بهاتين العبارتين له وقع جميل في النفس، وتأثير كبير.

ونلاحظ في افتتاحية خطبة الوداع أنّه عليه الصلاة والسلام قد بدأها بمقدّمة وجيزة تختلف عن باقي خطبه، وذلك أنّه قال بعد أن حمد الله وأثنى عليه:

اسمعوا قولي فإنّي لا أدري لعلّي لا ألقاكم بعد عامي هذا.

فهذه المقدّمة تنبّه الناس، وتستثيرهم للاستماع ليس لأمر هامّ فحسب، بل لما ذكره عليه الصلاة والسلام من توقّعه أن يكون لقاءه بهم آخر لقاء. فهل بعد هذا التوقّع من مدعاة لإثارة الانتباه؟ (سوف يصغي الناس بكلّ طاقة السمع فيهم. ولولا هذا، لولا أنّه لفت الأنظار إلى معنى الرحيل من هذه الدنيا لكان من الممكن أن تقلّ نسبة الانتباه).

 

 شعار المرجع الالكتروني للمعلوماتية




البريد الألكتروني :
info@almerja.com
الدعم الفني :
9647733339172+