سلطة القاضي التقديرية في منع التناقض
المؤلف:
هند جبار حسين ساجت
المصدر:
اثر التناقض على صلاحية احكام القضاء المدني
الجزء والصفحة:
ص17-23
2025-11-18
40
يمارس القاضي نشاطه القضائي ابتداء من تحقيق الادعاء المرفوع أمامه، وانتهاء بإصداره لحكم فاصل في النزاع لكي يفرض مضمون القاعدة القانونية جبراً عند عدم احترامها، أو يزيل ما قد اكتنفها من عوارض.
ويملك القاضي خلال ممارسته لنشاطه القضائي سلطة واسعة بموجب القانون تمكنه من تقدير وقائع وادعاءات الخصوم تمهيداً لإصدار حكم فاصل في الموضوع، وهذا ما يعرف بالسلطة التقديرية للقاضي. فالقانون الوضعي يخول القاضي الذي هو أداة الدولة في تأدية الوظيفة القضائية مجالاً حراً للعمل أو قدراً معيناً من الحرية يستطيع من خلالها تكوين رأيه في قضية ما (1). إن التناقض في الحكم المدني قد يكون بين الأسباب ذاتها، أو بين الأسباب والمنطوق، أو بين أجزاء المنطوق ذاته فالقاسم المشترك بين هذه الصور إذن هي الأسباب والمنطوق، ولغرض الإحاطة بسلطة القاضي التقديرية في منع التناقض بين الأسباب ذاتها أو بين الأسباب والمنطوق.
وبناءً عليه سنوضح ذلك من خلال بيان سلطة القاضي التقديرية في أسباب الحكم، وسلطة القاضي التقديرية في منطوق الحكم.
أولاً: سلطة القاضي التقديرية في أسباب الحكم
فأما سلطة القاضي التقديرية في أسباب الحكم ، فإن المنطق يفرض مبدأ وحدة وكلية البناء القانوني، وبمقتضى هذا المبدأ تكون أسباب الحكم في مجموعها هي السبب للعمل القضائي، ولذا فإن التناقض بين أسباب الحكم يجعلها غير صالحة من الناحية المنطقية لأي نتيجة، إذ أن الأسباب إذا تناقضت، فإنها تتساقط، ويهدم بعضها بعضاً، ولا يبقى منها شيء أن يكون قواماً للحكم، مما يؤدي إلى بطلانه (2).
ويقع على القاضي عبء الالتزام بهذا المبدأ، حينما يصوغ أسباب حكمة، فيعيبه أن يتناقض في الأسباب، أو ألا يكون هناك ارتباط بين الأسباب والمنطوق .(3) . ويمكن للقاضي أن يراعي هذه الوحدة وهو بصدد صياغته لأسباب حكمه من الناحتين الآتيتين:
الأولى: يجب على القاضي ألا يصوغ أسباب حكمه إلا بعد أن يبحث النزاع المطروح أمامه بحثاً دقيقاً بحيث يطمئن المطلع على الحكم، أن المحكمة قد محصت الأدلة التي قدمت إليها، وحصلت منها على ما يؤدي إليه، ولكي يأتي تسبيب القاضي لحكمه صحيحاً يجب أن يكون عقيدته، ويؤسس آراءه في الحكم على العناصر القائمة في الدعوى. ولذلك يحظر على القاضي أن يستند في حكمه على وقائع لم تعرض في ملف الدعوى، أو يخالف الثابت بأوراق الدعوى (4).
والثانية: إن القاضي حينما يتصدى لتقدير أسباب الحكم عليه أن يدرك تماماً أن الحكم الذي يصدره، يعد نتيجة لقضية قياس منطقي، المقدمة الكبرى فيه هي القانون، والمقدمة الصغرى هي الوقائع المعروضة أمامه، وبهذا الصدد قال الفقيه ابن القيم الجوزية – رحمه الله – معتمداً بذلك على شرح كتاب عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) في القضاء : .... فلا يتمكن المفتي ولا الحاكم من الفتوى والحكم بالحق إلا بنوعين من الفهم، أحدهما فهم الواقع والفقه فيه واستنباط حقيقة ما وقع بالقرائن والإمارات والعلامات حتى يحيط به علماً، والنوع الثاني: فهم الواجب في الواقع، وهو فهم حكم الله الذي حكم به في كتابه أو على لسان رسوله ( صلى الله عليه واله وسلم) في هذا الواقع ثم يطبق أحدهما على الآخر ...(5). فعلاقة الواقع بالقانون هي أن الواقع لا يمكن فهمه إلا من خلال فهم النص القانوني وأعماله على الواقع (6) .
ومما لا شك فيه أن التزام القاضي بهذا الطريق يحقق اهتمامه في تكوين رأيه القضائي، ويتيح مراقبة عدالة هذا الرأي، وهذا كله يتطلب من القاضي جهداً في أعمال القواعد القانونية على الوقائع المطروحة عليه (7).
يستخلص مما تقدم أن على القاضي عندما يصدر حكمه يجب أن يحتاط بأوراق الدعوى ولا يخرج عنها، وأن يربط الواقع بالقانون ويطبق أحدهما على الآخر لكيلا تكون أسباب حكمه متناقضة.
وهذا أن دل على شيء فإنه يدل على تقييد سلطة القاضي عندما أسباب حكمه. يحرر .
ثانياً: سلطة القاضي التقديرية في منطوق الحكم:
سلطة القاضي التقديرية في منطوق الحكم، فيملك القاضي سلطة واسعة في منع التناقض في منطوق الحكم الذي يصدره، فهو يملك سلطة التعديل والتغيير في حكمه بما يتماشى مع المنطق والقانون حتى لحظة النطق بالحكم، ذلك أن الحكم قبل النطق به لا يكون إلا مجرد مشروع يقبل التعديل والتغيير فيه، أيا كان وجه هذا التعديل ومداه والغرض منه، فالحكم قبل النطق به ليس له وجود قانوني حتى ولو كتبت مسودته (8) ، فيتاح للقاضي حتى هذه اللحظة سلطة تعديل حكمه والتغيير فيه، ولا يخضع القاضي في مباشرة هذه التعديلات للقواعد الخاصة المنصوص عليها في نظام مراجعة الأحكام (9).
أما بعد النطق بالحكم فإن الدعوى تخرج من يد القاضي وتستنفد المحكمة ولايتها في النزاع. وإن استنفاذ الولاية واكتساب الحكم الدرجة القطعية، تحول بينه (الحكم) وبين القاضي الذي أصدره دون المساس به إلا في الحالات التي يصرح له بها القانون كحالة تصحيح الخطأ المادي حتى وإن كان في المنطوق (10).
ستخلص مما تقدم أن للقاضي سلطة واسعة قبل النطق بالحكم بالتغيير والتعديل في منطوق حكمه، أما بعدم النطق به فلا يكون للقاضي مثل هذه السلطة إلا في حدود القانون.
إن أساس السلطة التقديرية للقاضي تقوم على حرية تتاح للقاضي من خلال النص الصريح أو الضمني يستمد منه القوة، ليتمكن من خلاله من النظر والتروي والتفكر لعمل أصلح وبلوغ الحقيقة ومعرفة كننها، أي أنه قد يتوصل إلى القضية وحقيقتها من خلال تلك السلطة التي يتمتع بها، عن طريق التروي والتفكير ومقايسة الأمور وبناء الأمر عليها. بالنسبة للسلطة التقديرية ومبرراتها، وبموجب المصطلح السلطة التقديرية يشمل مجالاً واسعاً في جميع فروع القانون. حيث يعتمد على التحليل العقلي والفكري للقاضي فهو نشاط عقلي يقوم به القاضي لفهم الحقائق المطروحة أمامه واستخلاص عناصر هذه الحقائق ضمن نطاق قاعدة قانونية يعتقد أنها تنطبق على النزاع المطروح. وبذلك، تتألف السلطة التقديرية من جانب شخصي يمثله القاضي وجانب موضوعي يمثله القانون.
وتعرف ايضا بانها مجموعة النصوص تخول القاضي حرية التقدير أو الاختيار، وفي المجال الجنائي عرفت بأنها رخصة منحها المشرع للقاضي اثناء توقيع العقاب على الجاني وفق مالا يزيد عن حد العقوبة الاقصى ولا يقل عن حد العقوبة الادنى وتتمثل هذه السلطة بما يتركه المشرع للقاضي من حرية بمقتضي بعض التعابير التي يتضمنها النص القانوني مثل (يمكن) أو (يحق) أو (للقاضي).
يتبين بأن السلطة التقديرية لا تمارس على هامش القانون، بل وأنها تمارس في إطار القانون وداخل حدوده، وإنها وسيلة لتحقيق تطبيق القانون على الوجه الأكمل وبموجب الظروف، أي أن السلطة التقديرية في النهاية هي نشاط يرمي إلى التوصل إلى إيجاد حدث معين، وهذا الحدث هو تطبيق القانون (11).
وقد عرف البعض كالأستاذ محمود نجيب حسني السلطة التقديرية للقاضي بأنها : " قدرة القاضي على الملاءمة بين الظروف الواقعية للحالة المعروضة عليه والعقوبة التي يقررها فيها، وهي في أبسط صورها تعني مقدرة القاضي على التحرك بين الحدين الادنى والاقصى لتحديدها بينهما أو عند أحدهما" (12).
وعرفها البعض الأخر كالفقيه (عبد الحميد الشواربي ) بأنها " القدرة القانونية لممثل الحكومة، القاضي المدعي العام الشرطة، في ممارسة اختياره في صنع القرار، حيث أنها عملية تطبيق النصوص القانونية المجردة في مجال يترك فيه المشرع للقضاء حرية التقدير في حدود التنظيم القانوني" (13) "
إن السلطة التقديرية هي قدرة القاضي على الملاءمة بين ظروف الجاني والجريمة وبين العقوبة التي يقررها فيها عند تطبيقه للنصوص القانونية المجردة في مجال يترك فيه المشرع للقضاء حرية التقدير في حدود التنظيم القانوني.
من خلال السلطة التقديرية التي يمنحها المشرع يحاول القاضي تحقيق المساواة بين الجناة من خلال أخذه بعين الاعتبار ظروف الجاني والجريمة عند تقدير الادلة أو تحديد وصف الجريمة أو عند تقدير العقوبة عند تقديره للعقوبة لأن المساواة المطلقة في العقوبة على الرغم من الاختلاف في ظروف مرتكبي الجرائم وبواعثهم، هو في حد ذاته عدم مساواة، ولهذا يجب ضرورة تنويع عقاب كل جريمة تبعاً للاختلاف في أشخاص الجناة والمجنى عليهم، ويرى أن القانون الذي يحدد لكل جريمة عقوبة واحدة وثابتة في نوعها ومقدارها دون النظر إلى اختلاف ظروف الجناة والمجنى عليهم، يعد قانوناً معيباً (14) ، لأن كلاً من عمليتي تحديد المسؤولية والحكم يمكن أن نكتشف فيهما بصورة واضحة مجالاً للشرعية التي تهتم بالاجتهاد، ففي الحكم الجنائي يستلزم القليل من الاجتهاد.
وفي لبنان ردت محكمة الاستئناف المدنية الاستئنافين الأصلي والتبعي المقدمين من المستأنفين معللة بأنه: " في الاستئناف الاصلي، إذ يدلي المستأنف عن السبب الاول المبني على انتفاء صفة المستأنف عليه لإقامة الدعوى الراهنة ومطالبته بالبدلات وبالإخلاء، كونه لا يملك المأجور موضوع الدعوى، أجابت المحكمة أنه وبغض النظر عن مدى تأثير عقد البيع المتعلق بالمأجور وغير المسجل فإن توقيع المستأنف عليه لعقد الايجار مع المستأنف كاف بحد ذاته لإيلائه حقه بالتقدم بالدعاوى وممارسة الحقوق الناشئة عن عقد الايجار من المطالبة بالبدلات وممارسة حق طلب الاخلاء في حال الاخلال بالموجبات، مما يقتضي رد هذا السبب لعدم الجدوى. أما في السبب الثاني يدلي المستأنف عن السبب الثاني المتعلق بمخالفته مبدأ النزاع الجدي اجابت المحكمة ان ما يدلي به المستأنف هو عدم وجود نزاع حول البدلات ولكن النزاع الجدي يدور حول ملكية المأجور الأمر الذي تم بحثه سابقاً، اذ ما أدلى به في إطار النزاع الجدي ليس من شأنه ان يؤدي الى فسخ الحكم المستأنف لجهة توجب قيمة البدلات ولجهة إلزامه بإخلاء المأجور فيرد هذا السبب لعدم صوابيته (15).
يظهر أن السبب الأول المبني على عدم قضاء الحكم المستأنف بالإخلاء، فإن المحكمة قد أجابت بالعكس وقضت بالإخلاء والتسليم في محكمة البداية، فهذا يرد هذا السبب لهذه الجهة. أما السبب الثاني المتعلق بالغرامة الاكراهية، فإن المستأنف قد أورد أنها قليلة جداً، فأجابت المحكمة بأن القاضي قد استخدم سلطته التقديرية الممنوحة له قانوناً ولا تعقيب على ذلك من هذه الجهة، فهذا السبب يرد هذا.
والمقصود بالنشاط هو النشاط الذهني، العقلاني، وأن يد القاضي في هذا النشاط ليس طليقا من أي قيد، بل هو مقيد بالعديد من القيود أو ضوابط تختلف ماهيتها حسب طبيعة الدعوى المعروضة أمامه، وبذا نستطيع القول بأن المشرع وضع له الحدود اللازمة مراعاتها عند ممارسة هذه السلطة، بما لا يجوز الخروج عنها. وتختلف السلطة التقديرية عن التكييف (16) الذي يقوم على تحديد صفة العلاقة القانونية المتنازع بشأنها وردها الى نظام قانوني معين، والقاضي عندما يقوم بالتكييف يقوم بعمل هو اعطاء الوصف القانوني للواقعة دون ان يكون مخيرا او مختارا في عمله ويكون عمله هذا خاضعا لرقابة المحكمة العليا (التمييز).
اما السلطة التقديرية فهي عملية عقلية واختيارية، ولم يكن هناك إجماع فقهي أو استقرار قضائي حول خضوعه لرقابة المحكمة العليا ومديات هذه الرقابة والذي سنأتي اليها لاحقا، لا شك في ان القاضي ملزم بالفصل في النزاع وانه في سبيل وصوله الى الحكم العادل لابد أن يستوعب الدعوى المعروضة عليه، وأنه حين مواجهته لهذه الوقائع يقوم بإعمال القواعد القانونية وقد يجد امامه نصوصاً قانونية مرنة وغير جامدة يستخدم المشرع عبارات مطلقة وغير محددة. تكتسب هذه السلطة التقديرية اهمية من الناحية العملية ويلجأ اليها القاضي بموجب نص صريح من قبل المشرع للوصول الى الحكم العادل في القضية المعروضة ، امامه فمن المعروف ان تطبيق النص القانوني ليس مجرد عمل آلي يحدث تلقائيا خصوصا إذا كانت القاعدة التي يتضمنها النص لا تحتوي على حل قاطع وواضح وحاسم للموضوع المعروض أمام القاضي.
____________
1- نبيل اسماعيل عمر سلطة القاضي التقديرية في المواد المدنية والتجارية، الطبعة الأولى، دار الجامعة الجديدة، مصر - الإسكندرية، 2008، ص 5.
2- وجدي راغب النظرية العامة للعمل القضائي في المرافعات، منشأة المعارف، الإسكندرية، 2005، ص 539.
3- رمضان إبراهيم عبد الكريم موسى، التناقض الإجرائي في نظرية الخصومة القضائية أطروحة دكتوراه مقدمة إلى كلية الشريعة والقانون، جامعة الأزهر، القاهرة - مصر، 2004، ص 324.
4- إبراهيم نجيب سعد، قاعدة لا تحكم دون سماع الخصوم الناشر منشأة المعارف بالإسكندرية، مصر، 2000، ص261.
5- ابن القيم الجوزية إعلام الموقعين عن رب العالمين، ج 1، الطبعة الأولى، مطبعة السعادة، مصر، 1985، ص 105.
6- محمد سليمان الأحمد، أهمية الفرق بين التكييف القانوني والطبيعة القانونية بحث منشور في مجلة الرافدين للحقوق تصدرها كلية القانون في جامعة الموصل، عدد 20، 2004، ص96.
7- رمضان إبراهيم عبد الكريم موسى التناقض الإجرائي، مرجع سابق، ص 325
8- فتحي والي الوسيط في قانون القضاء المدني، دار النهضة العربية القاهرة، مصر، 2002، ص 677.
9- رمضان إبراهيم عبد الكريم موسى، التناقض الإجرائي في نظرية الخصومة القضائية أطروحة دكتوراه مقدمة إلى كلية الشريعة والقانون، جامعة الأزهر، القاهرة - مصر، 2004، ص 326.
10- وعلى ذلك نصت المادة (167) من قانون المرافعات العراقي حيث جاء فيها: " لا يؤثر في صحة الحكم ما يقع فيه من أخطاء مادية بحتة كتابية أو حسابية وإنما يجب تصحيح هذا الخطأ من قبل المحكمة بناءً على طلب الطرفين أو أحدهما ".
11- نبيل اسماعيل عمر سلطة القاضي التقديرية في المواد المدنية والتجارية، الطبعة الأولى، دار الجامعة الجديدة، مصر - الإسكندرية، 2008 ، ص 76.
12- محمود نجيب حسني، شرح قانون العقوبات القسم العام، الطبعة الثالثة، دار النهضة العربية، مصر - القاهرة، 2001، ص 849.
13- عبد الحميد الشواربي : إشكالية التنفيذ المدنية والجنائية وطلبات وقف التنفيذ أمام القضاء الإداري، دار الكتب والدراسات العربية، 2018، ص 83.
14- فاضل نصر الله عوض قانون الجزاء في ماضيه وحاضره، مجلة الحقوق جامعة الكويت، ع4، س8، 2002، ص 177.
15- قرار محكمة استئناف البنان مدني، رقم 36، الصادر عام 2014، الخاص في سلطة القاضي التقديرية في دعوى إيجار. منشور على موقع المعلوماتية اللبناني: http://77.42.251.205/ViewRulePage تاريخ زيارة الموقع .2023-6-26
16- محمد سليمان الأحمد، أهمية الفرق بين التكييف القانوني والطبيعة القانونية بحث منشور في مجلة الرافدين للحقوق تصدرها كلية القانون في جامعة الموصل، عدد 20، 2004 ، ص 87.
الاكثر قراءة في القانون المدني
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة