إصرارهم على قتل الإمام العسكري ( عليه السلام )
ذكرت مصادر الأديان والتاريخ أن المنجمين أخبروا نمروداً بأن مولوداً سيولد في تلك السنة في عاصمته ، وأنه يُخشى منه على ملكه ، فمنع الناس من الإنجاب ، وأمر بقتل كل مولود ذكر !
وكذلك أخبروا فرعون ، فكان يقتل كل مولود ذكر من بني إسرائيل .
ففي تفسير القمي ( 1 / 207 ) : ( وكل نمرود بكل امرأة حامل ، فكان يذبح كل ولد ذكر ، فهربت أم إبراهيم بإبراهيم من الذبح ، وكان يشب إبراهيم في الغار يوماً كما يشب غيره في الشهر ، حتى أتى له في الغار ثلاثة عشر سنة ، فلما كان بعد ذلك زارته أمه ، فلما أرادت أن تفارقه تشبث بها فقال يا أمي أخرجيني ، فقالت له يا بني إن المَلِك إنْ علم أنك ولدت في هذا الزمان قتلك ) .
وفي كمال الدين ( 1 / 21 ) : ( كان إبراهيم ( عليه السلام ) في سلطان نمرود مستتراً غير مظهر نفسه ، ونمرود يقتل أولاد رعيته وأهل مملكته في طلبه ، إلى أن دلهم إبراهيم ( عليه السلام ) على نفسه ، وأظهر لهم أمره ، بعد أن بلغت الغيبة أمدها ووجب إظهار ما أظهره ، للذي أراده الله في إثبات حجته وإكمال دينه ) .
وروى الحاكم ( 2 / 574 ) : ( ولما حملت أم موسى بموسى كتمت أمرها جميع الناس فلم يطلع على حملها أحد من خلق الله ، وذلك شئ أسرها الله به ، لما أراد أن يمن به على بني إسرائيل ، فلما كانت السنة التي يولد فيها موسى بن عمران ، بعث فرعون القوابل وتقدم إليهن وفتش النساء تفتيشاً لم يفتشهن قبل ذلك ، وحملت أم موسى بموسى فلم ينتأ بطنها ، ولم يتغير لونها ، ولم يفسد لبنها ، ولكن القوابل لا تعرض لها ، فلما كانت الليلة التي ولد فيها موسى ولدته أمه ولا رقيب عليها ولا قابل ، ولم يطلع عليها أحد إلا أختها مريم . وأوحى الله إليها : أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِين ، قال : فكتمته أمه ثلاثة أشهر ترضعه في حجرها لا يبكي ولا يتحرك ، فلما خافت عليه وعليها ، عملت له تابوتاً مطبقاً ومهدت له فيه ، ثم ألقته في البحر ليلاً كما أمرها الله ! وعملت التابوت على عمل سفن البحر خمسة أشبار في خمسة أشبار ولم يُقَيَّر ، فأقبل التابوت يطفو على الماء فألقى البحر التابوت بالساحل في جوف الليل ، فلما أصبح فرعون جلس في مجلسه على شاطئ النيل ، فبصر بالتابوت فقال لمن حوله من خدمه : إئتوني بهذا التابوت فأتوه به ، فلما وضع بين يديه فتحوه فوجد فيه موسى ، قال فلما نظر إليه فرعون قال : كيف أخطأ هذا الغلام الذبح ، وقد أمرت القوابل أن لا يكتمن مولوداً يولد !
قال وكان فرعون قد استنكح امرأة من بني إسرائيل يقال لها آسية بنت مزاحم ، وكانت من خيار النساء المعدودات ومن بنات الأنبياء ( عليهم السلام ) ، وكانت أماً للمسلمين ترحمهم وتتصدق عليهم وتعطيهم ويدخلون عليها ، فقالت لفرعون وهي قاعدة إلى جنبه : هذا الوليد أكبر من ابن سنة وإنما أمرت أن تذبح الولدان لهذه السنة ، فدعه يكون قرة عين لي ولك ، لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ) . انتهى .
وفي كمال الدين ( 1 / 21 ) عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) : ( إن لله رسلاً مُستعلنين ورسلاً مُستخفين ، فإذا سألته بحق المستعلنين فسله بحق المستخفين . وتصديق ذلك من الكتاب قوله تعالى : وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّه مُوسَى تَكْلِيمًا . فكانت حجج الله تعالى كذلك من وقت وفاة آدم إلى وقت ظهور إبراهيم ( عليهم السلام ) ، أوصياء مستعلنين ومستخفين ، فلما كان وقت كون إبراهيم ( عليه السلام ) ستر الله شخصه وأخفى ولادته ، لأن الإمكان في ظهور الحجة كان متعذراً في زمانه ، وكان إبراهيم ( عليه السلام ) في سلطان نمرود مستتراً لأمره غير مظهر نفسه ، ونمرود يقتل أولاد رعيته وأهل مملكته في طلبه ، إلى أن دلهم إبراهيم ( عليه السلام ) على نفسه وأظهر لهم أمره بعد أن بلغت الغيبة أمدها ، ووجب إظهار ما أظهره للذي أراده الله ، في إثبات حجته وإكمال دينه . فلما كان وقت وفاة إبراهيم ( عليه السلام ) كان له أوصياء حججاً لله عز وجل في أرضه يتوارثون الوصية ، كذلك مستعلنين ومستخفين ، إلى وقت كون موسى ( عليه السلام ) ، فكان فرعون يقتل أولاد بني إسرائيل في طلب موسى ( عليه السلام ) الذي قد شاع من ذكره وخبر كونه ، فستر الله ولادته ، ثم قذفت به أمه في اليم ، كما أخبر الله عز وجل في كتابه : فالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْن . وكان موسى في حجر فرعون يربيه وهو لا يعرفه ، وفرعون يقتل أولاد بني إسرائيل في طلبه ) .
فقد عرف نمرود وفرعون أن زوال ملكهم على يد مولود يولد في سنة كذا ، فأخذوا يقتلون مواليد تلك السنة .
أما العباسيون فعرفوا من رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) الصادق الأمين أن التاسع من ذرية ولده الحسين ( عليه السلام ) سيملأ الأرض عدلاً ، وينهي دولة الجبارين ، فرأوا أن لا ينتظروا حتى يولد ، بل يقتلوا جده ، أو أباه ، قبل ولادته !
روى الحر العاملي في إثبات الهداة ( 3 / 570 ) عن الإمام العسكري ( عليه السلام ) قال : ( وضع بنو أمية وبنو العباس سيوفهم علينا لعلتين : إحداهما أنهم كانوا يعلمون أنه ليس لهم في الخلافة حق فيخافون من ادعائنا إياها وتستقر في مركزها . وثانيهما : أنهم قد وقفوا من الأخبار المتواترة على أن زوال ملك الجبابرة والظلمة على يد القائم منا ، وكانوا لا يشكون أنهم من الجبابرة والظلمة ، فسعوا في قتل أهل بيت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وإبارة نسله ، طمعاً منهم في الوصول إلى منع تولد القائم أو قتله ، وَيَأْبَى اللَّه إِلا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الكَافِرُونَ ) .
وعندما ولد ابنه المهدي ( عليهما السلام ) قال : ( زعمت الظلمة أنهم يقتلونني ليقطعوا هذا النسل ، كيف رأوا قدرة القادر ) . ( مهج الدعوات / 276 ) .
الخليفة كراكب الأسد !
وصف أمير المؤمنين ( عليه السلام ) الحاكم بقوله : ( صاحب السلطان كراكب الأسد ، يُغبط بموقعه ، وهوأعلم بموضعه ) . ( نهج البلاغة : 4 / 63 ) .
وهذا يوم كانت الخلافة أسداً ، أما بعد أن تسلط عليها الجنود الأتراك في سامراء وبغداد فصارت ذئباً ، لأنهم كانوا يأتون بعباسي فيُركِّبُونَهُ على ظهر الذئب ، فيكون آمراً في الظاهر ويظل يتلفت حواليه وفوقه وتحته ، متى يَجُرُّونَهُ عن ظهر الذئب العزيز ، ويقتلونه شر قتلة !
وكان الخليفة مضافاً إلى خوفه من غضب القادة الأتراك ، يخاف من ثورات العلويين في مناطق الدولة الواسعة ، ويخاف من ثورات غير العلويين كالزنج العبيد في البصرة ، وابن الصفار في إيران !
لكن الخوف الأكبر للخليفة كان من ولادة الثاني عشر من أئمة أهل البيت ( عليهم السلام ) ، لأنه المهدي الموعود ، الذي يزيل دولة بني العباس ، ويقيم دولة العدل ، فهو خطرٌ يفوق في رأيه كل الأخطار !
كل الحكام يخافون من المهدي الموعود !
كان الحكام القرشيون يعرفون حديث النبي ( صلى الله عليه وآله ) عن المهدي الموعود ويسألون عن تفاصيله ، ويرجون أن لا يكون في عصرهم !
قال عمر بن الخطاب لعلي ( عليه السلام ) : ( يا ابن أبي طالب أخبرني عن المهدي ما اسمه ؟ قال أما اسمه فلا ، إن حبيبي وخليلي عَهِدَ إليَّ أن لا أحدث باسمه حتى يبعثه الله عز وجل ، وهو مما استودع الله عز وجل رسوله ( صلى الله عليه وآله ) في علمه ) . ( كمال الدين / 648 ) .
فقد أراد عُمر أن يعرف وقت المهدي ، وهل سيكون في عصره ، فأبقاه علي ( عليه السلام ) في شك ، ولم يخبره عن الوقت الذي قاله النبي ( صلى الله عليه وآله ) !
وقال معاوية لابن عباس : ( وقد زعمتم أن لكم مُلكاً هاشمياً ، ومهدياً قائماً ، والمهدي عيسى بن مريم ، وهذا الأمر في أيدينا حتى نسلمه إليه ) !
رواه في الملاحم والفتن / 115 ، عن الطبري المؤرخ المعروف في كتابه : عيون أخبار بني هاشم ، الذي صنفه للوزير علي بن عيسى بن الجراح .
وكان الناس بعد معاوية يسألون أئمة أهل البيت ( عليهم السلام ) عنه فلا يخبرونهم .
قال أبو خالد الكابلي : ( لما مضى علي بن الحسين دخلت على محمد بن علي الباقر ( عليهما السلام ) فقلت له : جعلت فداك قد عرفت انقطاعي إلى أبيك وأنسي به ووحشتي من الناس ، قال : صدقت يا أبا خالد فتريد ماذا ؟ قلت : جعلت فداك ، قد وصف لي أبوك صاحب هذا الأمر بصفة لو رأيته في بعض الطريق لأخذت بيده ، قال : فتريد ماذا يا أبا خالد ؟ قلت : أريد أن تسميه لي حتى أعرفه باسمه ، فقال : سألتني والله يا أبا خالد عن سؤال مجهد ، ولقد سألتني عن أمر ما كنت محدثاً به أحداً ولو كنت محدثاً به أحداً لحدثتك ، ولقد سألتني عن أمر لو أن بني فاطمة ( عليها السلام ) عرفوه ، حرصوا على أن يقطعوه بضعة بضعة ) . ( غيبة النعماني / 288 ) .
يقصد أنه يوجد من أولاد فاطمة ( عليه السلام ) حسادٌ ، ومتعاونون مع السلطة .
وقد ثار عبد الرحمن بن الأشعث ، وادعى أنه اليماني وزيرالمهدي الموعود ( عليه السلام ) . قال البلاذري في التنبيه والأشراف / 272 : ( خَلَعَ عبد الملك وذلك بإصطخر فارس ، وخلعه الناس جميعاً ، وسمى نفسه ناصر المؤمنين ، وذكر له أنه القحطاني الذي ينتظره اليمانية ) .
( جعل عبد الملك بن مروان لا ينام الليل من الفكر والغم ، وربما هجع ثم يستيقظ كالفزع المرعوب ، وهو يقول : لقد تركني ابن الأشعث في هجوع . . وبعث إلى خالد بن يزيد بن معاوية فدعاه ، وكان خالد بن يزيد علَّامة بأيام الناس عارفاً بكتب الفتن ، فقال له : ويحك يا أبا هاشم ، هل تتخوف علينا من الرايات السود شيئاً ، فإنا نجد في الكتب أن ذهاب ملكنا على أيديهم ؟ قال له خالد : وما اسم بلد هذا الرجل الذي خرج عليك يا أمير المؤمنين ؟ قال : سجستان ، قال خالد : الله أكبر ، لا تخف يا أمير المؤمنين ما لم يأتك الأمر من قعر مرو ) ! ( الفتوح لابن الأعثم : 7 / 85 ) .
وعندما ضعفت دولة بني أمية حاول الثوار عليها من حسنيين وعباسيين استغلال روايات المهدي الموعود ( عليه السلام ) ، ليجعلوها تنطبق عليهم ! فقال لهم كبير الهاشميين عبد الله بن الحسن المثنى : ( قد علمتم أن ابني هذا هو المهدي فهلموا فلنبايعه . وقال أبو جعفر المنصور : لأي شئ تخدعون أنفسكم ، ووالله لقد علمتم ما الناس إلى أحد أطول أعناقاً ولا أسرع إجابة منهم إلى هذا الفتى ، يريد محمد بن عبد الله ! قالوا : قد والله صدقت ، إن هذا لهو الذي نعلم ، فبايعوا جميعاً محمداً ومسحوا على يده !
قالوا : وجاء جعفر بن محمد ( عليه السلام ) فأوسع له عبد الله بن الحسن إلى جنبه فتكلم بمثل كلامه ، فقال جعفر : لا تفعلوا فإن هذا الأمرلم يأت بعد ! إن كنت ترى يعني عبد الله أن ابنك هذا هو المهدي فليس به ولا هذا أوانه ، وإن كنت إنما تريد أن تخرجه غضباً لله ، وليأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ، فإنا والله لا ندعك وأنت شيخنا ونبايع ابنك . فغضب عبد الله وقال : علمتَ خلاف ما تقول ! ووالله ما أطلعك الله على غيبه ولكن يحملك على هذا الحسد لابني ! فقال ( عليه السلام ) : والله ما ذاك يحملني ، ولكن هذا وإخوته وأبناؤهم دونكم ، وضرب بيده على ظهر أبي العباس ، ثم ضرب بيده على كتف عبد الله بن الحسن ، وقال : إنها والله ما هي إليك ولا إلى ابنيك ولكنها لهم ، وإن ابنيك لمقتولان ) ! ( مقاتل الطالبيين / 171 ) .
وروى أبو الفرج في مقاتل الطالبيين / 239 ، عن عمير بن الفضل الخثعمي قال : ( رأيت أبا جعفر المنصور يوماً وقد خرج محمد بن عبد الله بن الحسن من دار ابنه ، وله فرس واقف على الباب مع عبد له أسود ، وأبو جعفر ينتظره ، فلما خرج وثب أبو جعفر فأخذ بردائه حتى ركب ، ثم سوى ثيابه على السرج ومضى محمد ، فقلت وكنت حينئذ أعرفه ولا أعرف محمداً : من هذا الذي أعظمته هذا الإعظام حتى أخذت بركابه وسويت عليه ثيابه ؟ قال : أو ما تعرفه ؟ ! قلت : لا . قال : هذا محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن ، مهدينا أهل البيت ) !
ثم جرت الأيام والمقاديركما قال الإمام الصادق ( عليه السلام ) فقَتَل المنصور سيده مهدي الحسنيين ، الذي كان يمسك له بركابه ، وادعى المهدية لابنه وسماه المهدي ، وبنى له قصر الرصافة ونصبه ولي عهده .
ولم يكتف حتى أشهد الناس زوراً بأنه المهدي الذي بشر به النبي ( صلى الله عليه وآله ) ! فقد روى أبو الفرج في الأغاني ( 13 / 313 ) عن الفضل بن إياس الهذلي الكوفي أن المنصور كان يريد البيعة للمهدي ، وكان ابنه جعفر يعترض عليه في ذلك فأمر بإحضار الناس فحضروا ، وقامت الخطباء فتكلموا ، وقالت الشعراء فأكثروا في وصف المهدي وفضائله ، وفيهم مطيع بن أياس ، فلما فرغ من كلامه في الخطباء وإنشاده في الشعراء ، قال للمنصور : يا أمير المؤمنين حدثنا فلان عن فلان أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) قال : المهدي منا ، محمد بن عبد الله وأمه من غيرنا ، يملؤها عدلاً كما ملئت جوراً ! وهذا العباس بن محمد أخوك يشهد على ذلك ! ثم أقبل على العباس فقال له : أنشدك الله هل سمعت هذا ؟ فقال : نعم ، مخافةً من المنصور ! فأمر المنصور الناس بالبيعة للمهدي . قال : ولما انقضى المجلس وكان العباس بن محمد لم يأنس به قال : أرأيتم هذا الزنديق إذ كذب على الله عز وجل ورسوله ، حتى استشهدني على كذبه فشهدت له خوفاً ، وشهد كل من حضر عليَّ بأني كاذب ) !
ملاحظات
1 . هذه النصوص وغيرها أضعافها ، تدل على أن البشارة النبوية بالمهدي ( عليه السلام ) كانت معروفة عند الحكام القرشيين ، يؤمنون بها ، ويحاول بعضهم مصادرتها وتطبيقها عليه !
2 . لكنهم مع ذلك ، كانوا يعتقدون أن المهدي من وُلد علي وفاطمة ( عليهما السلام ) ، وليس من ولد العباس ! وقد اعترف بذلك هارون الرشيد ، فقال إسحاق بن سليمان بن علي بن عبد الله بن العباس ( إعلام الورى : 2 / 165 ) : ( كنت يوماً عند الرشيد فذكر المهدي وما ذكر من عدله ، فأطنب في ذلك ، فقال الرشيد : أحسبكم تحسبونه أبي المهدي ! حدثني عن أبيه ، عن جده ، عن ابن عباس ، عن أبيه العباس بن عبد المطلب ، أن النبي قال له : يا عم ، يملك من ولدك إثنا عشر خليفة ، ثم تكون أمور كريهة شديدة عظيمة ، ثم يخرج المهدي من ولدي يصلح الله أمره في ليلة ، فيملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً ، ويمكث في الأرض ما شاء الله ، ثم يخرج الدجال ) .
ورقم الاثني عشر في الرواية لا يصح ، لأن الأئمة من ذرية النبي ( صلى الله عليه وآله ) اثنا عشر ، أما ملوك بني العباس فأكثر . والذي يهمنا من النص اعتراف الرشيد بأن المهدي ليس من ولد العباس ، بل من ولد فاطمة ( عليها السلام ) كما ورد في الحديث .
قال السيوطي في الدر المنثور ( 7 / 484 ) : ( وأخرج أبو داود ، وابن ماجة ، والطبراني ، والحاكم ، عن أم سلمة رضي الله عنها : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : المهدي من عترتي ، من ولد فاطمة ( عليها السلام ) ) .
وفي الكافي ( 8 / 210 ) : ( عن سيف بن عميرة قال : كنت عند أبي الدوانيق فسمعته يقول ابتداءً من نفسه : يا سيف بن عميرة لا بد من مناد ينادي باسم رجل من ولد أبي طالب ! قلت : يرويه أحد من الناس ؟ قال : والذي نفسي بيده لسمعت أذني منه يقول : لا بد من مناد ينادي باسم رجل .
قلت : يا أمير المؤمنين إن هذا الحديث ما سمعت بمثله قط ، فقال لي : يا سيف إذا كان ذلك فنحن أول من يجيبه ، أما إنه أحد بني عمنا . قلت : أي بني عمكم ؟ قال : رجل من ولد فاطمة ، ثم قال : يا سيف لولا أني سمعت أبا جعفر محمد بن علي يقوله ، ثم حدثني به أهل الأرض ما قبلته منهم ، ولكنه محمد بن علي ) !
3 . ثم تفاقم خوف الخلفاء العباسيين عندما بلغ أئمة العترة ( عليهم السلام ) أحد عشر ، لأن المهدي هو الثاني عشر منهم ، فاستنفروا .
وهذا هو السر فيما تراه من عملهم الحثيث لقتل الإمام الحسن العسكري ( عليه السلام ) ، قبل أن يُنجب ولده الإمام الثاني عشر ( عليه السلام ) !
4 . إصرار أربعة خلفاء على قتل الإمام العسكري ( عليه السلام )
قصرت أعمار الخلفاء العباسيين بعد المتوكل ، لأنه قَتَلَ قائدَ الأتراك العام إيتاخ ، الذي ربَّى المتوكل في بيته فكان يناديه : يا أبي ! فأخذ الأتراك ثأرهم من المتوكل وقتلوه ، وأمسكوا بالخلافة ، فكانوا ينصبون الخليفة ويعزلونه ، حتى قتلوا أربعة خلفاء في سبع سنين : المنتصر « 247 - 248 » والمستعين « 248 - 252 » والمعتز « 252 - 255 » والمهتدي « 255 - 256 » .
ثم جاؤوا بالمعتمد ، فحكمَ طويلاً « 256 - 279 » .
قال اليعقوبي في البلدان « 1 / 16 » يصف حكم خمسة خلفاء في بضع سنوات : « مات المنتصر بسرَّ من رأى في شهر ربيع الآخر سنة ثمان وأربعين ومائتين . ووليَ المستعين أحمد بن محمد بن المعتصم ، فأقام بسر من رأى سنتين وثمانية أشهر ، حتى اضطربت أموره فانحدر إلى بغداد في المحرم سنة إحدى وخمسين ومائتين ، فأقام بها يحارب أصحاب المعتز سنة كاملة والمعتز بسر من رأى معه الأتراك وسائر الموالي .
ثم خُلع المستعين ووليَ المعتز ، فأقام بها حتى قتل ثلاث سنين وسبعة أشهر بعد خلع المستعين . وبويع محمد المهتدي بن الواثق في رجب سنة خمس وخمسين ومائتن ، فأقام حولاً كاملاً ينزل الجوسق حتى قُتل .
وولي أحمد المعتمد بن المتوكل فأقام بسر من رأى في الجوسق وقصور الخلافة ، ثم انتقل إلى الجانب الشرقي بسر من رأى ، فبنى قصراً موصوفاً بالحسن سماه المعشوق فنزله فأقام به حتى اضطربت الأمور فانتقل إلى بغداد ، ثم إلى المدائن » .
أقول : في هذه المرحلة غضب الله على العباسيين فاضطرب نظام الخلافة ! فقُتل المتوكل وقصرت أعمار الخلفاء ، ووقع بينهم الصراع ، وبينهم وبين قادة جيشهم الأتراك ، وبين الأتراك أنفسهم .
وفي هذه الصراعات كانوا يقتلون الخليفة الذي لا يعجبهم ، ويختارون عباسياً غيره . وكانت الطريقة المفضلة لقتل الخليفة أن يعصروا خصيتيه حتى يموت !
والعجيب أن هؤلاء ( الخلفاء ) الأذلاء أمام الأتراك ، نشطوا لقتل الإمام الهادي وابنه ( عليهما السلام ) ، خوفاً من أن ينجب المهدي الموعود ( عليه السلام ) !
فقد كانوا يرون أن الترك ملزمون باختيار خليفة عباسي ، أما العلويون فينتظرون إمامهم الموعود الذي سيطهر الأرض من الجبابرة . لذلك كانت عداوتهم للعلويين أشد ، وكان حرصهم على قتل الإمام ( عليه السلام ) قبل أن ينجب !
5 . كيف تعامل العباسيون واليهود مع المغيبات !
إذا أخبر النبي ( صلى الله عليه وآله ) بأمر غيبي وأنه سيقع حتماً ، فلا يمكن لأحد أن يمنع وقوعه ، لأنه أمرٌ قدره الله وقضاه وأمضاه ، ولا رادَّ لقضاء الله عز وجل ، ولا يمكن عمل شئ مقابله .
ففي كتاب سُلَيْم بن قيس / 363 ، أن علياً ( عليه السلام ) قال للنبي ( صلى الله عليه وآله ) وهو يبكي : « بأبي أنت وأمي يا نبي الله أتُقتل ؟ قال : نعم أهلكُ شهيداً بالسم ! وتُقتل أنت بالسيف وتُخضب لحيتك من دم رأسك . ويُقتل ابني الحسن بالسم . ويُقتل ابني الحسين بالسيف ، يقتله طاغٍ ابن طاغ ، دعيُّ ابن دعي » !
وفي الخرائج ( 1 / 241 ) أن الإمام الحسن ( عليه السلام ) قال : ( إني أموت بالسم كما مات رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ! فقالوا : ومن يفعل ذلك ؟ قال : امرأتي جعدة بنت الأشعث بن قيس ، فإن معاوية يدس إليها ويأمرها بذلك . قالوا :
أخرجها من منزلك وباعدها من نفسك ! قال : كيف أخرجها ولم تفعل بعد شيئاً ، ولو أخرجتها ما قتلني غيرها ، وكان لها عذرٌ عند الناس » !
هكذا تعامل أهل البيت ( عليهم السلام ) مع إخبار النبي ( صلى الله عليه وآله ) بالمغيبات ، لأن العمل على تغييرها قلة إيمان وقلة عقل ! لكن اليهود رغم اعتقادهم بإخبار الأنبياء ( عليهم السلام ) ، فهم لغلبة هواهم على عقلهم يحاولون تغيير مقادير الله تعالى !
وأمثلة ذلك في تاريخهم كثيرة ، ومنها في عصرنا اعتقادهم بأن زوال دولتهم سيكون على يد القائد البابلي الآتي من العراق ، لكنهم يعملون حتى لا يظهر ! وقد صرح وزير الدفاع الأمريكي رامسفيلد ، بعد احتلالهم العراق بأيام ، بأنهم فعلوا ذلك خدمةً لمصلحة إسرائيل ! وكتب حاخام كتاباً باسم : الدخول الثاني إلى بابل ! فهم يفهمون مقادير الله ، لكن هواهم غالب على عقلهم !
وخلفاء بني العباس كاليهود في هذا الأمر ، فهم يؤمنون ببشارة النبي ( صلى الله عليه وآله ) بالمهدي وأنه من ذرية علي وفاطمة ( عليهما السلام ) والثاني عشرمن أئمة العترة ، ومع ذلك عملوا لتغيير مقادير الله تعالى ، وقتل أبيه حتى لا يولد !
كان المتوكل يعرف أن الإمام الهادي ( عليه السلام ) هو الإمام العاشر ، وفرض عليه الإقامة في سامراء وعمل لقتله وقتل أولاده ، لكن الله قتله قبل ذلك !
وكان للإمام الهادي ( عليه السلام ) أربعة أولاد وبنت ، هم : عَلَيَّة ، ومحمد ، ثم الحسن ، وأخوه حسين ، وجعفر . « مناقب آل أبي طالب : 3 / 505 » وكان العباسيون يقدرون أن ابنه الكبير محمداً هو الحادي عشر ، وأن المهدي سيكون ابنه .
لذلك لا نستبعد أن يكون المستعين قتل محمداً بن الإمام الهادي ( عليه السلام ) بعد خروجه من سامراء ، وهو في طريق رجوعه إلى المدينة .
قال السيد الأمين في أعيان الشيعة « 10 / 5 » : « أبو جعفرمحمد بن الإمام علي أبي الحسن الهادي ( عليه السلام ) توفي في حدود سنة 252 جليل القدر عظيم الشأن ، كانت الشيعة تظن أنه الإمام بعد أبيه ( عليه السلام ) ، فلما توفي نص أبوه على أخيه أبي محمد الحسن الزكي ( عليه السلام ) . وكان أبوه خلفه بالمدينة طفلاً لما أتيَ به إلى العراق ثم قدم عليه في سامراء ، ثم أراد الرجوع إلى الحجاز ، فلما بلغ القرية التي يقال لها بلد على تسعة فراسخ من سامراء مرض وتوفي ودفن قريباً منها ، ومشهده هناك معروف . ولما توفي شق أخوه أبو محمد ثوبه ، وقال في جواب من لامَهُ على ذلك : قد شقَّ موسى على أخيه هارون » .
والمرجح أن يكون قَتْلُه ( رحمه الله ) سنة خمسين أو إحدى وخمسين ، لأن المستعين حاول قتل أخيه الإمام الحسن العسكري ( عليه السلام ) أيضاً ، وقد قتل الله المستعين سنة 252 ، أي قبل شهادة الإمام الهادي ( عليه السلام ) بنحو سنتين !
فقد روى الكليني ( قدس سره ) « 1 / 507 » أن المستعين أحضر الإمام العسكري في حياة أبيه ( عليهما السلام ) وطلب منه أن يركب بغلاً شموساً ، ليقتله ويتخلص منه !
قالت الرواية : ( حدثني أحمد بن الحارث القزويني قال : كنت مع أبي بسرَّ من رأى وكان أبي يتعاطى البيطرة في مربط أبي محمد ، قال : وكان عند المستعين بغلٌ لم يُرَ مثله حسناً وكبراً ، وكان يمنع ظهره واللجام والسرج وقد كان جمع عليه الرَّاضَةُ ( المدربين ) فلم يمكن لهم حيلةٌ في ركوبه ، قال فقال له بعض ندمائه : يا أمير المؤمنين ألا تبعث إلى الحسن بن الرضا حتى يجيئ ، فإما أن يركبه وإما أن يقتله فتستريح منه ، قال : فبعث إلى أبي محمد ومضى معه أبي . فقال أبي : لما دخل أبو محمد الدار كنت معه فنظر أبو محمد إلى البغل واقفاً في صحن الدار ، فعدل إليه فَوَشَعَ بيده على كِفْلِهِ قال فنظرت إلى البغل وقد عرق حتى سال العرق منه !
ثم صار إلى المستعين ، فسلم عليه فرحَّبَ به وقَرَّب ، فقال : يا أبا محمد ألجم هذا البغل ، فقال أبو محمد لأبي : ألجمه يا غلام ، فقال المستعين : ألجمه أنت ، فوضع طيلسانه ثم قام فألجمه ، ثم رجع إلى مجلسه وقعد .
فقال له : يا أبا محمد أسرجه ، فقال لأبي : يا غلام أسرجه ، فقال : أسرجه أنت ! فقام ثانية فأسرجه ورجع ، فقال له : ترى أن تركبه ؟ فقال : نعم ، فركبه من غير أن يمتنع عليه ، ثم ركَّضَهُ في الدار ، ثم حمله على الهملجة ( شبيه الهرولة ) فمشى أحسن مشيٍ يكون ، ثم رجع ونزل ، فقال له المستعين : يا أبا محمد كيف رأيته ؟ قال : يا أمير المؤمنين ما رأيت مثله حسناً وفراهةً ، وما يصلح أن يكون مثله إلا لأمير المؤمنين .
قال فقال : يا أبا محمد فإن أمير المؤمنين قد حملك عليه ، فقال أبو محمد لأبي : يا غلام خذه ، فأخذه أبي فقاده ) .
وبذلك أفشل الله مكيدة الخليفة وحفظ وليه ( عليه السلام ) ، وينبغي أن يكون ذلك سنة إحدى وخمسين أو قبلها ، لأن المستعين ذهب فيها إلى بغداد ولم يعد حتى قُتل .
وكان عُمْرُ الإمام العسكري ( عليه السلام ) يومها نحو عشرين سنة ، ونلاحظ أن المستعين كَنَّاهُ بأبي محمد وهو تجليلٌ لا يفعله الخليفة إلا مع كبار الشخصيات .
وهو يدل أيضاً على أن كنية أبي محمد كانت للإمام العسكري ( عليه السلام ) من صغره !
صورة عامة لمحاولاتهم قتل الإمام ( عليه السلام ) !
قال الإمام العسكري ( عليه السلام ) عندما ولد ابنه ( عليهما السلام ) : ( زعمت الظلمة أنهم يقتلونني ليقطعوا هذا النسل ، كيف رأوا قدرة القادر ) . ( مهج الدعوات / 276 ) .
وقال ( عليه السلام ) : ( زعموا أنهم يريدون قتلي ليقطعوا هذا النسل وقد كذب الله عز وجل قولهم والحمد لله ) . ( لما حملت جارية أبي محمد ( عليه السلام ) قال : ستحملين ذكراً واسمه محمد ، وهو القائم من بعدي ) . ( كمال الدين / 407 ) .
وقال السيد ابن طاووس في مهج الدعوات / 273 : ( فمن الخلفاء الذين أرادوا قتله المسمى بالمستعين من بني العباس ، رويناه من كتاب الأوصياء وذكر الوصايا ، تأليف السعيد علي محمد بن زياد الصيمري ، من نسخه عتيقة عندنا الآن ، فيها تاريخ بعد ولادة المهدي صلوات الله عليه بإحدى وسبعين سنة ، ووجد هذا الكتاب في خزانة مصنفه بعد وفاته سنة ثمانين ومائتين ، وكان رضي الله عنه قد لحق مولانا علي بن محمد الهادي ، ومولانا الحسن بن علي العسكري صلوات الله عليهما ، وخدمهما وكاتباه ووقعا إليه توقيعات كثيرة . فقال في هذا الكتاب ما هذا لفظه : ولما هَمَّ المستعين في أمر أبي محمد ( عليه السلام ) بما هم ، وأمر سعيد الحاجب بحمله إلى الكوفة وأن يحدث عليه في الطريق حادثة ، انتشر الخبر بذلك في الشيعة فأقلقهم وكان بعد مضي أبي الحسن ( عليه السلام ) بأقل من خمس سنين ، فكتب إليه محمد بن عبد الله والهيثم بن سبابة : بلغنا جعلنا الله فداك خبر أقلقنا وغمنا وبلغ منا . فوقَّع : بعد ثلاث يأتيكم الفرج . قال : فخلع المستعين في اليوم الثالث وقعد المعتز ، وكان كما قال ( عليه السلام ) .
وروى أيضاً الصيمري في الكتاب المذكور ما هذا لفظه : وحدث محمد بن عمر المكاتب عن علي بن محمد بن زياد الصيمري ، صهر جعفر بن محمود الوزير على ابنته أم أحمد ، وكان رجلاً من وجوه الشيعة وثقاتهم ومقدماً في الكتابة والأدب والعلم والمعرفة ، قال : دخلت على أبي أحمد عبيد الله بن عبد الله بن طاهر ، وبين يديه رقعة أبي محمد ( عليه السلام ) فيها : إني نازلت الله عز وجل في هذا الطاغي يعني المستعين وهو آخذه بعد ثلاث ، فلما كان في اليوم الثالث خلع ، وكان من أمره ما رواه الناس في إحداره إلى واسط وقتله . أقول : فهذا من أخبار مولانا الحسن العسكري ( عليه السلام ) مع المستعين ، ولم يذكر لفظ الدعاء الذي دعا به ( عليه السلام ) .
* وأما تعرض المسمى بالمعتز الخليفة من بني عباس لمولانا الحسن العسكري ( عليه السلام ) ، فقد رواه الشيخ السعيد أبو جعفر الطوسي رضي الله عنه في كتابه الغيبة من نسخة عندنا الآن ، تاريخ كتابتها سنة إحدى وسبعين وأربع مائة ، عند ذكر معجزات مولانا الحسن العسكري ( عليه السلام ) فقال ما هذا لفظه : حدثنا سعد بن عبد الله ، عن أحمد بن الحسين ، عن عمر بن زيد قال قال : أخبرني أبو الهيثم بن سبابة أنه كتب إليه لما أمر المعتز بدفعه إلى سعيد الحاجب عند مضيه إلى الكوفة ، وأن يحدث ما تحدث به الناس بقصر بن هبيرة : جعلني الله فداك بلغنا خبر قد أقلقنا وبلغ منا ، فكتب إليه ( عليه السلام ) : بعد ثلاثة يأتيكم الفرج ، فخلع المعتز يوم الثالث .
أقول : لم أقف إلى الآن على ما دعا به ( عليه السلام ) .
* وأما تعرض المسمى بالمهتدي من خلفاء بني العباس لمولانا الحسن العسكري صلوات الله عليه ، فرويناه عن جماعة منهم علي بن محمد الصيمري في كتابه الذي أشرنا إليه ، فقال ما هذا لفظه : سعد ، عن أبي هاشم قال : كنت محبوساً عند أبي محمد ( عليه السلام ) في حبس المهتدي فقال لي : يا أبا هاشم إن هذا الطاغية أراد أن يعبث بالله عز وجل في هذه الليلة ، وقد بتر الله عمره وجعله الله للمتولي بعده ، وليس لي ولد وسيرزقني الله ولداً بلطفه . فلما أصبحنا سعت الأتراك على المهتدي وأعانهم العامة لما عرفوا من قوله بالاعتزال والقدر ، فقتلوه ونصبوا مكانه المعتمد وبايعوا له .
وكان المهتدي قد صحح العزم على قتل أبي محمد ( عليه السلام ) ، فشغله الله بنفسه حتى قتل ، ومضى إلى أليم عذاب الله .
وروى الصيمري رضي الله عنه أيضاً في كتابه المذكور وجماعة غيره حديثاً في حُكم مولانا الحسن العسكري صلوات الله عليه وتعريفه بقتل المسمى بالمهتدي من بني العباس ، قبل وقوع القتل ، فقال ما هذا لفظه : عن محمد بن الحسن بن شمون عمن حدثه قال : كتبت إلى أبي محمد ( عليه السلام ) حين أخذه المهتدي : يا سيدي الحمد لله الذي شغله عنا ، فقد بلغني أنه يتهدد شيعتك ويقول والله لأجلينهم عن جديد الأرض ! فوقع بخطه : ذلك أقصر لعمره ، عُدَّ من يومك هذا خمسة أيام ، فإنه يقتل في اليوم السادس ، بعد هوانٍ واستخفافٍ وذُلٍّ يلحقه ! فكان كما قال ( عليه السلام ) .
أقول : وربما يقال إن بعض هذه الأحاديث لم يُذكر فيها أن مولانا العسكري صلوات الله عليه دعا على من حبسه أو تعرض به ، فإن لسان الحال يشهد أنه ( عليه السلام ) قدم الدعاء والابتهال .
* وأما تعرض المعتمد من خلفاء بني العباس لمولانا الحسن العسكري صلوات الله عليه ، فرواه جماعة ، فنذكر ما رواه علي بن محمد الصيمري رضوان الله عليه في الكتاب الذي أشرنا إليه ، فقال ما هذا لفظه : الحميري ، عن الحسن بن علي ، عن إبراهيم بن مهزيار ، عن محمد بن أبي الزعفران ، عن أم أبي محمد ( عليه السلام ) قالت : قال لي يوماً من الأيام : تصيبي في سنة ستين ومائتين حزازةٌ ، أخاف أن أنكب منها نكبة . قالت : فأظهرت الجزع وأخذني البكاء ، فقال : لا بد من وقوع أمر الله ، لا تجزعي .
فلما كان في صفر سنة ستين أخذها المقيم والمقعد ، وجعلت تخرج في الأحايين إلى خارج المدينة ، وتَجَسَّسُ الأخبار ، حتى ورد عليها الخبر حين حبسه المعتمد في يدي علي بن جَرِين ، وحبس جعفراً أخاه معه ، وكان المعتمد يسأل علياً عن أخباره في كل وقت فيخبره أنه يصوم النهار ويصلي الليل ، فسأله يوماً عن الأيام عن خبره فأخبره بمثل ذلك ، فقال له : إمض الساعة إليه وأقرئه مني السلام وقل له : انصرف إلى منزلك مصاحباً علي جَرِين ، فجئت إلى باب الحبس فوجدت حماراً مسرجاً فدخلت عليه فوجدته جالساً وقد لبس خفه وطيلسانه وشاشه ، فلما رآني نهض ، فأديت إليه الرسالة ، فركب فلما استوى على الحمار وقف ، فقلت له : ما وقوفك يا سيدي ؟ فقال لي : حتى يجئ جعفر ، فقلت : إنما أمرني بإطلاقك دونه ، فقال لي ترجع إليه فتقول له خرجنا من دارة واحدة جميعاً فإذا رجعت وليس هو معي كان في ذلك مالاخفاء به عليك فمضى وعاد فقال : يقول لك قد أطلقت جعفراً لك ، لأني حبسته بجنايته على نفسه وعليك ، وما يتكلم به ، وخلى سبيله فصار معه إلى داره .
وذكر الصيمري أيضاً في كتابه المشار إليه خروج مولانا الحسن العسكري ( عليه السلام ) من حبس المعتمد ، وما قال له ( عليه السلام ) ما هذا لفظه :
عن المحمودي قال : رأيت خط أبي محمد ( عليه السلام ) لما خرج من حبس المعتمد : يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ الله بِأَفْواهِهِمْ وَالله مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ .
أقول : وقد ذكرنا في كتاب الاصطفاء كيف اضطربت بلاد هؤلاء الخلفاء حتى تمت ولادة المهدي صلوات الله عليه . وهو مشروح في الجزء الثالث من كتاب المذاكرة للتنوخي في حديث الفتن التي تجددت أيام المعتمد . ومشروح أيضاً في الجزء الثالث من أخبار الوزراء تأليف محمد بن عبدوس الجهشياري في أخبار وزراء المعتمد . ومشروح أيضاً في كتاب الوزراء تأليف فناخسرو بن رستم بن هرمز ، عند ذكر عبد الله بن يحيى بن خاقان . وقد ذكرنا هذه الروايات في كتاب الاصطفاء في أخبار الملوك والخلفاء . وذكر نصر بن علي الجهضمي ، وهو من ثقات رجال المخالفين وقد مدحه الخطيب في تاريخه والخطيب من المتظاهرين بعداوة أهل البيت ، فيما صنفه نصر بن علي الجهضمي المذكور ، في مواليد الأئمة : فقال عند ذكر الحسن بن علي العسكري : ومن الدلائل ما جاء عن الحسن بن علي العسكري عند ولادة محمد بن الحسن : زعمت الظلمة أنهم يقتلونني ليقطعوا هذا النسل ، كيف رأوا قدرة القادر ! وسماه المؤمل ) .
ملاحظات
1 . كان قتل الإمام العسكري ( عليه السلام ) هدفاً مشتركاً عند الخلفاء العباسية ، وضرورةً برأيهم ، رغم صراعهم مع الأتراك وصراعهم فيما بينهم ، فكان المستعين والمعتز والمهتدي والمعتمد ، يعملون لقتله بأي شكل .
2 . كان المتوكل إذا سلم شخصاً إلى سعيد الحاجب ، أو بعث سعيداً إلى أحد فهو يعني القتل . وقد بعثه ليتلقى إيتاخ قائد الترك الذي ربى المتوكل وكان يناديه : يا أبي ، فتلقاه في عودته من الحج ، وقتله .
وبعث سعيداً الحاجب لمداهمة بيت الإمام الهادي ( عليه السلام ) ليلاً فأحضره إلى المتوكل ، وكانت له معه قصة معروفة ، فوعظ المتوكل وأبكاه .
وبعثه ليقتل جعفر بن إسحاق بن موسى الكاظم ( عليه السلام ) ، وموسى بن عبد الله بن موسى بن عبد الله بن الحسن المثنى . ( مقاتل الطالبيين : 1 / 530 ) .
وجاء سعيد من المدينة بيحيى بن الحسن بن جعفر العلوي ومعه ابنه وابن أخيه : ( فلما كان بزبالة دس إليه سماً فقتله ، وأخذ رأسه وحمله إلى المهتدي في المحرم سنة ست وخمسين ومائتين ) . ( مقاتل الطالبيين : 1 / 530 ) .
وقتل سعيد الحاجب الخليفة المستعين : ( وسعيد هذا هو الذي تولى قتل المستعين ، بعدما استتب الأمر للمعتز ) . ( تاريخ دمشق : 21 / 339 ) .
فسعيد هذا جلادٌ فاتك ، لكنه قائدٌ فاشل ، فقد بعثوه لقتال صاحب الزنج في البصرة : ( فالتقوا فانهزم سعيد ، واسْتَحَرَّ القتل بأصحابه ، ثم دخلت الزنج البصرة ، وخربوا الجامع ) . ( العبر للذهبي : 1 / 368 ) .
وجاء ذكر سعيد الحاجب في سيرة الإمام الهادي ( عليه السلام ) وأن المتوكل سلمه اليه ليقتله . وجاء ذكره مرات في سيرة الإمام العسكري ( عليه السلام ) في محاولات المستعين والمعتز ، والمهتدي ، والمعتمد ، أن يقتلوه ( عليه السلام ) !
3 . علي بن جَرِين أحد غلمان العباسية ، ولعله لفظ غير عربي ، لكن معنى الجَرِين بالعربية : البيدر والمَسْطَح والمِرْبد ، وجمعه جُرُن وأجران .
ويظهر أنه كان مسؤولاً عن السجن في سامراء ، حيث حبس المعتمد الإمام العسكري ( عليه السلام ) عنده في سنة 260 ، لمدة قصيرة ، لأنهم سجنوه في صفر كما في خبر والدته ، ثم أطلقوه وأرسلوا معه إلى بيته حرساً ومراقبين وأطباء ! حتى استشهد ( عليه السلام ) في شهر ربيع من تلك السنة ، فكتبوا محضراً بأن موته طبيعي ، فلا بد أنهم سَمُّوه في السجن !
4 . امتدت محاولاتهم لقتل الإمام العسكري ( عليه السلام ) نحو عشر سنين ، وفي هذه المدة رزقه الله بالمهدي الموعود ( عليه السلام ) ، فأخفاه ، لكنه كان يتحداهم ويريه لخاصة شيعته الساكنين في سامراء ، أو القاصدين اليه من البلاد .
5 . في راوية ابن طاووس ( رحمه الله ) عن الصيمري خطأ في اسم الخليفة في قوله : ( ولما هَمَّ المستعين في أمر أبي محمد ( عليه السلام ) بما هم ، وأمر سعيد الحاجب بحمله إلى الكوفة . . وكان بعد مضي أبي الحسن بأقل من خمس سنين ) .
وسبب الخطأ أن المستعين هلك قبل شهادة الإمام الهادي ( صلى الله عليه وآله ) بسنتين ، وتقدم أنه حاول قتل الإمام العسكري ( عليه السلام ) بواسطة بغل شموس ، ثم جاء المعتز وقتل الإمام الهادي ( عليه السلام ) وأراد قتل الإمام العسكري ( عليه السلام ) .
وتابع بعده المهتدي والمعتمد محاولاتهما ، حتى قتله المعتمد في السنة الخامسة من ملكه . على أنه يمكن أن يعمل المستعين وهو ولي عهد على قتل الإمام العسكري ( عليه السلام ) في حياة أبيه الهادي ( عليهما السلام ) .
الاكثر قراءة في قضايا عامة
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة