علم الحديث
تعريف علم الحديث وتاريخه
أقسام الحديث
الجرح والتعديل
الأصول الأربعمائة
الجوامع الحديثيّة المتقدّمة
الجوامع الحديثيّة المتأخّرة
مقالات متفرقة في علم الحديث
أحاديث وروايات مختارة
علم الرجال
تعريف علم الرجال واصوله
الحاجة إلى علم الرجال
التوثيقات الخاصة
التوثيقات العامة
مقالات متفرقة في علم الرجال
أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله)
اصحاب الائمة من التابعين
اصحاب الائمة من علماء القرن الثاني
اصحاب الائمة من علماء القرن الثالث
علماء القرن الرابع الهجري
علماء القرن الخامس الهجري
علماء القرن السادس الهجري
علماء القرن السابع الهجري
علماء القرن الثامن الهجري
علماء القرن التاسع الهجري
علماء القرن العاشر الهجري
علماء القرن الحادي عشر الهجري
علماء القرن الثاني عشر الهجري
علماء القرن الثالث عشر الهجري
علماء القرن الرابع عشر الهجري
علماء القرن الخامس عشر الهجري
التقيّة في الكافي.
المؤلف: السيّد هاشم معروف.
المصدر: دراسات في الحديث والمحدّثين.
الجزء والصفحة: ص 314 ـ 327.
2023-09-02
1262
لقد روى الكليني في باب التقية 23 حديثا، وكلها تنص بصراحة تأبى عن التأويل انّ للإنسان ان يتهرّب من الضرر الموجّه عليه ممّن هو اقوى منه، ولو ادّى ذلك إلى موافقته فيما هو مخالف للحق أو للاعتقاد من قول أو فعل.
ومن امثلة ذلك ما رواه عن هشام بن سالم، عن ابراهيم الاعجمي انّ ابا عبد الله الصادق (عليه السلام) قال: يا ابا عمر انّ تسعة اعشار الدين في التقية، ولا دين لمن لا تقية له، والتقية في كلّ شيء الا في النبيذ والمسح على الخفّين.
وهذه الرواية كما وضعت مبدأ التقية عند الخوف من ضرر الغير، يستفاد منها مشروعيّتها في الفروع والاصول وفي كلّ شيء الا في النبيذ والمسح على الخفين(1).
وروى عن جابر المكفوف، عن عبد الله بن ابي يعفور انّ ابا عبد الله الصادق (عليه السلام) قال: اتقوا على دينكم بالتقية، فانّه لا ايمان لمن لا تقية له، انّما أنتم في الناس كالنحل في الطير، لو انّ الطير تعلم ما في اجواف النحل ما بقي منها شيء الا اكلته، ولو انّ الناس علموا ما في اجوافكم من حبّنا اهل البيت لأكلوكم بألسنتهم ولنحلوكم في السرّ والعلانية، رحم الله عبدا منكم مات على ولايتنا.
وروى عن هارون بن مسلم عن مسعدة بن صدقة انّه قال: قيل لأبي عبد الله (عليه السلام): انّ الناس يروون انّ عليا (عليه السلام) قال على منبر الكوفة: ايّها الناس انكم ستدعون إلى سبي فسبوني: ثم تدعون إلى البراءة منّي فلا تتبرؤوا منّي، فقال (عليه السلام): ما أكثر ما يكذب الناس على علي (عليه السلام) انّ عليا قال: انّكم ستدعون إلى سبّي فسبّوني، ثمّ ستدعون إلى البراءة منّي، وانّي لعلى دين محمد (عليه السلام) ولم يقل: لا تتبرؤوا منّي، فقال له السائل: ارأيت ان اختار القتل دون البراءة، فقال: والله ما ذلك عليه، وماله الا ما مضى عليه عمّار بن ياسر حيث اكرهه اهل مكة وقلبه مطمئن بالإيمان، فانزل الله: {الا من اكره وقلبه مطمئن بالإيمان} فقال له النبي (صلى الله عليه وآله): يا عمار انّ عادوا فعد فقد انزل الله عذرك وامرك ان تعود إن عادوا اليك. وروى عن عبد الله بن اسد عن عبد الله بن عطاء انه قال: قلت لابي جعفر الباقر (عليه السلام) رجلان من اهل الكوفة اخذا فقيل لهما ابرءا من علي، فبرئ أحدهما وابى الآخر فخلّي سبيل الذي برئ وقتل لآخر، فقال (عليه السلام) اما الذي برئ فرجل فقيه في دينه، واما الذي لم يبرأ فرجل تعجّل إلى الجنّة (2).
إلى غير ذلك من المرويّات الكثيرة التي تؤكّد مشروعيّتها وتفرض على المكلّفين استعمالها في كلّ شيء يضطر إليه الانسان من يخرّ فرق بين الأصول والفروع، إلا إذا توقّف التخلّص من ضرر المغير على قتل انسان مثلا، فلا تقيّة في مثل ذلك؛ لأنّها شرّعت للتخلص من الضرر، فإذا لزم من استعمالها ضرر مماثل أو اقوى من الضرر الذي توعّد به الظالم فلا تحصل الغاية المطلوبة منها.
وقد جاء في رواية شعيب الحداد عن محمد بن مسلم انّ ابا جعفر الباقر (عليه السلام) قال: انّما جعلت التقية ليحقن بها الدم، فإذا بلغ الدم فلا تقيّة حينئذٍ.
وقد تحدّث الفقهاء عن التقية في مختلف المواضيع من الفقه حسب المناسبات وألفوا فيها الرسائل المستقلة التى تحدّد موضوعها ومواردها، حسب الزمان والمكان والاشخاص. ومع انها من الضرورات التي يفرضها العقل، بالإضافة إلى الشرع الذي حث عليها كتابا وسنة، مع انها كذلك فقد تعرّض الشيعة منذ العصور الاولى لأعنف الهجمات واسوأ الاتهامات لأنّهم يستعملونها حفظا لدمائهم وصونا لأعراضهم كما يلتجئ غيرهم لذلك عندما تلجئه الضرورات لمجاراة الغير تهربا من ضرره من حيث لا يشعرون.
انّ فكرة التقية ليست من مختصات الشيعة، ولا من مخترعاتهم، فالانسان بطبعه مفطور على التهرب من الضرر بما يملك من الوسائل التي تهيئ له السلامة، وعندما يرى نفسه عاجزا عن دفعه بالقوة وبغيرها من وسائل الدفاع، يفطر إلى مجاراة من يخاف ضرره والتسليم له في الفعل والقول، وقد اقر الاسلام هذا الاسلوب من اساليبه الدفاع عن النفس منذ ان بزغ فجره يوم كان المسلمون الاولون يتعرضون للأذى والتهذيب من القرشيين وغيرهم، وكان من امر عمار بن ياسر احد المعذّبين، ان اظهر لهم التراجع عن الاسلام بلسانه بعد ان رأى ان صموده وتصلّبه يؤدّيان به إلى الهلاك، فأقرّه النبي على مجاراتهم، وانزل الله فيه بهذه المناسبة قوله الا من اكره وقلبه مطمئن للاسلام، وقال له النبي (صلى الله عليه وآله): ان عادوا فعد، فقد انزل الله فيك قرآنا، وامرك ان تعود ان عادوا اليك.
وقال تعالى في معرض النهي عن متابعة الكافرين ومجاراتهم في افعالهم واقوالهم: {لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ}.
وإذا جازت التقية في اظهار الكفر والشرك تهربا من الضرر تجوز في غيرهما من الاصول والفروع بالأولويّة.
ومهما كان الحال فالتقية تتصف بالوجوب والاستحباب والحرمة، فتجب في موارد الضرر المترتب على المخالفة، كما لو علم المصلي مثلا بانّه إذا لم يصلِّ متكتفا يتعرّض للإهانة والايذاء، أو القتل ونحو ذلك من الاضرار.
وتكون مستحبة عند توهّم الضرر، أو عند العلم بحصول الضرر اليسير الذي لا يضر بالحال. والمحرّم منها هو مجاراة الغير على ترك واجب، أو فعل حرام مع العلم بعدم الضرر على فعل الواجب وترك الحرام، أو مجاراته على قتل الغير والتعدّي على الناس بما يضر بحالهم كما لو قتل انسانا أو قطع يده مثلا خوفا من ضرر الحاكم، وجاء في رواية محمد بن مسلم عن ابي جعفر (عليه السلام) انه قال: انما جعلت التقية ليحقن بها الدم، فإذا بلغ الدم فلا تقية.
وقد نصّ الشيخ الانصاري في رسالته التي ألّفها في التقية، على انّ المدرك في وجوب التقية في موارد وجوبها، هو ادلة نفي الضرر، وحديث الرفع الذي اشتمل على رفع ما يضطر إليه الانسان، بالإضافة إلى ادلة التقية التي تنصّ على انّها واسعة وليس شيء منها الا وصاحبها مأجور عليه.
وهذه الادلة من حيث معذوريّة المكلف بمجموعها تحكم على ادلة الواجبات والمحرمات، ولا تتعارض مع شيء منها، ذلك لانّ ادلة التقية تقيّد موضوع تلك الادلة بغير موارد الاضطرار والخوف من الضرر، كما هو الشأن في جميع الادلة الحاكمة التي ترجع في واقعها إلى التصرّف في الأدلة المحكومة سعة وضيقا (3).
ومعنى ذلك انّ ادلة الواجبات والمحرّمات إذا ضممنا إليها ادلة التقيّة التي ترخّص في ترك بعض الواجبات أو ادخال ما لا يجوز ادخاله في موضوع التكليف، هذه الادلة تصبح مختصة بصورة عدم الضرر على فعل الواجب، أو ترك الحرام، امّا من ناحية صحة العمل الواقع على وجه التقية، فانّ ادلة تشريعها بلحاظ ذاتها بما في ذلك قوله (عليه السلام): التقية في كلّ شيء، وليس شيء اوسع منها لا يستفاد منها اكثر من الترخيص في الاتيان بالعمل الناقص أو الزائد تهرّبا من الضرر المترقّب ممّن يخاف من ضرره، ولا تدلّ على صحته أو فساده، كما هو الحال في حديثي الضرر والرفع وامثالهما من ادلة العسر والحرج الواردة في معرض التسهيل والتيسير على المكلفين، والتي ترفع المؤاخذة أو الحكم حسب اختلاف المقامات فمن اضطر إلى الصلاة متكتفا، أو مع من لا تصح معه الصلاة ونحو ذلك، فأدلة وجوب التقية تفرض عليه ان يصلي متكتفا ومؤتما بمن لا يصح الائتمام به ولا نظر فيها إلى كفاية هذا العمل عن الواقع وعدمها، ولا بدّ في مثل ذلك من الرجوع إلى ادلة الاحكام التي اعتبرت الشيء جزء أو شرطا، أو مانعا، فان كانت حسب اطلاقها تشمل حالتي الاضطرار والخوف من ضرر الغير، فلازم ذلك فساد العمل الواقع لجهة التقية لانّه يفقد بعض الاجزاء أو لانّه يقترن ببعض الموانع، وان لم يتّسع اطلاقها لحالتي الاضطرار والخوف من ضرر الغير يكون العمل الواقع لجهة التقية صحيحا لا يجب اعادته في الوقت ولا قضاؤه في خارجه، ولو ارتفع العذر المسوغ للتقيّة قبل خروج الوقت في الواجبات المؤقتة وكان المكلّف قد اوجد المأمور به تقيّة، كما لو أذن المشرّع بالصلاة متكتفا، أو امره بالإتيان بالصلاة، أو بغيرها من العبادات حسبما يراه المخالفون، ثم ارتفع العذر المسوّغ للتقيّة قبل مضي الوقت فقد نصّ الشيخ الانصاري، بانّه لا ينبغي الاشكال في كفاية العمل الواقع من المكلّف على جهة التقيّة، واحتج لذلك بأنّ الأمر بالكلي كما يسقط بفرده الاختياري كذلك يسقط بفرده الاضطراري لو كانت أدلة الموانع ظاهرة في المانعية في حال الاختيار، فيكون المقام شبيها بالطهارة الترابية فيما لو صلّى المكلّف متيمّما، ثم ارتفع العذر قبل خروج الوقت حيث انّ المستفاد من تشريع التيمّم عند الخوف من استعمال الماء، أو عدم وجوده المستفاد من ذلك جعل فردين طوليّين للطهارة هما الماء والتراب، فإذا تحقّق موضوع الثاني، وصلّى المكلف متيمّماً بعد الإذن الشرعيّ بالصلاة يتعيّن سقوط الامر المتعلّق بالعمل المأتي به في هذه الحالة، وهكذا الحال فيما لو كانت ادلة الاجزاء والشروط والموانع بإطلاقها تشمل حالة الخوف من ضرر الغير، وادلة التقيّة التي تفرض على المكلف الاتيان بالعمل الناقص، أو المقترن بالمانع نتيجتها تقييد اطلاق تلك الادلة بغير موارد الخوف والاضطرار. ثم انّه لو كان زوال العذر محتملا قبل خروج الوقت، فجواز المبادرة إلى الاتيان بالعمل على وجه التقية مبني على ان ذوي الاعذار، هل لهم ان يبادروا إلى الامتثال في الاجزاء الاولى من الوقت مع احتمال بقاء الوقت الذي يتسع للواجب بجميع اجزائه وشرائطه بعد زوال العذر، أم يجب عليهم الانتظار في مثل هذه الحالة ليتاح لهم اداء الواجب على الوجه الشرعي، والمعوّل في مثل ذلك على الأدلة الخاصة التي تعرّضت لحال التقيّة موضوعا وحكما.
والذي عليه أكثر الفقهاء جواز المبادرة إلى الاتيان بالعمل تقية على الوجه المرغوب فيه عند المخالفين، ولو كان المكلف يحتمل اتساع الوقت لأدائه على وجهه الشرعيّ بعد زوال الخوف الموجب للتقيّة، وليس ذلك ببعيد عن بعض نصوصها.
مثل قوله في رواية ابراهيم الاعجمي: انّ تسعة اعشار الدين في التقية، ولا دين لمن لا تقية له، والتقية في كلّ شيء الا في النبيذ والمسح على الخفين.
وقول ابي جعفر الباقر (عليه السلام): التقية في كل ّ يضطر إليه ابن آدم فقد احله الله. فإنّ الظاهر من هذه المرويّات جواز المبادرة إلى الفعل عند حصول السبب المسوغ له، ولو احتمل زواله قبل خروج الوقت.
هذا بالإضافة إلى الموارد التي اذن فيها الشارع بمتابعتهم من غير تقييد بحالة دون اخرى، كغسل الرجلين بدلا عن مسحهما، والتكتّف في الصلاة والائتمام بهم ونحو ذلك. ويبدو من النصوص الفقهية انّ الفقهاء بين من يرى جواز المبادرة إلى العمل على وجه التقية وان كان له فسحة من الاتيان به على وجهه الشرعي في محل آخر أو زمان آخر، ومن هؤلاء الشهيدان والمحقق الثاني في كتبه الثلاثة، الروض والبيان وجامع المقاصد.
وبين من لا يكتفي بالعمل على وجه التقية الا إذا لم يتمكن من الاتيان به كاملا في محل آخر أو زمان اخر، ومن هؤلاء السيد محمد صاحب المدارك.
وبين من فصّل بين الموارد المأذون بها بالخصوص، وبين غيرها ممّا لم يرد فيها نص بخصوصه، كالصلاة إلى غير القبلة، والوضوء بالنبيذ، والاخلال بالموالاة في الوضوء ونحو ذلك من الموارد التي لم يتعلق بها اذن خاص.
والذي تؤيده بعض المرويات عن الائمة (عليه السلام) انّه لا بدّ وان يكون المكلّف غير متمكّن من الإتيان بالواجب على وجهه في ذلك الجزء من الوقت بخصوصه.
فقد جاء في رواية احمد بن محمد بن ابي نصر، ان ابراهيم بن شيبة قال: كتبت إلى ابي جعفر الثاني (عليه السلام) عن الصلاة خلف من يتولى عليا وهو يرى المسح على الخفين، وخلف من يحرّم المسح على الخف وهو يمسح، فكتب (عليه السلام): ان جامعك وايّاهم موضع لا تجد بدا من الصلاة معهم فأذّن لنفسك وأقم فإنّ سبقك إلى القراءة فسبّح. وجاء في رواية ثانية عنه، لا تصلّوا خلف ناصب ولا كرّاميّة (4) الا ان تخافوا على انفسكم ان تشهروا أو يشار اليكم فصلّوا في بيوتكم ثم صلّوا معهم واجعلوا صلاتكم معهم تطوّعا. هذا بالإضافة إلى المرويّات التي تنصّ على انّ التقيّة في كلّ شيء يضطر إليه الانسان، إذ بمقتضى تلك النصوص انّه لا بدّ من الاضطرار حتى يسوغ للمكلف الاتيان بالعمل على جهة التقية.
ولو افترضنا انّ المكلف يتمكن من تخليص نفسه ولو بالذهاب إلى بيته لأداء فريضته، أو بطريق اخر لا عسر فيه ولا حرج عليه في سلوكه لا يصدق الاضطرار المسوغ للامتثال على وجه التقيه.
قال الشيخ مرتضى الانصاري:
فمراعاة عدم المندوحة في الجزء الاول من الزمان الذي يوقع فيه الفعل اقوى مع انّه احوط، نعم تأخير الفعل عن اول وقته لتحقق الامن والسلامة وارتفاع الخوف ممّا لا دليل عليه، بل الاخبار بين ظاهر وصريح بخلافه (5).
وقد تبيّن من جميع ما ذكرناه انّ موارد التقية لا بدّ فيها من الخوف على النفس أو المال من الغير القادر على الاضرار، سواء كان مسلما أو غيره، بل وحتى لو كان من المنتسبين إلى التشيع، وإذا كان المكلف متمكنا من التهرب من الضرر في الزمان الاول لا يصدق الاضطرار المسوغ للإتيان بالعمل الناقص أو المخالف لمذهبه، وتؤكد اكثر النصوص انها اي التقية واسعة لا تختص بأمر دون اخر، فكل شيء يضطر إليه الانسان يتعين عليه مجاراة الغير فيه من غير فرق بين الاصول والفروع، وليس شيء ادل على ذلك من موقف المسلمين الاولين مع مشركي مكة الذين كانوا يعذبون على الاسلام ويظهرون الشرك بألسنتهم وقلوبهم عامرة بالإيمان بالله ونبوة محمد (صلى الله عليه وآله).
ويؤكد ذلك ما جاء عن امير المؤمنين (عليه السلام) في بعض وصاياه لأصحابه، قال: وأمرك ان تستعمل التقية في دينك، فانّ الله سبحانه قال: {لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} واضاف إلى ذلك: وقد اذنت لكم بتفضيل اعدائنا ان الجأكم الخوف إليه، وفي اظهار البراءة، وفي ترك الصلاة المكتوبة ان خشيتم على حشاشتكم الآفات والعاهات، وتفضيلكم لأعدائنا عند الخوف لا ينفعهم ولا يضرنا، وان اظهار البراءة تقية لا يقدح فينا، ولا تبرأ منّا ساعة بلسانك وانت موالٍ لنا بجنانك لتتقي على نفسك وجهها الذي به قوامها ومالها الذي به قيامها، وجاهها الذي به تمكنها، وتصون بذلك من عرف من اوليائنا واخواننا، فان ذلك افضل من ان تتعرض للهلاك وتنقطع به من عمل في الدين، وصلاح اخوانك المؤمنين، واياك اياك ان تترك التقية التي امرتك بها، فانك شاحط بدمك ودم اخوانك، معرّض لنفسك ونفوسهم الزوال، مذل لهم في ايدي اعداء الدين، وقد امرك الله بإعزازهم، وانك ان خالفت وصيتي كان ضررك على نفسك واخوانك اشد من ضرر الناصب لنا والكافر بنا. وهذه الرواية تتعارض مع الرواية المروية عنه (عليه السلام)، والتي جاء فيها. انكم ستعرضون على سبي، فسبوني، ومن عرض عليه البراءة مني فليمدد عنقه، فان برئ مني فلا دنيا له ولا آخرة. ولكن الذي يوهن هذه الرواية، انّها عرضت على الامام الصادق (عليه السلام) فأنكرها وقال: ما أكثر ما يكذب الناس على علي (عليه السلام). ونحن إذا لاحظنا الحوادث وملابساتها منذ فجر الخلافة الاسلامية، وتتبعنا تاريخ الشيعة وائمتهم والظروف القاسية التي مرت عليهم وما لاقوه من التعذيب والظلم والجور في جميع الادوار والمراحل التي مروا بها، لا نستطيع ان نفاضل بين عصر وعصر، ولا بين حاكم وحاكم، ففي الشطر الاول من العهد الاموي، لم يكن يعني معاوية واتباعه شيء غير مطاردة الشيعة والتنكيل بهم في مختلف انحاء البلاد واكراههم على سب علي والبراءة منه ومن ابنائه، فلم يسلم منهم الا من تستّر بعقيدته واظهر مجاراتهم في القول والفعل، ونسج على منواله جميع الامويّين وعمّالهم نحوا من قرن من الزمن تقريبا، ولمّا جاء دور العباسيّين، وهم الأقربون لعلي وآله (عليه السلام) ترقّب الشيعة انّها ساعة الخلاص من ذلك العهد الجائر وقبل ان تمتلئ رئتاهم من النفس المريح، وإذا بالحكّام الجدد الذين تستّروا اولاً بمكافحة الظلم، وتباكوا على القتلى من بني عمومتهم، يمارسون أسلوب أسلافهم بأقبح الصور، وبشكل لم يهتد إليه سلفهم «الصالح من قبل» حتى قال القائل:
يا ليت جور بني مروان دام لنا *** وليت عدل بني العباس في النار
وهكذا توالت عليهم النكبات من السلاجقة إلى الايّوبيّين، إلى الاتراك، ولم يتنفّسوا من ظلم الحاكم الذي حكم باسم الدين والاسلام نحوا من ثلاثة عشر قرنا، الا بعد ان تقلّص عهد الاتراك البغيض المملوء بالمخازي والمفاسد، وجاء عهد الانتداب، ومن ثم عهد الاستقلال، العهد الذي تبدّل فيه نوع الحكم، فأحسّ الشيعة في جميع الاقطار وبخاصة في لبنان بوجودهم وتفتض لهم نوافذ الحرية، ولكن رواسب تلك العهود البغيضة ظلت تسيطر على الملايين من المسلمين، وبقي الكتّاب من خلالها ينظرون إلى الشيعة نظرة الحاقد الحسود الذي لا يبصر الا من زاوية نفسه المعقدة المظلمة فكتبوا عنهم واتهموهم بشتى الاتهامات والصقوا بهم البدع جزافا وبلا حساب، ولا سبب لذلك الا انّ التشيع لا يقرّ الحكومة التي لا تقوم على اساس العدل واحقاق الحق، ولا يعترف باي سلطة لا تضمن حرية الفرد والجماعة، وتحمي الشعوب من الاستغلال والجشع ونشر الفوضى، وتحرص على كرامة الانسان وتهيئ له الحياة الحرة الكريمة مهما كان لونه ونوعه. صحيح انّ ما قيل عن الشيعة، وما كتب عنهم ولا يزال المتقوّلون والكتّاب يجترونه في كل عصر وزمان، هو من صنع تلك العصور المظلمة الجائرة، ولكن قد باء الوقت المناسب لتجاهل تلك المزامير التي تغنى بها اسلافهم قرونا واجيالا، ولان يملوها كما ملوا من كل قديم لا تفرضه الحياة في مختلف نواحيها، وان يدرسوا التاريخ ويحاكموه بوعي وانصاف وتجرد، ونحن على ثقة بانهم لو فعلوا ذلك سيتراجعون عن اكثر مدونات التاريخ واراجيف الحكام وشيوخ السوء، وسيعلمون ان التقية التي اعتبروها من عيوب التشيع، يفرضها الواقع، ويحكم بها العقل في مثل تلك الظروف التي احاطت بالشيعة دون سواهم، وقد ساعدت على بقاء الاديان وانتشارها اولا واخيرا، في حين هي ابعد ما تكون عن الباطنية والسرية والرياء، كما يزعم بعض المؤلفين من السنيّين وغيرهم. فالباطنية مذهب له اصوله وقواعده عند مبتدعيه وواضعيه يتنافى مع اصول الاسلام وقواعده، وقد كفّر ائمة الشيعة المعتنقين لهذه الفكرة والمرائين، وعدّوا الرياء نوعا من الشرك كما جاء في مروية يزيد بن خليفة عن الإمام الصادق (عليه السلام) (6).
انّ التقية دعوة إلى الخلود والسكينة، وليست شيئا آخر وراء مجاراة الغير تهرباً من شرّه وضرره حتى يتهيّأ الوقت المناسب للوقوف في وجه الطغيان والفساد مع العلم بان جميع الاديان والطوائف تقر مبدأ التقية، وتدفع المهم بالاهم وتقدم الفاسد على الافسد، وتأخذ بقاعدة دفع المفاسد اولى من جلب المصالح.
والسنّة أنفسهم يقرّونها ويعملون بها لدفع الاضرار والمفاسد وجلب المصالح والمنافع، فقد جاء في الجزء الثالث من احياء العلوم للغزالي (باب ما رخص فيه الكذب).
جاء فيه: انّ عصمة دم المسلم واجبة، فإذا كان القصد سفك دم مسلم قد اختفى من ظالم، فالكذب فيه واجب.
وقال الرازي: وهو يفسر قوله تعالى: {الا ان تتّقوا منهم تقاة} قال: روي عن الحسن انّه قال: التقية جائزة للمؤمنين إلى يوم القيامة، واضاف إلى ذلك: انّ هذا القول هو الأولى؛ لأنّ دفع الضرر عن النفس واجب بقدر الامكان وأنكر الشاطبي في الموافقات على الخوارج القائلين بأنّ سورة يوسف ليست من القرآن، وانّ التقية لا تجوز في قول أو فعل، واكّد مشروعيّتها في موارد الحاجة إليها.
وقال جلال الدين السيوطي في الاشباه والنظائر: يجوز أكل الميتة في الخمصة، واساغة اللقمة في الخمر، والتلفظ بكلمة الكفر، ولو عمّ الحرام قطرا، بحيث لا يوجد فيه حلال الا نادرا فانّه يجوز استعمال ما يحتاج إليه.
وقال أبو بكر الجصّاص: في تفسير قوله تعالى: {الا ان تتقوا منهم تقاة} اي ان تخافوا تلف النفس، أو بعض الاعضاء، فتتّقوهم بإظهار الموالاة من غير اعتقاد لها، وهذا هو الظاهر من الآية الكريمة، وعلى ذلك الجمهور من اهل العلم، واضاف إلى ذلك: انّ عبد الرزاق روى عن معمر عن قتادة في تفسير قوله تعالى: {لا يتخذ المؤمنون الكافرين اولياء من دون الله} قال: لا يحلّ لمؤمن ان يتخذ كافرا وليا في دينه، وقوله تعالى: {الا ان تتّقوا منهم تقاة} هذه الآية تدلّ على جواز اظهار الكفر عند التقية.
وجاء في الجزء الرابع من السيرة الحلبية: انّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) لمّا فتح خيبر، قال له حجّاج بن علاط: يا رسول الله انّ لي بمكة مالا وانّ لي اهلا، وانا اريد ان آتيهم، فانا في حل ان انا نلت منك، وقلت شيئا، فأذن له رسول الله ان يقول ما شاء. إلى غير ذلك من النصوص الفقهية والتاريخية الكثيرة الواردة في كتب مشاهير اهل السنّة، والتي يستفاد من خلالها بأنّ التقيّة من الضرورات التي لا يمكن الاستغناء عنها والتنكّر لها بحال (7).
والشيء الغريب انّ بعض السنّة مع وجود هذه النصوص والتصريحات في كتبهم يعدّونها من عيوب الشيعة، وينعتونها بالرياء تارة والدجل والباطنية اخرى ونحو ذلك من النعوت التي ان دلّت على شيء فانّها تدلّ على انّهم يحاولون ولو بالتمويه والتضليل والافتراء التشنيع على الشيعة واظهارهم على غير واقعهم ولو بهذه الأساليب المفضوحة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ولعل عدم مشروعيتها في النبيذ والمسح على الخفين من حيث انهما من غير المتفق على جواز استعمالهما عند جميع ائمة المذاهب الاربعة، أو من حيث ان عدم جواز استعمالهما معروف من مذهب الامامية.
(2) انظر ص 217 و218 و220 و221، فالذي برئ فقيه في دينه لانه استطاع ان يتخلص من القتل بإظهار كلمة البراءة من علي وقلبه عامر بحبه وولائه فهو كغيره من المسلمين الاولين الذين اكرههم المشركون على البراءة من محمد (صلى الله عليه وآله) ورسالته فأنزل الله فيهم: {الا من اكره وقلبه مطمئن بالإيمان} والثاني تعجّل إلى الجنة لانّه لم يشأ ان يتنازل ولو بلسانه عن ولائه لعلي وآله الطيبين واعطى لغيره مثلا رائعا في البطولة والفداء من اجل الحق والعقيدة.
(3) انظر رسالة الشيخ مرتضى الانصاري في التقية.
(4) الكرّامية هم اتباع محمد بن كرّام، وكان من القائلين بالتجسيم والتشبيه، وجاء في كتابه (عذاب القبر): انّ معبوده مماس للعرش والعرش مكان له، وكان من اهل البدع والضلال، كما نصّ على ذلك الأسفراييني في التبصير، والشهرستاني في الملل والنحل.
(5) رسالة التقية للشيخ مرتضى الانصاري.
(6) انظر ص 293، ج 2، من الكافي.
(7) انظر الشيعة والتشيع، ص 51، شيخ محمد جواد مغنيه، والموافقات للشاطبي، ص 180، ج 4، والاشباه والنظائر ص 76، والجزء الثاني من احكام القران للجصّاص ص 10، والجزء الثالث من السيرة الحلبية ص 61.