علم الحديث
تعريف علم الحديث وتاريخه
أقسام الحديث
الجرح والتعديل
الأصول الأربعمائة
الجوامع الحديثيّة المتقدّمة
الجوامع الحديثيّة المتأخّرة
مقالات متفرقة في علم الحديث
أحاديث وروايات مختارة
علم الرجال
تعريف علم الرجال واصوله
الحاجة إلى علم الرجال
التوثيقات الخاصة
التوثيقات العامة
مقالات متفرقة في علم الرجال
أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله)
اصحاب الائمة من التابعين
اصحاب الائمة من علماء القرن الثاني
اصحاب الائمة من علماء القرن الثالث
علماء القرن الرابع الهجري
علماء القرن الخامس الهجري
علماء القرن السادس الهجري
علماء القرن السابع الهجري
علماء القرن الثامن الهجري
علماء القرن التاسع الهجري
علماء القرن العاشر الهجري
علماء القرن الحادي عشر الهجري
علماء القرن الثاني عشر الهجري
علماء القرن الثالث عشر الهجري
علماء القرن الرابع عشر الهجري
علماء القرن الخامس عشر الهجري
البحث حول كتاب تهذيب الأحكام.
المؤلف: الشيخ محمد طالب يحيى آل الفقيه
المصدر: سدرة الكمال في علم الرجال
الجزء والصفحة: ص 298 ـ 310.
8/12/2022
1920
المعروف من مسلك الأخباريّين تصحيح الكتب الأربعة - الكافي، الفقيه، التهذيب، الاستبصار - للقرائن المشهورة والمعروفة والتي ذكرها الحرّ في الفائدة السابعة من خاتمة الوسائل، وكذا صحّح العمل بالكتب المذكورة من قال بالانسداد وذلك للا بُديّة العمل بالأخبار بعد انسداد باب العلم والعلميّ، وكذا صحّح العمل بالكتب سالفة الذكر أيضا بعض الأصوليّين للقرائن الكثيرة الدالّة على صحّة الأخبار كما كان يقوله أستاذنا المغفور له السيّد محمد مفتي الشيعة الأردبيليّ، فإنّه كان يذهب للقول بصحّة كتاب الوسائل كلّه أيضا إلا مع القرائن النافية.
فالقول بتصحيح التهذيب تبنّاه فعلا الأخباريّون، وبعض الأصوليّين، ومن هنا كان لا بدّ من البحث عن الأدلّة الدالّة على صحّة المدّعى وما ينفيه، ومن ثم نتبعه بالبحث حول أسانيد التهذيب، وقبل البحث لا بأس ببحث مختصر عن نقاط وهي:
الأولى: تعريف الكتاب.
كتاب تهذيب الأحكام للشيخ الفقيه العالم العلَم محمد بن الحسن الطوسيّ وهو شرح لكتاب شيخه - المقنعة - محمد بن محمد بن النعمان والملقّب بالشيخ المفيد، وقد سمّاه بالتهذيب نظراً لكثرة الأخبار التي وقع فيها الخلاف والاختلاف والتباين ممّا أدى إلى تشكيك بعض الامامية في صحّة المذهب الحقّ وعدوله فعلا عنه إلى مذهب الخلاف، فكانت الغاية من تأليف الكتاب هي تهذيب الأخبار وبيان دلالتها وجمعها مهما أمكن ليخرجها من ظاهر التعارض إلى التآلف، ليسقط بذلك تشكيك المشكّكين في صحّة المذهب الحق - أعزه الله وأنار سبيله ـ .
قال الشيخ (رحمه الله) في مقدّمة كتابه: "ذاكرني بعض الأصدقاء - أيّده الله - ممّن أوجب حقّه علينا بأحاديث أصحابنا - أيّدهم الله ورحم السلف منهم - وما وقع فيها من الاختلاف والتباين والمنافاة والتضاد، حتّى لا يكاد يتفق خبر إلا وبإزائه ما يضادّه، ولا يسلم حديث إلا وفي مقابلته ما ينافيه، حتّى جعل مخالفونا ذلك من أعظم الطعون على مذهبنا، وتطرّقوا بذلك إلى إبطال معتقدنا.. حتّى دخل على جماعة ممّن ليس لهم قوّة في العلم ولا بصيرة بوجوه النظر ومعاني الألفاظ شبهة، وكثير منهم رجع عن اعتقاد الحقّ لما اشتبه عليه الوجه في ذلك، وعجز عن حلّ الشبهة فيه، سمعت شيخنا أبا عبد الله المفيد - أيّده الله - يذكر أنّ أبا الحسين الهارونيّ العلويّ كان يعتقد الحقّ ويدين بالأماميّة فرجع عنها لا التبس عليه الأمر في اختلاف الأحاديث، وترك المذهب ودان بغيره لمّا لم يتبيّن له وجوه المعاني فيها... وذكر - أحد الأصدقاء - أنّه إذا كان الأمر على هذه الجملة، فالاشتغال بشرح كتاب يحتوي على تأويل الأخبار المختلفة والأحاديث المتنافية من أعظم المهمّات في الدين ومن أقرب القربات إلى الله تعالى .."(1) انتهى موضع الحاجة من كلماته (رحمه الله).
وقد تبيّن السرّ في تأليف الكتاب وتسميته، إذ كان الغرض هو تهذيب الأخبار، ولذا لجأ إلى التأويل مهما أمكن إلى ذلك سبيلا ليدحض بذلك تشكيك العامّة وبعض من لا قوّة له في العلم، ولهذا أسّس قاعدة عُرفت ب "الجمع التبرّعي" ولم يكن الشيخ متبنيّاً لها عملاً، إلا أنّ إيراد أكثر من احتمال للجمع بين الخبرين المتعارضين يسقط القول بالتنافي الواقعيّ الذي يرجع إلى القول بجهل المعصوم ـ حاشاه ـ (عليه السلام)، فما استنكره البعض على الشيخ من القول بالجمع التبرعيّ قد بان لك منشؤه والغرض منه، فرحم الله الشيخ على ما ذبّ عن مذهب التشيّع وحشره في أعلى علّيّين بمحمد و آله الطاهرين.
هذا والكتاب عبارة عن أكثر من ثلاثة عشر ألف رواية، وقد اتّبع الشيخ طريقة الكلينيّ من جهة والصدوق من جهة أخرى، أي: تارة يذكر السند بأجمعه، وأخرى يذكر السند في المشيخة، لكنّه على كلّ حال قد صرّح (رحمه الله) أنّ من يبتدئ باسمه في السند فهو صاحب الكتاب.
والكتاب المذكور قد مدحه جملة من القدماء والمتأخرين، وذمّه من جهة الاضطراب فيه آخرون. قال السيد بحر العلوم (رحمه الله): "وأمّا الحديث فإليه تُشدّ الرحال، وبه يبلغ رجاله منتهى الآمال، وله فيه من الكتب الأربعة التي هي أعظم كتب الحديث منزلة وأكثرها منفعة كتاب التهذيب وكتاب الاستبصار، وله المزيّة الظاهرة باستقصاء ما يتعلّق بالفروع من الأخبار خصوصا التهذيب، فإنّه كافٍ للفقيه فيما يبتغيه من روايات الأحكام عما سواه...".
إلا أنّ بعض تلامذة الشيخ المجلسي قال: "لأنّ كتب الحديث سيّما كتاب التهذيب قد وقع فيه التصحيف والتحريف والزيادة والنقصان ما لم يقع في غيره من كتب الأصول، وأقوى الأسباب فيه ما أشار إليه المحقّق صاحب المنتقى في مواضع كثيرة، وهو أنّ النسخة التي كتبها الشيخ الطوسي التي هي أصل النسخ كلّها قد كانت كتابتها مضطربة ومشوّشة، وفيها التباس بعض الكلمات ببعض آخر، وكثير من الحروف بعضها ببعض، ومن هذا وقع في الأسانيد إقامة الواو مقام عن، ولفظ "أن" مكان "عن" أيضا...".
وممّا يؤكد ما أفاده صاحب المنتقى ما ذكره الشيخ المحدّث الخبير يوسف البحرانيّ في الحدائق إذ قال: ".. والظاهر أنّ هذه الزيادة سقطت من قلم الشيخ كما لا يخفى على من له أنس بطريقته، سيّما في التهذيب، وما وقع له فيه من التحريف والتصحيف والزيادة والنقصان في الأسانيد والمتون، بحيث أنّه قلّما يخلو حديث من ذلك في متنه أو سنده كما هو ظاهر للممارس..." (2).
وقال في محلّ آخر في آخر كتابه: ".. فإنّه لا يخفى على من نظر الكتاب المذكور بعين التأمّل فإنّه قلّما يخلو حديث من أحاديثه من التغيير أو التبديل أو التحريف في السند أو المتن. والله العالم".
وما أفاده العالمان العلَمان في محلّه، فإنّ من تتبّع التهذيب وقارن أخباره المنقولة عن الكافي والفقيه - مع ثبوتها - فإنّه كثيراً ما يرى التغاير ما بين الأصل والنقل.
على كلٍّ فعلى الناظر في أخبار التهذيب - مع أهميّته - عليه أن يتدبّر أخباره سنداً ومتناً قبل العمل بالخبر لكثرة الأخطاء الواقعة فيه، غفر الله للشيخ ولنا وستر عيوبنا آمين رب العالمين.
ترجمة المؤلف:
لا نطيل الكلام في تعريف الشيخ بعدما كان أشهر من الشمس في رابعة النهار، فهو الشيخ محمد بن الحسن بن علي الطوسي، أبو جعفر قدّس الله روحه ونوّر ضريحه وشيخ الإماميّة الإثني عشريّة، جليل القدر، عظيم المنزلة، ثقة، صدوق، عارف بالأخبار والرجال والفقه والأصول والكلام والأدب.
ولد في طوس سنة 385هـ ودرس في بداية شبابه في نيشابور ثم انتقل إلى بغداد ووردها سنة 408هـ، ودرس عند المفيد والمرتضى، وبدأ بتأليف كتابه التهذيب في شرح كتاب شيخه المقنعة سنة 411 وانتهى منه سنة 418 تقريبا، والذي يظهر أنّ أبويه كانا عربيين أو أحدهما، لأنّ كتاباته منذ بداية دراسته كانت عربيّة محضة وليس فيها ما يشير إلى عجميّته، بخلاف الأعاجم الذين يكتبون بالعربيّة في أيّامنا هذه، فإنّهم ومع تسلّطهم على اللغة العربيّة نراهم يشتبهون ببعض تعبيراتهم حينا بعد آخر.
طريق الكتاب:
لقد بلغ الكتاب من الشهرة ما أغناه عن الطريق، فهو كتاب متواتر بلا إشكال في الطبقات المتأخّرة، ومشهور جدا في أيامه وقبل وفاة الشيخ نفسه، فهو غني عن الطريق لشهرته اللامتناهيّة، وناهيك عن ذلك أنّ كلّ من جاء بعد الشيخ له إليه طريق، وهذه إجازات الأصحاب تصل إليه تترى كما هو واضح للعيان.
البحث حول صحّة التهذيب:
بداية يُقال: إنّ ما اعتمده القائلون بصحّة كتاب التهذيب لا يرقى عندنا للقول بصحّة أخباره فإنّها غاية ما تفيد الظنّ، والظنّ لا يغني من الحقّ شيئا، خاصّة أنّ الشيخ نفسه لم يدّعِ صحّة أخبار كتابه من بدايته إلى نهايته مع كونه أكثر من ثلاثة عشر ألف رواية، فلو كانت الدعوى صحيحة - مع أهميّتها - لأبانها وأظهرها وادّعاها ولو على نحو الاستطراد، بل نقول بأنّ أحداً من القدماء لم يدّعِ هذه الدعوى، والأمر بالعكس فإنّ جمعاً من فقهائنا القدماء ناقشوا أخبار الشيخ صحّة وضعفاً كابن إدريس، إضافة إلى المتأخّرين كالعلّامة والمحقّق وغيرهما منهم.
بل يُقال: إنّ الشيخ نفسه كان يعتقد بعدم صحّة أخبار جميع كتابه - التهذيب - ولذا ناقشها متنا وسندا، وقد أسقط كثيراً منها كذلك، وهذا بيّن لمن سبر كتابه ونظر في أخباره.
فالدعوى بصحّة جميع أخباره لا تتعدّى كونها جزافيّة مخالفة للواقع، خاصّة مع معارضة كثير من أخباره أخبار الكافي والفقيه، اللذين هما أسدّ من أخباره متنا وسندا بإجماع من بحث الكتب الثلاثة.
على كلٍّ فقد استدلّ البعض على صحّة التهذيب بما أفاده المحقّق الكاشانيّ من أنّ الشيخ قال في العدّة: "إنّ ما أورده في كتابَي الأخبار - التهذيب والاستبصار - إنّما أخذه من الأصول المعتمد عليها" (3).
إلا أنّ هذه الدعوى بلا دليل، إذ أنّ الشيخ لم يذكر في العدّة هذه العبارة، بل غاية ما يُقال: إنّ الشيخ قال في العدّة: ".. حتّى أنّ واحدة منهم إذا أفتى بشيء لا يعرفونه سألوه: من أين قلت هذا؟ فإذا أحالهم إلى كتاب معروف أو أصل مشهور كان راويه ثقة لا ينكر حديثه سكتوا، وسلّموا الأمر في ذلك، وقبلوا قوله".
إلّا أنّك ترى أنّ هذا مبنيّ على القول بأنّ الشيخ يفتي بأخباره في التهذيب، والأمر ليس كذلك، إنّما يناقش الشيخ أخبار كتابه متنا ودلالة وسندا، ولهذا أسقط جمعاً من أخبار التهذيب، ومعها كيف يُقال: إنه اعتمدها! هذا أولا.
ثانيا: إنّ الشيخ (رحمه الله): إنّما يبيّن طريقة الأصحاب وأنهّم إذا اعتمدوا كتاباً مشهوراً سكتوا عنه، لكن هذا لا ينفي وجود التعارض في الكتب المشهورة، ومعها كيف يُقال: إنّ الشيخ قد اعتمد أخبار كتابه كلّه؟! إذ الغاية من وضع الكتاب إنّما هي تهذيب الأخبار وجمعها وبيان عدم المنافاة فيما بينها، وهذا أيضا قد يكون موجوداً في الكتب المشهورة وغير المشهورة، ولهذا نرى أنّه اعتمد في كتابه على كتب مشهورة بين الأصحاب، وكتب غير مشهورة، حتى أنّ أصحابها مجهولون غير معروفين، فكيف يُدّعى مع ذلك شهرة الكتب واعتمادها؟!
ثالثا: إنّ كون الكتاب معتمداً لا يعني صحّة أخباره بنظرنا نحن، وإنّما هو آبٍ عن الدسّ والتزوير، فاعتماده اعتماد في الجملة، وإلا فقد ركن الكليني إلى الكتب المعتمدة، والفقيه كذلك فإن كان الشيخ قد اعتمد المعتمد أيضا ويقصد من المعتمد الصحيح فلِمَ تعارضت أخبارهم وتنافت؟!
رابعا: إنّ الكتب المعتمدة إنّما هي بنظر الناقل عنها معتمدة، فقد يعتمد المحدّث كتاب السكونيّ ويرفضه الآخر، ولهذا نرى الصدوق - على ما يخطر بالبال - قد أعرض عن كتاب السكونيّ في العبادات - إلا قليلاً ـ في حين اعتمده كثيراً الكلينيّ في الكافي، فما يؤخذ فيه النظر والاجتهاد لا يمكن أخذه أخذ المسلّمات، فغاية ما يُقال: إنّ الشيخ لو اعتمد كتاباً فإنّه بنظره الشريف هو معتمد ولا يقتضي ذلك كونه معتمدا فعلا وواقعاً.
وقد ظهر أنّ ما أفاده الكاشاني (رحمه الله) إن صحّ نقله في نفسه - لا يمكن المساعدة على دلالته.
الدليل الثاني: وهو متوقّف على مقدّمتين، الأولى: عدم مناقشة الشيخ رجال طريقه إلى الكتب بحيث يعلم من طريقته أنّه ينقل عن كتب الأصحاب الثابتة النسبة إليهم، وحينئذ لا يضرّ ضعف الطريق إلى الكتب، إنّما الطريق حينها لمجرّد إخراج الكتاب من الإرسال إلى الإسناد، وليس لتصحيح الطريق.
الثانية: أنّ الشيخ قد اعتمد فعلا على خصوص الكتب المشهورة والمعتمدة والتي عليها الاعتماد والفتيا.
فإن تمّت المقدّمتان يمكن القول بصحّة أخبار كتاب التهذيب.
أمّا المقدّمة الثانية فقد ناقشناها في الأسطر السابقة فلاحظها، وأمّا المقدّمة الأولى فإنّه يُقال:
قال الشيخ (رحمه الله): "ونحن نذكر الطرق التي يتوصّل بها إلى رواية هذه الأصول والمصنّفات على غاية ما يمكن من الاختصار، لتخرج الأخبار بذلك عن حدّ المراسيل وتلحق بباب المسندات" انتهى.
قال بعضهم: إنّ تصريح الشيخ بذكر طرقه للأخبار لتكون من المسانيد، ولتصحّ بذلك الأخبار، إذ المرسل عنده غير حجة كما صرّح في العدّة، فإسناده الأخبار إنّما هو للتصحيح وليس لمجرد التبرّك.
نعم، قال صاحب البحار - وهو المتتبّع الخبير - "إنّك ترى أنّ الشيخ (رحمه الله) إذا اضطرّ في الجمع بين الأخبار إلى القدح في سند لا يقدح فيمن هو قبل صاحب الكتاب من مشايخ الإجازة، بل يقدح إمّا في صاحب الكتاب، أو فيمن بعده من الرواة مع أنّه في الرجال ضعّف جماعة ممّن يقعون في أوائل الأسانيد" (4).
وقال الشيخ التفريشي (رحمه الله): "اعلم أنّ الشيخ الطوسيّ (قُدّس سرّه) صرّح في آخر التهذيب والاستبصار بأنّ هذه الأحاديث التي نقلناها من هذه الجماعة أخذت من كتبهم وأصولهم، والظاهر أنّ هذه الكتب والأصول كانت عنده معروفة كالكافي والتهذيب وغيرهما عندنا في زماننا هذا كما صرّح به الشيخ محمد بن علي بن بابویه (رضي الله عنه) في أوّل كتابه - من لا يحضره الفقيه ـ فعلى هذا لو قال قائل بصحّة هذه الأحاديث كلّها وإن كان الطريق إلى هذه الكتب والأصول ضعيفاً، إذ كان مصنّفو هذه الكتب والأصول وما فوقها من الرجال إلى المعصوم ثقات لم يكن مجازفا" (5).
أمّا عبارة الشيخ في التهذيب فهاك هي: "واقتصرنا من إيراد الخبر على الابتداء بذكر الراوي الذي أخذت الحديث من كتابه أو أصله" (6).
وأمّا عبارته في الاستبصار فهي: "ثم اختصرت في الجزء الثالث وعوّلت على الابتداء بذكر الراوي الذي أخذت الحديث من كتابه أو أصله..." (7). وهو ما تبنّاه السيّد البروجرديّ (رحمه الله) وغيره.
وعليه يُقال: إنّ ما أفاده الأعلام المذكورين وغيرهم من عدم الحاجة إلى الرجوع إلى طريق الشيخ إلى الكتب لشهرتها ووضوح نسبتها إلى أربابها عنده في محلّه، وما أورده الشيخ آصف محسني من إيرادات أربعة لا تعدو كونها مقولات لا ترقى إلى كونها أدلّة لإثبات النفي.
وممّا يؤيد هذا أنّا نرى الشيخ يذكر إلى كتاب طريقاً ضعيفا في حين أنّا نراه في الفهرست يذكر إليه طريقاً صحيحاً، ما يعني عدم مبالاة الشيخ بالطريق المذكور في التهذيب، وذلك لشهرة الكتاب الذي صرّح بروايته عنه على نحو المباشرة.
لكن مع هذا كلّه نرى السيد بحر العلوم في الفوائد الرجاليّة يستنكر القول بعدم الحاجة إلى الطريق فقال (رحمه الله): "ويضعّف هذا القول إطباق المحقّقين من أصحابنا والمحصّلين منهم على اعتبار الواسطة والاعتناء بها وضبط المشيخة وتحقيق الحال فيها والبحث عمّا يصحّ وما لا يصحّ منها وقدحهم في السند بالاشتمال على ضعيف أو مجهول.. ومقتضى كلام الشيخين - الطوسيّ والصدوق - في الكتب الثلاثة - الفقيه والتهذيبَين - أنّ الباعث على حذف الوسائط قصد الاختصار مع حصول الغرض بوضع المشيخة، لا عدم الحاجة إليها كما قيل، وإلا لما احتيج إلى الاعتذار عن الترك، بل كان الذكر هو المحتاج إلى العذر، فإنّه تكلّف أمر مستغنى عنه على هذا التقدير ..." انتهى موضع الحاجة من كلامه.
وملخّص جوابه أنّ المحقّقين والمحصّلين لم يرتضوا القول بعدم الحاجة إلى الطريق، وأنّ الشيخ إنّما أراد من قوله: "لتخرج الأخبار بذلك عن حدّ المراسيل..." إثبات حجيّتها بذكر السند وإلا سقطت عن الاعتبار، إضافة إلى ذلك أنّ مجرّد ذكره الطرق إنّما هو لحاجة الإسناد وليس للتبرّك وإلّا فيكون قد كلّف الشيخ نفسه من غير تكليف.
وما تقدّم معنا يكفي في الجواب عمّا أفاده، وخلاصته أنّا لم نلاحظ الشيخ قد شكّك في طرقه إلى الكتب مع نقاشه أصحابها أو من قبلهم، وهذه قرينة صريحة في كونه يصحّح الطريق إلى الكتب، إضافة إلى تصريحه بأنّه روى الأخبار عن أصحاب الكتب، فمع نسبتها إليهم فما هو الداعي بعد إلى ذكر الطرق سوى التبرّك، بل يمكن القول بأنّ هذه الطريقة كانت متّبعة، ولهذا نرى الصدوق في ديباجة كتابه يقول: "بأنّ جميع ما فيه مستخرج من كتب مشهورة، عليها المعوّل وإليها المرجع".
وبعد كلّ هذا نقول: إن تمّ ما نقول - وهو تامّ - فإنّ كثيراً من الأخبار يمكن أن تخرج من حيّز الضعف إلى الصحّة وذلك مع جهالة أو ضعف الطريق إلى أرباب الكتب في التهذيب والاستبصار.
أسانيد أخبار التهذيب:
هذا البحث متوقّف على القول بضعف أو إرسال أسانيد الشيخ إلى أرباب الكتب مع الحاجة إليها، أمّا لو قلنا بما أفاده صاحب البحار والتفريشي والبروجرديّ وغيرهم من عدم الداعي إلى النظر في طريق الشيخ إليها وذلك لشهرة الكتب ومعروفيّتها، وأنّ طرقه (رحمه الله) إنّما هي للسير على طبق السيرة المتّبعة من الرجوع إلى الأسانيد لا إلى صحّة الأسانيد، فإنّه لا داعي حينها إلى النظر في الطرق وصحّتها وسقمها، ولعلّه من هذه الجهة (رحمه الله) قال في الاستبصار: "قال مصنّف هذا الكتاب - الاستبصار - قد أوردت جملاً من الطرق إلى هذه المصنّفات والأصول، ولتفصيل ذلك شرح يطول هو مذكور في الفهارست للشيوخ، فمن أراده وقف عليه من هناك إن شاء الله تعالى" (8).
ألا ترى أنّ الشيخ لا يعير أهميّة للطرق إلى تلك الأصول والمصنّفات، ولذا قال "فمن أراد" فلو كانت صحّة الأخبار متوقّفة عليها لكان كتابه بلا فائدة مع عدم ذكر كثير من الطرق إلى كتب الأصحاب، فإنّ ما ذكره من طرق في التهذيب لا تتعدّى تسعة وثلاثين طريقاً في حين ترك واحداً وثلاثين طريقاً لم يذكرها في المشيخة، بل قال الشيخ الأردبيلي صاحب جامع الرواة (رحمه الله): "إنّي لمّا راجعت إليهما - التهذيب والاستبصار - رأيت أنّ كثيرا من الطرق المورودة فيها معلول على المشهور بضعف أو إرسال أو جهالة، وأيضا رأيت أنّ الشيخ (رحمه الله) ربّما بدأ في أسانيد الروايات بأناس لم يذكر لهم طريقة أصلا، لا في المشيخة ولا في الفهرس ...".
إذن الطريق غير محقّق وليس موجوداً في كثير من أخبار الكتابَين، فلو كان للطريق فائدة إلى أصحاب الكتب لذكره وبيّنه وذلك لعظم أهميّته، اللهمّ إلا أن يُقال - كما ذهب إليه المشهور - إنّ الشيخ (رحمه الله) إنّما ذكر كثيراً من الطرق وأهمل أخرى لوضوحها وشهرتها ولأنّ شرحها يطول لا لعدم الحاجة إليها، ولذا أحالها إلى كتب فهرست الأصحاب، فكأنّه قال: "إنّ الطرق إلى أرباب الكتب مشهورة وواضحة، فمن لم تكن عنده بذاك الوضوح فليرجع إلى كتب الفهارس" وذلك للفرار من شرحها وبيانها مع طولها كما قال (رحمه الله).
على كلٍّ نقول: إنّ القول بعدم الحاجة إلى الطرق قويّ ومتين، لكن يُقال للقائلين بالحاجة بأنّ الشيخ (رحمه الله) ذكر ما يقارب الأربعين طريقاً إلى الكتب، وأهمل ما يقارب الثلاثين، وهي بمعظمها لها طرق في كتابه الفهرست وقد أحال عليه، أمّا بقيّة الأسانيد التي لا طرق مذكورة لها في المشيخة أو الفهرست فإنّه بالإمكان الرجوع إلى فهرست الأصحاب التي طرقه إليها محقّقة كما أحال هو (رحمه الله) الناظر في كتابه إليها حيث قال: "ولتفصيل ذلك شرح يطول هو مذكور في الفهارست للشيوخ" وبذلك يمكن الوصول إلى معظم طرق الكتب ولا يبقى إلا القليل، كما لو رجعنا إلى مشيخة الفقيه أو رسالة أبي غالب الزراريّ إذ أنّ طريقه إليها صحيحة وهم بدورهم لهم طرق إلى أصحاب الكتب، فإن كانت طرقهم إليهم صحيحة فقد صحّت نسبة الرواية إلى أصحاب الكتب ومن هناك ينظر في حال الراوين للرواية.
وأمّا قول البعض: "صحّة طريق الشيخ إلى الصدوق وصحّة طريق الصدوق إلى أصل أو كتاب أو أحد لا تنفع لتصحيح رواية الشيخ عن الأصل أو الكتاب أو الشخص المذكور إذا كان طريقه - الشيخ - إليه ضعيفاً، الاحتمال تفاوت متنها مع متن الرواية المرويّة بطريق الصدوق على فرض وصولها إلينا، وهذا الاحتمال لا دافع له سوى وجود الرواية بطريق الصدوق وموافقتها مع هذه الرواية في المتن، ومعه لا نحتاج إلى تصحيحها.
نعم، إذا حصل لنا الاطمئنان بأنّ الشيخ نقل الرواية بذاك الطريق نفسه تكون الرواية معتبرة، لكن الاطمئنان غیر حاصل" (9).
لكنّه يقال أولا: إنّها مجرّد وسوسة لا أكثر، إذ أنّ الشيخ صرّح بإحالتنا إلى طرقهم إلى عين كتبهم، فمن أين لنا أن نقول بأنّ الأخبار متغايرة مع وحدة الكتاب.
ثانيا: إنّا رأينا كثيراً من أخبار التهذيب مرويّة عن الفقيه، وهي عين ما في الفقيه، والتغاير الموجود إنّما هو من تناقل النسّاخ وليس لتغاير النسخ، وهذا ما يؤكّد النقل عنها في كتب الأصحاب.
ثالثا: إنّ كثيرا ممّا رواه الصدوق في الفقيه عن أصحاب الكتب ورواه الشيخ عن أصحاب الكتب نراه متطابقاً، ما يعني أنّ النسخ التي روي عنها الشيخ هي عين النسخ التي روى عنها الصدوق، خاصّة مع قرب الزمانَين بل وحدته.
وعليه يُقال: إنّ الطرق التي أحالنا الشيخ إليها صحيحة وهي بدورها صحيحة بطرقها إلى أصحاب الكتب يمكن اعتمادها واعتبارها، هذا على القول بلا بُديّة الرجوع إلى الطرق، وإلا فلا حاجة إلى ذلك كله على ما أفاده المجلسيّ والتفريشيّ والبروجرديّ وغيرهم.
نعم، لا بدّ من الرجوع إلى أسانيد الأخبار فيما بعد أصحاب الكتب، والله العالم بحقائق الأمور.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) تهذيب الأحكام، ج 1، ص5.
(2) الحدائق الناضرة، ج4، ص209.
(3) الوافي، ج 1، ص 11.
(4) كتاب الأربعين، ص511.
(5) جامع الرواة، ج2، ص548.
(6) تهذيب الأحكام، ج 10، ص 382.
(7) بداية المشيخة، ج4، ص297.
(8) الاستبصار، ج4، ص334.
(9) بحوث في علم الرجال، للشيخ آصف محسني، ص337.