علم الحديث
تعريف علم الحديث وتاريخه
أقسام الحديث
الجرح والتعديل
الأصول الأربعمائة
الجوامع الحديثيّة المتقدّمة
الجوامع الحديثيّة المتأخّرة
مقالات متفرقة في علم الحديث
أحاديث وروايات مختارة
علم الرجال
تعريف علم الرجال واصوله
الحاجة إلى علم الرجال
التوثيقات الخاصة
التوثيقات العامة
مقالات متفرقة في علم الرجال
أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله)
اصحاب الائمة من التابعين
اصحاب الائمة من علماء القرن الثاني
اصحاب الائمة من علماء القرن الثالث
علماء القرن الرابع الهجري
علماء القرن الخامس الهجري
علماء القرن السادس الهجري
علماء القرن السابع الهجري
علماء القرن الثامن الهجري
علماء القرن التاسع الهجري
علماء القرن العاشر الهجري
علماء القرن الحادي عشر الهجري
علماء القرن الثاني عشر الهجري
علماء القرن الثالث عشر الهجري
علماء القرن الرابع عشر الهجري
علماء القرن الخامس عشر الهجري
الكافي بنظر علماء الشيعة.
المؤلف: السيّد هاشم معروف.
المصدر: دراسات في الحديث والمحدّثين.
الجزء والصفحة: ص 126 ـ 135.
2023-08-28
1083
لقد وقف علماء الشيعة من الكافي موقفا يمكن ان يكون بالقياس إلى موقف السنة من صحيح البخاري سليما وبعيدا عن المغالاة والاسراف فلم يتنكّروا لحسناته ولم يتجاهلوا ما فيه من السيّئات والنقص الذي لا يخلو منه كتاب مهما اتخذ المؤلف الحيطة لإخراجه كما يريد ويحب ومع انّهم لم يغالوا فيه غلو محدّثي السنّة وفقهائهم في صحيح البخاري، فلقد وضعه فريق من المحدّثين القدامى فوق مستواه واحاطه الأخباريّون بهالة من التقديس والاكبار، ولكن من جاء بعدهم من اعلام الطائفة قضى على تلك الهائلة والفتوا الانظار إلى ما فيه من نقص وعيوب. ومع كل ذلك فلقد عده الكثير من العلماء والمحدثين مجددا بالنسبة إلى من تقدمه من المؤلفين في الحديث، بالرغم من انّ الذين تقدّموه من المحدّثين والمؤلّفين قد تحرّوا جهدهم لتصفية الاحاديث من المكذوب والمشبوه، وتشدّد القمّيون في احاديث المتّهمين بالغلو والوقف وغيرهما من المنحرفين عن المذهب الاثني عشري، ولكنّهم كما اعتقد لم يوفّقوا إلى اخراج جامع للمواضيع المختلفة التي اشتمل عليها الكافي، ولا اظن انّهم صنّفوا الاحاديث حسب المواضيع ووزّعوها على الابواب، وفي المحل الذي يناسبها كما صنع الكليني، ولم يجمع احد قبله الأصول والمرويات التي يترجّح لديه صدورها عن المعصوم، ولو من جهة القرائن التي تحيط بها، حتى ولو كان الراوي لها يعتنق الغلو والوقف، أو اي مذهب آخر، كما جمعها هو في كتابه ووضعها في المحل المناسب، فإنّ الذين باشروا عملية التصفية من قبله، كانوا ينظرون إلى الراوي قبل اي شئ، فإذا وجدوا فيه مغمزا أو انحرافا تركوا مروياته مهما كان حالها ولو احيطت بعشرات القرائن، بينما درس الكليني الرواية من ناحية السند والمتن والملابسات التي تحيط بها، واعتبر الوثوق بالصدور مهما كان مصدره شرطا اساسيا للاعتماد على الرواية، ولذلك احتاج إلى عشرين عاما لإنهاء هذه الدراسة التي اعطت هذه النتائج الغنية بالفوائد في مختلف المواضيع.
وقال فيه الشيخ المفيد الذي أدرك شطرا من حياته: انّ كتاب الكافي من اجل كتب الشيعة واكثرها فائدة.
وقال الميرزا حسين النوري في مستدرك الوسائل بعد ان اورد كلمة الشيخ المفيد: انّما كان أكثر فائدة من غيره من حيث انه جامع للأصول والاخلاق والفروع والمواعظ والآداب، وغير ذلك من المواضيع، وهو اجل من غيره من حيث الاعتبار والاعتماد، لانه جمع الاصول الاربعمائة، التي كانت بتمامها موجودة في عصره، كما يظهر في ترجمة ابي محمد هرون بن موسى التلعكبري المتوفى سنة 385، وقد جاء في ترجمته انه روى جميع الاصول والمصنفات، وألّف منها ومن غيرها كتابه المسمّى (بالجوامع في علوم الدين) (1).
ويؤيد ذلك ما جاء في اسباب تأليف الكافي، من انّه ألّفه اجابة لمن طلب منه كتابا جمع من جميع فنون الدين ما يكتفي به المتعلم، ويرجع إليه المسترشد، ويأخذ منه من يريد علم الدين والعمل بالآثار الصحيحة عن الصادقين (عليه السلام)، والسنن القائمة التي عليها العمل، وبها يؤدي فرض الله عزّ وجلّ وسنّة نبيه (صلى الله عليه وآله) فاستجاب لطلبهم، وألّفه في تلك المدّة الطويلة التي حدّدها كل من ترجمه وتعرّض لتاريخه بعشرين عاما، فجاء جامعا لما يحتاج إليه المحدث والفقيه والمتكلم والواعد، والمجادل، والمتعلم، والكتاب الذي يحتوي على هذه المواضيع، لا بد وان يلفت الانظار، ويصادف تقدير الباحثين من العلماء، لانّه يوفّر عليهم عناء البحث عن الروايات ويسد حاجة الفقيه، والحدث والمتكلم وغيرهم في آنٍ واحد.
هذا بالإضافة إلى ما كان يتمتع به مؤلفه من ثقة غالية، وشهرة واسعة، ومكانة في العلم والدين تؤهله لان يحتل المكانة التي تليق به في النفوس. ولان يكون احد المعنيين بالحديث الشريف، (سيبعث الله لامتي على رأس كل مائة من يجدّد لها دينها (2) كما يرى ذلك جماعة من الفريقين السنة والشيعة، ومع انه نال اعجاب الجميع وتقديرهم، لم يغال به احد غلو محدثي السنة في البخاري، ولم يدّعِ احد بأنّه صحيح بجميع مروياته لا يقبل المراجعة والمناقشة سوى جماعة من المتقدّمين تعرّضوا للنقد اللاذع من بعض من تأخّر عنهم من الفقهاء والمحدّثين، ولم يقل احد: بان من روى عنه الكليني فقد جاز القنطرة كما قال الكثيرون من محدّثي السنة في البخاري، بل وقف منه بعضهم موقف الناقد لمروياته من ناحية ضعف رجالها، وارسال بعضها، وتقطيعها، وغير ذلك من الطعون، التي تخفف من حدة الحماس له، والتعصب لمروياته، وحتى انّ الذين لم يقرّوا تلك الاتهامات الموجهة إليه، ووصفوه بانه افيد كتب الحديث واجلها، وقالوا: بانّه لم يصنّف مثله، واخذوا بجميع مروياته، هؤلاء لم يدّعوا بانّ جميع ما فيه مروي بواسطة العدول في جميع مراتب السند، والذي يستفاد من نصوصهم انه جامع للمرويات التي تثق النفس بصدورها عن المعصوم من حيث ان مؤلفه بقي زمنا طويلا يبحث وينقب ويقطع المسافات البعيدة من بلد إلى بلد فنى جمعه من الصدور والمجاميع بعد الوثوق بصدور مروياته عن الائمة (عليه السلام) ولو بواسطة القرائن والامارات الخارجة عن متونها، ولو لم يكن الراوي مستوفيا للشروط المطلوبة في الرواة.
ويتأكد ذلك عندما نلاحظ انّ الصحيح في عرف المتقدّمين يختلف اشدّ الاختلاف عن عرف المتأخرين: ذلك لانّ الصحة لا تتوقف على عدالة الراوي، بل يصح وصف الحديث بالصحة لمجرد الوثوق بصدوره، ولو من حيث وجوده في أحد الاصول الاربعمائة أو في أحد الكتب المعروضة على الامام ككتاب عبيد الله الحلبي الذي عرضه على الامام الصادق (عليه السلام) وأثنى عليه وكتابَي يونس بن عبد الرحمن والفضل بن شاذان المعروضين على الامام العسكري (عليه السلام) أو لكونه مطابقا لدليل آخر مقطوع به ونحو ذلك من القرائن المفيدة للاطمئنان بالصدور ولو لم يكن الرواة كلّهم من حيث ذاتهم ممّن يصح الاعتماد عليهم.
والمتحصّل من ذلك انّ اكثر الذين اعتمدوا على الكافي واعتبروا جميع مروياته حجة عليهم فيما بينهم وبين الله سبحانه، هؤلاء لم يعتمدوا عليها الا من حيث الوثوق والاطمئنان بالكليني الذي اعتمد عليها بعد جهاد طويل استمر عشرين عاما، بالإضافة إلى ان احتمال تقريض الامام الثاني عشر (عليه السلام) كتلك المرويات كان يراود أذهان الكثيرين ممن تأخروا عنه كما ذكرنا من قبل وان كنّا لم نجد مصدرا مقبولا بهذا الاحتمال ولا نستبعد ان يكون الحديث المروي حول هذا الموضوع من موضوعات مقلدة الاخباريين الذين تضاعف حماسهم له بعد تصنيف العلامة الحلي للحديث إلى الاصناف الاربعة، وكما ذكرنا فان وثوق الكليني بها لم في مصدره بالنسبة إلى جميعها عدالة الرواة بل كان في بعضها من جهة القرائن التي تيسر له الوقوف عليها نظرا لقرب عهده بالأئمة (عليه السلام)، ووجود الاصول المختارة في عصره هذا بالإضافة إلى عنصر الاجتهاد الذي يرافق هذه البحوث في الغالب ويؤيد ذلك انّ الكليني نفسه لم يدّعِ انّ مرويات كتابه كلّها من الصحيح المتّصل سنده بالمعصوم بواسطة العدول، فانّه قال في جواب من سأله، تأليف كتاب جامع يصح العمل به والاعتماد عليه قال: وقد يسّر لي الله تأليف ما سألت وارجو ان يكون بحيث توخّيت. وهذا الكلام منه كالصريح في انّه قد بذل جهده في جمعه واتقانه معتمدا على اجتهاده وثقته بتلك المجاميع والاصول الاربعمائة، التي كانت مرجعا لأكثر المتقدّمين عليه ومصدرا لأكثر مرويّات كتابه.
ومهما كان الحال فالكافي مع انّه كان من أوثق المجاميع في الحديث منذ تأليفه إلى عصر العلّامة الحلّي واستاذه احمد بن طاووس أكثر من ثلاثة قرون من الزمن مع انّه كان بهذه المنزلة عند المتقدّمين، فانّ جماعة منهم كالمفيد وابن ادريس، وابن زهرة، والصدوق لم يثقوا بكل مروياته ووصفوا بعضها بالضعف كغيرها من المرويات التي لم تتوفر فيها شروط الاعتماد على الرواية.
ومن ذلك تبيّن انّ المتقدّمين لم يجمعوا على الاعتماد على جميع مروياته جملة وقصيلا، فان شهادتهم له بانّه من أوثق كتب الحديث وأفيدها واعتباره مرجعا لهم، لا تعني ان كل ما فيه حجة شرعية يجوز الاعتماد عليه في الفروع والاصول كما يدّعي أكثر الاخباريّين.
ويمكن تحديد موقف العلماء والمحدّثين من مرويّات الكافي بالبيان التالي، وهو انّ تصحيح الكليني لمرويّاته واعتباره لها حجّة فيما بينه وبين ربّه، هل هو شهادة منه بتزكية رواة تلك الأحاديث، وبوجود قسم منها في الكتب المعتبرة التي عرضت على الائمة (عليه السلام) وأقروا العمل بها من اعتبر تصحيحه لا واعتماده عليها من باب الشهادة لا بد وان يعتمد عليها لجواز الاكتفاء بالشاهد الواحد في مقام التزكية وفي الموضوعات كما لو شهد الثقة بأن هذا الكتاب لزيد مثلا وهذا الحديث موجود في الكتاب الفلاني، أو في المحل الفلاني مثلا. ويؤيّد ذلك ما جاء قي مستدرك الوسائل حيث قال: انّ شهادة الكليني على صحة خبر ترجع إلى ان الخبر موجود في الاصول والكتب المعمول بها، المعلومة الانتساب إلى اربابها، والمتصلة طرفه واسانيده إليها وقد اخرجه منها أو تلقاه من الثقاة الذين لا تتوقف معرفتهم على الامور النظرية: لكونهم من مشايخه أو مشايخ مشايخه، وقرب عصره منهم، وعدم اشتباههم بغيرهم، وكلها شهادة حسية مقبولة عند الفقهاء، فلو شهد عادل بانّ هذا الكتاب لفلان، وهذا الكلام موجود في كتاب فلان أو شهد بأن فلانا ثقة، فهل رأيت أحدا يستشكل في ذلك، بل عليه مدار الفقه في نقل الآراء والفتاوى والاقوال، والتزكية والجرح (3)، فمن اعتبر تصحيح الكليني لمرويات الكافي شهادة منه بتزكية رواتها وبوجود قسم منها في الكتب المعتبرة بنى على صحتها وجاز له العمل بها في الاحكام وغيرها، ومن بنى على ان تصحيحه لها كان من نتيجة فحصه واجتهاده ودراسته لإسناد الحديث ومتونه خلال تلك المدة الطويلة، من بنى على ذلك لم يفرق بين مرويات الكافي وغيرها من حيث كونها خاضعة للنقد والجرح والتعديل، لان اجتهاد شخص لا يكون حجة على غيره، ولابد في مثل ذلك من عرض ذلك الموضوع على الاصول والقواعد الموضوعة لتمييز الصحيح من غيره، وبالتالي قد ينتهي إلى عين النتيجة، وقد ينتهي لخلافها، وفي الحالين يتعين عليه ان يعمل بما أدى إليه اجتهاده. ومن الجائز القريب ان يكون المضعف لبعض مرويات الكافي متجها إلى هذه الملاحظة.
قال السيّد في المفاتيح: انّ اخبار الكليني بصحّة ما دوّنه في الكافي كما يمكن ان يكون باعتبار علمه بها، وقطعه بصدورها عن الائمة (عليه السلام) فيجوز الاعتماد عليها والحال هذه كسائر اخبار العدول، كذلك يمكن ان يكون باعتبار اجتهاده وظهورها عنده ولو بالدليل الظنّي، فلا يجوز اذن الاعتماد عليه، فإنّ ظن المجتهد لا يكون حجة على مثله، كما هو الظاهر من الاصحاب، بل ومن العقلاء، وحيث لا ترجيح للاحتمال الاول وجب التوقف.
ومهما كان الحال، فالكتب الاربعة وعلى رأسها الكافي كانت بنظر المتقدّمين من الفقهاء والمحدّثين إلى أواخر القرن السابع الهجري الذي ظهر فيه العلّامة الحلّي، واستاذه احمد بن طاووس، كانت من أوثق المصادر في الحديث، ولم يتردّد في قبول مرويّاتها سوى من أشرنا إليهم على انّ بعض المحدّثين قد فسّر كلام المفيد والصدوق، الذي، يدل بظاهره على التشكيك ببعض مرويات الكافي، قد فسّر كلامهما بما يرجع إلى انّهما يترددان في بعض مروياته إذا تعارضت مع غيرها وكان المعارض لها اقوى سندا واظهر دلالة، وذلك لا يعني انها من نوع الضعيف، لان تعارض الصحيح مع الاصح لا يمنع من وصفه بالصحة، كما لا يمنع من جواز العمل به والاعتماد عليه في غير مورد التعارض مع الاصح منه والشيء الطبيعي ان تتضاءل تلك الثقة التي كانت للكافي على مرور الزمن بسبب بعد المسافة بين الائمة (عليه السلام) وبين الطبقات التي توالت مع الزمن، وبمجيء دور العلّامة الحلّي انفتح باب التشكيك في تلك المرويات على مصراعيه بعد ان صنف الحديث إلى الاصناف الاربعة، فتحرر العلماء من تقليد المتقدمين فيما يعود إلى الحديث، وعرضوا مرويات الكافي وغيره، على اصول علم الدراية وقواعده، فما كان منها مستوفيا للشروط المقررة اقروا العمل به والاعتماد عليه، وردوا ما لم تتوفر فيه الشروط المطلوبة. وعلى هذا الاساس توزعت أحاديث الكافي التي بلغت ستة عشر ألف حديث ومائة وتسعة وتسعين حديثا على النحو التالي: الصحيح منها خمسة آلاف واثنان وسبعون حديثا، والحسن مائة واربعة واربعون حديثا، والموثق ألف ومائة وثمانية وعشرون حديثا، والقوي ثلاثمائة وحديثان (4)، والضعيف تسعة آلاف واربعمائة وخمسة وثمانون حديثا (5).
وممّا تجدر الاشارة إليه ان اتصاف هذا المقدار، من مرويات الكافي بالضعف لا يعني سقوطها بكاملها عن درجة الاعتبار، وعدم جواز الاعتماد عليها في امور الدين، ذلك لان وصف الرواية بالضعف من حيث سندها وبلحاظ ذاتها لا يمنع من قوتها من ناحية ثانية كوجودها في احد الاصول الاربعمائة، أو في بعض الكتب المعتبرة، أو موافقتها للكتاب والسنة، أو لكونها معمولا بها عند العلماء، وقد نص اكثر الفقهاء ان الرواية الضعيفة إذا اشتهر العمل بها والاعتماد عليها، تصبح كغيرها من الروايات الصحيحة، وربما تترجح عليها في مقام التعارض.
وجاء في مقباس الهداية للمامقاني: انّ الذي الجأ المتأخّرين إلى العدول عن طريقة القدماء، واضطرهم إلى تصنيف الحديث إلى الاصناف الاربعة، هو تطاول الازمنة بينهم وبين الطبقة الاولى، وضياع بعض الاصول المعتمدة التي دونها اصحاب الائمة (عليه السلام) والتباس المأخوذ منها بغيرها، وخفاء القرائن التي اعتمد عليها المتقدمون إلى غير ذلك من الاسباب التي اضطرتهم إلى هذا التصنيف لتمييز الصحيح عن غيره (6).
وسبب آخر أشرنا إليه من قبل، ولعلّه أقرب إلى الواقع من غيره، وهو انّ اصحاب الكتب الاربعة قد اعتمدوا على اجتهاداتهم ووثوقهم بتلك المرويات التي دونوها في مجاميعهم كما يبدو ذلك من بعض كلماتهم التي تشير إلى هذا المعنى، فانّ قول الكليني: وقد يسّر لي الله تأليف ما سألت، وارجو ان يكون بحيث توخيت، ظاهر في انه اعتمد على اجتهاداته ودراسته في انتقاء الأحاديث التي دونها في الكافي، وقد تلقى العلماء تلك المجاميع بالقبول والتقدير نظرا لثقتهم بأصحابها في دينهم وعلمهم، فحسن الظن بالكليني وغيره من مؤلفي الكتب الاربعة. يسر لهذه الكتب ان تحتل تلك المكانة الرفيعة في نفوس العلماء والمحدثين نحوا من ثلاثة قرون تقريبا، وبلغ الحال ببعض الاخباريين الذين لا يتخطون حرفية النصوص، ولا يفسحون حتى للعقل ان يتدخل في شئ من أمور الدين، بلغ الحال بهم ان اعتبروها من نوع المقطوع بصدوره عن المعصوم، واستمروا على تعصّبهم لها إلى العصور المتأخرة، ووجّهوا إلى العلّامة الحلي واستاذه التهم والشتائم، واعتبروا تصنيفه للحديث إلى الاصناف الاربعة من نوع البدعة والخروج على طريقة السلف الى الصالح وسيرتهم، ولا تزال فلولهم إلى اليوم تتمسّك بمرويات الكافي وكأنّها من وحي السماء، مع العلم بأنّ العلّامة قد خدم السنّة والمذهب، وفضح اساليب الدسّاسين والمنحرفين الذين ألصقوا بالمرويات الصحيحة آلاف الروايات التي اتخذها اخصام الشيعة سلاحا للهدم والتخريب، والتشويش على الشيعة وأئمتهم (عليه السلام).
هذه الثقة العظيمة بالمحمّدين الثلاثة ـ محمد بن يعقوب الكليني ومحمد بن الحسن الطوسي ومحمد بن بابويه ـ وبخاصة الكليني هي التي جعلت للكافي تلك الحصانة عند المتقدّمين من فقهاء الامامية ومحدّثيهم، ولمّا جاء دور العلّامة الحلّي واستاذه ووجدا بين مرويات الكافي وغيره من كتب الحديث ما لا يجوز الاعتماد عليه والركون إليه وقفا منها موقف المتحرّر من التقليد والتبعية العمياء، وتابعهما على ذلك كل من جاء بعدهما من العلماء والمحدّثين.
فكان موقفهما من مرويات الكليني اشبه ما يكون بموقف محمد بن احمد بن ادريس الحلي من فتاوى الشيخ الطوسي وآرائه في الفقه، تلك الآراء التي ظلت أكثر من قرن من الزمن وكأنّها من وحي السماء ولا مصدر لذلك الا انّه استطاع ان يفرض نفسه على تلاميذه وعلماء عصره، بالإضافة إلى شخصيته العلمية وشهرته الواسعة، ولمّا ظهر ابن ادريس المتوفى سنة 598 هجرية ووقف من آرائه موقف الناقد المتحرّر خالفه في كثير من آرائه ككل باحث متحرّر لا يهمّه الا احقاق الحق من مصادره فأعاد الثقة إلى النفوس، وبدأ هو وغيره من العلماء المعاصرين والمتأخّرين عنه في تقييم آراء الطوسي ومؤلفاته وارجاعها إلى الاصول والقواعد، بمد ان سيطرت على عقول العلماء والمفكّرين وكادت ان تنسيهم فتح باب الاجتهاد الذي امتاز به فقهاء الشيعة على غيرهم من فقهاء المذاهب الاربعة، ولذلك شواهد وأمثلة اخرى في تاريخ العلماء والمفكّرين يدركها الباحث المتتبّع في تاريخهم ومؤلفاتهم تؤكّدان شخصية العالم وثقته في النفوس تسيطران احيانا على اتباعه وتلاميذه وتستبد في عقولهم وتفكيرهم، حتى يخيّل إليهم انّ جميع آرائه ونظريّاته فوق الشبهات والاوهام.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) انظر الكنى والألقاب للشيخ عبّاس القمّي، ورجال الميرزا محمد ص 358.
(2) اي يظهره على واقعه، ويزيح الشبه عن مقاصده واهدافه.
(3) الفائدة الرابعة ص 538.
(4) القوي ما كان سنده كله أو بعضه من غير الاماميين وليس فيه ضعف.
(5) انظر روضات الجنات إلى محمد باقر الخونساري (حرف الجيم ص 553، والمستدرك الفائدة الرابعة).
(6) انظر مقباس الهداية الملحق بالمجلد الثالث من تنقيح المقال في علم الرجال.