علم الحديث
تعريف علم الحديث وتاريخه
أقسام الحديث
الجرح والتعديل
الأصول الأربعمائة
الجوامع الحديثيّة المتقدّمة
الجوامع الحديثيّة المتأخّرة
مقالات متفرقة في علم الحديث
أحاديث وروايات مختارة
علم الرجال
تعريف علم الرجال واصوله
الحاجة إلى علم الرجال
التوثيقات الخاصة
التوثيقات العامة
مقالات متفرقة في علم الرجال
أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله)
اصحاب الائمة من التابعين
اصحاب الائمة من علماء القرن الثاني
اصحاب الائمة من علماء القرن الثالث
علماء القرن الرابع الهجري
علماء القرن الخامس الهجري
علماء القرن السادس الهجري
علماء القرن السابع الهجري
علماء القرن الثامن الهجري
علماء القرن التاسع الهجري
علماء القرن العاشر الهجري
علماء القرن الحادي عشر الهجري
علماء القرن الثاني عشر الهجري
علماء القرن الثالث عشر الهجري
علماء القرن الرابع عشر الهجري
علماء القرن الخامس عشر الهجري
البحث حول الأقوال في اعتبار المراسيل.
المؤلف: الشيخ محمد آصف محسني.
المصدر: بحوث في علم الرجال.
الجزء والصفحة: ص 227 ـ 242.
2023-07-27
1166
قد يشتمل سند الحديث على ذكر جميع رواته بأسمائهم، وقد لا يكون كذلك، بأنّ يحذف واحد أو أكثر من أوّل السند أو وسطه أو آخره أو يحذف تمام السند، أو يذكر بلفظ مبهم كبعض أو بعض أصحابنا، ونحو ذلك ويسمّى النّوع الأوّل بالمسند، والنوع الثّاني بالمرسل. ولو بالمعنى الأعم الشّامل للمرفوع وغيره، كما يأتي تعريف كلّ من الأقسام في البحث الثامن والأربعين.
ثمّ في الفرض الأوّل قد يكون الرّاوي معلوم الحال من المدح والذم، وقد يكون مجهول الحال، وقد يكون مهملا غير مذكور في علم الرجال من رأس.
ونحن في خصوص هذا البحث أطلقنا المرسل على النوع الثّاني وعلى القسمين الأخيرين من النوع الأوّل.
فمرادنا بالمرسل ما لم يذكر راويه في الرجال ولم يعلم صدقه، أو ذكروه، ولكن لم يذكر في السند أصلا، أو ذكر بعنوان بعض الأصحاب وشبهه، أو ذكروه، ولكن لم يذكروه بمدح أو ذمّ (1).
مع العلم بأنّ إطلاق المرسل على بعض الأقسام خلاف الاصطلاح.
إذا عرفت هذا، فاعلم إنّ مقتضى الاصول المتقدّمة عدم حجيّة المراسيل؛ لأنّ شرط قبول الخبر الفاقد للقرينة هو وثاقة مخبره، وهي غير محرزة في المرسل على الفرض، ولكن لعلمائنا الأعلام أقوالا وتفاصيل في المقام لا بدّ من التّعرض لها ومعرفة قويّها من ضعفيها، فنقول مستمدّا من اللّه سبحانه:
القول الأوّل: المرسل إمّا يرسل عن بعضهم، أو عن جمع، والأوّل لا يكون حجّة على الأصل، والثّاني حجّة للاطمئنان بعدم كذب جمع، فإذا قال الرّاوي عن عدّة أو عن جماعة أو عن غير واحد أو أمثال هذه العبارات نبني على اعتبار الرّواية، وإن لم نعرف المحذوفين اسما بالمدح والذمّ، للاطمئنان بعدم كذب جميع الجماعة المذكورة في أخبارهم (2).
أقول: هذا التفصيل لا يحتاج إلى إقامة دليل بعد حصول الاطمئنان بعدم الكذب في الفرض المذكور، فإنّ الاطمئنان حجّة عقلائيّة لم يردع الشّارع عنه؛ ولهذا التفصيل ثمرات في علم الفقه وغيره، ولا أدري هل قال به قائلون أم لا (3)؟
لكنّي أعتمد عليه.
القول الثّاني: اعتبار روايات مطلق المهملين كما صرّح به صاحب قاموس الرجال وسيأتي نقد كلامه في البحث الآتي.
وقد نسب هذا القول إلى ظاهر جمع من المتأخّرين أيضا (4)، واستدلّ له بأنّ اللّه تعالى علّق وجوب التبيّن على فسق المخبر وليس المراد الفسق الواقعي وإن لم نعلم به، وإلّا لزم التكليف بما لا يطاق فتعيّن أن يكون المراد الفسق المعلوم، وانتفاء التثبّت والتبيّن عند عدم العلم بالفسق يجامع كلاً من القبول والرد، لكن الثّاني منتفٍ وإلّا لزم كون المجهول الحال أسوء حالاً من معلوم الفسق، حيث يقبل خبره بعد التثبّت. أقول: التلفيق المذكور فاسد جدّا، فإنّ الألفاظ موضوعة لنفس معانيها، لا مع قيد العلم، كما قرّر في أصول الفقه، وإحراز عدم الفسق وجدانا أو تعبّدا ممكن كإمكان ثبوته بالعلم والإقرار والبيّنة، فلا يلزم التكليف بما لا يطاق ومع الغضّ عنه لا يلزم من التوقّف في إخبار مجهول الحال كونه أسوء حالا من المعلوم الفسق؛ لأنّ العقلاء يحكمون باشتراط اعتبار قول المجهول الحال بالتّبيّن، فهما من هذه الجهة- أي: اشتراط جواز العمل بقولهما بالتبين- على السواء.
وقد يقال: إنّ المستفاد من الآية مانعيّة الفسق عن قبول الخبر، فإذا شكّ فيه فالأصل عدمه. أقول: اشتراط العمل بخبر الفاسق بالتبيّن والتعليل المذكور في الآية: {أن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ} يدلّان على أنّ المناط في قبول الخبر هو صدق المخبر وعدم كذبه، ومن المعلوم إنّ الاطمئنان لا يحصل من أصالة عدم الفسق فمجهول الحال، كالمعلوم فسقه في اشتراط قبول خبره بالتّبيّن.
ومنه ينقدح بطلان أصالة العدالة أيضا في المقام، فإنّ المسلم المشكوك فسقه لا يقبل قوله مطلقا، بل هو مقيد بالتّبيّن والاطمئنان ولو نوعا بعدم كذبه، فتأمّل.
القول الثالث: حجيّة مراسيل أصحاب الإجماع المذكورين في كتاب رجال الكشّي، كما عن المشهور، وحيث إنّا ذكرنا هذا الموضوع في البحث الحادي عشر، فلا نبحث عنه هنا، وقد ثبت أنّ مراسيلهم، كمراسيل غيرهم في عدم الاعتبار.
القول الرابع: حجيّة مراسيل محمّد بن أبي عمير (5)
يقول المامقاني: إنّ محمّد بن أبي عمير تفرّد في تسالم الكلّ على قبول مراسيله وعدّهم إيّاها بحكم المسانيد المعتمدة، ونحو ذلك وإن قيل في نفر آخرين أيضا، إلّا أنّ القائل نفر ولم يقع على هؤلآء تسالم الكلّ ... يقول النجّاشي في رجاله في ضمن ترجمة محمّد بن أبي عمير:
وقيل: إنّ اخته دفنت كتبه في حالة استتارها وكونه في الحبس أربع سنين، فهلكت الكتب. وقيل: بل تركتها في غرفة فسال عليها المطر فهلكت، فحدّث من حفظه، وممّا كان سلف له في أيدي الناس؛ فلهذا أصحابنا يسكنون إلى مراسيله.
أقول: لم يفهم إنّ التفريع الأخير: فلهذا أصحابنا ... من النجّاشي أو من الحاكي عن هلاك الكتب، وعلى كلّ حال إن أريد من سكون الأصحاب وعدم الاعتراض على ابن أبي عمير بكثرة نقل المراسيل وعدم مطالبتهم إيّاه بأسناد رواياته، فالتفريع المذكور مفهوم صحيح، وإن كان المراد منه: القبول وإلحاق مراسيله بمسانيده المعتبرة، فالتفريع المذكور غير مفهوم أصلا، فإنّ نسيان الرّاوي رواة أحاديثه لا يقتضي بوجه وثاقتهم ولا صدقهم، وهذا فليكن واضحا؛ ولذا يصبح الشّق الأوّل أرجح، بل متعيّنا.
وبالجملة: الإيراد على الكلام المذكور من جهتين، من جهة احتمال أنّه من مقولة القائل المجهول حاله، ومن جهة أن سكون جمع إلى مراسيل أحد، لا يكون دليلا على غيرهم حتّى إذا فسّرنا السكون بالقبول من جهة كلمة (إلى) ويبعد كلّ البعد توافق كلّ الأصحاب على ذلك، وسيأتي ما يدلّ عليه أيضا إن شاء اللّه.
لا يقال: إنّ ابن أبي عمير إنّما نسي أسامي من روي عنهم، دون وثاقتهم أو كذبهم، فهو يعلم أنّ أحاديثه كلّها مروية عن الثقاة والحسان. فإنّه يقال: إنّه مجرّد احتمال.
ودعوى أنّ السكون مستند إلى فهم الطائفة أنّه لا يروي ولا يرسل إلّا عن ثقة، ضعيفة ومخالفة لقوله: (فلهذا)- أي: لأجل تلف الكتب ونسيان أسامي الرّواة- على أنّ النجّاشي أو القائل المجهول، يخصّ كلامه بمراسيله دون مسانيده، ولم يدّع إنّ ابن أبي عمير لا يروي إلّا عن ثقة، بل يمكن أنّ يكون القول المذكور (فلهذا) ردّا على الشّيخ في أنّه لا يروي ولا يرسل إلّا عن ثقة، يعني: أنّ علّة سكون الأصحاب إلى مرسلات ابن أبي عمير؛ لأجل تلف كتبه ونسيانه أسمائهم، لا لأجل أنّه لا يروي ولا يرسل إلّا عن ثقة، فلاحظ.
نعم، للشيخ الطّوسي وجه آخر في اعتبار مراسيله، وهو أنّ ابن أبي عمير ممّن لا يروي ولا يرسل إلّا عن ثقة، فيكون مراسيله حجّة، وهذا معقول في الجملة، وقد نسب قبوله إلى جمع كالعلّامة في النهاية والشّهيد في الذكرى والبهائي في الزبدة وغيرهم.
وقيل: إنّ الشّافعية أيضا يقبلون مراسيل سعيد بن المسيب.
بل سيأتي في البحث الثامن والثلاثين من الشّيخ الطوسي قدّس سره دعواه إجماع الطائفة على أنّه - أي: ابن أبي عمير- وصفوان والبزنطي وجماعة آخرين، لا يروون ولا يرسلون إلّا عمّن يوثق به.
والمناقشة فيه باحتمال ثبوت الجارح ضعيفة بأصالة عدمه.
أقول: قد مرّ ما يتعلق بهذه المسألة في البحث الحادي عشر وضعّفنا الإجماع المذكور والمدّعى أيضا مخدوش بما قد ثبت من روايتهم عن الضعفاء.
فإنّ قلت: ظاهر الشّيخ أنّه يستند معرفة عدم رواية هؤلآء عن غير الثّقة إلى الطائفة، ومعرفة الطائفة حجّة سواء كانت عن حسّ، أو عن حدس للاطمئنان بعدم اشتباه جميعهم في ذلك، فتكون مرسلاتهم معتبرة حتّى إذا تعارضت بجرح جارح فإنّ توثيق الطائفة مقدّم على جرح واحد منهم.
قلت: نمنع ذلك الظهور وإلّا لتعرّض له غير الشّيخ عادة فهو اجتهاد منه، بل قيل إنّ الشّيخ نفسه خالف هذا الاجتهاد (6).
ثمّ إنّ صاحب معجم الثقات بعد متابعة الشّيخ في قوله هذا تتبّع الكتب الأربعة وغيرها، واستخرج أسماء مَن روي عنهم هؤلاء الثّلاثة، ولم يرد فيهم التّوثيق بالخصوص، فأنّهاها إلى ثلاثمائة وإحدى وستّين اسماً (7)، ولاحظ خاتمة المستدق أيضا.
وهذه ثمرة مهمّة جدّا.
توضيح وتحقيق:
هل روى هؤلآء المشائخ الثّلاثة عن الضعفاء؟ وهل ثبت عن الشّيخ الطّوسي ما يخالف ادّعائه في حقّ ابن أبي عمير وصفوان والبزنطي بأنّهم لا يروون ولا يرسلون إلّا عن ثقة؟ أمّا الأوّل، فقد ثبت أنّ ابن أبي عمير روي عن جماعة ضعفاء، منهم: يونس بن ظبيان، والمفضل بن صالح، والمفضل بن عمر، ومحمّد بن سنان، وعلي بن أبي حمزة، وأبو البختري، وهب بن وهب، وعلي بن حديد، وعمرو بن جميع، والحسين بن أحمد بن المنقري، وغيرهم.
كما ثبت أنّ صفوان روي عن: صالح النيلي، ويونس بن ظبيان، وعلي بن أبي حمزة وأبو جميلة ومحمّد بن سنان وغيرهم.
وكما ثبت أنّ البيزنطي روي عن الحسن بن علي بن أبي حمزة وعن أبيه، وعن أبي جميله وعن المفضل بن صالح وغيرهم.
ومجموع من روى عنهم هؤلآء المشائخ الثّلاثة رحمه اللّه ربّما يبلغ إلى: 600 شخصا، وقيل: إلى أكثر من سبعمائة شخص.
لكن هنا أجوبة عن ذلك حتّى لا تضر هذه الموارد، بأن هؤلآء الثّلاثة لا يروون ولا يرسلون إلّا عن ثقة.
الجواب الأوّل:
إنّ نسبة مَن ثبت في حقّهم التضعيف بالنسبة إلى مَن لم يثبت فيه الضعف، من الّذين روي عنهم، قليلة جدّا بحيث لا تضرّ بالاطمئنان، فكأنّ تلك الموارد بمنزلة الشّاذ غير قابلة للاعتناء، كما في نسبة الواحد إلى المائة أو الألف.
أقول: هذا البيان يكفي لصحّة الكلية المذكورة بحسب العرف، ولا يكفي لحجيتها؛ إذ في كلّ مورد يحتمل أنّ الرّاوي من الشّاذ النادر، فيكون ضعيفا فلا يجوز الأخذ برواياته.
الجواب الثّاني: من سيّدنا الأستاذ الحكيم قدّس سره في مستمسكه (8) لكنّه مع كونه خلاف ظاهر كلام الشّيخ رحمه اللّه ردّ لادعاء الشّيخ وتسليم للإشكال، لا أنّه جواب له وسيأتي نقله.
الجواب الثالث:
إنّ هؤلآء المشائخ الثّلاثة إنّما رووا عن الضعاف في زمان وثاقتهم دون حال انحرافهم.
أقول: دفع الإشكال بهذا الاحتمال، ضعيف، خارج عن البحث العلمي، لا سيّما إذا لم يثبت إنّ الرّاوي له حالة استقامة وحالة انحراف.
الجواب الرابع:
أنّهم لا يروون ولا يرسلون إلّا عمّن يثقون بهم أنفسهم، ولا يعتبر أن يكونوا من الموثوق بهم عند غيرهم، وهذا نظير ما أجاب بعض أهل السنّة عن ادّعاء مسلم صاحب الصحيح، حيث ادّعي إنّ روايات كتابه مقبولة عند الكلّ، فقال: أي: باعتقاد مسلم إنّها مقبولة عند الكلّ.
وفيه إنّه خلاف ظاهر كلام الشّيخ، وثانيا أنّه لا يجدي ولا ينفع شيئا، فإنّا مأمورون بالعمل بأخبار من نثق به لا بأخبار من يثق به أحد هؤلآء الثّلاثة.
والحاصل: الحاسم أنّ الوثاقة بمعنى الصدق- على ما سبق- وليس يعقل أن يكون لهم نظر خاصّ فيه، بحيث يرى أحد هؤلآء صدق أحد ولا يراه كذلك، غيرهم من الرجاليّين.
وسيأتي في كلام سيّدنا الأستاذ الحكيم رحمه اللّه توجيه آخر لهذا الوجه.
فالصحيح: عدم الاعتماد على نقل الشّيخ في حقّ هؤلآء المشائخ الثّلاثة.
وأمّا جواب السؤال الثاني، ففي التهذيب (9) بعد نقل مرسلة ابن أبي عمير: فأوّل ما فيه أنّه مرسل، وما هذا سبيله لا يعارض به الإخبار المسندة.
وهكذا عن الاستبصار.
والجواب أنّ هذا لا يناقض ما ذكره بعد ذلك في العدّة فإنّ التهذيب مقدّم تأليفا على العدّة، فهو عدول عن الرأي، وهذا واضح يقبح إنكاره.
فإنّ قلت: إنّ الشّيخ لم يذكر في التهذيبين عدم حجيّة المرسلتين مطلقا، بل في حال التعارض وباب التعارض، له حكم خاص؟
قلت: إنّ الشّيخ قدّس سره ابتلى بالتناقض ظاهرا في هذا المقام، فلاحظ كلامه في البحث الثامن والثلاثين.
نعم، الشّيخ خالف ادّعائه في حقّ هؤلآء الثّلاثة من جهة اخرى، وهي أنّه ضعف عدّة من الرّواة الّذين روى بعض هؤلآء الثّلاثة عنهم، فإذا كان الشّيخ- وحتّى النجّاشي وغيره- معتقدا ضعف بعض هؤلآء المروي عنهم، فكيف يصحّ له أنّ يدعي أن هؤلآء الثّلاثة لا يرسلون ولا يروون إلّا عن ثقة؟
وكيف يجوز لغير الشّيخ أن يعتمد عليهم في خصوص مسانيدهم المجهولة؟
مثلا: أنّ الشّيخ ضعّف الحسين بن أحمد المنقري في رجاله في أصحاب موسى بن جعفر عليه السّلام وضعّف عمرو بن جميع في أصحاب الصّادق عليه السّلام وأبا البختري في فهرسته مع أنّ ابن أبي عمير روي عنهم، وهكذا.
و في الأخير ننقل كلام سيدنا الأستاذ الحكيم قدّس سره في مستمسكه (10) إيضاحا للمقام: و رواية محمّد بن أبي عمير عنه- أي: زيد النرسي- لا توجب ذلك- أي وثاقته- و إن قيل إنّه لا يروى إلّا عن ثقة؛ إذ لا يبعد كون المراد منه الوثاقة في خصوص الخبر الّذي رواه- و لو من جهة القرائن الخارجيّة- لا كون الرّاوي ثقة في نفسه، و إلّا لأشكل الأمر في كثير من الموارد الّتي روي فيها محمّد بن أبي عمير عن المضعفين، مضافا إلى بنائهم على عدم كفاية روايته في توثيق المروي عنه، كما يظهر من ملاحظة الموارد الّتي لا تحصى، و منها المقام فإنّهم لم ينصوا على وثاقه زيد بمجرّد رواية محمّد بن أبي عمير عنه.
وأيضا فإنّ الظاهر أنّ عدم الرّواية إلّا عن الثّقة ليس مختصّا بمحمّد، والبزنطي، وصفوان الّذين قيل فيهم ذلك بالخصوص.
فقد قال الشّيخ رحمه اللّه في عدّته في مبحث الخبر المرسل:
سوت الطائفة بين ما يرويه محمّد بن أبي عمير وصفوان بن يحيى، وأحمد بن محمّد بن أبي نصر، وغيرهم من الثقات الّذين عرفوا بأنّهم لا يروون ولا يرسلون إلّا عمّن يوثق به، وبين ما أسنده غيرهم: ولذلك عملوا بمراسيلهم بل الظاهر أنّ كثيرا من رواة الحديث كذلك، لاختصاص الحجيّة عندهم بخبر الثّقة، وليس نقلهم للرّوايات من قبيل نقل القضايا التأريخيّة، وإنّما كان للعمل والفتوى، فما لم يحصل لهم الوثوق بالرّواية لا ينقلوها، بل يطعنون على من ينقلها.
فلاحظ ما حكى عن أحمد بن محمّد بن عيسى من إخراجه البرقي من قمّ؛ لأنّه يروي عن الضعفاء ويعتمد المراسيل، فلو كان هذا المقدار كافيا في البناء على وثاقة الرّاوي لم يبق لنا راو إلّا وهو ثقة إلّا نادرا.
نعم، الرّواية عن شخص تدلّ على الوثوق بروايته، لكن ذلك قد لا يوجب الوثوق لغيره.
وبذلك اتّضح الفرق بين الشّهادة بوثاقة الرّاوي والرواية عنه فتكفي الأولى في قبول خبره ولا تكفي الثانية في قبوله، فضلا عن إثبات وثاقة الرّاوي في نفسه؛ لأنّ الظاهر في الأوّلى الاستناد إلى الحسّ أو ما يقرب منه، فيكون حجّة ولا يظهر من الثانية ذلك؛ ولذلك نجد أكثر الرّوايات الضعيفة غير مقبولة عند الأصحاب وفي سندها الثقات والأجلّاء، لعدم حصول الوثوق لهم من مجرّد ذلك، لاحتمال كون وثوق رجال السند حاصلا من مقدّمات بعيدة يكثر فيها الخطأ.
ومن ذلك يظهر الإشكال في إثبات وثاقة زيد النرسي برواية جماعة من الأجلاء لكتابه، كما قيل.
ومثله في الإشكال: ما قيل من أنّ محمّد بن أبي عمير من أصحاب الإجماع، والمعروف بينهم أنّ المراد به الإجماع على قبول الرّواية، إذا كان أحدهم في سندها وإن رواها بواسطة المجهول، كما يدلّ على ذلك عبارة العدّة المتقدّمة، فإنّ المراد من غيرهم من الثقات ما يشمل أصحاب الإجماع قطعا؛ ولأجلها يضعّف احتمال أنّ المراد من الإجماع المتقدّم صحّة روايتهم فقط.
وعلى هذا فرواية النرسي يجب العمل بها، لرواية محمّد بن أبي عمير إيّاها وإن لم تثبت وثاقة النرسي.
وجه الإشكال: أنّ الإجماع المذكور وإن حكاه الكشّي رحمه اللّه وتلقاه من بعده بالقبول، لكن ثبوته وحجّيته بهذا المقدار محلّ تأمّل.
كيف وجماعة من الأكابر توقّفوا عن العمل بمراسيل ابن أبي عمير؟
وأمّا غيره من أصحاب الإجماع، فلم يعرف القول بالاعتماد على مراسيله، حتّى استشكل بعضهم في وجه الفرق بينه وبين غيره في ذلك.
وما ذكره الشّيخ رحمه اللّه في عبارته المتقدّمة غير ظاهر عندهم. وأيضا فإنّ الظاهر أنّ الوجه في الإجماع المذكور ما علم من حال الجماعة من مزيد التثبت والاتقان والضبط، بنحو لا ينقلون إلّا عن الثقات- ولو في خصوص الخبر الّذي ينقلونه- فيجيء فيه الكلام السّابق من أنّ الوثوق الحاصل من جهة القرائن الاتّفاقيّة غير كاف في حصول الوثوق لنا على نحو يدخل الخبر في موضوع الحجيّة كليّة.
وبالجملة: لو كان الإجماع المدعي ظاهرا في ذلك، فكفايته في وجوب العمل بالخبر الّذي يرويه أصحاب الإجماع، مع عدم ثبوت وثاقة المروي عنه، أو ثبوت ضعفه لا يخلو من إشكال، فلاحظ وتأمّل. انتهى كلامه رفع مقامه.
القول الخامس: حجيّة مراسيل الكافي لثقة الإسلام الكليني رضي اللّه عنه
أقول: وهو مجرّد حسن ظنّ.
القول السادس: حجيّة مراسيل الصدوق قدّس سرّه كما عن الحرّ والسبزواري والبهائي (11) رحمه اللّه وغيرهم. ويأتي تفصيله في البحث الثّاني والأربعين.
أقول: يفهم وجه هذين القولين وضعفهما ممّا مرّ وما يأتي.
القول السابع: ما نقل عن المحقّق الحلّي في خمس معتبرة (12) من حجيّة المراسيل بشروط منها: خلوّه عن المعارض، ومنها: خلوّه عن المنكر، ومنها: عدم ردّه من جانب الفضلاء، ومنها: كون المرسل الناقل شيعيّا.
وهل يعتبر مع ذلك موافقته لفتوى علماء الشّيعة عنده أم لا إليك نص عبارته بتمامها:
الذي ينبغي العمل به اتّباع ما نقله الأصحاب و أفتى به الفضلاء، و إذا سلم النقل عن المعارض، و من المنكر لم يقدح إرسال الرّواية الموافقة لفتواهم، فإنّا نعلم ما ذهب إليه أبو حنيفة و الشّافعي، و إن كان الناقل عنهم ممّن لا يعتمد على قوله، و ربّما لم يعلم نسبته إلى صاحب المقالة، و لو قال إنسان: لا أعلم مذهب أبي هاشم في الكلام و لا مذهب الشّافعي في الفقه؛ لأنّه لم ينقل مسندا كان متجاهلا، و كذا مذهب أهل البيت عليهم السّلام ينسب إليهم بحكاية بعض شيعتهم سواء أرسل أو اسند، إذا لم ينقل عنهم ما يعارضه و لا ردّه الفضلاء منهم. نقول لهذا المحقّق الفقيه عميق النظر وسيع الاطلاع رضي اللّه عنه: نمنع التجاهل إذا لم يكن النقل محفوفا بقرينة خارجيّة فإنّ خبر الواحد لا يكون مفيدا للعلم، فكيف يكون مدعي عدمه متجاهلا؟
بل يكون محقّا في دعواه، ولعلّ مراد المحقّق المسائل العامّة المشهورة الظاهرة.
وعلى الجملة: إذا حصل الاطمئنان بصدور الرّواية المرسلة الجامعة لما ذكره من الشّروط من المعصوم فهو، وإلّا فلم يوجد دليل على حجيّتها في كلامه وفي كلام غيره نخضع له، وله تفصيل آخر يأتي في آخر هذا البحث.
القول الثامن: ما عن الفاضل المقداد في تنقيحه من حجيّة مراسيل الشّيخ الطوسي قدّس سره بحجّة أنّه لا يرسل إلّا عن ثقة، وهو أعلم بما قال.
وبمثله قيل في: حقّ النجّاشي، وابن عقيل، والإسكافي، والكلّ نشأ من حسن الظّن.
أقول التّاسع: ما عن الشّهيد رضي اللّه عنه في محكي غاية المراد بأنّ مراسيل الثقات من الأصحاب مقبولة معتمدة.
وقال الفاضل المامقاني: أراد بالثقات من وثقوه ولم ينصوا بأنّه يروي عن الضعفاء، وحينئذ فتعتدل جملة من المراسيل لعدم قصور هذه الشّهادة من التّوثيقات الرجاليّة فلا تذهل (13).
أقول: هذا الكلام من مثل الشّهيد عجيب فإنّه رحمه اللّه يعلم إنّ الثقات يروون عن الضعفاء والمجهولين، كما يروون عن الثقات والصادقين، فكيف يكون مراسيلهم حجّة، ولست أتوّقع صدور مثل هذا الكلام من مثل هذا الجليل النّبيل وأمثاله.
وأمّا ما ذكره المامقاني رحمه اللّه، ففيه إنّ سكوتهم عن رواية شخص عن الضعفاء دليل على أنّه لم يرو عن الضعفاء كثيرا، لا أنّه لم يرو عن ضعيف أصلا، وعليه فلا تلبس المراسيل لباس الحجيّة.
وأمّا عدم قصور هذه الشّهادة عن التّوثيقات الرجاليّة، ففيه أنّه واضح الضعف فإنّ كلام الشّهيد رحمه اللّه اجتهاد حدسي لا يجوز العمل به لمجتهد آخر، بل للكلّ؛ لبطلان تقليد الميت ابتداء، وهذا بخلاف الإخبار عن حسّ، فإنّه حجّة كما مرّ.
ولعلّ مراد الشّهيد من الثقات الثقات المعيّنون الّذين ادّعي الإجماع على قبول مراسيلهم، ولكنّه أيضا عندنا غير تامّ، كما سبق مفصّلا.
ثمّ إنّه ربّما يقال: إنّ المرسل- كالصدوق رحمه اللّه- إذا أرسل الرّواية بلفظ: روي عن
الإمام فهو ليس بحجّة، وأمّا إذا أرسله بلفظ: قال الإمام، فهو حجّة؛ إذ لو لا صحّة الطريق لم يجز له نسبة المضمون إلى الإمام، لأنّه افتراء محرّم.
ويردّه إنّ هذا لا يثبت صحّة الطريق عند غير الصدوق مثلا، وإنّما يثبت الصحة المعتبرة باجتهاد الصدوق فقط، فلا يجوز لغيره الاعتماد عليها؛ لاختلاف المباني الاجتهاديّة والحالات النفسيّة.
القول العاشر: ما عن السّيد المحقّق الداماد رحمه اللّه في محكي الرواشح السماويّة من أنّه إذا قيل في الحديث رجل عن أبي عبد اللّه عليه السّلام فهو، أمّا محمّد بن حمزة التميمي الفاضل الثّقة، وهو الّذي روي في الفقيه عنه الحديث المتضمّن لحدّ كثرة السهو، أو محمّد بن أبي حمزة الثمالي الممدوح، وهو الّذي يروي عنه ابن أبي عمير ومحمّد بن سنان، وأمّا ثعلبة بن ميمون أبو إسحاق الفقيه النحوي، ثمّ قال: فهذه فايدة جليلة قد أخذتها واستقدته من كتاب الرجال للشيخ رحمه اللّه.
أقول: لا تحضرني الرواشح حتّى أطمئن بصدور هذه العبارة بعينها من السّيد المذكور، وعلى تقدير وجودها، ليته ذكر محلّ الأخذ والاستفادة من رجال الشّيخ، وعلى كلّ فعندي هذا القول غريب.
القول الحادي عشر: ما ذكره المحدّث الحرّ العاملي من أنّ الرّوايات المتواترة الدّالة على حجيّة خبر الثّقة مطلقة وعامّة، فما يرويه الثّقة يحكم بصحته سواء رواه مرسلا أو مسندا، عن ثقة، أو ضعيف، أو مجهول ... ومن المعلوم قطعا أنّ الكتب الّتي أمروا عليهم السّلام بالعمل بها كان كثير من رواتها ضعفاء ومجاهيل، وكثير منها مراسيل(14).
وفيه إنّ حجيّة نقل الثّقة وتصديقه إنّما هو فيما يخبر فقط لا ثبوت قول المعصوم، ولو بتوسط ضعيف أو مجهول، فإذا قال الثقة: قال الإمام كذا، وكذا نصدّقه في إخباره عن المعصوم عليهم السّلام. وإذا قال: قال فلان، قال: الإمام كذا، نصدّقه في إخباره عن فلان لا عن الإمام عليه السّلام فإذا كان فلان ضعيفا أو مجهولا أو مهملا، فلا معنى للحكم بثبوت قول العصوم بقول هذا الضعيف أو المجهول، ولا إطلاق ولا عموم يفيان بإثباته قطعا، وهذا فليكن واضحا وظاهرا بأدنى التفات.
وأمّا الكتب المأمور بها، فإنّ أراد من الأمر بها الأمر المستفاد من الرّوايات المتواترة الدّالة على حجّيه قول الثّقة، فقد عرفت ما فيه، وإن أراد الأمر الخاصّ بالعمل ببعض الكتب، فمع فرض صحّة هذا الأمر سندا، تصبح المرسلات والضعاف سندا مسندات معتمدة؛ لأجل الأمر الثّاني بنفس المتون، وهذا لا يدلّ على حجيّة المرسل بوجه، كما لا يدلّ على حجيّة نقل الضعيف والمجهول وإلّا بطل علم الرجال من أصله، فما نسجه موهون جدّا.
القول الثّاني عشر: حجّيّة مرسلات الحلّي في مستطرفات سرائره، وسيأتي وجهها ونقده إن شاء اللّه في بحث مستأنف.
القول الثالث عشر: حجّيّة المرسلات الّتي عمل بها المشهور، أي: استندوا إليها في مقام الفتوى، فلا يكفي مجرّد مطابقتها للفتاوي، كما أنّ المعتبر من الشّهرة الشّهرة بين القدماء دون المتأخّرين، وهذا هو الكلام الشّائع، إنّ الشّهرة جابرة وكاسرة، أي: أنّ عمل المشهور برواية ضعيفة جابر لضعفها، وإعراض المشهور عن رواية معتبرة موهن وكاسر لاعتبارها، كما ذهب إليه المشهور أو الأشهر.
واستدلّ له بأنّ القدماء كانوا أقرب إلى زمان الأئمّة عليهم السّلام وكانوا أعرف بالقرائن اللفظيّة والحاليّة، وخفاء القرائن عليهم أقلّ منه على غيرهم، فلعلّهم وقفوا على ما لم نقف عليه، فعملهم بالرواية الضعيفة يكشف عن قرينة دالّة على صحتّها، وإعراضهم عن الرّواية المعتبرة يكشف عن خلل فيها (15).
أقول: هذا الاستدلال ممنوع صغرى وكبرى.
أمّا منع الصّغرى، فلأنّه لا سبيل لنا إلى إحراز استناد مشهور القدماء إلى الرّواية غالبا؛ إذ ليس بأيدينا الكتب الاستدلاليّة للقدماء، حتّى أنّه لم يصل إلينا كتاب ابن أبي عقيل وكتاب ابن الجنيد، اللذين قيل: إنّهما ألّفا بشكل استدلالي، بل ليس للمشهور المتقدّمين كتب فتواطئية حتّى نقف على فتاويهم.
وللشهيد الثّاني كلام طويل ذكره في درايته (16) وإليك بعضه:
هذا إنّما يتمّ لو كانت الشّهرة متحققة قبل زمن الشّيخ، و الأمر ليس كذلك فإنّ من قبله من العلماء كانوا بين مانع من خبر الواحد مطلقا، كالسيّد المرتضى، و الأكثر على ما نقله جماعة، و بين جامع للأحاديث من غير التفات إلى تصحيح ما يصحّ ورد ما يرد فالعمل بمضمون الخبر الضعيف قبل زمن الشّيخ على وجه يجبر ضعفه ليس بمتحقّق، و لما عمل الشّيخ بمضمونه في كتبه الفقهيّة جاء من بعده العلماء، واتّبعه منهم عليها الأكثر، تقليدا له إلّا من شذّ منهم، و لم يكن فيهم من يسبر الأحاديث و ينقب عن الأدلّة بنفسه، سوى الشّيخ المحقّق ابن إدريس؛ و قد كان لا يجيز العمل بخبر الواحد مطلقا ... و مثل هذه الشّهرة- أي: بعد الشّيخ- لا تكفي في جبر الخبر الضعيف.
وأمّا الكبرى فيرد عليها، إنّه لا ملازمة بين اعتمادهم على قرينة جابرة أو كاسرة، واعتمادنا عليها، فلعلّها لو وصلت إلينا لم نرها صالحة للاعتماد عليها.
ويقول سيّدنا الأستاذ الحكيم قدّس سره في حقائق الاصول:
المحتمل بدوا في أدلّة حجيّة الخبر أحد أمور ثلاثة:
الأوّل: حجيّة الخبر المظنون بصدوره بالنظر إلى نفس السند، مثل كون الرّاوي ممّن يظّنّ بصدقه.
الثّاني: حجيّة مظنون الصدور ولو بالنّظر إلى ما هو خارج عن السند، مثل عمل الأصحاب به واعتمادهم عليه.
الثالث: حجيّة ما هو أعمّ من ذلك وما هو مظنون الصحّة، ومطابقة مؤدّاه للواقع، ولو بالنظر إلى الخارج، كما لو كان الخبر موافقا لفتوى المشهور وإن لم يعتمدوا عليه، كخبر الدّعائم والرضوي ونحوهما.
وظاهر المصنّف- صاحب الكفاية- استظهار الثالث من أدلّة الحجيّة ولا يخلو من تأمّل، بل المتيقّن هو الأوّل، وإن كان الثّاني أظهر (17).
أقول: المتيقّن من الأحاديث الواردة في حجيّة الخبر، هو حجيّة خبر العادل، والأقوى حجيّة خبر الثّقة من جهة بناء العقلاء، ولا يعتبر فيه حصول الظّن الفعلي، نعم، لا شكّ في حجيّة الخبر الموثوق به، ولو لأجل الشّهرة وغيرها، وأمّا الخبر المظنون بصدقه فهو غير معتبر، فإنّ الظّنّ لا يغني من الحقّ شيئا.
ويمكن أن يستدلّ لأصل القول السّابق بما ذكره الشّيخ الأنصاري رحمه اللّه في رسائله بعد بيان أدلّة حجيّة خبر الواحد: والإنصاف أنّ الدال منها لم يدلّ إلّا على وجوب العمل بما يفيد الوثوق والاطمئنان بمؤدّاه، وهو الّذي فسّر به الصحيح في مصطلح القدماء، والمعيار فيه أن يكون احتمال مخالفته للواقع بعيدا، بحيث لا يعتني به العقلاء، ولا يكون عندهم موجبا للتحيّر والتردّد الّذي لا ينافي حصول مسمّى الرجحان ...ومن الظاهر إنّ الإخبار الّتي أعرض عنها المشهور لا تكون موثوقا بها وإن صحّت أسنادها، فلا تشمله أدلّة حجيّة الإخبار، انتهى.
لكن إذا قلنا بأنّ المعتبر من الإخبار ما كان مخبره صادقا لبناء العقلاء عليه وللروايات، أو كان الخبر موثوقا به؛ لأنّ الاطمئنان حجّة عقلائيّة، لم يتمّ هذا الاستدلال، لعدم سقوط الخبر بإعراض المشهور عنه، بعدما كان رواته صادقين وثقات وقد شملته أدلّة الحجيّة، وهذا ظاهر. ولو شرط في حجيّة الخبر، الوثوق الشخصي بمؤدّاه، لذهب أكثر الإخبار باطلا.
ولا أظنّ بأنّ الشّيخ الأنصاري قدّس سره كان واثقا بما استدل به من الأحاديث، كما يظهر من كتاب مكاسبه وغيره.
القول الرابع عشر: ما نقله الشّيخ الحسن رحمه اللّه عن المحقّق الحلّي قدّس سره من أنّه إذا قال الرّاوي أخبرني بعض أصحابنا وعني الإماميّة يقبل، وإن لم يصفه بالعدالة، إذا لم يصفه بالفسق؛ لأنّ إخباره بمذهبه شهادة بأنّه من أهل الأمانة، ولم يعلم منه الفسق المانع من القبول، فإنّ قال عن بعض أصحابه لم يقبل؛ لإمكان أن يعني نسبته إلى الرّواة وأهل العلم، فيكون البحث فيه كالمجهول (18).
أقول: ما ذكره في الشّق الثّاني صحيح، وأمّا ما ذكره في الشّق الأوّل فيرد عليه، نظير ما ذكره نفسه في مراسيل ابن أبي عمير، كما سبق نقله في القول الرابع.
والظاهر أنّ كلامه هذا يعتمد على أصالة العدالة في المؤمن، أو على أصالة الأمانة الفعليّة والقوليّة فيه، وعلى كلّ لا يمكن إتمامه بدليل.
القول الخامس عشر: قبول مراسيل محمّد بن أبي حمزة الثمالي، فإنّ مشايخه كثيرون يتجاوزون أربعين رجلا فيما بأيدينا من الأحاديث، وجميعهم ثقات عدا شخصين لم يثبت وثاقتهما، وهما علي بن سعيد، وعلي بن الحزور، وقد وردت روايته عنهما في موضعين، من التهذيب (19) نعم، روي عن أناس ضعفاء، أو غير موثقين، لكن بأسانيد غير معتبرة، (مثل: داود الرقي وعثمان الأصفهاني، ومحمّد بن وهب، ومحمّد بن يزيد. فلا يعدّون هؤلآء من مشائخه، لعدم بثوة روايته عنهم (20).
وفي ضوء ذلك يمكن أنّ يقال: إنّ احتمال كون الواسطة المبهمة في الرّواية المبحوث عنها من غير الثقات احتمال ضعيف جدّا، فلا يعتد به؛ لأنّ نسبة عدد غير الموثق من مشايخ ابن أبي حمزة بالنظر إلى مجموع مشايخه نسبة ضئيلة، فمقتضى حساب الاحتمالات أن يكون احتمال توسط الضعيف في مراسيله احتمالا ضئيلا أيضا، فلا يعتني به عند العقلاء لحصول الاطمئنان بخلافه.
وردّ بأنّ احتمال كون الواسطة في كلّ من مراسيل ابن أبي حمزة أحد الاثنين غير الموثقين هو 5% أي: أنّ احتمال أن يكون من الثقات هو 90%، وهذا أقلّ من درجة الاطمئنان (21).
أقول: وضعفه ظاهر، فإنّه يبلغ درجة الاطمئنان عند العقلاء، لكن الأظهر عدم صحّة الاعتماد على مراسيله، فإنّ من روي عنهم من الضعفاء كثير، وعدم بثوة الرّواية عنهم بالسند المعتبر لا ينافي قوة الاحتمال المنافي للاطمئنان.
على أنّ هناك أناس مجهولين أخرى في مشايخه على الأظهر، كما يظهر من أسماء من روي عنهم في معجم الرجال، بل ربّما يتجاور عدد هؤلآء من العشرة.
وممّا ذكرنا ربّما يظهر ضعف ما ذكره هذا القائل، من أنّ العبرة في المقام بعدد الرّوايات لا بعدد المشائخ، وقال بعد جمالات:
فاحتمال أن يكون الرّواية المرسلة من قبيل إحدى هذه الرّوايات الأربع لا يزيد على 2% ممّا يعني حصول الاطمئنان بخلافه، فتأمّل (22).
وما ذكره لا يعتمد عليه الفطن الماهر.
على أنّه إن تمّ هذا الكلام فإنّما يتمّ إذا ادّعي أحد أنّه لا يروى إلّا عن الثقات، لا فيمن لم يدّع ذلك، إذ يحتمل أنّ كثرة مشايخه الثقات من باب الاتّفاق، لا من أجل بنائه على عدم الرّواية من الثقات، فلاحظ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ