علم الحديث
تعريف علم الحديث وتاريخه
أقسام الحديث
الجرح والتعديل
الأصول الأربعمائة
الجوامع الحديثيّة المتقدّمة
الجوامع الحديثيّة المتأخّرة
مقالات متفرقة في علم الحديث
أحاديث وروايات مختارة
علم الرجال
تعريف علم الرجال واصوله
الحاجة إلى علم الرجال
التوثيقات الخاصة
التوثيقات العامة
مقالات متفرقة في علم الرجال
أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله)
اصحاب الائمة من التابعين
اصحاب الائمة من علماء القرن الثاني
اصحاب الائمة من علماء القرن الثالث
علماء القرن الرابع الهجري
علماء القرن الخامس الهجري
علماء القرن السادس الهجري
علماء القرن السابع الهجري
علماء القرن الثامن الهجري
علماء القرن التاسع الهجري
علماء القرن العاشر الهجري
علماء القرن الحادي عشر الهجري
علماء القرن الثاني عشر الهجري
علماء القرن الثالث عشر الهجري
علماء القرن الرابع عشر الهجري
علماء القرن الخامس عشر الهجري
من ألفاظ المدح المطلق عند الرجاليّين وأسبابه
المؤلف: المؤلف: الملا علي كني
المصدر: توضيح المقال في علم الرجال
الجزء والصفحة: ص 181 ـ 208.
18/10/2022
1512
اعلم أنّ ألفاظ المدح على أقسام:
منها: ما يستفاد منه مدح الراوي وحسن حاله مطابقةً، وحسن روايته بالالتزام، ك «عدل» و«ثقة» و «خيّر» و«دَيّن» ونحو ذلك.
ومنها: ما بالعكس، ك «صحيح الحديث» و«ثقة في الحديث عند بعض» و«صدوق» و«شيخ الإجازة» و«أُجمع على تصديقه أو على تصحيح ما يصحّ عنه» وهكذا.
وكلٌّ منهما إمّا يبلغ المدح المستفاد منه حدّ التوثيق أم لا.
ثمّ كلٌّ منها إمّا يكون فيه ما يدلّ على الاعتقاد الحقّ أو خلافه أم لا. فهذه اثنا عشر قسماً، ويزيد بضمّ بعض الأُمور إليه بأن يكون مع ما ذُكر له دَخْلٌ في قوّة المتن ك «فقيه» و«رئيس العلماء» و«فهيم» و«حافظ» و«له ذهن وقّاد وطبع نقّاد» وهكذا، أو لا يكون كذلك.
وكذا بتعميم المدح إلى ما ليس له دَخْلٌ لا في السند ولا في المتن، ك «قارئ» و«منشئ» و«شاعر».
ونحن نذكر من الجميع بعضها:
فمنها: قولهم: «فلان عدل، ضابط، إماميّ» وهذا لا خلاف في إفادته التوثيق المترتَّب عليه التصحيح بالاصطلاح المتأخّر وإن أمكن استشكاله إذا كان القائل من غيرنا، كابن عقدة وابن فضّال، إلّا أنّه ضعيف؛ لظهور الإماميّ في الاثني عشري، كضعف الاستشكال باختلاف المذاهب حتّى من أصحابنا في معنى العدالة، بل والكاشف عنها ...
وإذا اقتصر على الألفاظ المزبورة أو اثنين منها، فإن كان أحدَ الأخيرين أو هُما، فلا ريب في عدم إفادته المدح البالغ حدّ التوثيق، بل ولا مطلقه.
وإن كان الأوّلَ أو مع أحد الأخيرين، فيحتمل الاقتصار على مؤدّى الموجود.
ويحتمل استفادة مفاد غير الموجود أيضاً منه أو من الخارج الصرف.
فالأوّل إمّا من جهة ظهوره عند الإطلاق في ذلك؛ لانصرافه إلى الفرد الكامل، أو لأنّ القائل إذا شهد به، فظاهره بيان أنّه ممّن يترتّب على قوله ما يترتّب على قول البيّنة إذا انضمّ إلى مثله، وعلى الشاهد مع عدمه، بل إنّه ممّن يثبت له جميع آثار العدالة، خصوصاً في علم الرجال الموضوع لتشخيص مَنْ يؤخذ بقوله ولو مع فقد قرائن اخر للاعتبار.
ولعلّه لذا يُكتفى بخصوص الأوّل في التزكية في مقام المرافعات، بل التقليد مع اعتبار مفاد الأخيرين فيهما أيضاً.
والثاني إمّا للبناء على الغلبة خصوصاً في الرواة لاسيّما في العدول منهم؛ لوضوح أنّ الغالب فيهم الضبط والإماميّة، ولا ريب في إفادتها الظنّ بهما في مجهول الأمرين، ومرّ أنّه المعتبر في المقام، مضافاً إلى إفادة اعتباره بالنسبة إلى ذلك في غير المقام إفادته فيه بالأولويّة. وإمّا للبناء في الضبط على أصالة بقاء التذكّر والعلم بالمعنى المنافي للنسيان، لا بمعنى التذكّر الفعلي حتّى يكون متعذّراً أو متعسّراً. ومثلها أصالة عدم الكثرة المنافية للقبول، ولا ريب أنّ الظنّ مع الأصل الأخير إن لم يكن مع الأوّل، فلا ينافي اعتباره في المقام عدم البناء على التعبّديّة في الأُصول في مثل هذه الموضوعات، ولأنّ المعتبر فيه الظنّ دون ما فيه في مرتبة العلم من أصل أو غيره من دعوى انسداد العلم والعلمي، مع اندفاع الأخير بأنّ ما مرّ دعوى انسداد ما يكتفى به عن الظنّ لا مطلقاً، فلا يضرّ الانفتاح في الجملة، وفي الإمامية على الأصالة المستفادة من ولادة كلّ شخص على الفطرة، الظاهرة في التامّة في الحقّ ولو لانصرافها إليها، أو على ما ذُكر في أوائل كثير من الكتب الرجالية، ككتاب النجاشيّ والفهرست ورجال ابن شهر آشوب، فإنّها وُضعت لذكر رجال الشيعة.
وقد حكي عن الحاوي أنّه قال: اعلم أنّ إطلاق الأصحاب لذكر الرجل يقتضي كونه إماميّاً، فلا يحتاج إلى التقييد بكونه من أصحابنا، ولو صرّح [به] (1) كان تصريحاً بما علم من العادة" (2).
وعن رواشح السيّد الداماد رحمه الله: "أنّ عدم ذكر النجاشيّ كون الرجل عامّيّاً في ترجمته يدلّ على عدم كونه عامّيّاً عنده" (3).
وفي منتهى المقال في ترجمة عبد السلام الهرويّ: "أنّ الشيخ محمّد رحمه الله قال في جملة كلام له: ذكرنا في بعض ما كتبنا على (التهذيب) أنّ عدم نقل النجاشيّ كونه عامّيّاً يدلّ على نفيه" (4) قلت: لا ينبغي التأمّل في ذلك إذا كان النظر إلى كتاب رجاله؛ لما مرّ، بل ولا يختصّ به؛ لما سمعت.
وهل يستفاد ذلك من قولهم: «من أصحابنا»؟ الظاهر ذلك عند الإطلاق.
وربّما يظهر من عباراتهم خلافه، كما في ترجمة عبد اللَّه بن جبلة ومعاوية بن حكيم.
وقد صرّح الشيخ رحمه الله في أوّل (الفهرست): "كثير من مصنّفي أصحابنا ينتحلون المذاهب الفاسدة" (5) وقد نصّ على ذلك المولى البهبهانيّ في فوائده الرجاليّة (6) وقد ظهر من ذلك كلّه أنّ الاحتمال الأخير هو الأقوى، ويقوّيه ما يأتي في الاكتفاء
بقولهم: «ثقة» في ثبوت العدالة والإمامية أو مع الضبط أيضاً؛ لأنّ قولهم: «عدل» إمّا مثله أو أقوى.
وفي فوائد منتهى المقال: "فكما أنّ (عادل) ظاهر فيهم فكذا ثقة" (7).
ويؤيّده أيضاً أنّهم يَصِفون الخبر بالحَسَن إذا مُدِح رواتُه بما لا يبلغ الوثاقة، مع اعتبار الضبط والإماميّة في العمل به، بل في مفهومه أيضاً، وكذا في الموثّق بالنسبة إلى الضبط، وأقوى تأييداً لاستفادة الضبط- بعد البناء على اعتباره- أنّهم قَلَّما يذكرونه [في] حقّ الرجال على ما وقفنا عليه، فتدبّر.
ومنها: قولهم: «ثقة» فقد حكي عن جماعة من المحقّقين أنّه: "إذا قال النجاشي: ثقة، ولم يتعرّض لفساد المذهب، فظاهره أنّه عدل إمامي؛ لأنّ دَيْدنه التعرّض للفساد، فعدمه ظاهرٌ في عدم ظفره، وهو ظاهر في عدمه؛ لبُعد وجوده مع عدم ظفره، لشدّة بذل جهده وزيادة معرفته" (8).
وفي الفوائد المشار إليها- بعد حكاية ما ذُكر-: "لا يخفى أنّ الَروِيَّة المتعارفة المسَلَّمة أنّه إذا قال: عدل- النجاشيّ كان أو غيره: ثقة، الحكم بمجرّده بكونه عدلًا إماميّاً- كما هو ظاهر- إمّا لما ذُكر، أو لأنّ الظاهر التشيّع، والظاهر من الشيعة حُسن العقيدة، أو لأنّهم وجدوا أنّهم اصطلحوا ذلك في الإماميّة وإن أطلقوا على غيرهم مع القرينة، فإنّ معنى «ثقة» عادل ثَبْتٌ، فكما أنّ «عادل» ظاهر فيهم فكذا ثقة، أو لأنّ المطلق ينصرف إلى الكامل أو لغير ذلك" (9).
قلت: المستفاد من أخير كلامه استفادة الضبط الذي يرادف الثبت وضعاً أو استعمالًا أو إرادةً أو يقرب منه من اللفظ المزبور، وهو الظاهر من الفصول (10) بل من جملة ممّن عاصرناهم من المشايخ.
ويؤيّده جريان ما استندوا إليه في استفادة الإماميّة في استفادة الضبط وزيادة عرفتها في اللفظة السابقة، ولذا تراهم يصحّحون السند إذا كان رجاله ممّن قيل في حقّه: ثقة، بل الغالب في الرجال إطلاق هذه اللفظة دون «عدل» أو «عادل»
وقد عرفت أنّ المعروف المدّعى عليه الإجماع اعتبارُ الضبط، فعملهم مع بنائهم على اشتراط الضبط أقوى شاهدٍ على استفادة الضبط من هذه اللفظة، إلّا أن يقال:
استفادته من الخارج صرفاً كالأصل والغلبة ...
لكن لا يبعد أن يقال: إنّ هذا الاحتمال وإن لم يكن بعيداً في اللفظة السابقة إلّا أنّه بعيد في المقام؛ لظهور الوثوق بشخص لغةً وعرفاً في الائتمان والاعتماد عليه.
ففي المصباح المنير: "وثق الشيء- بالضمّ- وثاقة: قَوِي وثبت، فهو وثيق ثابت محكم، وأوثقتُه: جعلتُه وثيقاً، ووثقت به أثِق بكسرهما ثقةً ووثوقاً: ائتمنته، وهو وهي وهُمْ ثقة؛ لأنّه مصدر. وقد يجمع في الذكور والإناث، فيقال: ثقات، كما قيل: عدات" (11)، وفي القاموس: "وثق به- كوَرِثَ- ثقة ومَوْثِقاً: ائتمنه" (12).
قلت: وفي العرف كذلك، مع أنّ الأصل عدم النقل، وعلى فرضه إلى ما يقرب من المعنى اللغوي؛ للغلبة في النقل، وللتنافر في قولهم: «فلان ثقة كثير النسيان» ما ليس في قولهم: «فلان ثقة فطحيّ أو واقفيّ» ويقال كثيراً: «فلان نصرانيّ ثقة» ولا يقال: «ثقة كثير النسيان».
وبالجملة، فالظاهر الاكتفاء باللفظ المزبور في تصحيح الخبر بالاصطلاح المتأخّر إذا لم يثبت كون الرجل من غير الإماميّة.
ولكن هنا أمور:
[الأمر الأوّل]: أنّه هل يُعتبر كون القائل لهذا اللفظ إماميّاً كما يعتبر كونه عادلًا أم لا؟
والظاهر جريان هذا البحث في اللفظ السابق أيضاً على ما قرّرناه من استفادة الإماميّة منه أو معه بل على عدمها أيضاً؛ إذ منشؤ الإشكال وجهان:
أحدهما: أنّ غير الإماميّ إذا أطلق الثقة على شخص فهل يستفاد منه كونه إماميّاً بالمعنى الأخصّ وهو الاثني عشريّ، أو بالمعنى الموافق لمذهب القائل، أو بالمعنى الأعمّ؟.
وثانيهما: أنّه هل يستفاد منه العدالة الخاصّة بمذهبنا أو بمذهبه أو بالمعنى الأعمّ؟
فبالنسبة إلى الأخير لا فرق بين اللفظين ولو على عدم استفادة الإماميّة من أوّلهما.
وكيف كان فالوجه عدم الاختصاص، فلا يعتبر في القائل الإماميّة الخاصّة.
أمّا بالنسبة إلى الإشكال الأوّل؛ فلعموم أكثر الوجوه المذكورة في استفادة الإماميّة من اللفظين المزبورين ولو مع قرينة خارجيّة، أو من الخارج الصرف.
وأمّا بالنسبة إلى الثاني؛ فلأنّ أصل المعنى المعبّر عنه بالعدالة والوثوق- الموجب للركون إلى قول صاحبه والاعتماد عليه- هو معنى عامّ لا يختصّ بدين دون دين، ولا بمذهب دون مذهب، فإنّه عبارة عن التزام العبد بمهمّات ما في دينه ومعظمات ما في مذهبه، أو عن حالة ذلك فيه، وإنّما الاختلاف فيما في الدين والمذهب.
وتقييد العدالة بكونها في المذهب في كلام مَنْ أثبتها لمن يخالفه فيه- كما نذكر ذلك بالنسبة إلى مَنْ خالفنا، ولعلّهم يذكرونه أيضاً بالنسبة إلينا، بخلاف إثباتنا للموافق لنا فيه- إنّما هو من باب الإتيان بما يصرف الظهور الناشئ من الإطلاق، الموجب للاختصاص ببعض أفراد المطلق، كقولك: ائتني بإنسانٍ أيَّ إنسان كان.
وقد نترك القيد إمّا لإنكار الظهور المزبور أو لعدم قوّته أو للاتّكال على أمر خارج.
ومن هنا أطلق النجاشيّ بل غيره عدالةَ كثيرٍ ممّن خالفنا.
ولا يخفى أنّه قد يكون أحد المذاهب أظهر وأجلى ولو لكثرة أهله وانتشارهم، فالإطلاق يوجب الصرف إلى العدالة في ذلك المذهب وإن كان المُطلِق من غير أهله، خصوصاً إذا كان كثير الاختلاط والصحبة معهم، لاسيّما إذا كان مرجِعاً لهم يأخذون منه التعديل والتضعيف، وخاصّةً حيث كان السائل منه عن حال شخص منهم، فإنّه لا ينبغي الريب حينئذٍ في ظهور إطلاقه في العدالة على مذهب السائل.
وقد مرّ عن التعليقة حكاية ركون الأصحاب إلى توثيق وتضعيف ابن فضّال وابن عُقدة، بل أخذ الجميع منه، مع ظهور أنّهم لا يحملونهما على مذهبيهما، فظهر أنّهم حملوهما على ما في مذهبنا أو على الإطلاق، ولعلّه الأظهر.
ولا ينافيه إثبات العدالة في مذهبنا بذلك؛ لتحمّل الإطلاق لذلك، بل قد عرفت أنّ التغاير بأمر خارج لا توجب خصوصيّاته تعدّد الأفراد، فتأمّل جيّداً، فإنّه متين نافع في دفع جملة من الشبهات من غير حاجة إلى ما في الفوائد المشار إليها في دفع الإشكال الآتي من دعوى ظهور اتّحاد سبب الجرح والتعديل في المذهبين سوى الاعتقاد بإمامة إمام، فإنّه- كما ترى- غير ما أشرنا إليه، كما لا يخفى.
والأمر الثاني: أنّهم كثيراً مّا يطلقون اللفظين في حقّ شخص، ثمّ يصرّحون متّصلًا به أو منفصلًا- وكذا يصرّح غيرهم- بأنّه فطحيّ أو واقفيّ أو ناووسيّ، فلو كان فيهما الدلالة على الإماميّة، كان بين التصريحين تنافٍ وتناقض، وليس البناء عليه، بل على الجمع بينهما، إلّا أن يرجّح الأوّل بمرجّحٍ خارجي.
وبالجملة، كان مقتضى التناقض التزام الترجيح مطلقاً، لا تقديم الأخير على الأوّل، فهذا كاشفٌ آخر عن عدم دلالة اللفظين على الإماميّة.
ويدفع: بأنّا على فرض البناء على استفادة الإماميّة من نفس اللفظين أو مع القرينة لم نَدَّعِ صراحتهما في ذلك حتّى يلزم ما ذُكر، بل المدّعى ظهورهما فيه، ولا ريب أنّه يخرج عن الظهور بالتصريح بالخلاف إذا لم يكن موهوناً في نفسه أو بأمرٍ خارج، ولم يكن الظهور معتضداً بما لا يقاومه التصريح المذكور، فإنّ الجمع بين إطلاق توثيق شخص ورمي الآخر للموثّق بالفطحيّة ونحوها ليس من الجمع بين المطلق والمقيّد تعبّداً أو ما يقرب منه، بل للظهور النوعيّ الذي يُقدَّم عليه الظهور الشخصيّ على البناء على اعتبار الظنّ، كما هنا وفي باب الألفاظ، والموثِّق لعلّه لم يقف على ما ذكره المضعِّف أو اكتفى بظهور حال المضعَّف أو بقرينة أُخرى خارجيّة، فلا نقول بمسامحته ولا تقصيره ولا خطئه مع أنّه لا يوجب خطأه في أصل مدلول اللفظ، وهو العدالة المطلقة.
وما في الفوائد المشار إليها في الإيراد على الجمع المزبور من أنّ المعدّل ادّعى كونه عادلًا في مذهبنا، فإذا ظهر كذبه، فالعدالة في مذهبه من أين؟ (13) ...
والأمر الثالث: أنّه إذا كان الجرح في حقّ مَنْ قيل في حقّه: عدل، أو ثقة، من غير أصحابنا، كجرح ابن فضّال لأبان برميه بالناووسيّة، سواء كان في الاعتقاد، كما مرّ، أو في الجوارح، فهل يُقبل مطلقاً، أو لا كذلك، أو يبنى على حصول الظنّ الشخصيّ إن كان في أحد الجانبين، وإلّا فالنوعيّ؟ الأظهر: الأخير؛ لأنّه إذا كان عدلًا أخبر عن أمر، فالقاعدة قبول قوله، سواء أخبر عن مثل ما فيه في غيره أو غيره، ويلاحظ بعد ذلك ما هو المقرَّر في تعارض الجرح والتعديل بالإطلاق والتقييد إذا جرح بالاعتقاد خاصّةً، وبالتباين إذا جرح بغيره، فدفعهم رمي ابن فضّال عن أبان إن كان لحصول الظنّ بالخلاف أو وهنه بأمرٍ آخر، فذاك، وإلّا فهو كما ترى.
والأمر الرابع: أنّه (14) بعد ما مرّ من ظهور «ثقة» في العدالة والإماميّة أو مع الضبط أيضاً، فلو أتى قائلها أو غيره- ممّن يقدّم قوله على قول القائل المزبور، أو يعارض بقوله قوله- بما فيه نفي أحد الأمرين أو الامور المستظهرة من اللفظ المزبور، فهل يبقى على ظهوره في غير المنفيّ بحيث يستند إليه في الباقي خاصّةً جمعاً بين القولين، أم لا، أو يفصّل بين ما ينفي الأوّل فالأخير، أو غيره فالأوّل؟ كلٌ محتمل وإن كان الأظهر الأوّل.
أمّا على استفادة الضبط والإماميّة من الخارج: فواضح؛ إذ ليس في نفي أحدهما ما يلازم نفي الآخر أو العدالة.
وأمّا على الوجه الآخر: فلأنّ نفي مفاد أحد مداليل لفظٍ لا يلازم نفي غيره، إن هو إلّا كعامٍّ خُصَّ أو مطلقٍ قُيِّد، ولذا لو نفى نافٍ فقاهةَ شخص أو كلاميّته، لم يخرج به عن ظهور قولهم: «علّامة» في حقّه في كونه عالماً بعلمٍ آخر ممّا اصطلح لفظ «العلّامة» فيه.
ومن هنا لو ثبت أنّ مَنْ أخبرنا بكونه صبّاغاً أو نجّاراً أو بنّاءً أو غير ذلك لا يعلم بعض ما هو من صنعته من عملٍ خاصّ، لم يكذب المخبر المذكور أصلًا ورأساً، بل الأمر في المقام أظهر؛ لعدم ارتباط بعض الامور المزبورة ببعض، كارتباط الأعمال الخاصّة المعتبرة في كلّ صنعة من الصنائع المشار إليها.
ومن هنا لو نفى نافٍ في المثال كونه صائغاً أو نجّاراً، لم نحكم بأنّ المنفيّ هو مجموع معرفته بالأعمال الخاصّة المتداولة في صنعته من حيث المجموع لا جميعها، بل نحكم بنفي الجميع وأن ليس له هذه الصنعة أصلًا، بخلاف المقام.
فلو صرّح غيره أو هو بنفسه بأنّه ليس بثقة لم نحكم بنفي كلٍّ من الامور المزبورة في حقّه، بل إمّا نحكم بانتفاء أحدها لا على التعيين، وتبقى الثمرة بينه وبين نفي الجميع فيما لو صرّح ثالث بوجود أحد الامور المذكورة، فيتعارض على الأخير، بخلاف الأوّل، أو نحكم بانتفاء العدالة خاصّةً، وهو الأظهر، إمّا لأنّها لمّا كانت أظهر استفادةً من إثباتها فكذلك في نفيها، كما هو المقرّر في غير ذلك من الألفاظ، أو لخصوصيّة في تسليط النفي عليها، فإنّه المتبادر من إطلاق ذلك.
ولا ينافي الأوّل ما نقلناه عن أهل اللغة من ظهورها في الثبت والضبط، ولازمه نفيه في النفي؛ إذ العرف بخلافها في هذا الظهور.
والأمر الخامس: أنّ قولهم: «ثقة في الحديث» أو «في الرواية» هل هو مثل قولهم: "ثقة" فيما مرّ أم لا؟ الظاهر أنّه كذلك في استفادة الضبط والإماميّة، بل لعلّه بالنسبة إلى الأوّل أظهر.
وأمّا في استفادة العدالة بالمعنى الأخصّ أو الأعمّ فلا يخلو من نوع خفاء؛ لظهور التقييد في اختصاص وثاقته بالرواية، ولعلّ المستفاد منه كونه متحرّزاً عن الكذب، وهو الذي نقل عن الشيخ رحمه الله كفايته في حجّيّة الخبر، بل وزيادة اهتمامه في الرواية بأخذها عمّن يوثق به وغير ذلك ممّا مرجعه الوثوق بالرواية.
لكن ذكر المولى البهبهاني رحمه الله في فوائده الرجاليّة: "أنّ المتعارف المشهور أنّه تعديل وتوثيق للراوي نفسه" (15) قال: «ولعلّ منشأه الاتّفاق على ثبوت العدالة، وإنّه يذكر لأجل الاعتماد على قياس ما ذكرنا في التوثيق، وأنّ الشيخ الواحد ربّما يحكم في واحد بأنّه ثقة، وفي موضعٍ آخر بأنّه ثقة في الحديث، مضافاً إلى أنّه في الموضع الأوّل كان ملحوظ نظره الموضِعَ الآخر ...
وربّما قيل بالفرق بين الثقة في الحديث والثقة، وليس ببالي القائل.
ويمكن أن يقال - بعد ملاحظة اشتراطهم العدالة-: إنّ العدالة المستفادة من الأوّل هي بالمعنى الأعمّ، وقد أشرنا وسنشير أيضاً أنّ التي وقع الاتّفاق على اشتراطها هي بالمعنى الأعمّ.
ووجه الاستفادة إشعار العبارة وكثير من التراجم، مثل أحمد ابن بشير (16) وأحمد ابن الحسن وأبيه الحسن بن عليّ بن فضّال والحسين بن أبي سعيد والحسين بن أحمد بن المغيرة وعليّ بن الحسن الطاطريّ وعمّار بن موسى وغير ذلك.
إلّا أنّ المحقّق رحمه الله نقل عن الشيخ أنّه قال: يكفي في الراوي أن يكون ثقةً متحرّزاً عن الكذب في الرواية وإن كان فاسقاً في جوارحه، فتأمّل" (17).
قلت: قد عرفت أنّ إشعار العبارة إنّما هو في اختصاص الوثوق بالرواية، لا أعمّيّة العدالة بحيث تجامع فساد العقيدة، وما وجدنا في شيء من التراجم المزبورة إشعار بما ذكره، فلا ينبغي التأمّل في استفادة الإماميّة منه على حدّ استفادتها من إطلاق الثقة ما لم يصرّح بالخلاف، مضافاً إلى ما مرّ من استفادتها من امورٍ أُخر مشتركة بينهما.
وأمّا الوثاقة والعدالة فلا يبعد ما أسند إلى المشهور؛ لما مرّ، ولوجود العبارتين معاً في أحوال كثير منهم ولو من أشخاص.
ومنها: قولهم: «أجمعت العصابة على تصحيح ما يصحّ عنه» والكلام فيه في أمور:
[الأمر الأوّل]: أنّ الاحتمالات الظاهرة فيه- التي لكلٍّ منها قائل على ما تسمعه من الحكايات – أربعة:
أحدها: ما حكاه في منتهى المقال (18) عن أُستاذه صاحب الرياض، وعن بعض أفاضل عصره، مصرّحاً بأن ليس لهما ثالث، وهو: أن يكون المراد منه كون مَنْ قيل هذا في حقّه صحيحَ الحديث لا غير، بحيث إذا كان في سند فوثّق مَنْ عداه أو صحّح السند ولو بغير التوثيق بالنسبة إلى غيره، عُدَّ السند حينئذٍ صحيحاً، ولا يتوقّف من جهته.
وثانيها: أنّ المراد منه توثيق خصوص مَنْ قيل في حقّه، أسنده في الفوائد الرجاليّة إلى قائل غير معلوم (19) وفي الفصول حكاية إسناده إلى الأكثر عن قائل (20) واختاره بعض أفاضل عصرنا في رسالته المسمّاة "لب اللباب" وادّعى اجماع العصابة عليه (21).
وثالثها: أنّ المراد توثيق مَنْ روى عنه مَنْ قيل ذلك في حقّه، أسنده في الفوائد (22) إلى توهّم بعض.
ولا ريب أنّ مراد القائل توثيق المقول في حقّه أيضاً، ولذا قال في الفصول- بعد الحكاية المزبورة- مشيراً إلى هذا القول: "وربّما قيل بأنّها تدلّ على وثاقة الرجال الذين بعده أيضاً" (23).
رابعها: أنّ المراد تصحيح روايته بحيث لو صحّت من أوّل السند إليه عُدَّت صحيحةً من غير اعتبار ملاحظة أحواله وأحوال مَنْ يروي عنه إلى المعصوم عليه السلام، عزاه إلى الشهر في الفوائد الرجاليّة (24) واستظهره من العبارة.
وحكى في منتهى المقال ـ بعد استظهاره أيضاً من العبارة-: "أنّ بعض أجلّاء عصره ذكر أنّ عليه الشهرة ".
وحكى عن المحقّق الداماد أنّه عزاه إلى الأصحاب بقوله: "هؤلاء على اعتبار الأقوال المختلفة في تعيينهم واحد وعشرون أو اثنان وعشرون رجلًا، مراسيلهم ومرافيعهم ومقاطيعهم ومسانيدهم إلى مَنْ يسمّون من غير المعروفين معدودة عند الأصحاب رحمهم اللَّه من الصحاح من غير اكتراث منهم؛ لعدم صدق [حدّ] (25)
الصحيح- على ما قد علمته- عليها" (26) قال: "ومثل ذلك قال في أوائل الوافي إلّا أنّه لم ينسب ذلك إلى الأصحاب، بل إلى المتأخّرين" (27) قال: "وقال نحو ذلك في مشرق الشمسين" (28) ثمّ حكى عن الشهيدين والبهائي والأمين الكاظميّ والسيد محمّد والمجلسيّ ما يُستظهر منهم ذلك.
وحكى عن الأخير أنّه نسبه إلى جماعة من المحقّقين منهم والده المقدّس التقيّ، واستظهره أيضاً من (الفوائد النجفيّة)، وأنّه حكاه عن العلّامة في (المختلف).
وحكى عن البهائيّ أيضاً: "أنّ من الأُمور الموجبة لعَدِّ الحديث من الصحيح- عند فقهائنا- وجودَه في الأصل المعروف الانتساب إلى أحد الجماعة الذين أجمعوا على تصحيح ما يصحّ عنه" (29). (30)
الأمر الثاني: في بيان الحقّ وإبطال غيره.
فنقول: حيث إنّ البناء على الركون إلى الإجماع المزبور إمّا تعبّداً أو للبناء على اعتبار الظنّ في الطريق، أو على اعتباره في نفس الأحكام، بناءً على قاعدة الانسداد، المقرّرة في أحدهما، أو في خصوص الرجال المسلَّمة فيه كما عرفت، ولا شكّ في إفادته الظنّ، وجب (31) علينا البناء على ما يظهر من اللفظ المزبور؛ لكونه حينئذٍ كغيره من الألفاظ التي هي حجّة أو من أجزائها.
والذي يظهر لنا من اللفظ المزبور ما فهمه المشهور، ومنه يظهر أنّه لو كان في الظهور المزبور في نفسه قصور، فهو بفهم المشهور مجبور.
فأمّا الوجه الثاني المعزى إلى الأكثر، المدّعى عليه إجماع العصابة: فإن كان المراد به ما ينفي المختار، فلا ريب في ضعفه؛ فإنّ الظهور بمرأى منّا كمصير المشهور إليه، بل لم نقف على مصرِّحٍ به غير مَنْ ذُكر، فأين الكثرة؟ وأين الإجماع؟ وإلّا بأن أُريد به زيادةً على المختار إثبات وثاقة الرجل المقول في حقّه اللفظ المزبور- نظراً إلى استبعاد إجماعهم على روايات غير الثقة، مع اختلاف مشاربهم بل رميهم كثيراً من الثقات بالضعف وفساد العقيدة، لاسيّما القمّيّين منهم، خصوصاً بعد استثناء مثل الصدوق وشيخه روايات جماعة عن أُخرى، كرواية محمّد بن عيسى من كتب يونس، ورواية محمّد بن أحمد بن يحيى عن محمّد بن يحيى المعاذي، أو عن أبي عبداللَّه الرازيّ وغير ذلك، خصوصاً حيث أجمعوا على صحّة جميع ما رواه، بل جميع ما يرويه، كما هو مفاد هيئة المضارع- ففيه أنّ ما ذُكر- على فرض تسليم إفادته بنفسه أو بانضمام اللفظ المزبور شرطاً أو شطراً للظنّ المعتبر- معارَضٌ بظهور عبائر المشهور، بل صراحتها في نفي ذلك، مع أنّ الظاهر خلافه، بل هو استدلال بالأعمّ؛ لإمكان أن يكون منشؤ الإجماع وقوفهم على نهاية دقّته في نقل الرواية بحيث لا يروي إلّا ما عَلم أو ظنّ بصحّته مع معرفته بعيوب الرواية والرواة، وهذا لا يستلزم وثاقته في نفسه، غاية الأمر كونه ثقةً في نقل الحديث خاصّةً، كما مرّ في اللفظ المزبور، إلّا أنّ هناك استظهرنا وثاقته في نفسه من قرائن أُخر، فلو وجد مثلها في المقام، لم نكن نأبى عنه، وإلّا فالمسلَّم وثاقته في الحديث.
وأمّا الوجه الثالث: فلعلّ منشأه اختصاص صحّة السند بوثاقة مَنْ فيه، كما عليه الاصطلاح المتأخّر، مع ملاحظة ما مرّ في وجه المشهور، فقد أخذ بظاهر الإجماع المفيد لصحّة الرواية ممّن قيل في حقّه ما ذُكر إلى آخر السند، وبظاهر الاصطلاح المتأخّر المقتضي لحمل الصحّة على عدالة الرواة.
ووجه فساده وتوهّمه: أنّ اللفظ المزبور منقول عن الكشيّ أو مَنْ سبقه، وهو من القدماء، والواجب حمل ألفاظهم على مصطلحهم، واصطلاحهم في الصحّة إنّما هو على كون الرواية معتبرةً موثوقاً بصدورها عن المعصوم عليه السلام ولو لقرائن خارجيّة، فالمجمع عليه هو الصحّة بهذا المعنى وهو الذي عليه المشهور، وصرّح به الكاظميّ، ويظهر من عبائرهم التي منها عبارة المحقّق الداماد، وقد تقدّمت.
فلا تغترّ ببعض عبائر الفوائد الرجالية، المفيدة لاستفادة الوثاقة من ذلك، لكن في خصوص أهل الإجماع دون مَنْ بعده إلى آخر السند.
كيف! ولو كان ذلك لحمل الصحّة على الاصطلاح المتأخّر، وجب أن يقول بوثاقة مَنْ يروي عنه أهل الإجماع، فإنّه- كما مرّ- أخذ بظاهر العبارة كالمشهور ولا يقول بها، وكان ما في (لبّ اللباب) (32) من دعواه إجماع العصابة على ما سمعت ناظراً إلى هذه العبارة، وهو كما ترى؛ لأنّه في آخر الفائدة ذكر ما ينافي ذلك حيث قال: "عندي أنّ رواية هؤلاء إذا صحّت إليهم لا تقصر عن أكثر الصحاح" (33) والعبارة المزبورة هذه: "نعم، يَرِد عليهم أنّ تصحيح القدماء حديث شخص لا يستلزم التوثيق، إلّا أنّه يمكن أن يقال: يبعد أن لا يكون رجل ثقةً، ومع ذلك تتّفق
العصابة على تصحيح جميع ما رواه، سيّما بعد ملاحظة دعوى الشيخ (34) رحمه الله الاتّفاق على اعتبار العدالة لقبول الخبر".
إلى أن قال: "نعم، لا يحصل الظنّ بكونه ثقةً إماميّاً بل الأعمّ، كما لا يخفى" (35).
قلت: على ما استظهرناه من العبارة، واستظهرناه من المشهور، لا يرد كثير من الاعتراضات المذكورة في المقام، فلاحظ (الفوائد) و(منتهى المقال) وغيرهما وتأمّل.
وأمّا الوجه الأوّل: فمنشؤه ما نقل عن السيّد رحمه الله من "أنّه لم يعثر في الكتب الفقهيّة من أوّل كتاب الطهارة إلى آخر كتاب الديات على عملِ فقيهٍ من فقهائنا بخبرٍ ضعيف، محتجّاً بأنّ في سنده أحد الجماعة، وهو إليه صحيح" (36).
قلت: قد عثرنا على ذلك في عدّة مواضع خصوصاً في كلمات متأخّري المتأخّرين، منها: بحث جماعة (37) المختلف (38) ... وبيع (نكت الإرشاد (39) وبحث الارتداد من (المسالك) (40) إلى غير ذلك.
وأمّا تضعيف المعتبر (41) لابن بكير ومناقشة الشيخ (42) في مرسلات الجماعة، والجماعة في مراسيل ابن أبي عمير، فمع أنّ ذلك كلّه مشترك الورود على الجميع لعلّه لعدم ثبوت الإجماع عندهم، أو عدم وقوفهم عليه، أو عدم اعتنائهم به، أو بيان أنّ رواياتهم ليست كسائر الصحاح، وغير ذلك.
وبالجملة، ما ذُكر لا يدفع الشهرة، والمعروف الاعتماد على مراسيل ابن أبي عمير.
الأمر الثالث: في تعداد الجماعة المزبورة
وهُمْ- على ما في (منتهى المقال) ـ : زرارة، ومعروف بن خرّبوذ، وبُريد بن معاوية العجليّ، وأبو بصير الأسديّ- وقال بعضهم مكانه: أبو بصير المرادي، وهو ليث بن البختريّ (43) والفضيل بن يسار، ومحمّد بن مسلم، وجميل بن درّاج، وعبداللَّه بن مسكان، وعبداللَّه بن بُكير، وحمّاد بن عثمان، وحمّاد بن عيسى، وأبان بن عثمان، ويونس بن عبدالرحمن، وصفوان بن يحيى، وابن أبي عمير، وعبداللَّه بن المغيرة والحسن بن محبوب، وأحمد بن محمّد بن أبي نصر، وفضالة بن أيّوب.
وقال بعضهم مكان ابن محبوب: الحسن بن عليّ بن فضّال. وبعضهم مكانه: عثمان بن عيسى.
هذا، وأمّا ناقل الإجماع المزبور فهو الكشيّ على ما هو المعروف، وربّما ينقل عن غيره كما في فضالة بن أيّوب، حيث قال: "قال بعض أصحابنا: إنّه ممّن أجمع أصحابنا على تصحيح ما يصحّ عنهم وتصديقهم" (44) ربّما يشاركه في النقل المزبور غيره، كالنجاشيّ والعلّامة لا بطريق النقل عنه، وكالشيخ في العدّة وغيرها، مرّةً بالتعبير المزبور، وآخر بقوله: "إنّ الطائفة عملت بما رواه فلان" كما ذكر ذلك في عبداللَّه بن بكير (45) وقد يشاركه فيما ذكر في خصوص طائفة من روايات أحد الجماعة المذكورة كبعض كتبه وكمراسيله، كما في ابن أبي عمير فقد شاركه الشيخ.
وفي أوائل الذكرى: "إنّ الأصحاب أجمعوا على قبول مراسيله" (46) وعن النجاشي: "أنّ أصحابنا يسكنون إلى مراسيله" (47) إلى غير ذلك.
فمع المشاركة يتقوّى الاعتماد على الإجماع المزبور حيث لم يكن التخصيص.
مشعراً بنفيه في غيره، وإلّا فيضعف الاعتماد؛ لمكان التعارض، فيلتمس الترجيح أو يتوقّف، وليس منه التخصيص بالمراسيل، بل هو موجب لقوّته في غيره.
هذا، ولا يخفى أنّ الموجود عن الكشيّ في حقّ بعض المذكورين غير العبارة المذكورة. مثلًا في الفُضَيل: أنّه ممّن أجمعت العصابة على تصديقه والإقرار له بالفقه.
والمغايرة والثمرة ظاهرة؛ إذ هنا لا تستفاد الوثاقة أو الصحّة فيمن روى عنه هؤلاء كظهور المغايرة والثمرة بين عبارة الكشيّ وبين قولهم: "عملت الطائفة بما رواه فلان".
تذنيب:
حكي عن الشيخ في (العدّة) وفي غيرها أيضاً: أنّه أسند العمل بروايات بعض إلى الطائفة، وادّعى إجماع الإماميّة على العمل بروايات آخرين، مثل السكونيّ وحفص بن غياث وغياث بن كلوب ونوح بن درّاج، ومَنْ ماثَلَهم من العامّة، مثل: طلحة بن زيد، وغيره.
وكذا مثل عبداللَّه بن بُكَير وسماعة بن مهران وبني فضّال والطاطريّيْنِ وعمّار الساباطي وعليّ بن أبي حمزة وعثمان بن عيسى من غير العامّة (48).
قال في (الفوائد) ـ بعد عدّهم ـ : "فإنّ جميع هؤلاء نقل الشيخ؛ عمل الطائفة بما رووه".
ثمّ حكى عن المحقّق الشيخ محمّد رحمه الله أنّه قال: "قال شيخنا أبو جعفر رحمه الله في مواضع من كتبه: إنّ الإماميّة مُجمِعَة على العمل برواية السكونيّ وعمّار ومَنْ ماثلهما من الثقات".
وحكى عن المحقّق المزبور أيضاً أنّه قال: «الإجماع على العمل بروايتهم لا يقتضي التوثيق، كما هو واضح".
قال: "أقول: يبعد ألّا يكون ثقة على قياس ما ذُكر في قولهم: أجمعت العصابة" (49).
قلت: الاحتمالات السابقة في «أجمعت العصابة ...» جارية في المقام، بل بعض ما فيه من الأقوال كاستفادة وثاقة مَنْ قيل في حقّه على ما سمعت من بعد نفيه في (الفوائد) لكنّ المتيقّن منه بل لعلّه الظاهر من العبارة منهم مجرّد البناء على قبول روايتهم من جهتهم لا مطلقاً، وعلى ما في (الفوائد) مجرّد وثاقتهم لا وثاقة غيرهم ممّن يروون عنه، مع احتمال البناء على قبول رواياتهم مطلقاً، فلا يُلاحَظ مَنْ بعدهم في السند، كما أنّه المراد من قولهم: «يسكنون إلى مراسيله» أو: «أجمعوا على قبولها".
ولعلّ من الأوّل دعوى الشهيد الثاني رحمه الله إطباق أصحابنا- عدا ابن داوُد- على الحكم بصحّة حديث محمّد بن إسماعيل النيسابوريّ.
هذا كلّه في دعوى الإجماع والاتّفاق على التصحيح أو العمل، وأمّا دعوى الشهرة على أحدهما فهل تعتبر كالأُولى أم لا؟ الأظهر: الأوّل.
أمّا على حجّيّة الشهرة؛ للنصّ أو لقاعدة الانسداد: فظاهِرٌ، وكذا على اعتبارها في تعيين الطريق.
وأمّا على عدم البناء عليها في الأحكام وفي التعيين المزبور: فالظاهر الاعتبار هنا أيضاً؛ لما بيّنّاه في تتمّة المقدّمة.
إذا عرفتَ هذا، فالشهرة إمّا محقَّقة أو محكيَّة، والأُولى تُعلم بمراجعة الكتب الاستدلاليّة مع زيادة التتبّع. والثانية بها أو بملاحظة كتب الرجال أو الدراية أو الحديث أو غير ذلك.
ومن ذلك ما في فوائد المولى البهبهاني رحمه الله حيث قال: "واعلم أنّ المشهور يحكمون بصحّة حديث أحمد بن محمّد المذكور- يعني أحمد بن محمّد بن يحيى- وكذا أحمد ابن محمّد بن الحسن بن الوليد، والحسين بن الحسن بن أبان إذا لم يكن في سنده مَنْ يُتأمّل في شأنه" (50).
قلت: ومنه يظهر أنّ الحكم بصحّة حديث هؤلاء ليس إلّا لبيان توثيقهم أو مجرّد
الاعتماد عليهم، لا صحّة رواياتهم بحيث يستغنى عن ملاحظة أحوال مَن يروُون عنه ...
وهذه الشهرة حكاها غيره أيضاً وإن كان في نقله رحمه الله كفاية.
وقد نقل أيضاً أقوالًا في بيان مستند المشهور، فعن قائل أنّه حكم العلّامة بالصحّة
وعن جماعة أنّهم مشايخ الإجازة، وهَمْ ثقات لا يحتاجون إلى التوثيق نصّاً. وعن أُخرى: أنّ مشايخ الإجازة لا تضرّ مجهوليّتهم؛ لأنّ حديثهم مأخوذ من الأُصول المعلومة، وذكرهم لمجرّد اتّصال السند أو للتبرّك (51).
قلت: لا يخفى ضعف الجميع، وحيث لا يعتبر في اعتبار الشهرة متأصّلةً أو مرجّحةً ثبوت مدركها لم يكن لنا حاجة إلى تطويل الكلام في إثبات مدرك صحيح لها، كما لم نحتج إلى إثبات مدرك الإجماع ...
ومنها: قولهم: «صحيح الحديث» ولا ريب في إفادته مدح الراوي في روايته مدحاً كاملًا، بل في نفسه أيضاً ...
وهل يفيد وثاقته وعدالته أيضاً أم لا؟ أسند الأوّلَ في (الفوائد) إلى توهّم بعض (52).
والذي يظهر أنّه في عبائر القدماء أضعف من قولهم: «ثقة في الحديث» وذلك لما حكاه غير واحد منهم في (الفوائد): "أنّ المراد به عند القدماء هو ما وثقوا بكونه من المعصوم عليه السلام أعمّ من أن يكون منشؤ وثوقهم كون الراوي من الثقات وأمارات أُخر، ومن أن يقطعوا بصدوره عنه عليه السلام أو يظنّوا به".
ثمّ قال: "ولعلّ اشتراطهم العدالة- على ما أشرنا- إليه لأجل أخذ الرواية عن الراوي من دون حاجة إلى التثبّت وتحصيل أمارات تورث لهم الوثوق المعتدّ به، كما أنّه عند المتأخّرين أيضاً كذلك" (53).
قلت: قد صرّح بذلك كثير منهم خصوصاً مَنْ تأخّر عنه، وظاهرٌ أنّهم أرادوا به الجمع بين اشتراطهم العدالة في الراوي- سواء اعتبرت بالمعنى الأخصّ أو الأعمّ- وبين ركونهم إلى كثير من روايات غير العدول.
والإنصاف أنّ الجمع المزبور- مع إمكان غيره أيضاً، فمرّة بأنّ المراد بالعدالة مجرّد ظهور تحرّزه عن الكذب ولو في خصوص رواية فيختصّ العمل بها، وأُخرى بأنّ مَن اشترطها ما خالف مقتضاه وإن ظهر لنا ذلك، وذلك لإمكان وقوفه على وثاقته وعدالته ولو في حال روايته الرواية الخاصّة دون غيرها بخلافنا، أو لم يكن الراوي عنده مختصّاً بالفاسق عنده، فلعلّه وقف على رواية عدل عنده ذلك، مع احتمال غفلته عمّا اشترطه في بعض الأحيان إلى غير ذلك- لا يخلو من إشكال كغيره ممّا ذُكر أو لم يُذكر؛ إذ المناسب بل اللازم حينئذٍ أن يجعلوا الشرط أحد الأمرين من العدالة أو التثبّت المفيد للوثوق به، أو مجرّد الوثوق به، ويجعل العدالة كغيرها من أسباب الوثوق والاعتماد المنضمّ بعضها إلى بعض أو مع الانفراد حيث كان قويّاً، كما صنعه بعض مَنْ تأخّر، إلى غير ذلك.
وكيف كان فتفصيل البحث في ذلك خارج عن مقتضى المقام، والمقصود هنا بيان أنّ العبارة المذكورة لا تفيد الوثاقة لا فيمن وردت في حقّه، كما سمعت حكاية توهّمه، ولا فيمن روى هو عنه أيضاً بتوهّم إرادة أنّ ما يضاف أو يسند إليه من الأحاديث فهو صحيح؛ إذ الصحّة عند القدماء لا تلازم الوثاقة أصلًا.
نعم، لو كانت العبارة في كلام المتأخّرين، أفادته ...
ثم اعلم: أنّ تركيب العبارة هنا غيره فيما مرّ في قولهم: «ثقة في الحديث» فإنّ الوصف هنا للمتعلّق الذي هو الحديث، ولذا تعرّضنا لبيان المراد من الحديث الصحيح...
ومنها: قولهم: "من مشايخ الإجازة".
قال في (الفوائد): "المتعارف عَدُّه من أسباب الحسن، وربّما يظهر من جدّي رحمه الله دلالته على الوثاقة، وكذا المصنّف رحمه الله في ترجمة الحسن بن عليّ ابن زياد.
وقال المحقّق البحراني: مشايخ الإجازة في أعلى درجات الوثاقة والجلالة (54).
وما ذكره رحمه الله لا يخلو من قرب إلّا أنّ قوله: «في أعلى درجاتها» غير ظاهر.
قال المحقّق الشيخ محمّد رحمه الله: "عادة المصنّفين عدم توثيق الشيوخ، وسيجيء في ترجمة محمّد بن إسماعيل النيسابوريّ عن الشهيد الثاني رحمه الله: أنّ مشايخ الإجازة لا يحتاجون إلى التنصيص على تزكيتهم" (55).
وعن (المعراج): أنّ التعديل بهذه الجهة طريقة كثير من المتأخّرين (56) إلى غير ذلك، فلاحِظْ. هذا، وإذا كان المستجيز ممّن يطعن [على الرجال] (57) ي روايتهم عن المجاهيل والضعفاء وغير الموثّقين، فدلالة استجازته على الوثاقة في غاية الظهور، سيّما إذا كان المجيز من المشاهير.
وربّما يفرّق بينهم وبين غير المشاهير بكون الأوّل من الثقات، ولعلّه ليس بشيء (58).
قلت: مراده من جدّه أوّل المجلسيّين، ومن المحقّق البحراني نادر العصر والزمان الشيخ سليمان رحمهم اللَّه كما صرّح به في (الفوائد) ومن المصنِّف مصنّف كتابَيِ:
(الرجال الكبير والوسيط) المولى الأمجد الآميرزا محمّد الاسترآبادي رحمه الله.
ومنها: قولهم: «عين ووجه» وربما يُضمّ إلى الأوّل: «من عيون أصحابنا» وإلى الثاني: «من وجوه أصحابنا» وقد يضاف الجمع إلى الطائفة.
قال في (الفوائد): قيل: "هُما يفيدان التعديل، ويظهر من المصنّف رحمه الله في ترجمة الحسن ابن زياد. وسنذكر عن جدّي في تلك الترجمة معناهما واستدلاله على كونهما توثيقاً.
وربّما يظهر ذلك من المحقّق الداماد أيضاً في الحسين بن أبي العلاء.
وعندي أنّهما يفيدان مدحاً مُعتدّاً به.
وأقوى من هذين: "وجه من وجوه أصحابنا، فتأمّل" (59).
قلت: ذكر المصنّف في الترجمة المزبورة: ربّما استفيد توثيقه من استجازة أحمد ابن محمّد بن عيسى، ولا ريب أنّ كونه عيناً من عيون هذه الطائفة ووجهاً من وجوهها أَولى.
وحكى في (التعليقة) في الترجمة المزبورة عن جدّه أنّه قال:" «عين» توثيق؛ لأنّ الظاهر استعارته بمعنى الميزان باعتبار صدقه، كما كان الصادق عليه السلام يسمّي أبا الصباح بالميزان؛ لصدقه، بل الظاهر أنّ قولهم: «وجه» توثيق؛ لأنّ دأب علمائنا السابقين في نقل الأخبار كان عدم النقل إلّا عمّن كان في غاية الثقة، ولم يكن يومئذٍ [لهم] مال ولا جاه حتّى يتوجّهوا إليهم بهما، بخلاف اليوم، وكذا يحكمون بصحّة خبره" (60).
قلت: إذا عرفت كفاية ما ذُكر في التوثيق، فاللازم البناء على أنّ قولهم: «أوجه من فلان» أو: «أصدق» أو: «أوثق» أو: «أورع» أو: «أعدل» ونحو ذلك يفيد الوثاقة إذا كان المفضَّل عليه وجهاً أو صدوقاً وغير ذلك، بل يستفاد من الثلاثة الأخيرة الوثاقة والورع والعدالة مطلقاً؛ لاعتبارها في الصيغة المذكورة، بإضافة كونها أشدّ أو أظهر.
وظهر ممّا ذُكر أيضاً أنّ قولهم: «شيخ الطائفة» أو: «من أجلّائها» أو: «معتمدها» [كذلك] (61).
قال في (الفوائد): " وإشارتها إلى الوثاقة ظاهرة، مضافاً إلى الجلالة، بل أولى من الوكالة وشيخيّة الإجازة وغيرهما ممّا حكموا بشهادته على الوثاقة، سيّما بعد ملاحظة أنّ كثيراً من الطائفة ثقات فقهاء فحول أَجِلَّة. وبالجملة، كيف يرضى منصف بأن يكون شيخ الطائفة في أمثال المقامات فاسقاً!؟" (62).
ومنها: قولهم: "لا بأس به".
واختلف في إفادته التوثيق أو مطلق المدح، أو لا هذا ولا ذاك.
وهذا الاختلاف من جهة المعنى العرفي مع ملاحظة القرائن، وإلّا فظاهر معناه اللغوي التوثيق، فإنّ مَنْ لا عذاب له- أي لا استحقاق [له]- لا يكون في الغالب إلّا عَدْلًا، فتدبّر، حيث إنّ النظر إلى العرف.
فالذي يظهر لنا منه أنّه لا يقدح في السند من جهته، أي يُعمل به، وهذا يلازم كونه ممدوحاً مدحاً معتدّاً به، بل ثقة في الرواية، بل مطلقاً وإن لم يكن كسائر الثقات.
ويؤيّده ما في ترجمة إبراهيم بن محمّد بن فارس: أنّه لا بأس به في نفسه ولكن ببعض مَنْ يروي هو عنه، وما في ترجمة حفص بن سالم: أنّه ثقة لا بأس به.
وفي الفوائد: "والأوفق بالعبارة والأظهر: أنّه لا بأس به بوجه من الوجوه.
ولعلّه لذا قيل بإفادته التوثيق، واستقربه المصنّف في متوسّطه، ويومئ إليه ما في تلك الترجمة- أي ترجمة إبراهيم المذكور- وترجمة بشّار بن يسار، ويؤيّده قولهم: ثقة لا بأس به ...
والمشهور أنّه يفيد المدح. وقيل: يمنع إفادته المدح أيضاً. وفي الخلاصة عَدَّهُ من القسم الأوّل، فعنده أنّه يفيد مدحاً معتدّاً به، فتأمّل" (63).
ومنها: قولهم: "أسند عنه" (64) ولنقتصر هنا على حكاية ما في (الفوائد) وما في (منتهى المقال)؛ إذ لم يُبْقِيا بعدُ لقائلٍ قولًا.
ففي الأوّل: "قيل: معناه سمع عنه الحديث، ولعلّ المراد على سبيل الاستناد والاعتماد، وإلّا فكثير ممّن سمع عنه ليس ممّن أسند عنه. وقال جدّي رحمه الله: المراد روى عنه الشيوخ واعتمدوا عليه، وهو كالتوثيق، ولا شكّ أنّ هذا المدح أحسن من: لا بأس به.
قوله رحمه الله: وهو كالتوثيق لا يخلو من تأمّل. نعم، إن أراد منه التوثيق بما هو أعمّ من العدل الإماميّ فلعلّه لا بأس به، فتأمّل. لكنّه لعلّه توثيق من غير معلوم الوثاقة.
أمّا أنّه روى عنه الشيوخ كذلك حتّى يظهر وثاقته؛ لبُعْد اتّفاقهم على الاعتماد على مَنْ ليس بثقة، أو بُعْد اتّفاق كونهم بأجمعهم غير ثقات فليس بظاهر.
نعم، ربّما يستفاد منه مدح وقوّة، لكن ليس بمثابة قولهم: لا بأس به، بل أضعف منه لو لم نقل بإفادته التوثيق.
وربّما يقال بإيمائه إلى عدم الوثوق، ولعلّه ليس كذلك، فتأمّل" (65).
وفي الثاني- بعد نقل ما في الأوّل-: "لم أعثر على هذه الكلمة إلّا في كلام الشيخ رحمه الله.
وما ربّما يوجد في (الخلاصة) فإنّما أخذه من رجال الشيخ، والشيخ رحمه الله إنّما ذكرها في رجاله دون فهرسته، وفي أصحاب الصادق عليه السلام دون غيره إلّافي أصحاب الباقر عليه السلام ندرة غاية الندرة.
واختلفت الأفهام في قراءتها.
فمنهم من قرأها بالمجهول كما سبق، ولعلّ عليه الأكثر، وقالوا بدلالتها على المدح؛ لأنّه لا يسند إلّا عمّن يستند إليه ويعتمد عليه، لكن في ترجمة محمّد بن عبد الملك الأنصاريّ: أُسنِد عنه ضعيف، فتأمّل.
وقيل في وجه اختصاصها ببعض دون بعض: إنّها لا تقال إلّا فيمن لا يُعرف بالتناول منه والأخذ عنه.
وقرأ المحقّق الشيخ محمّد: أَسْنَد، بالمعلوم، ورَدَّ الضمير إلى الإمام الذي هو من أصحابه، وكذا الفاضل عبد النبيّ رحمه الله في (الحاوي)، كما يأتي عنهما في يحيى بن سعيد الأنصاريّ، وعن الثاني في عبد النور أيضاً.
وينافيه قول الشيخ في جابر بن يزيد: أسند عنه، روى عنهما (66).
وقوله في محمّد بن إسحاق بن يسار: "أسند عنه، يُكنّى أبابكر صاحب المغازي من سبي عين التمر، وهو أوّل سبيّ دخل المدينة. وقيل: كنيته أبو عبد اللَّه روى عنهما" (67).
وقال المحقّق الداماد في (الرواشح) ما ملخّصه: إنّ الصحابيّ- على مصطلح الشيخ: في رجاله- على معانٍ:
منها: أصحاب الرواية [عن] (68) الإمام بالسماع منه.
ومنها: بإسنادٍ عنه، بمعنى أنّه روى الخبر عن أصحابه الموثوق بهم، وأخذ عن أُصولهم المعتمد عليها، فمعنى أسند عنه: أنّه لم يسمع منه، بل سمع من أصحابه الموثَّقين وأخذ عنهم من أُصولهم المعتمد عليها.
وبالجملة، قد أورد الشيخ في أصحاب الصادق عليه السلام جماعة جَمَّة إنّما روايتهم عنه بالسماع من أصحابه الموثوق بهم والأخذ من أُصولهم المُعَوَّل عليها، ذكر كلّاً منهم وقال: أسند عنه (69).
ورُدّ بأنّ جماعة ممّن قيلت فيهم رووا عنه عليه السلام مشافهةً.
وقرأ ولد الاستاذ العلّامة- دام علاهما- أيضاً بالمعلوم، ولكن لا أدري إلى مَنْ ردّ الضمير.
وقرأ بعض السادة الأزكياء من أهل العصر أيضاً [كذلك] (70).
قال: والأشبه كون المراد أنّهم أسندوا عنه عليه السلام ولم يسندوا عن غيره من الرواة، كما تتبّعت، ولم أجد رواية أحدٍ من هؤلاء عن غيره عليه السلام إلّا أحمد بن عائذ، فإنّه صحب أبا خديجة وأخذ عنه، كما نصّ عليه النجاشي، والأمر فيه سهل، فكأنّه مستثنى لظهوره.
وفيه أيضاً تأمّل؛ فإنّ غير واحد ممّن قيل فيه: أسند [عنه] (71) ـ سوى أحمد بن عائذ ـ رووا عن غيره عليه السلام أيضاً، منهم: محمّد بن مسلم والحارث بن المغيرة وبسّام بن عبداللَّه الصيرفيّ.
وربّما يقال: إنّ الكلمة: أسند، بالمعلوم، والضمير للراوي، إلّا أنّ فاعل «أسند» ابن عقدة، لأنّ الشيخ رحمه الله ذكر في أوّل رجاله أنّ ابن عقدة ذكر أصحابَ الصادق عليه السلام، وبلغ في ذلك الغاية، قال رحمه الله: وإنّي ذاكر ما ذكره، واورد من بعد ذلك ما لم يذكره (72) فيكون المراد: أخبر عنه ابن عقدة، وليس بذلك البعيد.
وربّما يظهر منه وجه عدم وجوده إلّافي كلام الشيخ رحمه الله، وسبب ذكر الشيخ رحمه الله ذلك في رجاله دون فهرسته، وفي أصحاب الصادق عليه السلام دون غيره، بل وثمرة قوله رحمه الله: إنّي ذاكر ما ذكره ابن عقدة ثمّ اورد ما لم يذكره. فتأمّل جدّاً (73).
قلت: ولا يخفى بُعْدُ ذلك أيضاً.
أمّا أولاً: فلتنافر «أسند عنه» مع «أخبر عنه» بل القريب إليه «أسند به»، إذ مفاد «أخبر عنه» أنّه نُقل عنه أمر آخر، وهو غير مقصود في توجيهه.
وأمّا ثانياً: فلأنّ مقتضى كلام الشيخ حيث ذكر أنّه يذكر ما ذكره، مع اعترافه بأنّه بلغ في ذلك الغاية: أن يكون أكثر رجال الصادق عليه السلام ممّن أسند عنه، والواقع خلافه.
ومنها: أن يروي عنه أو كتابه جماعةٌ من الأصحاب أو بعضُهم ممّن عُلِم من حاله أو قيل في حقّه: إنّه لا يروي إلّا عن ثقة.
وكذا إذا اعتمد عليه جماعة، لا سيّما القمّيّين أو اعتمد بعض مَنْ لا يعتمد إلّا عن ثقة ومعتمد.
قال في (الفوائد) في الأوّل: "لا يخفى كونه من أمارات الاعتماد، ويظهر ممّا سيذكر في عبداللَّه بن سنان ومحمّد بن سنان وغيرهما، بل ملاحظة اشتراطهم العدالة في الراوي على ما مرّ يقوّي كونه من أمارات العدالة، سيّما أن يكون الراوي عنه كلّاً أو بعضاً ممّن يَطعن على الرجال في روايتهم عن المجاهيل وأمثالها ونظائرها، فربّما تشير روايته عنه إلى الوثاقة" (74).
وقال- فيما إذا روى الأجلّاء عنه-: "وفيه- مضافاً إلى ما سبق- أنّه من أمارات الوثاقة أيضاً، كما لا يخفى على المطّلع برويّتهم، وأشرنا إلى وجهه أيضاً سيّما وأن يكونوا كلّاً أو بعضاً ممّن يَطعن بالرواية عن المجاهيل وأمثالها ... وإذا كان رواية جماعةٍ من الأصحاب تشير إلى الوثاقة كما مرّ، فرواية أجلّائهم بطريق أولى" (75) وذكر: "أنّ رواية صفوان وابن أبي عمير من أمارات الوثاقة، لقول الشيخ في (العدّة): إنّهما لا يرويان إلّا عن ثقة (76) وسيجيء عن المصنّف في ترجمة إبراهيم بن عمر أنّه يؤيّد التوثيق رواية ابن أبي عمير عنه ولو بواسطة حمّاد، وفي ترجمة ابن أبي الأغرّ النخّاس: أنّ رواية ابن أبي عمير وصفوان عنه ينبّهان على نوع اعتبار واعتداد.
وعن المحقّق الشيخ محمّد رحمه الله: قيل في مدحهما ما يشعر بالقبول في الجملة
والفاضل الخراساني في ذخيرته جرى مساكه على القبول من هذه العلّة.
ونظير صفوان وابن أبي عمير أحمدُ بن محمّد بن أبي نصر؛ لما ستعرف في ترجمته، وقريب منهم عليّ بن الحسن الطاطريّ؛ لما سيظهر من ترجمته أيضاً
ومسلك الفاضل جرى على هذا أيضاً (77) ثمّ ذكر رواية محمّد بن إسماعيل بن ميمون أو جعفر بن بشير عنه أو روايته عنهما.
قال: "فإنّ كلّاً منهما أمارة التوثيق؛ لما ذكر في ترجمتهما" (78)
وقال في الثاني: "إنّ اعتماد شيخ على شخص من أمارات الاعتماد عليه، كما هو ظاهر، ويظهر من النجاشي والخلاصة في عليّ بن محمّد بن قتيبة، فإذا كان جمع منهم اعتمدوا عليه، فهو في مرتبة معتدّ بها من الاعتماد، وربّما يشير إلى الوثاقة، سيّما إذا كثر منهم الاعتماد، وخصوصاً بعد ملاحظة اشتراطهم العدالة، وخصوصاً إذا كان ممّن يطعن في الرواية عن المجاهيل ونظائرها" (79).
قال: "ومنها: اعتماد القمّيّين عليه أو روايتهم عنه، فإنّه أمارة الاعتماد بل الوثاقة أيضاً، كما سيجيء في إبراهيم بن هاشم، سيّما أحمد بن محمد بن عيسى؛ لما سيجيء في إبراهيم بن إسحاق، وابن الوليد؛ لما سيجيء في ترجمته
ويقرب من ذلك اعتماد ابن الغضائري عليه وروايته عنه" (80).
هذا جملةٌ ممّا استعمل عندهم في المدح، وجملة من أسبابه وأسباب اعتمادهم.
وهنا جملة أُخرى، ككونه من وكلائهم عليهم السلام لواحد منهم أو أكثر، أو كونه من آل أبي جهم وآل نعيم وآل أبي شعبة، أو كونه كثير الرواية، أو روايته عن الثقات، أو أخذه معرفاً للجليل بقولهم: «إنّه أخوه» مثلًا، أو وقوعه في سند صحيحة الكلّ أو الجُلّ، أو: بعض مَنْ يعتمد عليه، أو: اتّفق الكلّ أو الأكثر على قبوله، أو في سند قدح فيه بغيره دونه، وذكر الجليل إيّاه مترحّماً عليه أو مترضِّياً وغير ذلك ممّا يُعلم بمراجعة كتب الرجال.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) لفظة «به» ساقطة في الأصل، و أثبتناها من المصدر.
(2) حاوي الأقوال، ج 1، ص 107.
(3) الرواشح السماوية، ص 176.
(4) منتهى المقال، ج 4، ص 128، الرقم 1618.
(5) الفهرست، ص 2.
(6) فوائد الوحيد البهبهاني، ص 35.
(7) منتهى المقال، ج 1، ص 44، (المقدّمة الخامسة).
(8) منتهى المقال، ج 1، ص 43.
(9) فوائد الوحيد البهبهانى، ص 18.
(10) الفصول الغروية، ص 302 (فصلُ تعارض الجرح والتعديل).
(11) المصباح المنير، ص 364، «وثق».
(12) القاموس المحيط، ج 3، ص 416، «وثق».
(13) منتهى المقال، ج 1، ص 44.
(14) في الأصل: «أنّ»، والأنسب ما أثبتناه.
(15) فوائد الوحيد البهبهاني، ص 68.
(16) في المصدر: أحمد بن أبي بشير.
(17) فوائد الوحيد البهبهاني، ص 26 و 27.
(18) منتهى المقال، ج 1، ص 56.
(19) انظر: «ميراث حديث شيعه»، دفتر أول (الفوائد الرجالية)، ص 298.
(20) الفصول الغروية، ص 303.
(21) انظر: مجموعة «ميراث حديث شيعه»، دفتر دوم ص 473 (لبّ اللباب في علم الرجال).
(22) فوائد الوحيد البهبهاني، ص 30.
(23) الفصول الغروية، ص 303.
(24) فوائد الوحيد البهبهاني، ص 29.
(25) ما بين المعقوفين أضفناه من المصدر.
(26) الرواشح السماوية، ص 47.
(27) الوافي، ج 1، ص 27.
(28) مشرق الشمسين ـ ضمن «الحبل المتين» ـ ، ص 269 و 270.
(29) المصدر السابق، ص 269.
(30) منتهى المقال، ج 1، ص 53- 55، و 58.
(31) جواب لقوله آنِفاً: «حيث إنّ البناء ...» إلى آخره.
(32) انظر: مجموعة «ميراث حديث شيعه»، دفتر دوم، ص 473 (لبّ اللباب في علم الرجال).
(33) فوائد الوحيد البهبهاني، ص 31.
(34) عدّة الاصول، ج 1، ص 376 و 377.
(35) فوائد الوحيد البهبهاني، ص 29 و 30.
(36) حكاه عنه الحائري في: منتهى المقال، ج 1، ص 56.
(37) أي: صلاة الجماعة.
(38) مختلف الشيعة، ج 2، ص 497، المسألة 357.
(39) غاية المراد في شرح نكت الإرشاد، ج 2، ص 41.
(40) مسالك الأفهام، ج 2، ص 58.
(41) المعتبر، ج 1، ص 210 (مبحث الحيض).
(42) الاستبصار، ج 3، ص 276، الرقم 982.
(43) رجال الكشّي، ص 238، الرقم 431.
(44) عدّة الاصول، ج 1، ص 381.
(45) ذكرى الشيعة، ص 4.
(46) رجال النجاشي، ص 326، الرقم 887.
(47) عدّة الاصول، ج 1، ص 380 و 381.
(48) فوائد الوحيد البهبهاني، ص 55.
(49) فوائد الوحيد البهبهاني، ص 57.
(50) فوائد الوحيد البهبهاني، ص 57.
(51) فوائد الوحيد البهبهاني، ص 27.
(52) فوائد الوحيد البهبهاني، ص 27.
(53) معراج أهل الكمال، ص 88.
(54) الرعاية، ص 192.
(55) معراج أهل الكمال، ص 192.
(56) الزيادة أثبتناها من المصدر.
(57) فوائد الوحيد البهبهاني، ص 44 و 45 (الفائدة الثالثة).
(58) فوائد الوحيد البهبهاني، ص 64، (آخر الفائدة الرابعة).
(59) فوائد الوحيد البهبهاني.
(60) تعليقة الوحيد البهبهاني، ص 97.
(61) أضفناها لاقتضاء السياق.
(62) فوائد الوحيد البهبهاني، ص 51.
(63) فوائد الوحيد البهبهاني، ص 31 و 32.
(64) بمعنى أنّه روى عنه الشيوخ واعتمدوا عليه ... وهو كالتوثيق، كما في: روضة المتّقين ج 14، ص 47.
(65) فوائد الوحيد البهبهاني، ص 31.
(66) رجال الشيخ، ص 163، الرقم 30.
(67) رجال الشيخ، ص 281، الرقم 22.
(68) في الأصل: «من» بدل «عن». وما أثبتناه من المصدر.
(69) الرواشح السماوية، ص 64 و 65.
(70) ما بين المعقوفين أضفناه من المصدر.
(71) في الأصل: «فيه» بدل «عنه» والصحيح ما أثبتناه من المصدر.
(72) رجال الشيخ، ص 2.
(73) منتهى المقال، ج 1، ص 72- 76.
(74) فوائد الوحيد البهبهاني، ص 47.
(75) فوائد الوحيد البهبهاني، ص 47.
(76) عدّة الأُصول، ج 1، ص 386.
(77) فوائد الوحيد البهبهاني، ص 47 و 48.
(78) المصدر السابق، ص 48.
(79) فوائد الوحيد البهبهاني، ص 49.
(80) فوائد الوحيد البهبهاني، ص 49.