في زمنٍ صار فيه الضوء يُسلَّط حيث الضجيجُ أعلى، لا حيث الحاجةُ أعمق، بتنا نشهد مشاهد إنسانية تُقدَّم على هيئة عروضٍ استعراضية، غرفٌ زجاجية تُشيَّد كأنها معابد عصرية للترند، لا يُعرَف من يديرها، ولا إلى أين تذهب الأموال التي تُسكَب عند عتبتها، ولا بأي روحٍ تُستثمر دموعُ الفقراء على منصاتها البراقة.
غرفةٌ تزدحم بالكاميرات، يتهادى حولها مشاهير اللحظة، ووجوهٌ خُلقت ـ كما يبدو ـ للضوضاء أكثر مما خُلقت للعطاء، وكلُّ ذلك تحت شعار الخير، لكنه خيرٌ مُعلَّق في الهواء، بلا سندٍ أخلاقي، ولا تاريخٍ إنساني، ولا جذرٍ يستند إليه غير وهج الشهرة وحرارة الترند.
وما بين التصفيق الافتراضي وتدافع المتبرّعين الجدد، يتسلّل سؤالٌ بسيط، لكنه موجع:
لماذا لا نرى وراء هذه الزجاجة سوى الغموض
لماذا لا تُعرَف الجهات، ولا الأهداف، ولا المصير
وكيف يتحول العمل الإنساني إلى مرآةٍ تلمّعُ الوجوه لا إلى يدٍ تمسح دموع المحتاجين
على الضفة الأخرى من الصورة، حيث لا كاميرات، ولا غُرف زجاجية، ولا فاشينستات، ولا ضجيج، يقف رجالٌ صرفوا أعمارهم في خدمة الإنسان بصمتٍ ووقار.
مؤسسة العين، ذلك الصرح الذي ترعاه المرجعية الدينية في النجف الأشرف، تعمل منذ سنوات بلا صخب، تبني وتُرمّم وتكفُل وترعى، وتفتح البيوت وتغلق أبواب الحيرة عن الأيتام والفقراء.
عملٌ ممتدّ، واضح المعالم، دقيق الحساب، موثوقٌ بظلال المرجعية وهيبتها، فلا ريبة، ولا شبهة، ولا سؤال معلّق في الهواء.
وقريبًا منها يقف سيف عباس ، رجلٌ من أهل الحلة، لم يحتج إلى صرخاتٍ ولا أضواء، بل ترك أعماله تتكلم:
خمسة مجمّعات سكنية، مدارس، مشاريع إسكان لذوي الحاجة، أعمار مضى في خدمة الناس حتى صار الخير عنده عادة لا مناسبة.
وليس بعيدًا عنهما، يرفع هشام الذهبي راية الرحمة في وجه العصف، يلمّ الأيتام كما يلمّ الأب أبناءه من الطرقات، يقبض على أرواحهم الصغيرة قبل أن تضيع في العتمة، يرعاهم، يعلّمهم، يمنحهم معنى البيت من جديد.
أولئك الرجال لم يبحثوا يومًا عن الكاميرا، فالكاميرا هي التي بحثت عنهم.
لم يقفوا في غرفة زجاجية، بل في ساحاتٍ مفتوحة على الله والناس، يقدّمون خيرًا لا يعرف الرياء، وعملاً لا يلوّثه الاستعراض.
ما بين الخير الحقيقي الذي له جذور، والخير الاستعراضي الذي له ظلال، تتضح المسافة الشاسعة بين من يجعل العطاء عبادة، وبين من يجعل العطاء سلّمًا إلى شهرةٍ زائفة.
الغرفة الزجاجية ليست المشكلة، بل ما خُلِق حولها من شكوكٍ وريبة:
أموالٌ لا يُعرَف طريقها، تبرعاتٌ تُجمع بلا شفافية، مشاهير يتحلقون حولها لا لوجه الله بل لوجه التصوير.
أما الخير الحقيقي، فهو الذي يشهد عليه العمل، لا اللافتة
يشهد عليه اليتيم الذي وجد دفئًا، والأرملة التي عرفت السكن، والعائلة التي تسلّمت مفتاح بيتها الجديد من يد رجلٍ لم يطلب شكرًا.
اليوم، الخبرُ يُشترى بالمال، وغدًا يُمنح مجانًا
وغدًا أيضًا، حين يختلف أصحاب الغرفة، ستُفتح دفاتر الأسرار، وسينقلب بعضهم على بعض ـ كما يحدث دائمًا ـ وستتكشف أشياء كثيرة كانت مخبوءة خلف الزجاج اللامع.
أمّا الأعمال الصادقة، فلا تخشى انكسار الضوء، لأنها لا تعيش في الظلال.







وائل الوائلي
منذ 38 دقيقة
"المهمة".. إصدار قصصي يوثّق القصص الفائزة في مسابقة فتوى الدفاع المقدسة للقصة القصيرة
(نوافذ).. إصدار أدبي يوثق القصص الفائزة في مسابقة الإمام العسكري (عليه السلام)
قسم الشؤون الفكرية يصدر مجموعة قصصية بعنوان (قلوب بلا مأوى)
EN