عمر بن عبد العزيز: القراءة التي لم تُكتب من قبل
قراءة نقدية لتأثير أحد أبرز قراراته على التراث الديني
الأستاذ الدكتور نوري حسين نور الهاشمي
26/11/2025

عمر بن عبد العزيز بن مروان، أمير خرج من رياض المدينة المنوّرة سنة 61 هـ، حمل منذ نشأته فيها سكينة العلم وروح التقوى، وتربّى على أيدي كبار فقهاء الصحابة والتابعين. وعندما تولّى الخلافة سنة 99 هـ، أعاد إلى الحكم شيئًا من روحه الأولى، فبسط العدل، وردّ المظالم، وأغنى الرعية، حتى لقّبه الناس بـالإمام العادل وشبّه بعضهم بخلفاء الراشدين؛ وهذه رؤية تمثل منظور المصادر التي تنظر إليه بتبجيل.
على الضفة الأخرى، تقدم المصادر التي تراه الومضة الوحيدة في ليل الدولة الأموية الطويل؛ رجلًا لم يغيّر شكل الحكم فحسب، بل أعاد ضبط نبرة الدولة حين أوقف سبّ أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) على المنابر، فانتزع من الوعي العام عادة رسّخها الاستبداد الأموي عقودًا. وتصفه تلك المصادر بالمصلح الذي أعاد بعض الحقوق إلى أهلها، وخفّف من غلواء الولاة، وأظهر ميلًا صادقًا للعدل والزهد، حتى بدا في وسط بني أمية غريبًا في خُلُقه، قريبًا من مدرسة المدينة وأئمتها. ومع هذا التقدير، يبقى في التصوّر الإمامي خارج دائرة الإمامة الشرعية، لأنه جزء من نظام حكم لم يُبنَ على ولاية أهل البيت (ع)، فيلتقي فيه الإنصاف الأخلاقي مع التحفّظ العقدي، دون أن يُرفع إلى مقام القداسة.
انطفأت شمعة عمر سنة 101 هـ في دير سمعان قرب حلب، بعد أن أثقلت كاهل السلطة إصلاحاته، فدُسّ إليه السم بحسب روايات كثيرة ودُفن في الموضع نفسه، الذي أصبح علامةً على مرور رجل ترك أثرًا لا يبهت.
هذه صورة الخليفة كما تقدّمها المصادر، غير أنّ التحليل الأكاديمي لشخصيته يكشف طبقة أعمق من التأثير؛ إذ امتدت بصمته إلى اليوم رغم أن مدة حكمه لم تتجاوز السنتين. وبصرف النظر عن الاتفاق العام بين عموم المسلمين على عدله مقارنةً بغيره من خلفاء بني أمية، فإن التوقف عند أحد أهم قراراته قرار جمع الحديث يفتح مسارًا نقديًا وتحليليًا يتيح تقييماً علميًا محايدًا.
إنّ قرار جمع الحديث في عهد عمر بن عبد العزيز جاء مخالفًا للوصية النبوية المتواترة بالتحفّظ عن التدوين، وهي وصية هدفت إلى حماية تمايز النص القرآني عن أي نص آخر. وقد جاءت آثار هذا القرار بعيدة المدى؛ فقد أدّى إلى نشوء بنية موازية للقرآن من خلال تقنين السنة في مدوّنات مكتوبة، تحوّلت مع الزمن إلى مرجع تشريعي واجتماعي مستقل. وتوضح النصوص التاريخية النهي النبوي عن كتابة غير القرآن، والذي كان سببًا في امتناع الصحابة والتابعين عن التدوين، كما يشير غياب مشروع رسمي للتدوين في العهد الراشدي إلى إدراك حسّاسيات الخلط النصّي وخطورة تضخم الرواية على حساب القرآن.
وقد قلب قرار عمر المشهد رأسًا على عقب؛ إذ تشير سجلات المؤرخين إلى أنه أصدر أوامر صريحة إلى ولاته وعلماء الأمصار بجمع الأحاديث وتدوينها، وهو إجراء غير مسبوق على هذا المستوى الرسمي. وبذلك كان عمر أول خليفة يخالف نصًا نبويًا متفقًا عليه يمنع تدوين الحديث، فانتقل التدوين من كونه نشاطًا فرديًا محدودًا إلى مشروع مؤسسي عام، وهو ما يعني منهجيًا أنه سحب البساط من تحت أقدام الأئمة المعصومين عليهم السلام، لأن التدوين بوصفه سلطة معرفية يُنشئ مرجعية موازية لتفسير الدين وفق أهل البيت.
وتبرز هنا الأسئلة حول دوافع هذا القرار، التي تتراوح بين الحاجة السياسية إلى توحيد المرجعية الدينية بعد عقود من الاستقطاب بين مدرسة الإمام علي (ع) وبني أمية، وبين الدافع الاحترازي لحفظ الرواية بعد رحيل الحفّاظ، إضافة إلى الدافع الانتقائي الذي يسمح للسلطة بإعادة تشكيل الحقل المعرفي عبر اختيار رواة معيّنين وتهميش آخرين. وبذلك يصبح التدوين أداةً للضبط السياسي بقدر ما هو نشاط علمي.
وقد تمثلت الآثار المترتبة على هذا القرار وإن وصفها البعض بالإيجابيات في حماية جزء من السنة من الضياع وظهور علم الجرح والتعديل لاحقًا، لكن هذه الإيجابيات تبقى إشكالية من منظور تحليلي، إذ مخالفة وصية نبوية لا يمكن تسويغها بنتائج مهما بدت نافعة، لأن حفظ الدين أعظم حرصًا من البشر جميعًا، ولأن علوم النقد نفسها لم تكن لتُخلق لولا اختلاط الرواية واتساعها بسبب التدوين المبكر.
أما الآثار السلبية، فقد كانت عميقة وممتدة؛ إذ أدى التدوين الرسمي إلى نشوء هيكل معرفي موازٍ للقرآن، بحيث تحوّلت بعض الروايات المصنّفة إلى مصدر تشريع مستقل ينافس النص القرآني في الحياة العامة، وهو ما نراه اليوم في ترك بعض الناس للآيات المحكمة واتّباع روايات دُوّنت في سياقات سياسية. كما منح التدوين المركزي سلطة تشكيل خارطة الرواة والأفكار، فاختيرت روايات وأُقصيت أخرى، بما في ذلك روايات أهل البيت (ع) أو روايات الأمصار المختلفة. وأسهم ذلك في تعزيز التمايز المذهبي وتكوين مدارس فقهية ارتبطت بمدوّنات الأمصار، فضلًا عن تقليص مساحة الاجتهاد لصالح صيغة معيارية واحدة.
وتشبه هذه الظاهرة، من منظور نقدي، تطوّر الشرائع الثانوية في اليهودية حين تحوّلت نصوص التلمود إلى بنية موازية للنص الأول. غير أنّ السياق الإسلامي كان أكثر حساسية وتشابكًا بسبب الصراع السياسي المبكر، ما جعل آثار التدوين أسرع وأعمق في إعادة تشكيل الوعي الديني.
وإذا سلّمنا بوجود وصية نبوية واضحة بشأن عدم تدوين الحديث، وبأن القرار الرسمي للتدوين جاء في لحظة سياسية مشحونة بصراع الشرعية، فإن الخلاصة التي يفرضها التحليل هي أن عمر بن عبد العزيز كان أكثر الخلفاء تأثيرًا في تثبيت نظام معرفيحديثي موازٍ للقرآن، سواء قصد ذلك أو وقع عرضًا. وقد شكّل قراره لحظة تأسيسية غيّرت شكل المعرفة الدينية وملامح الاختلاف المذهبي، فكان من هذا المنظور النقدي أول خليفة يضرب البنية التأسيسية للدين بطريقة ناعمة، وبأسلوب بدا إصلاحيًا ظاهريًا، لكنه ترك آثارًا بنيوية لا تزال الأمة الإسلامية تعاني تبعاتها إلى اليوم.