أقرأ أيضاً
التاريخ: 11-2-2018
8424
التاريخ: 11-2-2018
5621
|
قال تعالى : {لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1) وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2) أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ (3) بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ (4) بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ (5) يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ (6) فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ (7) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9) يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10) كَلَّا لَا وَزَرَ (11) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (12) يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ (13) بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) وَلَو أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ (15) لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة: 1 - 19].
{لا أقسم بيوم القيامة} قيل إن لا صلة ومعناه أقسم بيوم القيامة عن ابن عباس وسعيد بن جبير وقيل إن لا رد على الذين أنكروا البعث والنشور من المشركين فكأنه قال لا كما تظنون ثم ابتدأ القسم فقال أقسم بيوم القيامة أنكم مبعوثون ليكون فرقا بين اليمين التي تكون جحدا وبين اليمين المستأنفة وقيل معناه لا أقسم بيوم القيامة لظهورها بالدلائل العقلية والسمعية وقيل معناه لا أقسم بيوم القيامة فإنكم لا تقرون بها.
{ولا أقسم بالنفس اللوامة} فإنكم لا تقرون بأن النفس تلوم صاحبها يوم القيامة ولكن استخبركم فأخبروني هل أقدر على أن أجمع العظام المتفرقة وهذان الوجهان عن أبي مسلم وقيل معناه أقسم بيوم القيامة ولا أقسم بالنفس اللوامة أقسم بالأول ولم يقسم بالثاني عن الحسن قال علي بن عيسى وهذا ضعيف لأنه يخرج عن تشاكل الكلام والأولى أن يكونا قسمين وهو قول الأكثرين وجواب القسم محذوف تقديره ما الأمر على ما تتوهمون وإنكم تبعثون أو لتبعثن ومن قرأ لأقسم فإنه يجعلها جواب القسم وحذف النون لأنه أراد الحال وقد ذكرنا ما قيل فيه والنفس اللوامة الكثيرة اللوم وليس من نفس برة ولا فاجرة إلا وهي تلوم نفسها يوم القيامة إن كانت عملت خيرا قالت هلا ازددت وإن كانت عملت سوءا قالت يا ليتني لم أفعل عن ابن عباس في رواية عطاء وقال مجاهد تلوم على ما مضى تقول لم فعلت ولم لم أفعل وقيل النفس اللوامة الكافرة الفاجرة عن قتادة ومجاهد ومعناه ذات اللوم الكثير لما سلف منها وقيل هي النفس المؤمنة تلوم نفسها في الدنيا وتحاسبها فتقول ما ذا فعلت ولم قصرت فتكون مفكرة في العواقب أبدا والفاجر لا يفكر في أمر الآخرة ولا يحاسب نفسه عن الحسن.
{أ يحسب الإنسان} صورته صورة الاستفهام ومعناه الإنكار على منكري البعث ومعناه أ يحسب الكافر بالبعث والنشور يعني جنس الكفار {أن لن نجمع عظامه} أي أنه لن نعيده إلى ما كان أولا خلقا جديدا بعد أن صار رفاتا فكني عن البعث بجمع العظام ثم قال سبحانه {بلى} نجمعها {قادرين على أن نسوي بنانه} على ما كانت وإن قلت عظامها وصغرت فنردها كما كانت ونؤلف بينها حتى يستوي البنان ومن قدر على جمع صغار العظام فهو على جمع كبارها أقدر عن الزجاج والجبائي وأبي مسلم وقيل معناه نقدر على أن نجعل بنانه كالخلف والحافر فيتناول المأكول بفيه ولكنا مننا عليه بالأنامل ليكمل بها المنفعة ويتهيأ له القبض والبسط والارتفاق بالأعمال اللطيفة كالكتابة وغيرها عن ابن عباس وقتادة.
{بل يريد الإنسان} أي يريد الكافر {ليفجر أمامه} هذا إخبار من الله تعالى أن الإنسان يمضي قدما في معاصي الله تعالى راكبا رأسه لا ينزع عنها ولا يتوب عن مجاهد والحسن وعكرمة والسدي أي فهذا هو الذي يحمله على الإعراض عن مقدورات ربه فلذلك لا يقر بالبعث وينكر النشور وقيل ليفجر أمامه أي ليفكر بما قدامه من البعث ويكذب به فالفجور وهو التكذيب وعن الزجاج قال ويجوز أن يريد أنه يسوف التوبة ويقدم الأعمال السيئة وقال ابن الأنباري يريد أن يفجر ما امتد عمره وليس في نيته أن يرجع عن ذنب يرتكبه وقيل معناه أنه يقول أعمل ثم أتوب عن عطية والمراد أنه يتعجل المعصية ثم يسوف التوبة يقول غدا وبعد غد {يسأل أيان يوم القيامة} معناه أن الذي يفجر أمامه يسأل متى تكون القيامة فإن معنى أيان متى إلا أن السؤال بمتى أكثر من السؤال بأيان فلذلك حسن أن يفسر بها وإنما يسأل عن ذلك تكذيبا واشتغالا بالدنيا من غير تفكر في العاقبة فإذا خوف بالقيامة قال متى يكون ذلك.
ثم قال سبحانه {فإذا برق البصر} أي شخص البصر عند معاينة ملك الموت فلا يطرف من شدة الفزع وقيل إذا فزع وتحير لما يرى من أهوال القيامة وأحوالها مما كان يكذب به في الدنيا وهذا كقوله لا يرتد إليهم طرفهم عن قتادة وأبي مسلم {وخسف القمر} أي ذهب نوره وضوءه {وجمع الشمس والقمر} جمع بينهما في ذهاب ضوئهما بالخسوف ليتكامل ظلام الأرض على أهلها حتى يراها كل أحد بغير نور وضياء عن مجاهد وهو اختيار الفراء والزجاج والجمع على ثلاثة أقسام جمع في المكان وجمع في الزمان وجمع الأعراض في المحل فأما جمع الشيئين في حكم أو صفة فمجاز لأن حقيقة الجمع جعل أحد الشيئين مع الآخر وقيل جمع بينهما في طلوعهما من المغرب كالبعيرين القرينين عن ابن مسعود {يقول الإنسان} المكذب بالقيامة {يومئذ أين المفر} أي أين الفرار ويجوز أن يكون معناه أين موضع الفرار عن الفراء وقال الزجاج المفر بالفتح الفرار والمفر بالكسر مكان الفرار.
قال الله سبحانه {كلا لا وزر} أي لا مهرب ولا ملجأ لهم يلجئون إليه والوزر ما يتحصن به من جبل أو غيره ومنه الوزير الذي يلجأ إليه في الأمور وقيل معناه لا حصن عن الضحاك {إلى ربك يومئذ المستقر} أي المنتهى عن قتادة أي ينتهي الخلق يومئذ إلى حكمه وأمره فلا حكم ولا أمر لأحد غيره وقيل المستقر المكان الذي يستقر فيه المؤمن والكافر وذلك إلى الله لا إلى العباد وقيل المستقر المصير والمرجع عن ابن مسعود والمستقر على وجهين مستقر إلى أمد ومستقر إلى الأبد {ينبؤ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر} أي يخبر الإنسان يوم القيامة بأول عمله وآخره فيجازى به عن مجاهد وقيل معناه بما قدم من العمل في حياته وما سنه فعمل به بعد موته من خير أوشر وقيل بما قدم من المعاصي وأخر من الطاعات عن ابن عباس وقيل بما أخذ وترك عن ابن زيد وقيل بما قدم من طاعة الله وأخر من حق الله فضيعه عن قتادة وقيل بما قدم من ماله لنفسه وما خلقه لورثته بعده عن زيد بن أسلم وحقيقة النبإ الخبر بما يعظم شأنه وإنما حسن في هذا الموضع لأن ما جرى مجرى المباح لا يعتد به في هذا الباب وإنما هوما يستحق عليه الجزاء فأما ما وجوده كعدمه فلا اعتبار به.
{بل الإنسان على نفسه بصيرة} أي إن جوارحه تشهد عليه بما عمل فهو شاهد على نفسه بشهادة جوارحه عليه عن ابن عباس وعكرمة ومقاتل وقال القتيبي أقام جوارحه مقام نفسه ولذلك أنث لأن المراد بالإنسان هاهنا الجوارح وقال الأخفش هي كقولك فلان حجة وعبرة ودليله قوله تعالى كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا وقيل معناه أن الإنسان بصير بنفسه وعمله وروى العياشي بإسناده عن محمد بن مسلم عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال ما يصنع أحدكم أن يظهر حسنا ويسر سيئا أ ليس إذا رجع إلى نفسه يعلم أنه ليس كذلك والله سبحانه يقول {بل الإنسان على نفسه بصيرة} إن السريرة إذا صلحت قويت العلانية عن عمر بن يزيد عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه تلا هذه الآية ثم قال ما يصنع الإنسان أن يتعذر إلى الناس خلاف ما يعلم الله منه أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) كان يقول من أسر سريرة رداه الله رداءها إن خيرا فخير وإن شرا فشر وعن زرارة قال سألت أبا عبد الله ما حد المرض الذي يفطر صاحبه قال.
{بل الإنسان على نفسه بصيرة} هو أعلم بما يطيق وفي رواية أخرى هو أعلم بنفسه ذاك إليه {ولو ألقى معاذيره} أي ولو اعتذر وجادل عن نفسه لم ينفعه ذلك يقال معذرة ومعاذر ومعاذير وهي ذكر موانع تقطع عن الفعل المطلوب وقيل معناه ولو أرخى الستور وأغلق الأبواب عن الضحاك والسدي قال الزجاج معناه ولو أدلى بكل حجة عنده وجاء في التفسير المعاذير الستور واحدها معذار وقال المبرد هي لغة طائية والمعنى على هذا القول وإن أسبل الستور ليخفي ما يعمل فإن نفسه شاهدة عليه .
وقوله تعالى : {لا تحَرِّك بِهِ لِسانَك لِتَعْجَلَ بِهِ(16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وقُرْءَانَهُ(17) فَإِذَا قَرَأْنَهُ فَاتَّبِعْ قُرْءَانَهُ(18) ثمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ}.
ثم خاطب سبحانه نبيه (صلى الله عليه وآله وسلّم) فقال {لا تحرك به لسانك لتعجل به} قال ابن عباس كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) إذا نزل عليه القرآن عجل بتحريك لسانه لحبه إياه وحرصه على أخذه وضبطه مخافة أن ينساه فنهاه الله عن ذلك وفي رواية سعيد بن جبير عنه أنه (صلى الله عليه وآله وسلّم) كان يعاجل من التنزيل شدة وكان يشتد عليه حفظه فكان يحرك لسانه وشفتيه قبل فراغ جبريل من قراءة الوحي فقال سبحانه {لا تحرك به} أي بالوحي أو بالقرآن لسانك يعني بالقراءة لتعجل به أي لتأخذه كما قال ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضي إليك وحيه {إن علينا جمعه} في صدرك حتى تحفظه {وقرآنه} أي وتأليفه على ما نزل عليك عن قتادة وقيل معناه إن علينا جمعه وقرآنه عليك حتى تحفظه ويمكنك تلاوته فلا تخف فوت شيء منه عن ابن عباس والضحاك.
{فإذا قرأناه} أي قرأه جبريل عليك بأمرنا {فاتبع قرآنه} أي قراءته عن ابن عباس والمعنى اقرأه إذا فرغ جبريل عن قراءته قال فكان النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) بعد هذا إذا نزل عليه جبريل (عليه السلام) أطرق فإذا ذهب قرأ وقيل {فاتبع قرآنه} أي فاعمل بما فيه من الأحكام والحلال والحرام عن قتادة والضحاك وقال البلخي الذي اختاره أنه لم يرد القرآن وإنما أراد قراءة العباد لكتبهم يوم القيامة يدل على ذلك ما قبله وما بعده وليس فيه شيء يدل على أنه القرآن ولا شيء من أحكام الدنيا وفي ذلك تقريع للعبد وتوبيخ له حين لا تنفعه العجلة يقول لا تحرك لسانك بما تقرأه من صحيفتك التي فيها أعمالك يعني اقرأ كتابك ولا تعجل فإن هذا الذي هو على نفسه بصيرة إذا رأى سيئاته ضجر واستعجل فيقال له توبيخا لا تعجل وتثبت لتعلم الحجة عليك فإنا نجمعها لك فإذا جمعناه فاتبع ما جمع عليك بالانقياد لحكمه والاستسلام للتبعة فيه فإنه لا يمكنك إنكاره.
{ثم إن علينا بيانه} لو أنكرت وقال الحسن معناه ثم إن علينا بيان ما أنبأناك أنا فاعلون في الآخرة وتحقيقه وقيل يريد أنا نبين لك معناه إذا حفظته عن قتادة وقيل معناه ثم إن علينا أن نحفظه عليك حتى تبين للناس بتلاوتك إياه عليهم وقيل معناه علينا أن ننزله قرآنا عربيا فيه بيان للناس عن الزجاج وفي هذا دلالة على أنه لا تعمية في القرآن ولا الغاز ولا دلالة فيه على جواز تأخير البيان عن وقت الحاجة وإنما يدل على جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب .
____________________
1- مجمع البيان ، الطبرسي ، ج10 ، ص192-198.
{لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ} أي اقسم به . . هذا إذا كانت اللام زائدة كما يرى أكثر المفسرين ، أوان الأمر لا يحتاج إلى قسم لأنه في غاية الوضوح . . إذا كانت اللام نافية لا زائدة كما يرى البعض . وفي الكلام حذف - على التقديرين - أي إنكم لمبعوثون خلقا جديدا {ولا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} . للمفسرين أقوال في معنى النفس اللوامة ، والذي نراه ان الإنسان كثيرا ما يلوم ويؤنب نفسه بنفسه على ما فعل أوترك بعد ان يتبين له ان الفعل أو الترك يضر به صحيا كأكلة منعته من أكلات ، أو صفقة بيع أو شراء جرت عليه خسارة لا يطيقها أولا يريدها ، وما إلى ذلك من الأضرار التي لا تمت إلى دينه وخلقه بسبب ، وهذا المعنى غير مراد هنا من النفس اللوامة . . وقد يشعر الإنسان بالندم والحسرة على ما فرّط في جنب الحق ، وتهاون في عمل الخير ، سواء أفرّط وتهاون عن عمد وعلم بأنه آثر العاجلة على الآجلة ، أم كان ذلك عن جهل وغير قصد ، ثم تبينت له الحقائق كما هي حال الكافر في يوم القيامة ، وهذا المعنى بالذات هو المراد هنا من النفس اللوامة .
{أَيَحْسَبُ الإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ} . قال منكر والبعث : مستحيل ان تحيا العظام وهي رميم . . قالوها بأساليب شتى ، وأجابهم سبحانه بشتى الأساليب ، من ذلك الآية التي نفسرها ، ومعناها ان اللَّه هو الذي يجمعها ويحييها ، ولا غرابة فإن قدرته تعالى لا يعجزها شيء ، وفوق ذلك هو يعيد العظام تماما كما كانت حتى أدقها وأصغرها حجما كعظام أصابع اليد ، فإنها ترجع لسابق عهدها ببشرتها ولونها وما عليها من شعرات ، بل وما فيها من خطوط وبصمات . . وذلك على اللَّه سهل يسير لأن الذي أتقنها أول مرة ، وجعل بصماتها تختلف في كل فرد عن الآخر منذ أول إنسان إلى الإنسان الأخير - يهون عليه أن يعيد الإنسان إلى سيرته الأولى بجميع صفاته وخصائصه ، لأن اختلاف خطوط الأصابع وبصماتها على هذا النحو أكثر وأقوى دلالة على قدرته تعالى من إعادة العظام والأموات .
{بَلْ يُرِيدُ الإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ} . الفجور الذنوب والآثام ، وفي أمامه معنى المضي والاستمرار ، وعليه يكون المراد بالإنسان هنا المجرم الآثم ، ومجمل المعنى ان هذا الآثم يريد التمادي والمضي في فجوره وآثامه إلى يومه الأخير ، ومن أجل هذا {يسأل} ساخرا في عتو وعناد : {أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ} ؟ . متى أوانه ؟
أ قريب أم بعيد ؟
{فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ وخَسَفَ الْقَمَرُ وجُمِعَ الشَّمْسُ والْقَمَرُ} . سأل المعاند :
متى يوم القيامة ؟ فذكره سبحانه بأوصافه ، وهي أن يزيغ البصر ، ويذهب نور القمر ، ويصطدم بالشمس لخراب الكون وانقطاع نظامه {يَقُولُ الإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ} من هذه الكارثة ؟ هل من مغيث ؟ {كَلَّا لا وَزَرَ} لا ملجأ ولا مفر {إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ} فهو وحده مرجع العباد في ذاك اليوم ، والى حكمه وأمره تخضع الخلائق {يُنَبَّأُ الإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وأَخَّرَ} . المراد بما قدم ما فعل من خير وشر ، وبما أخر ما ترك من الواجبات المفروضة عليه ، والمعنى إذا وقف الإنسان بين يدي خالقه لنقاش الحساب تكشفت له جميع أعماله خيرها وشرها أولها وآخرها ، وأيضا يتكشف له ما ترك من الواجبات المسؤول عنها {بَلِ الإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ ولَو أَلْقى مَعاذِيرَهُ} على ان الإنسان يعلم ما فعل وما ترك ، ولا يحتاج إلى من يخبره بذلك ، يعلم حتى لو حاول أن يتنصل ويعتذر .
{لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وقُرْآنَهُ فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ} الكلام مستأنف ، على طريقة القرآن الكريم ينتقل من موضوع إلى موضوع ، سواء أوجدت المناسبة أم لم توجد ، قال الإمام الصادق (عليه السلام) :
ان الآية الواحدة يكون أولها في شيء ، وآخرها في شيء آخر . . والخطاب في لا تحرك للرسول الأعظم (صلى الله عليه واله وسلم) . وضمير به وما بعده للقرآن ، وعلينا جمعه أي نجمع القرآن في قلبك ، وقرآنه أي قراءته ، فإذا قرأناه أي فإذا انتهينا من قراءة القرآن فاشرع أنت بالتلاوة ، ومجمل المعنى إذا تلا عليك جبريل القرآن فلا تتابعه أنت في القراءة يا محمد مخافة أن يفوتك شيء منه ، فنحن نجعله بكامله في قلبك ، فإذا انتهى جبريل من القراءة باشر أنت بالتلاوة ، وعلينا ان نعصمك من النسيان والخطأ في تلاوته وبيان أحكامه والعمل به أيضا . وتقدم مثله في الآية 114 من سورة طه ج 5 ص 246 .
______________________
1- الكاشف ، محمد جواد مغنية ، ج7 ، ص469-471.
يطوف بيان السورة حول القيامة الكبرى فتنبىء بوقوع يوم القيامة أولا ثم تصفه ببعض أشراطه تارة، وبإجمال ما يجري على الإنسان أخرى، وينبىء أن المساق إليه يبدأ من يوم الموت، وتختتم بالاحتجاج على القدرة على الإعادة بالقدرة على الابتداء.
والسورة مكية بشهادة سياق آياتها.
قوله تعالى: {لا أقسم بيوم القيامة} إقسام بيوم القيامة سواء قيل بكون {لا أقسم} كلمة قسم أو بكون لا زائدة أو نافية على اختلاف الأقوال.
قوله تعالى: {ولا أقسم بالنفس اللوامة} إقسام ثان على ما يقتضيه السياق ومشاكلة اللفظ فلا يعبأ بما قيل: إنه نفي الأقسام وليس بقسم، والمراد أقسم بيوم القيامة ولا أقسم بالنفس اللوامة.
والمراد بالنفس اللوامة نفس المؤمن التي تلومه في الدنيا على المعصية والتثاقل في الطاعة وتنفعه يوم القيامة.
وقيل: المراد به النفس الإنسانية أعم من المؤمنة الصالحة والكافرة الفاجرة فإنها تلوم الإنسان يوم القيامة أما الكافرة فإنها تلومه على كفره وفجوره، وأما المؤمنة فإنها تلومه على قلة الطاعة وعدم الاستكثار من الخير.
وقيل.
المراد نفس الكافر الذي تلومه يوم القيامة على ما قدمت من كفر ومعصية قال تعالى: { وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ} [يونس: 54].
ولكل من الأقوال وجه.
وجواب القسم محذوف يدل عليه الآيات التالية، والتقدير ليبعثن، وإنما حذف للدلالة على تفخيم اليوم وعظمة أمره قال تعالى: { ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً } [الأعراف: 187] وقال: {إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى } [طه: 15] وقال: {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ (1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ } [النبأ: 1، 2].
قوله تعالى: {أ يحسب الإنسان أن لن نجمع عظامه} الحسبان الظن، وجمع العظام كناية عن الإحياء بعد الموت، والاستفهام للتوبيخ، والمعنى ظاهر.
قوله تعالى: {بلى قادرين على أن نسوي بنانه} أي بلى نجمعها وقادرين} حال من فاعل مدخول بلى المقدر، والبنان أطراف الأصابع وقيل: الأصابع وتسوية البنان تصويرها على ما هي عليها من الصور، والمعنى بلى نجمعها والحال أنا قادرون على أن نصور بنانه على صورها التي هي عليها بحسب خلقنا الأول.
وتخصيص البنان بالذكر - لعله - للإشارة إلى عجيب خلقها بما لها من الصور وخصوصيات التركيب والعدد تترتب عليها فوائد جمة لا تكاد تحصى من أنواع القبض والبسط والأخذ والرد وسائر الحركات اللطيفة والأعمال الدقيقة والصنائع الظريفة التي يمتاز بها الإنسان من سائر الحيوان مضافا إلى ما عليها من الهيئات والخطوط التي لا يزال ينكشف للإنسان منها سر بعد سر.
وقيل: المراد بتسوية البنان جعل أصابع اليدين والرجلين مستوية شيئا واحدا من غير تفريق كخف البعير وحافر الحمار، والمعنى قادرين على أن نجعلها شيئا واحدا فلا يقدر الإنسان حينئذ على ما يقدر عليه مع تعدد الأصابع من فنون الأعمال، والوجه المتقدم أرجح.
قوله تعالى: {بل يريد الإنسان ليفجر أمامه} قال الراغب: الفجر شق الشيء شقا واسعا.
قال: والفجور شق ستر الديانة يقال: فجر فجورا فهو فاجر وجمعه فجار وفجرة.
انتهى، وأمام ظرف مكان استعير لمستقبل الزمان، والمراد من فجوره أمامه فجوره مدى عمره وما دام حيا، وضمير {أمامه} للإنسان.
وقوله: {ليفجر أمامه} تعليل ساد مسد معلله وهو التكذيب بالبعث والإحياء بعد الموت، و{بل} إضراب عن حسبانه عدم البعث والإحياء بعد الموت.
والمعنى: أنه لا يحسب أن لن نجمع عظامه بل يريد أن يكذب بالبعث ليفجر مدى عمره إذ لا موجب للإيمان والتقوى لولم يكن هناك بعث للحساب والجزاء.
هذا ما يعطيه السياق في معنى الآية، ولهم وجوه أخر ذكروها في معنى الآية بعيدة لا تلائم السياق أغمضنا عن ذكرها.
وذكر الإنسان في الآية من وضع الظاهر موضع الضمير والنكتة فيه زيادة التوبيخ والمبالغة في التقريع، وقد كرر ذلك في الآية وما يتلوها من الآيات أربع مرات.
قوله تعالى: {يسأل أيان يوم القيامة} الظاهر أنه بيان لقوله: {بل يريد الإنسان ليفجر أمامه} فيفيد التعليل وأن السائل في مقام التكذيب والسؤال سؤال تكذيب إذ من الواجب على من دعي إلى الإيمان والتقوى، وأنذر بهذا النبإ العظيم مع دلالة الآيات البينة وقيام الحجج القاطعة أن يتخذ حذره ويتجهز بالإيمان والتقوى ويتهيأ للقاء اليوم قريبا كان أو بعيدا فكل ما هو آت قريب لا أن يسأل متى تقوم الساعة؟ وأيان يوم القيامة؟ فليس إلا سؤال مكذب مستهزىء.
قوله تعالى: {فإذا برق البصر وخسف القمر وجمع الشمس والقمر} ذكر جملة من أشراط الساعة، وبريق البصر تحيره في إبصاره ودهشته، وخسوف القمر زوال نوره.
قوله تعالى: {يقول الإنسان يومئذ أين المفر} أي أين موضع الفرار، وقوله: {أين المفر} مع ظهور السلطنة الإلهية له وعلمه بأن لا مفر ولا فرار يومئذ من باب ظهور ملكاته يومئذ فقد كان في الدنيا يسأل عن المفر إذا وقع في شدة أو هددته مهلكة وذلك كإنكارهم الشرك يومئذ وحلفهم كذبا قال تعالى: {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: 23] ، وقال: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ} [المجادلة: 18].
قوله تعالى: {كلا لا وزر} ردع عن طلبهم المفر، والوزر الملجأ من جبل أو حصن أو غيرهما، وهومن كلامه تعالى لا من تمام كلام الإنسان.
قوله تعالى: {إلى ربك يومئذ المستقر} الخطاب للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وتقديم {إلى ربك} وهو متعلق بقوله: {المستقر} يفيد الحصر فلا مستقر إلى غيره فلا وزر ولا ملجأ يلتجأ إليه فيمنع عنه.
وذلك أن الإنسان سائر إليه تعالى كما قال: { يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ} [الانشقاق: 6] وقال: {إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى} [العلق: 8] وقال: {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى} [النجم: 42] ، فهو ملاقي ربه راجع ومنته إليه لا حاجب يحجبه عنه ولا مانع يمنعه منه وأما الحجاب الذي يشير إليه قوله: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ } [المطففين: 14، 15] فسياق الآيتين يعطي أن المراد به حجاب الحرمان من الكرامة لا حجاب الجهل أو الغيبة.
ويمكن أن يكون المراد بكون مستقره إليه رجوع أمر ما يستقر فيه من سعادة أو شقاوة وجنة أو نار إلى مشيته تعالى فمن شاء جعله في الجنة وهم المتقون ومن شاء جعله في النار وهم المجرمون قال تعالى: {يعذب من يشاء ويغفر لمن يشاء{: المائدة: 40.
ويمكن أن يراد به أن استقرارهم يومئذ إلى حكمه تعالى فهو النافذ فيهم لا غير قال تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص: 88].
قوله تعالى: {ينبؤا الإنسان يومئذ بما قدم وأخر} المراد بما قدم وأخر ما عمله من حسنة أو سيئة في أول عمره وآخره أو ما قدمه على موته من حسنة أو سيئة وما أخر من سنة حسنة سنها أوسنة سيئة فيثاب بالحسنات ويعاقب على السيئات.
وقيل: المراد بما قدم ما عمله من حسنة أو سيئة فيثاب على الأول ويعاقب على الثاني، وبما أخر ما تركه من حسنة أو سيئة فيعاقب على الأول ويثاب على الثاني، وقيل، المراد ما قدم من المعاصي وما أخر من الطاعات، وقيل، ما قدم من طاعة الله وأخر من حقه فضيعه، وقيل: ما قدم من ماله لنفسه وما ترك لورثته وهي وجوه ضعيفة بعيدة عن الفهم.
قوله تعالى: {بل الإنسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره} إضراب عن قوله، {ينبؤا الإنسان} إلخ، والبصيرة رؤية القلب والإدراك الباطني وإطلاقها على الإنسان من باب زيد عدل أو التقدير الإنسان ذو بصيرة على نفسه.
وقيل: المراد بالبصيرة الحجة كما في قوله تعالى، {مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ} [الإسراء: 102] والإنسان نفسه حجة على نفسه يومئذ حيث يسأل عن سمعه وبصره وفؤاده ويشهد عليه سمعه وبصره وجلده ويتكلم يداه ورجلاه، قال تعالى: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء: 36] ، وقال { شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ} [فصلت: 20].
وقال، {وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ} [يس: 65].
وقوله: {ولو ألقى معاذيره} المعاذير جمع معذرة وهي ذكر موانع تقطع عن الفعل المطلوب، والمعنى هو ذو بصيرة على نفسه ولو جادل عن نفسه واعتذر بالمعاذير لصرف العذاب عنها.
وقيل: المعاذير جمع معذار وهو الستر، والمعنى وإن أرخى الستور ليخفي ما عمل فإن نفسه شاهدة عليه ومآل الوجهين واحد.
وقوله تعالى : {لا تحَرِّك بِهِ لِسانَك لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وقُرْءَانَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَهُ فَاتّبِعْ قُرْءَانَهُ (18) ثمّ إِنّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ}.
تتمة صفة يوم القيامة باعتبار حال الناس فيه وانقسامهم إلى طائفة ناضرة الوجوه مبتهجين وأخرى بأسرة الوجوه عابسين آيسين من النجاة، والإشارة إلى أن هذا المساق تبتدىء من حين نزول الموت ثم الإشارة إلى أن الإنسان لا يترك سدى فالذي خلقه أولا قادر على أن يحييه ثانيا وبه تختتم السورة.
قوله تعالى: {لا تحرك به لسانك لتعجل به - إلى قوله - ثم إن علينا بيانه} الذي يعطيه سياق الآيات الأربع بما يحفها من الآيات المتقدمة والمتأخرة الواصفة ليوم القيامة أنها معترضة متضمن أدبا إلهيا كلف النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يتأدب به حينما يتلقى ما يوحى إليه من القرآن الكريم فلا يبادر إلى قراءة ما لم يقرأ بعد ولا يحرك به لسانه وينصت حتى يتم الوحي.
فالآيات الأربع في معنى قوله تعالى: {وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ} [طه: 114].
فالكلام في هذه الآيات يجري مجرى قول المتكلم منا أثناء حديثه لمخاطبه إذا بادر إلى تتميم بعض كلام المتكلم باللفظة واللفظتين قبل أن يلفظ بها المتكلم وذلك يشغله عن التجرد للإنصات فيقطع المتكلم حديثه ويعترض ويقول لا تعجل بكلامي وأنصت لتفقه ما أقول لك ثم يمضي في حديثه.
فقوله: {لا تحرك به لسانك لتعجل به} الخطاب فيه للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، والضميران للقرآن الذي يوحى إليه أو للوحي، والمعنى لا تحرك بالوحي لسانك لتأخذه عاجلا فتسبقنا إلى قراءة ما لم نقرأ بعد فهو كما مر في معنى قوله: {وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ } [طه: 114] .
وقوله: {إن علينا جمعه وقرآنه} القرآن هاهنا مصدر كالفرقان والرجحان، والضميران للوحي، والمعنى لا تعجل به إذ علينا أن نجمع ما نوحيه إليك بضم بعض أجزائه إلى بعض وقراءته عليك فلا يفوتنا شيء منه حتى يحتاج إلى أن تسبقنا إلى قراءة ما لم نوحه بعد.
وقيل: المعنى إن علينا أن نجمعه في صدرك بحيث لا يذهب عليك شيء من معانيه وأن نثبت قراءته في لسانك بحيث تقرأه متى شئت ولا يخلو من بعد.
وقوله: {فإذا قرأناه فاتبع قرآنه} أي فإذا أتممنا قراءته عليك وحيا فاتبع قراءتنا له واقرأ بعد تمامها.
وقيل: المراد باتباع قرآنه اتباعه ذهنا بالإنصات والتوجه التام إليه وهو معنى لا بأس به.
وقيل: المراد فاتبع في الأوامر والنواهي قرآنه، وقيل: المراد اتباع قراءته بالتكرار حتى يرسخ في الذهن وهما معنيان بعيدان.
وقوله: {ثم إن علينا بيانه} أي علينا إيضاحه عليك بعد ما كان علينا جمعه وقرآنه فثم للتأخير الرتبي لأن البيان مترتب على الجمع والقراءة رتبة.
وقيل، المعنى ثم إن علينا بيانه للناس بلسانك نحفظه في ذهنك عن التغير والزوال حتى تقرأه على الناس.
وقال بعضهم في معنى هذه الآيات إن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يحرك لسانه عند الوحي بما ألقي إليه من القرآن مخافة أن ينساه فنهي عن ذلك بالآيات وأمر بالإنصات حتى يتم الوحي فضمير {لا تحرك به} للقرآن أو الوحي باعتبار ما قرأ عليه منه لا باعتبار ما لم يقرأ بعد.
وفيه أنه لا يلائم سياق الآيات، تلك الملاءمة نظرا إلى ما فيها من النهي عن العجل والأمر باتباع قرآنه تعالى بعد ما قرأ، وكذا قوله، {إن علينا جمعه وقرآنه} فذلك كله أظهر فيما تقدم منها في هذا المعنى.
وعن بعضهم في معنى هذه الآيات، الذي اختاره أنه لم يرد القرآن، وإنما أراد قراءة العباد لكتبهم يوم القيامة يدل على ذلك ما قبله وما بعده، وليس فيه شيء يدل على أنه القرآن ولا شيء من أحكام الدنيا.
وفي ذلك تقريع وتوبيخ له حين لا تنفعه العجلة يقول: لا تحرك لسانك بما تقرأه من صحيفتك التي فيها أعمالك يعني اقرأ كتابك ولا تعجل فإن هذا الذي هو على نفسه بصيرة إذا رأى سيئاته ضجر واستعجل فيقال له توبيخا: لا تعجل وتثبت لتعلم الحجة عليك فإنا نجمعها لك فإذا جمعناه فاتبع ما جمع عليك بالانقياد لحكمه والاستسلام للتبعة فيه فإنه لا يمكنك إنكاره ثم إن علينا بيانه لو أنكرت.
انتهى.
ويدفعه أن المعترضة لا تحتاج في تمام معناها إلى دلالة مما قبلها وما بعدها عليه على أن مشاكلة قوله: {ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه} في سياقه لهذه الآيات تؤيد مشاكلتها له في المعنى.
وعن بعضهم أن الآيات الأربع متصلة بما تقدم من حديث يوم القيامة، وخطاب {لا تحرك} للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وضمير {به} ليوم القيامة، والمعنى لا تتفوه بالسؤال عن وقت القيامة أصلا ولو كنت غير مكذب ولا مستهزىء {لتعجل به} أي بالعلم به {إن علينا جمعه وقرآنه} أي من الواجب في الحكمة أن نجمع من نجمعه فيه ونوحي شرح وصفه إليك في القرآن {فإذا قرأناه فاتبع قرآنه} أي إذا قرأنا ما يتعلق به فاتبع ذلك بالعمل بما يقتضيه من الاستعداد له {ثم إن علينا بيانه} أي إظهار ذلك بالنفخ في الصور انتهى ملخصا وهوكما ترى.
وقد تقدم في تفسير قوله: {ولا تعجل بالقرآن} إن هذا النهي عن العجل بالقرآن يؤيد ما ورد في الروايات أن للقرآن نزولا على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) دفعة غير نزوله تدريجا.
______________________
1- الميزان ، الطباطبائي ، ج20 ، ص90-97.
قسماً بيوم القيامة والنفس اللوامة:
تبدأ هذه السورة بقَسَمَين غزيرين بالمعاني، فيقول تعالى:{لا أُقسم بيوم القيامة ولا أُقسم بالنفس اللوامة}
وهناك أقوال للمفسّرين في ذلك، فقيل أنّ (لا) زائدة للتأكيد وأنّها لا تنفي القسم، بل تؤكّده، وقيل وربّما نافية، والغاية في ذلك هو أن يقول لا أقسم بذلك لأهمية هذا الموضوع (كالقول لا أقسم بحياتك لأنّها أعلى من القسم).
وأخذ أغلب المفسّرين بالتّفسير الأوّل، ولكن البعض الآخر بالتّفسير الثّاني حيث قالوا إنّ (لا) الزائدة لا تأتي في أوّل الكلام بل في وسطه، والأوّل هو الأصح ظاهراً. لأنّ القرآن الكريم قد أقسم بأُمور هي أهم من القيامة، كالقسم بذات اللّه المقدّسة، لذا ليس هناك دليل على عدم القسم هنا بيوم القيامة، وهناك مثال لإتّخاذ لا الزائدة في أوّل الكلام، وهوما ورد في أشعار «امريء القيس» حيث استعمل «لا» الزائدة في بداية قصائده الشعرية
لا وأبيك ابنة العامر لا يدعي القوم أني أفر ولكن ما نعتقده أنّ البحث ليس مهمّاً حول ما إذا كانت (لا) نافية أو زائدة، وذلك لأنّ نتيجة القولين هي واحدة وهي بيان أهمية الموضوع الذي أقسم لأجله.
المهم أنّ نرى ما هي العلاقة والرّابطة الموجودة بين القسمين.
الحقيقة أنّ أحد دلائل وجود «المعاد» هو وجود «محكمة الوجدان» الموجودة أعماق الإنسان، والتي تنشط وتسر عند الإقدام لإنجاز عمل صالح، وبهذه الطريقة تثبت صاحبها وتكافئه، وعند ارتكاب الأعمال السيئة والرذيلة فإنّها سوف تقوم بتقريع صاحبها وتأنّبه وتعذبه إلى حدّ أنّه قد يقدم على الإنتحار للتخلص ممّا يمرّ فيه من عذاب الضمير.
وفي الحقيقة أنّ الضمير هو الذي أصدر حكم الإعدام، وتمّ تنفيذ ذلك بنفسه، إنّ دوي النفس اللوامة في وجود الإنسان واسع جدّاً، وهي قابلة للتمعن والمطالعة في كلّ الأحوال وفي بحث الملاحظات نشير إلى ذلك بشكل واسع.
عندما يكون (العالم الصغير) أي وجود الإنسان محكمة في قلبه، فكيف يمكن للعالم الكبير أن لا يملك محكمة عدل عظمى؟
فمن هنا نفهم وجود البعث والقيامة بواسطة وجود الضمير الأخلاقي، ومن هنا تتّضح الرابطة الظريفة بين القَسَمَين، وبعبارة أُخرى فإنّ القسم الثّاني هو دليل على القسم الأوّل.
وأمّا ما يراد بـ «النفس اللوامة»(2) فهناك أقوال كثيرة ومختلفة قد ذكرت للمفسّرين، وأحد تلك التّفاسير المشهورة هوما ذكرناه آنفاً، وهو أنّ أنّها «الوجدان الا خلاقي» الذي يلوم الإنسان في الدنيا على المعصية ويحفّزه على إصلاح ما بدا منه.
والتّفسير الآخر هو أنّ المراد بالنفس الإنسانية بصورة عامة التي تلوم صاحبها يوم القيامة، فإذا كان مؤمناً فإنّها تلومه على عدم الإكثار من الصالحات وعلى قلّة الطاعة، وإن كان الكافراً فإنّها تلوم على كفره وشركه وفجوره.
وأمّا الآخر: فالمراد نفس الكافر التي تلومه يوم القيامة على ما قدمت من كفر ومعصية.
والوجه الأوّل يناسب الآية السابقة والتي تليها، أجل إنّ لمحكمة الضمير مقاماً ومنزلة عظيمة ولهذا يقسم اللّه بها، ويستعظم قدرها، وهي بحقّ عظيمة القدر، لأنّها أحد العوامل المهمّة لخلاص لإنسان بشرط أن تكون واعية ويقظة وغير عاجزة بسبب الذنوب والآثام.
وممّا تجدر الإشارة إليه هو أنّ جواب القسم محذوف، وهذا ما تدل عليه الآيات التالية والتقدير «لتبعثن يوم القيامة» أو «أنّكم تبعثون» فيكون المعنى: لا اُقسم بيوم القيامة ولا أُقسم بالنفس اللوامة أنّكم تبعثون يوم القيامة وتجزون ما كنتم تفعلون.
ومن الظريف أنّ القسم جاء بيوم القيامة على وجود يوم القيامة، وذلك لأنّه إلى درجة من الوضوح والبداهة أنّه يمكن القسم به حتى في مقابل المنكرين.
ثمّ يستفهم تعالى في الآية الأُخرى للتوبيخ فيضيف: {أيحسب الإنسان أن لن نجمع عظامه بلى قادرين أن نسوّي بنانه}.
ورد في رواية أنّ أحد المشركين وهو «عدي بن أبي ربيعة» كان جاراً للنّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) فسأل النّبي عن أمر القيامة فأخبره به، فقال عدي: لو عاينت ذلك اليوم لم اُصدقك، أو يَجمع اللّه هذه العظام؟ فنزلت هذه الآيات وأجابتهُ على ذلك، ولذا قال فيه النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) «اللّهم اكفني شر جاري سوء»(3).
وهناك نظائر لهذا المعنى في الآيات القرآنية الاُخرى، منها الآية (78) من سورة (يس) حيث إنّ منكراً من منكري المعاد كانت بيده عظاماً، فقال للنّبي(صلى الله عليه وآله وسلم): {مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} [يس: 78] ؟
والتعبير بكلمة «يحسب» التي هي من الحسبان وتعني الظن، إشارة إلى أنّ المنكرين لا يؤمنون بما يقولون، بل يعتمدون على ما يظنون من الوهم.
ولكن نرى أنّه قد اعتمد على العظام خاصّة، وهذا لكون دوام بقاء العظام أكثر من غيرها من أجزاء الجسد، ولذا تكون اعادتها تكون ترباً متاثراً بعيداً في نظر عديمي الإيمان.
ثمّ إنّ العظام من الأركان المهمّة في بدن الإنسان، لأنّها تشكل أعمدة البدن، وكلّ الحركات والتغيرات المهمّة الحاصلة في البدن وكذلك فعاليات المختلفة تتمّ بواسطة العظام، وكثرة وتنوع أشكال ومقاييس العظام في جسم الإنسان من عجائب الخلقة الإلهية، تتّضح أهميتها عندما تتعطل فقرة واحدة من فقرات الظهر عن العمل وتسبب في شلّ حركة البدن.
«البنان»: أطراف الأصابع، وقيل الأصابع، وفي المعنيين إشارة إلى أنّ اللّه تعالى ليس القادر على جمع العظام وإرجاعها إلى صورتها الأُولى فحسب، بل إنّه تعالى يسوي العظام الصغيرة والظريفة والدقيقة للأصابع على ما كانت عليها في الخلق الأوّل، والأعجب من ذلك يمكنهُ تعالى اعادة بصمات الأصابع كما كانت عليه أيضاً.
ويمكن أن يكون ذلك إشارة لطيفة إلى الخطوط الموجودة في أطراف الأصابع والتي نادراً ما تتساوى هذه الخطوط عند شخصين.
وبتعبير آخر إنّ هذ الخطوط الموجودة في أطراف الأصابع هي المعرّفة لشخص الإنسان، ولذا صار بصم الأصابع في عصرنا هذا أمراً علمياً، وبهذه الطريقة يمكن كشف الكثير من السراق والمجرمين، فيكفي في كشف السارق وضعه أصابعه على مقبض الباب، أو زجاجة الغرفة، أو قفل الصندوق وبقاء أثر خطوط أنامله عليها، ثمّ يؤخذ من ذلك الطبع نموذج وتتمّ مقابلته مع آثار أصابع اللصوص السابقين التي أخذت منهم سلفاً، وهكذا يعرف المجرم والسارق.
وفي الآية الأُخرى إشارة إلى أحد العلل الحقيقة لإنكار المعاد فيقول: (بل يريد الإنسان ليفجر أمامه)، إنّهم يريدون أن يكذبوا بالبعث وينكروا المعاد، ليتسنى لهم الظلم وارتكاب المحارم والتنصل عن المسؤولية أمام الخلق، وذلك لأنّ الإيمان بالمعاد والقيامة ومحكمة العدل الإلهية بمثابة سدّ عظيم في مقابل المعاصي والذنوب والنفس الأمارة تريد كسر هذا السدّ وهذا الطوق ليفجر الإنسان مدى عمره ويعمل ما يشاء، وهذا ليس منحصراً بالأزمنة السابقة، بل إنّ إحدى علل الميول إلى المادية وإنكار المبدأ والمعاد في هذا العصر هو كسب الحرية للفجور والهروب من المسؤولية، وتحطيم كل القوانين الإلهية، وإلاّ فإنّ دلائل المبدأ والمعاد واضحة، وقد ورد في تفسير علي بن ابراهيم في توضيح معنى هذه الآية حيث قال: يقدّم الذنب ويؤخر التوبة ويقول سوف أتوب.
وقيل المراد من «الفجور» و«التكذيب»، فيكون المعنى، يريد أن يكذب بالبعث الذي سوف يقع أمامه، ولكن التفسير الأوّل أنسب.
ثمّ يضيف بعد ذلك : {يسأل أيّان يوم القيامةْ.
أجل، إنّه يستفهم مستنكراً عن وقوع يوم القيامة ويهرب ممّا كُلّف به لكي يفسح لنفسه طريق الفجور أمامه، والجدير بالذكر أنّ سؤالهم هذا عن وقت حدوث القيامة لا يعني أنّهم يؤمنون بأصل القيامة، بل هو مقدّمة لإنكار أصل القيامة كالذي يقول: {فلانٌ سوف يقدم من السفر} وإذا ما تأخر فترة من الزمن يعترض من ينكر قدوم ذلك المسافر فيقول: (متى سوف يأتي المسافر)؟
وقوله تعالى : {فَإِذَا بَرَقَ الْبَصَرُ(7) وَخَسَفَ الْقَمَرُ(8) وَجُمِعَ الْشَّمْسُ وَالْقَمَرُ(9) يَقُولُ الإِنسَنُ يَوْمَئِذ أَيْنَ الْمَفَرُّ(10) كَلاَّ لاَ وَزَرَ(11) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذ الْمُسْتَقَرُّ(12) يُنَبَّؤُا الإِنسَنُ يَوْمَئِذ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ(13) بَلِ الإِنسَنُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ(14) وَلَو أَلْقَىْ مَعَاذِيرَهُ}.
الإنسان نعمَ الحكمُ لنفسه:
أنهت الآيات السابقة بسؤال كان قد وجهه المنكرون للبعث يوم القيامة، وهو يوم القيامة متى يأتي ذلك اليوم؟ وهذه الآيات هي التي تجيب عن هذه السؤال.
فتشير أوّلاً إلى الحوادث السابقة للبعث، أي إلى التحول العظيم وإنعدام القوانين الحاصل في الأنظمة الكونية فيقول تعالى: {فاذا برق(4) البصر} بمعنى اضطراب العين ودورانها من شدّة الخوف والرعب (وخسف القمر وجمع الشمس والقمر).
ذكرت معان متعددة للمفسّرين في ما يراد بالجمع بين الشمس والقمر، فقيل هو اجتماعهما، أو طلوعهما كليهما من المشرق وغروبهما من المغرب، وقيل اجتماعهما بعد زوال نوريهما(5) ويحتمل أن ينجذب القمر تدريجياً بواسطة الشمس وباتجاهها ثم اجتماعهما معاً بعد ذلك، وينتهي بالتالي ضياؤهما.
على كلّ حال فقد أُشير هنا إلى ظاهرتين من أهم الظواهر الإِنقلابية لأواخر الدنيا، أي إلى زوال نور القمر واجتماع الشمس والقمر مع البعض، وهوما أُشير إليه في الآيات القرآنية الأُخرى أيضاً، فيقول تعالى في سورة التكوير: {إذا الشمس كورت} أي إذا أظلمت الشمس، ونعلم أن ضوء القمر من الشمس، وعندما يزول نور الشمس يزول بذلك نور القمر، وبالتالي تدخل الكرة الأرضية في ظلام دامس وعتمة مرعبة.
وبهذه الطريقة والتحول العظيم ينتهي العالم، ثم يبدأ بعث البشرية بتحول عظيم آخر (بنفخة الصور الثانية والتي تعتبر نفخة الحياة) فيقول الإِنسان في ذلك اليوم: {يقول الإِنسان يومئذ أين المفر}(6) .
أجل، الكفرة والمذنبون الذين كذبوا بيوم الدين يبحثون عن ملجأ في ذلك اليوم لشدّة خجلهم، ويطلبون سبل الفرار لثقل خطاياهم وخوفهم من العذاب، كما كانوا يبحثون عن طريق الفرار في الدنيا عندما كانوا يواجهون حادثةً خطيرة، فيقيسون ذلك اليوم بهذا! ولكن سرعان ما يقال لهم: {كلاّ لا وزر}(7).
فلا ملجأ إلاّ إلى الله تعالى: {الى ربّك يومئذ المستقر} وذكرت لهذه الآية تفاسير أُخرى غير التفسير المذكور أعلاه منها: إن الحكم النهائي لذلك اليوم هو بيد الله تعالى.
أو إن المقر النهائي للإنسان في الجنّة أو النّار هو بيد الله.
أو أن الإِستقرار للمحاكمة والحساب يومئذ يكون عنده، ولكن بالتوجه إلى الآية التي تليها نرى أن ما قلناه هو الأنسب والأوجه.
ويعتقد البعض أن هده الآية هي من الآيات التي تبين خط مسير التكامل الأبدي للإنسان، وهي من جملة الآيات التي تقول: { وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ } [التغابن: 3] و {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ} [الانشقاق: 6] و {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى}(8) [النجم: 42].
وبعبارة أوضح أنّ الناس في حركة دائبة في هذا الطريق الطويل من حدود العدم إلى إقليم الوجود، ولا يزالون في حركة في هذا الإِقليم نحو الوجود المطلق، والوجود الأزلي، وأن هذه الحركة والسلوك التكاملي في استمرار الى الأبد ما داموا لا ينحرفون عن هذا الصراط المستقيم حيث يدخلون في كل يوم مرحلة جديدة من التقرب إلى الله تعالى، وإذا انحرفوا عن مسيرهم فإنهم سوف يسقطون وينتهون
عندئذ يضيف في إدامة هذا الحديث: {ينبؤ الإِنسان يومئذ بما قدّم وأخر} أمّا عن معنى هاتين العبارتين فقد ذكرت لهما تفاسير عديدة:
أوّلاً: المراد هوما قدم من الأعمال في حياته، أو الآثار الباقية منه بعد موته، ممّا ترك بين الناس من السنن الصالحة والسيئة والتي يعملون ويسيرون بها ووصول حسناتها وسيئاتها إليه. أو الكتب والمؤلفات والأبنية القائمة على الخير والشرّ، والأولاد الصالحين والطالحين التي تصل آثارهم إليه.
والثّاني: يمكن أن يراد به الأعمال الأُولى التي أتى بها. والأعمال الأخيرة التي أتى بها في عمره، وبعبارة أُخرى أنّه يُنبّأ بجميع أعماله.
والثّالث: أنّ المراد هوما قدم من ماله لنفسه وما ترك لورثته، وقيل: ما قدم من الذنوب، وما أخر من طاعة الله أو بالعكس.
والوجه الأوّل هو الأنسب، لما ورد عن الإِمام الباقر(عليه السلام) في تفسير «(ينبّؤ) بما قدم من خير وشرّ، .ما أخر من سنّة ليس بها من بعده فإن كان شرّاً كان عليه مثل وزرهم، ولا ينقص من وزرهم شيئاً، وإن كان خيراً كان له مثل أجورهم، ولا ينقص من أجورهم شيئاً»(9).
ثم يضيف في الآية الأُخرى ويقول: إنّ الله وملائكته يطلعون العباد على أعمالهم، وإن كان لا يحتاج إلى ذلك، لأنّ نفسه وأعضاءه هم الشهود عليه في ذلك اليوم، فيقول تعالى: {بل الإنسان على نفسه بصيرة، ولو ألقى معاذيره}.
سياق هذه الآيات في الحقيقة هو نفس سياق الآيات التي تشير إلى شهادة الأعضاء على أعمال الإنسان، كالآية (20) من سورة فصلت حيث يقول الله تعالى: {شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [فصلت: 20].
والآية (5) من سورة يس: {وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } [يس: 65].
وعلى هذا فإنَّ أفضل شاهد على الإنسان في تلك المحكمة الإلهية للقيامة هو نفسهُ، لأنهُ أعرف بنفسه من غيره، وإن كان الله تعالى قد أعطاه شواهد أُخرى كثيرة لإتمام الحجّة عليه.
«بصيرة»: لها معنى مصدري بمعنى (الرؤيا والإطلاع)، ومعنى وصفي (الشخص المطّلع) ولذا فسّره البعض بمعنى(الحجة والدليل والبرهان) والذي هو واهب للمعرفة(10).
«معاذير»: جمع (معذرة) وتعني في الأصل البحث عمّا تمحى به آثار الذنوب، وقد تكون أحياناً أعذاراً واقعية، وأُخرى صورية وظاهرية.
وقيل: المعاذير جمع معذار، وهو الستر، والمعنى وإن أرخى الستور ليخفي ما عمل فإن نفسه شاهدة عليه، والأوّل أوجه.
على كل حال فإن الحاكم على الحساب والجزاء في ذلك اليوم العظيم هو المطّلع على الأسرار الداخلية والخارجية، وكذلك نفس الإنسان المحاسب لنفسه، كما جاء في الآية (14) من سورة الإسراء: {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} [الإسراء: 14].
إنّ الآيات مورد بحثنا وإن كانت تتحدث كلّها عن المعاد والقيامة، فإنَّ مفهومها واسع، ولذا فإنَّها تشمل عالم الدنيا، وتعلم الناس بأحوال أنفسهم وإنّه كان فيهم من يكتم ويغطي وجههُ الحقيقي بالكذب والإحتيال والتظاهر والمراءات.
لذا ورد في حديث عن الإمام الصادق(عليه السلام) حيث قال: «ما يصنع أحدكم أن يظهر حسناً ويسرّ سيئاً أليس إذا رجع إلى نفسه يعلم أنّه ليس كذلك، والله سبحانه يقول: {بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ} [القيامة: 14] إنّ السريرة إذا صلحت قويت العلانية» (11).
وورد أيضاً في حديث صيام المريض عن الصادق (عليه السلام) عندما سأله أحد أصحابه: ما حد المرض الذي يفطر صاحبه؟ فأجاب الإمام: {بل الإِنسان على نفسه بصيرة، هو أعلم بما يطيق»(12)
وقوله تعالى : {لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ(16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْءَانَهُ (17)فَإِذَا قَرَأْنَهُ فَاتَّبِعْ قُرْءَانَهُ(18) ثُمَّ إِنَّ عَلَينَا بَيَانَهُ}
إن علينا جمعه وقرآنه:
هذه الآيات بمثابة الجملة الإِعتراضية التي تتداخل أحياناً في كلام المتحدث. كمن يكون مشغولاً بالخطابة في مجلس ما والناس مجتمعون في آخر المجلس، والحال أنَّ صدر المجلس خال، فيقطع حديثه مؤقتاً، ويدعو الحاضرين للتقدم لينفتح الطريق للقادمين، ثم يستأنف حديثه مجدداً، أو كالأستاذ الذي يقطع حديثه لينبه طالباً، وبعد ذلك يكمل حديثه.
فعندما يسمع شخص ما حديث الأستاذ عن طريق شريط كاسيت يرى إشكالاً في استمراريّة الحديث، ويتعجب لما يرى من عدم الترابط بين الجمل، ولكن مع التمعن في شرائط المجلس الخاصّة يتّضح فلسفة هذه الجمل المعترضة.
بعد هذه المقدمة البسيطة نتّجه إلى تفسير الآيات التي يراد بحثها، حيث يترك الله تعالى الحديث عن القيامة وأحوال المؤمنين والكفرة مؤقتاً، ليعطي تذكرة مختصرة للنّبي(صلى الله عليه وآله) حول القرآن فيقول: (لا تحرك به لسانك لتعجل به) لهذه الآية أقوال متعددة للمفسّرين، وعلى المجموع ذكرت لها ثلاثة تفاسير:
الأوّل: هو التفسير المشهور الذي نقل عن ابن عباس في كتب الحديث، وهو أنَّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) كان إذا نزل عليه الوحي ليقرأ عليه القرآن، تعجَّل بقراءته ليحفظه وذلك لحبه الشديد للقرآن، فنهاه الله عن ذلك وقال: {إنّ علينا بيانه}.
الثّاني: نعلم أن للقرآن نزولين هما: نزولٌ دفعي، أي نزوله بتمامه على قلب النبي(صلى الله عليه وآله) في ليلة القدر، ونزولٌ تدريجي والذي كان أمده 23 عامّاً، وكان النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) يعجل في إبلاغ الرسالة أحياناً قبل النزول التدريجي للآيات أو قراءة ما يرافق تلك الآيات، فنهاهُ الله عن ذلك. وأمره أن يبلّغ ويتلوما ينزل عليه في حينه، وعلى هذا يكون مضمون هذه الآية كالآية (114) من سورة طه: {وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ} [طه: 114].
وليس في هذين التفسيرين اختلاف واسع، ويكون المعنى: لا ينبغي للنّبي أن يعجل في استلام الوحي.
الثّالث: ولم يذهب اليه إلاّ القليل، وهو أنَّ المخاطبين في هذه الآيات هم المذنبون، وذلك في يوم القيامة حيث يأمرون بمحاسبة أنفسهم وذكر أعمالهم، ويقال لهم: لا تعجلوا في ذلك، ومن الطبيعي أنّهم سوف يتضجرون عند ذكرهم لسيئاتهم ويمرون عليها باستعجال، فيأمرون بالتأني في قراءتها واتباع الملائكة عند ذكر الملائكة لأعمالهم، وطبقاً لهذا التفسير لا تكون هذه الآية كجملة معترضة، بل مرتبطة مع الآيات السابقة واللاحقة لها. لأن جميعها تتحدث عن أحوال القيامة والمعاد، وأمّا التفسير الأوّل والثّاني فيناسبان شكل الجملة المعترضة.
ولكن التفسير الثّالث بعيدٌ وخاصّة مع الالتفات الى ذكر اسم القرآن في الآيات اللاحقة، ويشير سياق الآيات إلى أن المراد هو أحد التفسيرين السابقين.
ولا إشكال في الجمع بينهما بالرغم من أنَّ سياق الآيات اللاحقة يؤيّد التفسير الأول أي المشهور (فتدبّر).
ثمّ يضيف: {إنّ علينا جمعهُ وقرآنه}(13) وبالتالي لا تقلق على جمع القرآن، نحن نجمعه ونتلوه عليك بواسطة الوحي.
ثم يقول تعالى: (فإذا قرأناه فاتّبع قرآنه)، ثمَّ يضيف: {ثم إنّ علينا بيانه}.
فيكون جمع القرآن وقراءته لك وتبيينه وتفصيل معانيه بعهدتنا، فلا تقلق على شيء، فالذي أنزل الوحي هو الذي يحفظه، وأمّا ما يُعهد إليك هو اتباعك له وإبلاغك الرسالة للناس، وعن بعضهم أنَّ المراد من الجمع ليس الجمع في لسان الوحي، بل جمعه في صدر النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وقراءته على لسانه أي لا تعجل إنَّ علينا أن نجمعه في صدرك ونثبت قراءتهُ في لسانك بحيث تقرأه متى شئت.
على كل حال فإن هذه العبارات تؤيد التفسير الأوّل، وهو أن الوحي النازل بواسطة جبرئيل(عليه السلام) عندما كان يهبط على النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ليقرأ عليه القرآن كان(صلى الله عليه وآله وسلم) يكرر الآيات بسرعة لئلا ينساها. وهنا جاء الأمر من الله أن أهدأ واطمئن فإنّه تعالى هو الذي يجمع الآيات ويبيّنها. وهذه الآيات تبيّن ضمنياً أصالة القرآن، وحفظه من أي تغّير وانحراف، لأنّ الله تعالى تعهد بجمعه وقراءته وتبيينه.
وورد في أن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) كان بعد نزول هذه الآيات إذا أتاه جبرئيل(عليه السلام)أطرق، فإذا ذهب قرأ كما وعده الله(14).
_________________________
1- الامثل ، ناصر مكارم الشيرازي ، ج14 ، ص580-593.
2 ـ اللوامة: صيغة مبالغة وتعني كثيرة اللوم.
3 ـ أورد هذه الرواية المراغي، وكذلك ذكرت في روح المعاني، وتفسير الصافي بتفاوت يسير.
4 ـ «برق»: من مادة برق ـ على وزن فرق ـ وهو الضوء الظاهر من بين السحب ويطلق على كل ما هو وضاء، و«برق البصر» في هذه الآية إشارة إلى الحركة الشديدة، والإضطراب الشديد للبصر من شدة الهول والخوف، وقيل هو سكون حدقة العين والنظر بدهشة إلى نقطة وغالباً ما تكون علامة الرعب، وهناك شواهد كثيرة على هذا المعنى في أشعار العرب تشير إلى إبراق البصر يُراد به التحير، والتفسير الأول أوجه.
5 ـ يقول الطبرسي في «مجمع البيان» الجمع ثلاثة أنواع: جمعٌ في المكان، وجمعٌ في الزمان، وجمع الأوصاف في الشيء الواحد (كاجتماع العلم والعدالة في الإنسان) ولكن الجمع الذي يراد به اشتراك شيئين في الصفة كزوال نوريّ القمر والشمس معاً هو تعبير مجازي (إذ لابدّ من الإستفادة من القرينة) مجمع البيان، ج 10، ص 395.
6 ـ «المفر»: اسم مكان من الفرار، واحتملهُ البعض الآخر مصدراً ولكنه بعيد.
7 ـ «وزر»: على وزن قمر، وتعني في الأصل الملاجىء الجبلية وأمثالها، ومنها يطلق على الوزير لما يلتجأبه في الأُمور، وعلى كل حال فإنّها تعني في هذه الآية كل نوع من الملجأ والمخبأ.
8 ـ هناك نظرات أُخرى في تفسير هذه الآيات وضحنا ذلك في تذييلها.
9 ـ تفسير البرهان، ج 4، ص 406 ومثله في تفسير القرطبي، ج 10، ص 6891.
10 ـ «التاء»: مصدرٌ على الإحتمال الأوّل، وتاء التأنيث على الإحتمال الثّاني، لأنّه يراد بالإنسان هنا الجوارح أو النفس، فالتأنيث مجازي، وقيل إن التاء تاء المبالغة للأخبار بشدّة معرفة الإنسان بنفسه.
11 ـ مجمع البيان، ج 10، ص 396 (وأورد الشيخ الصدوق في من لا يحضره الفقيه في كتاب الصيام، ج 2، ص 133 باب حد المرض الذي يفطر صاحبه الحديث 1941).
12 ـ المصدر السّابق.
13 ـ يجب الانتباه إلى أن «القرآن» في هذه الآية والآية التي تليها هو مصدرٌ ويراد به القراءة.
14 ـ مجمع البيان، ج 10، ص 397.
|
|
"عادة ليلية" قد تكون المفتاح للوقاية من الخرف
|
|
|
|
|
ممتص الصدمات: طريقة عمله وأهميته وأبرز علامات تلفه
|
|
|
|
|
المجمع العلمي للقرآن الكريم يقيم جلسة حوارية لطلبة جامعة الكوفة
|
|
|