أقرأ أيضاً
التاريخ: 19-10-2017
3592
التاريخ: 17-10-2017
9735
التاريخ: 19-10-2017
10961
التاريخ: 28-2-2017
6016
|
قال تعالى : {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (97) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (98) مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ} [المائدة : 97 - 99].
قال تعالى : {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } [المائدة : 97] .
لما ذكر سبحانه حرمة الحرم ، عقبه بذكر البيت الحرام ، والشهر الحرام ، فقال : {جعل الله الكعبة البيت الحرام} أي : جعل الله حج الكعبة ، أو نصب الكعبة {قياما للناس} أي : لمعائش الناس ومكاسبهم ، لأنه مصدر قاموا ، كأن المعنى قاموا بنصبه ذلك لهم ، فاستتبت معائشهم بذلك ، واستقامت أحوالهم به ، لما يحصل لهم في زيارتها من التجارة ، وأنواع البركة ، ولهذا قال سعيد بن جبير : " من أتى هذا البيت يريد شيئا للدنيا والآخرة ، أصابه " وهو المروي عن أبي عبد الله عليه السلام .
وقال ابن عباس : " معناه جعل الله الكعبة أمنا للناس بها يقومون أي يأمنون ولولاها لفنوا وهلكوا ، وما قاموا ، وكان أهل الجاهلية يأمنون به ، فلو لقي الرجل قاتل أبيه وابنه في الحرم ما قتله " . وقيل إن معنى قوله {قياما للناس} أنه لو تركوه عاما واحدا لا يحجونه ما نوظروا أن يهلكوا ، عن عطاء ، ورواه علي بن إبراهيم عنهم عليه السلام قال : " ما دامت الكعبة يحج الناس إليها لم يهلكوا ، فإذا هدمت وتركوا الحج هلكوا " {والشهر الحرام} يعني الأشهر الحرم الأربعة واحد فرد ، وثلاثة سرد أي : متتابعة ، فالفرد رجب ، والسرد ذو القعدة ، وذو الحجة ، والمحرم ، وإنما خرج مخرج الواحد ، لأنه ذهب به مذهب الجنس ، وهو عطف على المفعول الأول لجعل كما يقال ظننت زيدا منطلقا وعمرا .
{والهدي والقلائد} مر ذكرهما في أول السورة ، وإنما ذكر هذه الجملة بعد ذكر البيت ، لأنها من أسباب حج البيت ، فدخلت في جملته ، فذكرت معه ، وكان أهل الجاهلية لا يغزون في أشهر الحرم ، وكانوا ينصلون فيها الأسنة ، ويتفرغ الناس فيها إلى معائشهم ، وكان الرجل يقلد بعيره أو نفسه قلادة من لحاء شجر الحرم ، فلا يخاف ، وكانوا قد توارثوه من دين إسماعيل عليه السلام ، فبقوا عليه رحمة من الله لخلقه ، إلى أن قام الاسلام ، فحجزهم عن البغي والظلم .
وقال أبو بكر الأنباري : فقد حصل في الآية طريقان أحدهما : إن الله تعالى من على المسلمين بأن جعل الكعبة صلاحا لدينهم ودنياهم ، وقياما لهم . والثاني : إنه أخبر عما فعله من أمر الكعبة في الجاهلية {ذلك لتعلموا أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض وان الله بكل شيء عليم} قد اعترض على هذا فقيل : أي تعلق لهذا بقوله {جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس}؟ والجواب عنه من وجوه أحدها : إن فيما جعله الله تعالى في البلد الحرام ، والشهر الحرام ، من الآيات والأعاجيب ، دلالة على أنه تعالى لا يخفى عليه شيء ، وذلك أنه جعل الحرم أمنا يسكن فيه كل شيء ، فالظبي يأنس فيه بالسبع والذئب ما دام في الحرم ، فإذا خرج من الحرم خاف ، وطلبه السبع ، وهرب منه الظبي حتى يرجع إلى الحرم ، فإذا رجع إليه كف السبع عنه ، وكذلك الطير والحمام يأنس بالإنسان ، فإذا خرج من الحرم ، خافه مع أمور كثيرة ، وعجائب شهيرة ذكرنا بعضها في أول سورة آل عمران عند قوله {فيه آيات بينات} ، فيكون ما دبره الله من ذلك دالا على أنه عالم بمصالح الخلق ، وبكل شيء . وثانيها : إنه تعالى علم أن العرب يكونون أصحاب عداوات وطوائل ، وأنهم يكونون حوالي الكعبة ، فلما خلق السماوات والأرض ، جعل الكعبة موضع أمن ، وعظم حرمتها في القلوب ، وبقيت تلك الحرمة إلى يومنا هذا ، فلولا كونه سبحانه عالما بالأشياء قبل كونها ، لما كان هذا التدبير وفقا للصلاح وثالثها : إنه تعالى لما أخبر في هذه السورة بقصة موسى وعيسى عليهما السلام ، والتوراة والإنجيل ، وما فيهما من الأحكام والأخبار ، وذلك كله مما لم يشاهده نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ولا أحد في عصره ، قال فيما بعد {ذلك لتعلموا أن الله يعلم} ومعناه لولا أنه سبحانه بكل شيء عليم ، لما جاز أن يخبركم عنهم فقوله {ذلك} إشارة إلى ما أنبأهم به من علم الغيب ، والعلم بالكائنات .
{اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ} [المائدة : 98 - 99] .
لما تقدم بيان الاحكام ، عقبه سبحانه بذكر الوعد والوعيد ، فقال {إعلموا أن الله شديد العقاب} لمن عصاه {وأن الله غفور رحيم} لمن تاب ، وأناب ، وأطاع . وجمع بين المغفرة والرحمة ، ليعلم أنه لا يقتصر على وضع العقاب عنه ، بل ينعم عليه بفضله ، ولما أنذر وبشر في هذه الآية ، عقبها بقوله {ما على الرسول إلا البلاغ} أي : ليس على الرسول إلا أداء الرسالة ، وبيان الشريعة . فأما القبول والامتثال فإنه يتعلق بالمكلفين المبعوث إليهم {والله يعلم ما تبدون وما تكتمون} أي : لا يخفى عليه شيء من أحوالكم التي تظهرونها وتخفونها ، وفيه غاية الزجر والتهديد ، وفي قوله سبحانه {إعلموا أن الله شديد العقاب} الآية ، دلالة على وجوب معرفة العقاب والثواب ، لكونهما لطفا في باب التكليف .
_____________________________
1. تفسير مجمع البيان ، ج3 ، ص 423-426.
{جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ والشَّهْرَ الْحَرامَ والْهَدْيَ والْقَلائِدَ} .
قياما للناس ، أي محلا للعبادة ومناسك الحج ، والشهر الحرام جنس يشمل الأشهر الأربعة ، وهي رجب وذو القعدة وذو الحجة والمحرم ، وقد حرم سبحانه القتال فيها وفي حرمه إلا دفاعا عن النفس أو المال ، قال تعالى : {ولا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ} [البقرة – 190] . وقال : {الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ والْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ} [البقرة - 193] .
والهدي ما يهدى إلى الكعبة من الأنعام ، والقلائد الهدي الذي وضعت في عنقه علامة تدل على انه للكعبة ، كي لا يتعرض أحد له . وعلى هذا يكون عطف القلائد على الهدي من باب عطف الخاص على العام ، والقصد من ذكر الهدي مع البيت الحرام والأشهر الحرم ان الهدي يجب أن يكون آمنا هو ومن يسوقه ، لأنه قاصد الحرم الشريف ، بل ان اللَّه سبحانه قد أمّن الطيور والحيوانات ، حرمة ما دامت في حرمه إلا الحدأة - نوع من الطير - والغراب والفأر والعقرب والكلب العقور . . وكل مؤذ في رأينا .
{ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهً يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وما فِي الأَرْضِ وأَنَّ اللَّهً بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} . بعد أن بيّن سبحانه حرمة الكعبة والأشهر الحرم والهدي أشار إلى أن الحكمة من هذا التشريع ان يعلم الناس ان اللَّه يعلم تفاصيل الأمور في الأرض والسماء ، ومنها التي تصلح الناس في دينهم ودنياهم ، وأية مصلحة أعظم من تأمين الإنسان على حياته وماله ، ولو في وقت من الأوقات ، أو في زمن من الأزمان . . وقد رأينا الدول الكبرى المتطاحنة في هذا العصر تتفق فيما بينها على أن تكون بعض البلاد منطقة محايدة ، لا يجوز للدول المتنازعة أن تشركها في أحلافها العسكرية ، ولا أن تتخذ من أرضها مقرا لقواعدها الحربية ، ولا ممرا لجيوشها المقاتلة .
{اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهً شَدِيدُ الْعِقابِ وأَنَّ اللَّهً غَفُورٌ رَحِيمٌ} . قرن سبحانه العذاب بالرحمة والمغفرة ليكون العبد خائفا من نقمته ، راجيا لرحمته . لأنه إذا خاف ابتعد عن المعصية ، وإذا رجا اجتهد في الطاعة . قال الرازي - ونعم ما قال - :
« ذكر سبحانه أنه شديد العقاب ، ثم عقب بوصف الرحمة والمغفرة ، وهذا تنبيه على دقيقة ، وهي ان ابتداء الخلق والإيجاد كان لأجل الرحمة ، والظاهر ان الختم لا يكون إلا على الرحمة » . . هذا هو الصحيح .
{ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ} ولا يطلب منه أكثر من ذلك ، حيث لا عذر بعد البلاغ لمن أهمل وفرط ، أما الحساب والعقاب فعلى اللَّه وحده : {فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وعَلَيْنَا الْحِسابُ} [الرعد –41] . {واللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ} من الأقوال والأفعال {وما تَكْتُمُونَ} . هذا تهديد لمن يسكت عن الحق ، وبالأولى لمن يتاجر به مستترا باسم الدين والوطنية .
___________________________
1. تفسير الكاشف ، ج3 ، ص 129-130 .
قوله تعالى : {جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ} ظاهر تعليق الكلام بالكعبة ثم بيانه بالبيت بأنه بيت حرام ، وكذا توصيف الشهر بالحرام ثم ذكر الهدي والقلائد اللذين يرتبط شأنهما بحرمة البيت ، كل ذلك يدل على أن الملاك فيما يبين الله سبحانه في هذه الآية من الأمر إنما هو الحرمة .
والقيام ما يقوم به الشيء ، قال الراغب : والقيام والقوام اسم لما يقوم به الشيء أي يثبت كالعماد والسناد لما يعمد ويسند به كقوله : {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِياماً} أي جعلها مما يمسككم ، وقوله : {جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ} أي قواما لهم يقوم به معاشهم ومعادهم ، قال الأصم : قائما لا ينسخ ، وقرئ : قيما بمعنى قياما ، انتهى.
فيرجع معنى قوله : {جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ} إلى أنه تعالى جعل الكعبة بيتا حراما احترمه ، وجعل بعض الشهور حراما ، ووصل بينهما حكما كالحج في ذي الحجة الحرام ، وجعل هناك أمورا تناسب الحرمة كالهدي والقلائد كل ذلك لتعتمد عليه حياة الناس الاجتماعية السعيدة.
فإنه جعل البيت الحرام قبلة يوجه إليه الناس وجوههم في صلواتهم ويوجهون إليه ذبائحهم وأمواتهم ، ويحترمونه في سيئ حالاتهم ، فيتوحد بذلك جمعهم ، ويجتمع به شملهم ، ويحيى ويدوم به دينهم ، ويحجون إليه من مختلف الأقطار وأقاصي الآفاق فيشهدون منافع لهم ، ويسلكون به طرق العبودية.
ويهدي باسمه وبذكره والنظر إليه والتقرب به والتوجه إليه العالمون ، وقد بينه الله تعالى بوجه آخر قريب من هذا الوجه بقوله : {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ} ، : ـ آل عمران : 96 وقد وافاك في الآية في الجزء الثالث من هذا الكتاب من الكلام ما يتنور به المقام.
ونظير ذلك الكلام في كون الشهر الحرام قياما للناس وقد حرم الله فيه القتال ، وجعل الناس فيه في أمن من حيث دمائهم وأعراضهم وأموالهم ، ويصلحون فيه ما فسد أو اختل من شئون حياتهم ، والشهر الحرام بين الشهور كالموقف والمحط الذي يستريح فيه المتطرق التعبان ، وبالجملة البيت الحرام والشهر الحرام وما يتعلق بذلك من هدي وقلائد قيام للناس من عامة جهات معاشهم ومعادهم ، ولو استقرأ المفكر المتأمل جزئيات ما ينتفع به الناس انتفاعا جاريا أو ثابتا من بركات البيت العتيق والشهر الحرام من صلة الأرحام ، ومواصلة الأصدقاء ، وإنفاق الفقراء ، واسترباح الأسواق ، وموادة الأقرباء والأداني ، ومعارفة الأجانب والأباعد ، وتقارب القلوب ، وتطهر الأرواح ، واشتداد القوى ، واعتضاد الملة ، وحياة الدين ، وارتفاع أعلام الحق ، ورايات التوحيد أصاب بركات جمة ورأى عجبا.
وكان المراد من ذكر هذه الحقيقة عقيب الآيات الناهية عن الصيد هو دفع ما يتوهم أن هذه أحكام عديمة أو قليلة الجدوى ، فأي فائدة لتحريم الصيد في مكان من الأمكنة أو زمان من الأزمنة؟ وأي جدوى في سوق الهدي ونحو ذلك؟ وهل هذه الأحكام إلا مشاكلة لما يوجد من النواميس الخرافية بين الأمم الجاهلة الهمجية؟.
فأجيب عن ذلك بأن اعتبار البيت الحرام والشهر الحرام وما يتبعهما من الحكم مبني على حقيقة علمية وأساس جدي وهو أنها قيام يقوم به صلب حياتهم.
ومن هنا يظهر وجه اتصال قوله : {ذلِكَ لِتَعْلَمُوا} ، إلى آخر الآية بما قبله ، والمشار إليه بقوله : {ذلِكَ} إما نفس الحكم المبين في الآيات السابقة الذي يوضح حكمة تشريعه قوله : {جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ} (إلخ) ، وإما بيان الحكم الموضح بقوله : {جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ} (إلخ) ، المدلول عليه بالمقام .
والمعنى على التقدير الأول أن الله جعل البيت الحرام والشهر الحرام قياما للناس ووضع ما يناسبهما من الأحكام لينتقلوا من حفظ حرمتهما والعمل بالأحكام المشرعة فيهما إلى أن الله عليم بما في السماوات والأرض وما يصلح شئونها ، فشرع ما شرع لكم عن علم من غير أن يكون شيء من ذلك حكما خرافيا صادرا عن جهالة الوهم.
والمعنى على التقدير الثاني أنا بينا لكم هذه الحقيقة وهي جعل البيت الحرام والشهر الحرام وما يتبعهما من الأحكام قياما للناس لتعلموا أن الله عليم بما في السماوات والأرض وما يتبعها من الأحكام المصلحة لشئونها فلا تتوهموا أن هذه الأحكام المشرعة لاغية من غير جدوى أو أنها خرافات مختلقة .
قوله تعالى : {اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ وَأَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} ، إلى آخر الآيتين تأكيد للبيان وتثبيت لموقع الأحكام المذكورة ، ووعيد ووعد للمطيعين والعاصين ، وفيه شائبة تهديد ، ولذلك قدم توصيفه بشدة العقاب على توصيفه بالمغفرة والرحمة ، ولذلك أيضا أعقب الكلام بقوله : {ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ}.
___________________________
1. تفسير الميزان ، ج6 ، ص 117-119 .
بعد الكلام في الآيات السابقة على تحريم الصيد في حال الإحرام ، يشير القرآن الكريم في هذه الآية إلى أهمية «مكّة» وأثرها في بناء حياة المسلمين الاجتماعية ، فيقول أوّلا : {جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ}.
فهذا البيت المقدس رمز وحدة الناس ومركز لتجمع القلوب حوله ، ومؤتمر عظيم لتوثيق الرّوابط المختلفة ، فهم في ظل هذا البيت المقدس وفي مركزيته ومعنويته المستمدة من جذور تاريخية عميقة يستطيعون إصلاح الكثير ممّا يستوجب الإصلاح والترميم في حياتهم ، وإقامة سعادتهم على قواعده المتينة ، لذلك فقد وصف هذا البيت في سورة آل عمران (الآية 96) : {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ}.
في الحقيقة إنّ المسلمين يستطيعون ـ انطلاقا من المفهوم الواسع لقوله : {قِياماً لِلنَّاسِ} ـ أن يصلحوا كل أمورهم بالركون إلى هذا البيت وفي إطار تعاليم الحج البناءة.
ولما كانت هذه المناسك يجب أنّ تجري في جو آمن وخال من الحروب والمنازعات والمخاصمات ، فقد أشارت الآية إلى أثر الأشهر الحرم (وهي الأشهر التي تمنع فيها الحرب مطلقا) وقالت : {وَالشَّهْرَ الْحَرامَ} (2) كما أشارت إلى الأضاحي الفاقدة للعلامة (الهدي) والأضاحي ذات العلامة (القلائد) التي منها يطعم الناس في موسم الحج ، وتؤمن جانبا من احتياجات الحاج للقيام بمناسكه ، فقالت : {وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ}.
ولمّا كان مجموع هذه الأحكام والقوانين والتشريعات بشأن الصيد ، وكذلك بشأن حرم مكّة والشهر الحرام وغير ذلك ، يحكي عمق تدبير الشارع وسعة علمه تقول الآية : {ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}. بناء على ما مرّ بناء في تفسير هذه الآية يتّضح الارتباط بين بدايتها ونهايتها ، إذ أنّ هذه الأحكام التشريعية لا يستطيع أن ينظمها إلّا من كان عليما بأعماق القوانين التكوينية ، فالذي لا علم له بدقائق شؤون السماء والأرض وبما استقرّ في روح الإنسان وجسمه عند خلقه ، لا تكون له القدرة على تقرير أحكام كهذه ، فالقانون الصحيح السليم هو ذاك الذي ينسجم مع قانون الخلق والفطرة.
الآية التّالية تؤكّد تلك التشريعات ، وتحث الناس على إتباعها وتهدد المخالفين والعاصين فتقول : {اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ وَأَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} .
ولعل تقديم {شَدِيدُ الْعِقابِ} على {غَفُورٌ رَحِيمٌ} إشارة إلى أنّ عقاب الله الشديد يمكن إطفاؤه بماء التوبة والدخول في رحمة الله وغفرانه.
ومرّة أخرى تؤكّد الآية على أنّ الناس هم المسؤولون عن أعمالهم ، وأنّ النّبي مسئول عن تبليغ الرّسالة لا غير {ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ} وفي الوقت نفسه : {وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ} .
__________________________
1. تفسير الأمثل ، ج3 ، ص 635-636 .
2. مرّ ذكر الأشهر الحرم في تفسير الآية (194) من سورة البقرة ، ارجع إلى المجلد الثّاني من هذا التّفسير.
|
|
دراسة يابانية لتقليل مخاطر أمراض المواليد منخفضي الوزن
|
|
|
|
|
اكتشاف أكبر مرجان في العالم قبالة سواحل جزر سليمان
|
|
|
|
|
قسم الشؤون الفكرية ينجز تصوير 39 مخطوطًا قديمًا نادرًا في قرية كاخك الإيرانية
|
|
|