أقرأ أيضاً
التاريخ: 12-10-2017
21282
التاريخ: 13-10-2017
11901
التاريخ: 12-10-2017
25563
التاريخ: 13-10-2017
12531
|
قال تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (2) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3) إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (4) وَلَو أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } [الحجرات : 1 - 5].
{يا أيها الذين آمنوا } روى زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) أنه قال ما سلت السيوف ولا أقيمت الصفوف في صلاة ولا زحوف ولا جهر بأذان ولا أنزل الله {يا أيها الذين آمنوا } حتى أسلم أبناء قبيلة الأوس والخزرج {لا تقدموا بين يدي الله ورسوله } بين اليدين عبارة عن الإمام لأن ما بين يدي الإنسان أمامه ومعناه لا تقطعوا أمرا دون الله ورسوله ولا تعجلوا به قال أبو عبيدة العرب تقول لا نقدم بين يدي الإمام وبين يدي الأب أي لا تعجل بالأمر دونه والنهي وقدم هنا بمعنى تقدم وهو لازم وقيل معناه لا تقدموا أعمال الطاعة قبل الوقت الذي أمر الله ورسوله به حتى أنه قيل لا يجوز تقديم الزكاة قبل وقتها عن الزجاج وقيل(2) لا تمكنوا أحدا يمشي أمام رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) بل كونوا تبعا له وأخروا أقوالكم وأفعالكم عن قوله وفعله وقال الحسن نزل في قوم ذبحوا الأضحية قبل صلاة العيد فأمرهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) بالإعادة وقال ابن عباس نهوا أن يتكلموا قبل كلامه أي إذا كنتم جالسين في مجلس رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) فسئل عن مسألة فلا تسبقوه بالجواب حتى يجيب النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) أولا وقيل معناه لا تسبقوه بقول ولا فعل حتى يأمركم به عن الكلبي والسدي والأولى حمل الآية على الجميع فإن كل شيء كان خلافا لله ورسوله إذا فعل فهو تقديم بين يدي الله ورسوله وذلك ممنوع.
{واتقوا الله } أي اجتنبوا معاصيه {إن الله سميع } لأقوالكم {عليم } بأعمالكم فيجازيكم بها {يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي } لأن فيه أحد الشيئين إما نوع استخفاف به فهو الكفر وإما سوء الأدب فهو خلاف التعظيم المأمور به {ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض } أي غضوا أصواتكم عند مخاطبتكم إياه وفي مجلسه فإنه ليس مثلكم إذ يجب تعظيمه وتوقيره من كل وجه وقيل معناه لا تقولوا له يا محمد كما يخاطب بعضكم بعضا بل خاطبوه بالتعظيم والتبجيل وقولوا يا رسول الله {أن تحبط أعمالكم } أي كراهة أن تحبط أو لئلا تحبط أعمالكم وقيل إنه في حرف عبد الله (فتحبط أعمالكم).
{وأنتم لا تشعرون } أي وأنتم لا تعلمون أنكم أحبطتم أعمالكم بجهر صوتكم على صوته وترك تعظيمه قال أنس لما نزلت هذه الآية قال ثابت بن قيس أنا الذي كنت أرفع صوتي فوق صوت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) وأجهر له بالقول حبط عملي وأنا من أهل النار وكان ثابت رفيع الصوت فذكر ذلك لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) فقال هومن أهل الجنة وقال أصحابنا أن المعنى في قوله {أن تحبط أعمالكم } أنه ينحبط ثواب ذلك العمل لأنهم لو أوقعوه على وجه تعظيم النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) وتوقيره لاستحقوا الثواب فلما فعلوه على خلاف ذلك الوجه استحقوا العقاب وفاتهم ذلك الثواب فانحبط عملهم فلا تعلق لأهل الوعيد بهذه الآية ولأنه تعالى علق الإحباط في هذه الآية بنفس العمل وهم يعلقونه بالمستحق على العمل وذلك خلاف الظاهر.
ثم مدح سبحانه من يعظم رسوله ويوقره فقال {إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله } أي يخفضون أصواتهم في مجلسه إجلالا {أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى } أي اختبرها فأخلصها للتقوى عن قتادة ومجاهد أخذ من امتحان الذهب بالنار إذا أذيب حتى يذهب غشه ويبقى خالصة وقيل معناه أنه علم خلوص نياتهم لأن الإنسان يمتحن الشيء ليعلم حقيقته وقيل معناه عاملهم معاملة المختبر بما تعبدهم به من هذه العبادة فخلصوا على الاختبار كما يخلص جيد الذهب بالنار.
{لهم مغفرة } من الله لذنوبهم {وأجر عظيم } على طاعتهم ثم خاطب النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) فقال {إن الذين ينادونك من وراء الحجرات } وهم الجفاة من بني تميم لم يعلموا في أي حجرة هو فكانوا يطوفون على الحجرات وينادونه {أكثرهم لا يعقلون } وصفهم الله سبحانه بالجهل وقلة الفهم والعقل إذ لم يعرفوا مقدار النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) ولا ما استحقه من التوقير فهم بمنزلة البهائم {ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيرا لهم } من أن ينادوك من وراء الحجرات في دينهم بما يحرزونه من الثواب وفي دنياهم باستعمالهم حسن الأدب في مخاطبة الأنبياء ليعدوا بذلك في زمرة العقلاء وقيل معناه لأطلقت أسراهم بغير فداء فإن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) كان سبى قوما من بني العنبر فجاؤوا في فدائهم فأعتق نصفهم وفادى النصف فيقول ولو أنهم صبروا لكنت تعتق كلهم {والله غفور رحيم } لمن تاب منهم .
_____________________
1- مجمع البيان ، الطبرسي ، ج9 ، ص217-218.
2- [معناه] .
ذكّر سبحانه المؤمنين في هذه الآية بأمور :
1 – { يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ ورَسُولِهِ } . لا تسرعوا إلى قول أو فعل يتصل بالدين والصالح العام حتى يقضي به اللَّه على لسان رسوله الكريم ( واتَّقُوا اللَّهً إِنَّ اللَّهً سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) . في نهج البلاغة : اتق اللَّه بعض التقى وإن قل ، واجعل بينك وبين اللَّه سترا ، وإن رق . وأدنى شيء يتقي به الإنسان خالقه أن يكف عن قول : لو أحل اللَّه هذا الشيء الذي حرم ، أو حرم ذاك الذي أحل ، ويا ليت النبي فعل كذا ، أولم يفعل الذي فعل ، وما إلى ذلك من الجرأة والجهل .
2 – {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ } . رفع الصوت بلا ضرورة غير مستحسن ، قال سبحانه : {واغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ } - 19 لقمان ج 6 ص 163 فكيف إذا ارتفع في محضر العظماء ومجلسهم ؟ والرسول الأعظم ( صلى الله عليه واله وسلم ) سيد النبيين وأشرف الخلق أجمعين .
3 - {ولا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ } . لا تخاطبوا النبي ( صلى الله عليه واله وسلم ) كما يخاطب بعضكم بعضا ، ومن يفعل ذلك فقد أبطل إيمانه من حيث لا يريد ولا يشعر ، ومن بطل إيمانه بطل عمله ، وكان من الخاسرين { إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى - أي أخلصها للعمل الصالح - لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وأَجْرٌ عَظِيمٌ } .
يبتلي اللَّه عباده بأنواع المحن ليتذكر متذكر ، ويزدجر مزدجر ، فمن تذكر وصبر استخلصه اللَّه وهداه سواء السبيل ، وأنعم عليه بالغفران وأجور الصابرين ، وتومئ الآية إلى أن الخطاب المهذب والأسلوب اللائق - من الايمان ، قال الإمام علي ( عليه السلام ) : (لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه ، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه).
{ إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} . الخطاب في ينادونك لرسول اللَّه ( صلى الله عليه واله وسلم ) ، والحجرات جمع حجرة ، وهي الغرفة ، وكان للنبي ( صلى الله عليه واله وسلم ) تسع زوجات لكل واحدة منهن حجرة من جريد النخل ، وعلى بابها ستار من الشعر . وقال المفسرون : انطلق ناس من العرب إلى المدينة ، ووقفوا وراء حجرات النبي ونادوا يا محمد اخرج إلينا ، فتربص النبي قليلا ثم خرج إليهم ، ووصفهم سبحانه بأن أكثرهم لا يعقلون لما في فعلهم ذاك من البداوة والجفاء {ولَو أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ } لأن في الأناة وترك العجلة أجرا لهم وثوابا ، وتعظيما لرسول اللَّه ، ورعاية للآداب { واللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } تتسع رحمته ومغفرته للهمج الرعاع وغيرهم .
____________________
1- الكاشف ، محمد جواد مغنية ، ج7 ، ص107-108.
تتضمن السورة مسائل من شرائع الدين بها تتم الحياة السعيدة للفرد ويستقر النظام الصالح الطيب في المجتمع منها ما هو أدب جميل للعبد مع الله سبحانه ومع رسوله كما في الآيات الخمس في مفتتح السورة، ومنها ما يتعلق بالإنسان مع أمثاله من حيث وقوعهم في المجتمع الحيوي، ومنها ما يتعلق بتفاضل الأفراد وهومن أهم ما ينتظم به الاجتماع المدني ويهدي الإنسان إلى الحياة السعيدة والعيش الطيب الهنيء ويتميز به دين الحق من غيره من السنن الاجتماعية القانونية وغيرها وتختتم السورة بالإشارة إلى حقيقة الإيمان والإسلام وامتنانه تعالى بما يفيضه من نور الإيمان.
والسورة مدنية بشهادة مضامين آياتها سوى ما قيل في قوله تعالى : {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى} الآية وسيجيء.
قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم} بين يدي الشيء أمامه وهو استعمال شائع مجازي أو استعاري وإضافته إلى الله ورسوله معا لا إلى الرسول دليل على أنه أمر مشترك بينه تعالى وبين رسوله وهو مقام الحكم الذي يختص بالله سبحانه وبرسوله بإذنه كما قال تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [يوسف: 40] ، وقال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} [النساء: 64].
ومن الشاهد على ذلك تصدير النهي بقوله: {يا أيها الذين آمنوا} وتذييله بقوله: {واتقوا الله إن الله سميع عليم} الظاهر في أن المراد بما بين يدي الله ورسوله هو المقام الذي يربط المؤمنين المتقين بالله ورسوله وهو مقام الحكم الذي يأخذون منه أحكامهم الاعتقادية والعملية.
وبذلك يظهر أن المراد بقوله: {لا تقدموا} تقديم شيء ما من الحكم قبال حكم الله ورسوله إما بالاستباق إلى قول قبل أن يأخذوا القول فيه من الله ورسوله أو إلى فعل قبل أن يتلقوا الأمر به من الله ورسوله لكن تذييله تعالى النهي بقوله: {إن الله سميع عليم} يناسب تقديم القول دون تقديم الفعل ودون الأعم الشامل للقول والفعل وإلا لقيل: إن الله سميع بصير ليحاذي بالسميع القول وبالبصير الفعل كما يأتي تعالى في كثير من موارد الفعل بمثل قوله: {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } [الحديد: 4] ، فمحصل المعنى: أن لا تحكموا فيما لله ولرسوله فيه حكم إلا بعد حكم الله ورسوله أي لا تحكموا إلا بحكم الله ورسوله ولتكن عليكم سمة الاتباع والاقتفاء.
لكن بالنظر إلى أن كل فعل وترك من الإنسان لا يخلو من حكم له فيه وكذلك العزم والإرادة إلى فعل أوترك يدخل الأفعال والتروك وكذا إرادتها والعزم عليها في حكم الاتباع، ويفيد النهي عن التقديم بين يدي الله ورسوله النهي عن المبادرة والإقدام إلى قول لم يسمع من الله ورسوله، وإلى فعل أوترك أو عزم وإرادة بالنسبة إلى شيء منهما قبل تلقي الحكم من الله ورسوله فتكون الآية قريبة المعنى من قوله تعالى في صفة الملائكة: {بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} [الأنبياء : 26، 27].
وهذا الاتباع المندوب إليه بقوله: {لا تقدموا بين يدي الله ورسوله} هو الدخول في ولاية الله والوقوف في موقف العبودية والسير في مسيرها بجعل العبد مشيته تابعة لمشية الله في مرحلة التشريع كما أنها تابعة لها في مرحلة التكوين قال تعالى: { وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان: 30] ، وقال : {وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران : 68] ، وقال : {وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ} [الجاثية : 19].
وللقوم في قوله تعالى : {لا تقدموا بين يدي الله ورسوله} وجوه منها: أن التقديم بمعنى التقدم فهو لازم ومعنى {لا تقدموا بين يدي الله ورسوله} لا تعجلوا بالأمر والنهي دون الله ورسوله ولا تقطعوا بالأمر والنهي دون الله ورسوله، وربما قيل: إن التقديم في الآية بمعناه المعروف لكنه مستعمل بالإعراض عن متعلقاته كقوله: {يُحْيِي وَيُمِيتُ} [الحديد: 2] ، فيئول المعنى إلى مجرد كون شيء قدام شيء فيرجع إلى معنى التقدم.
واللفظ مطلق يشمل التقدم في قول أو فعل حتى التقدم على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في المشية والجلسة، والتقدم بالطاعات الموقتة قبل وقتها وغير ذلك.
ومنها: أن المراد النهي عن التكلم قبل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أي إذا كنتم في مجلسه وسئل عن شيء فلا تسبقوه بالجواب حتى يجيب هو أولا.
ومنها: أن المعنى: لا تسبقوه بقول أو فعل حتى يأمركم به.
ومنها: أن المعنى: لا تقدموا أقوالكم وأفعالكم على قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وفعله ولا تمكنوا أحدا يمشي أمامه.
والظاهر أن تفسير {لا تقدموا بين يدي الله ورسوله} بالنهي عن التقديم بين يدي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقط في هذه الوجوه الثلاثة الأخيرة مبني على حملهم ذكر الله تعالى مع رسوله في الآية على نوع من التشريف كقوله: أعجبني زيد وكرمه فيكون ذكره تعالى للإشارة إلى أن السبقة على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على أي حال في معنى السبقة على الله سبحانه.
ولعل التأمل فيما قدمناه من الوجه يكفيك في المنع عن المصير إلى شيء من هذه الوجوه.
وقوله : {واتقوا الله إن الله سميع عليم} أمر بالتقوى في موقف الاتباع والعبودية ولا ظرف للإنسان إلا ظرف العبودية ولذلك أطلق التقوى.
وفي قوله : {إن الله سميع عليم} تعليل للنهي والتقوى فيه أي اتقوه بالانتهاء عن هذا النهي فلا تقدموا قولا بلسانكم ولا في سركم لأن الله سميع يسمع أقوالكم عليم يعلم ظاهركم وباطنكم وعلانيتكم وسركم.
قوله تعالى : {يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي} إلخ، وذلك بأن تكون أصواتهم عند مخاطبته وتكليمه (صلى الله عليه وآله وسلم) أرفع من صوته وأجهر لأن في ذلك كما قيل أحد شيئين: إما نوع استخفاف به وهو الكفر، وإما إساءة الأدب بالنسبة إلى مقامه وهو خلاف التعظيم والتوقير المأمور به.
وقوله: {ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض} فإن من التعظيم عند التخاطب أن يكون صوت المتكلم أخفض من صوت مخاطبه فمطلق الجهر بالخطاب فاقد لمعنى التعظيم فخطاب العظماء بالجهر فيه كخطاب عامة الناس لا يخلو من إساءة الأدب والوقاحة.
وقوله: {أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون} أي لئلا تحبط أو كراهة أن تحبط أعمالكم، وهو متعلق بالنهيين جميعا أي إنما نهيناكم عن رفع الصوت فوق صوته والجهر له بالقول كجهر بعضكم لبعض لئلا تبطل أعمالكم بذلك من حيث لا تشعرون فإن فيهما الحبط، وقد تقدم القول في الحبط في الجزء الثاني من الكتاب.
وجوز بعضهم كون {أن تحبط} إلخ، تعليلا للمنهي عنه وهو الرفع والجهر، والمعنى: فعلكم ذلك لأجل الحبوط منهي عنه، والفرق بين تعليله للنهي وتعليله للمنهي عنه أن الفعل المنهي عنه معلل على الأول والفعل المعلل منهي عنه على الثاني، وفيه تكلف ظاهر.
وظاهر الآية أن رفع الصوت فوق صوت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والجهر له بالقول معصيتان موجبتان للحبط فيكون من المعاصي غير الكفر ما يوجب الحبط.
وقد توجه الآية بأن المراد بالحبط فقدان نفس العمل للثواب لا إبطال العمل ثواب سائر الأعمال كما في الكفر، قال في مجمع البيان،: وقال أصحابنا: أن المعنى في قوله: {أن تحبط أعمالكم{ إنه ينحبط ثواب ذلك العمل لأنهم لو أوقعوه على وجه تعظيم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وتوقيره لاستحقوا الثواب فلما أوقعوه على خلاف ذلك الوجه استحقوا العقاب وفاتهم ذلك الثواب فانحبط عملهم فلا تعلق لأهل الوعيد بهذه الآية.
ولأنه تعالى علق الإحباط في هذه الآية بنفس العمل وهم يعلقونه بالمستحق على العمل وذلك خلاف الظاهر.
انتهى.
وفيه أن الحبط المتعلق بالكفر الذي لا ريب في تعلقه بثواب الأعمال أيضا متعلق في كلامه بنفس الأعمال كما في هذه الآية فلتحمل هذه على ما حملت عليه ذلك من غير فرق، وكونه خلاف الظاهر ممنوع فإن بطلان العمل بطلان أثره المترتب عليه.
وقد توجه الآية أيضا بالبناء على اختصاص الحبط بالكفر بأن رفع الصوت فوق صوت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والجهر له بالقول ليسا بمحبطين من حيث أنفسهما بل من حيث أدائهما أحيانا إلى إيذائه (صلى الله عليه وآله وسلم) وإيذاؤه كفر والكفر محبط للعمل.
قال بعضهم: المراد في الآية النهي عن رفع الصوت مطلقا ومعلوم أن ملاكه التحذر مما يتوقع فيه من إيذاء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي هو كفر محبط للعمل بالاتفاق.
فورد النهي عما هو مظنة أذاه - سواء وجد هذا المعنى أولا - حماية للحومة وحسما للمادة.
ثم لما كان هذا المنهي عنه منقسما إلى ما يبلغ حد الكفر وهو المؤذي له عليه الصلاة والسلام وإلى ما لا يبلغ ذلك المبلغ، ولا دليل يميز أحد القسمين من الآخر ولو فرض وجوده لم يلتفت إليه في كثير من الأحيان، لزم المكلف أن يكف عن ذلك مطلقا مخافة أن يقع فيما هو محبط للعمل وهو البالغ حد الأذى.
وإلى التباس أحد القسمين بالآخر الإشارة بقوله تعالى : {أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون} وإلا فلوكان رفع الصوت والجهر بالقول منهيا عنهما مطلقا سواء بلغا حد الأذى أولم يبلغا لم يكن موقع لقوله تعالى: {وأنتم لا تشعرون} إذ الأمر منحصر بين أن يكون رفع الصوت أو الجهر بالقول بالغا حد الأذى فيكون كفرا محبطا قطعا أو غير بالغ فيكون أيضا ذنبا محبطا قطعا فالإحباط محقق على أي تقدير فلا موقع لإدعام الكلام بعدم الشعور مع أن الشعور ثابت مطلقا للعلم به بعد النهي.
انتهى ملخصا.
وفيه أن ظهور قوله: {لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض} في النهي النفسي دون النهي المقدمي أخذا بالاحتياط مما لا ريب فيه لكن كلا من الفعلين مما يدرك كونه عملا سيئا عقلا قبل ورود النهي الشرعي عنه كالافتراء والإفك، وكان الذين يأتون بهما المؤمنين كما صدر النهي بقوله: {يا أيها الذين آمنوا} وهم وإن أمكن أن يسامحوا في بعض السيئات بحسبانه هينا لكنهم لا يرضون ببطلان إيمانهم وأعمالهم الصالحة من أصله.
فنبه سبحانه بقوله: {أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون} على أنكم لا تشعرون بما لذلك من الأثر الهائل العظيم فإنما هو إحباط الأعمال فلا تقربوا شيئا منهما أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون.
فقوله: {وأنتم لا تشعرون{ ناظر إلى حالهم قبل النهي حيث كانوا يشعرون بكون الفعل سيئة لكنهم ما كانوا يعلمون بعظمة مساءته لهذا الحد، وأما بعد صدور البيان الإلهي فهم شاعرون بالإحباط.
فالآية من وجه نظيره قوله تعالى في آيات الإفك: {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} [النور: 15] ، وقوله في آيات القيامة : {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ } [الزمر: 47].
قوله تعالى: {إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى} إلخ، غض الصوت خلاف رفعه، ومعنى الامتحان الابتلاء والاختبار وإنما يكون لتحصيل العلم بحال الشيء المجهول قبل ذلك، وإذ يستحيل ذلك في حقه تعالى فالمراد به هنا التمرين والتعويد - كما قيل – أو حمل المحنة والمشقة على القلب ليعتاد بالتقوى.
والآية مسوقة للوعد الجميل على غض الصوت عند رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد توصيفهم بأن قلوبهم ممتحنة للتقوى والذي امتحنهم لذلك هو الله سبحانه، وفيه تأكيد وتقوية لمضمون الآية السابقة وتشويق للانتهاء بما فيها من النهي.
وفي التعبير عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) في هذه الآية برسول الله بعد التعبير عنه في الآية السابقة بالنبي إشارة إلى ملاك الحكم فإن الرسول بما هو رسول ليس له من الأمر شيء فما له فلمرسله، وتعظيمه وتوقيره تعظيم لمرسله وتوقير له فغض الصوت عند رسول الله تعظيم وتكبير لله سبحانه، والمداومة والاستمرار على ذلك - كما يستفاد من قوله: {يغضون} المفيد للاستمرار - كاشف عن تخلقهم بالتقوى وامتحانه تعالى قلوبهم للتقوى.
وقوله: {لهم مغفرة وأجر عظيم} وعد جميل لهم بإزاء ما في قلوبهم من تقوى الله، والعاقبة للتقوى.
قوله تعالى: {إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون} سياق الآية يؤدي أنه واقع وأنهم كانوا قوما من الجفاة ينادونه (صلى الله عليه وآله وسلم) من وراء حجرات بيته من غير رعاية لمقتضى الأدب وواجب التعظيم والتوقير فذمهم الله سبحانه حيث وصف أكثرهم بأنهم لا يعقلون كالبهائم من الحيوان.
قوله تعالى: {ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيرا لهم والله غفور رحيم} أي ولو أنهم صبروا عن ندائك فلم ينادوك حتى تخرج إليهم لكان خيرا لما فيه من حسن الأدب ورعاية التعظيم والتوقير لمقام الرسالة، وكان ذلك مقربا لهم إلى مغفرة الله ورحمته لأنه غفور رحيم.
فقوله: {والله غفور رحيم} كالناظر إلى ما ذكر من الصبر ويمكن أن يكون ناظرا إلى كون أكثرهم لا يعقلون والمعنى: أن ما صدر عنهم من الجهالة وسوء الأدب معفو عنه لأنه لم يكن عن تعقل وفهم منهم بل عن قصور في ذلك والله غفور رحيم.
________________________
1- الميزان ، الطباطبائي ، ج18، ص248-253.
آداب الحضور عند النبي :
.. أنّ في محتوى هذه السورة قسماً من المباحث الأخلاقية المهمّة والأوامر والتعليمات الإنضباطية التي تدعونا إلى تسمية هذه السورة بسورة الأخلاق، وهذه المسائل والتعليمات تقع في الآيات الأوّل من السورة محل البحث ـ والآيات هذه على نحوين من التعليمات.
الأول : عدم التقدّم على الله ورسوله وعدم رفع الصوت عند رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)... فتقول الآية الأولى في هذا الصدد: {يا أيّها الذين آمنوا لا تقدّموا بين يدي الله ورسوله واتّقوا الله إنّ الله سميع عليم}.
والمراد من عدم التقديم بين يدي الله ورسوله هو أن لا يُقترح عليهما في الأُمور، وترك العجلة والإسراع أمام أمر الله ورسوله... وبالرغم من أنّ بعض المفسّرين أرادوا أن يحدّدوا مفهوم الآية وجعلوه منحصراً بأداء العبادات قبل وقتها، أو التكلّم قبل كلام رسول الله وأمثال ذلك، إلاّ أنّه من الواضح أنّ للآية مفهوماً واسعاً يشمل أي تقدّم وإسراع في كلّ خطّة ومنهج(2).
إنّ مسؤولية انضباط السائرين إزاء القادة وخاصةً إزاء القادة الإلهيين تقتضي ألاّ يتقدّموا عليهم في أي عمل وقول ولا يعجل أحد عندهم.
وبالطبع فإنّ هذا الكلام لا يعني بأنّه لا يجوز لهم أن يتشاوروا مع النّبي إذا كان لديهم شيءٌ يجدر بيانه، بل المراد منه إلاّ يعجلوا ويبادروا بالتصميم قبل أن يوافق النّبي على ذلك! حتى أنّه لا ينبغي أن تثار أسئلة ومناقشات أكثر ممّا يلزم في شأن المسائل، بل ينبغي أن يترك الأمر للقائد نفسه أن يبيّن المسائل في حينها، لا سيما إذا كان القائد معصوماً الذي لا يغفل عن أي شيء! كما أنّه لو سُئل المعصوم أيضاً، لا يحقّ للآخرين أن يجيبوا السائل قبل أن يردّ عليه المعصوم، وفي الحقيقة أنّ الآية جمعت كلّ هذه المعاني في طيِّها.
والآية الثانية تشير إلى الأمر الثّاني فتقول : {يا أيّها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النّبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون}.
والجملة الأولى : {لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي} إشارة إلى أنّه لا ينبغي رفع الصوت على صوت النبي، فهو بنفسه نوع من الإساءة الأدبية في محضره المبارك، والنّبي له مكانته. وهذا الأمر لا يجدر أن يقع أمام الأب والأم والأستاذ لأنّه مخالف للإحترام والأدب أيضاً.
أمّا جملة : {لا تجهروا له بالقول} فيمكن أن تكون تأكيداً على المعنى المتقدّم في الجملة الأولى، أو أنّها إشارة إلى مطلب آخر، وهو ترك مخاطبة النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالنداء (يا محمّد) والعدول عنه بالقول: (يا رسول الله)!...
غير أنّ جماعة من المفسّرين قالوا في الفرق بين الجملتين آنفتي الذكر ما يلي:ـ إنّ الجملة الأولى ناظرة إلى زمان يتحادث الناس فيه مع النبي، فلا ينبغي لأحد أن يرفع صوته فوق صوت النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أمّا الجملة الثانية فناظرة الى زمان يكون الرّسول فيه صامتاً وأصحابه يُحدّثونه، ففي هذه الحالة أيضاً لا ينبغي رفع الصوت عنده.
والجمع بين هذه المعنى والمعنى السابق أيضاً ـ لا مانع منه كما أنّه ينسجم مع شأن نزول الآية، وعلى كلّ حال فظاهر الآية هو بيان أمرين مختلفين...
وبديهي أنّ أمثال هذه الأعمال إن قصد بها الإساءة والإهانة لشخص النّبي ومقامه الكريم فذلك موجب للكفر، وإلاّ فهو إيذاء له وفيه إثم أيضاً...
وفي الصورة الأُولى تتّضح علة الحبط وزوال الأعمال، لأنّ الكفر يحبط العمل ويكون سبباً في زوال ثواب العمل الصالح...
وفي الصورة الثانية أيضاً، لا يمنع أن يكون مثل هذا العمل السيء باعثاً على زوال ثواب الكثير من الأعمال.
وقلنا سابقاً في بحث الحبط أنّه لا مانع من زوال ثواب بعض الأعمال بسبب بعض الذنوب الخاصة، كما أنّ زوال أثر بعض الذنوب بسبب الأعمال الصالحة قطعيّ أيضاً... وهناك دلائل كثيرة في الآيات القرآنية أو الأحاديث الشريفة على هذا المعنى ورغم أنّ هذا المعنى لم يثبت على أنّه قانون كلّي في جميع الحسنات والسيئات، إلاّ أنّه توجد دلائل نقلية في شأن بعض الحسنات والسيئات المهمّة ولا يوجد دليل عقلي مخالف لها!(3).
وقد ورد في رواية أنّه حين نزلت الآية آنفة الذكر قال (ثابت بن قيس) خطيب النّبي الذي كان له صوت جهوري عال: أنا الذي رفعت صوتي فوق صوت النّبي فحبطت أعمالي وأنا من أهل النّار...
فبلغ ذلك سمع النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: (هومن أهل الجنّة)(4). لأنّه حين فعل ذلك للمؤمنين أو أمام المخالفين وكان ذلك أداءً لوظيفة إسلامية.
كما أنّ ابن العباس بن عبد المطلب نادى بأمر النّبي الذين فرّوا في معركة (حنين) بصوت عال ليعودوا إلى ساحات القتال!
وفي الآية الأُخرى مزيد تأكيد على الثواب الذي أعدّه الله لأُولئك الذين يمتثلون أمر الله ويراعون الآداب عند رسول الله فتقول: {إنّ الذين يغضّون أصواتهم عند رسول الله أُولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى لهم مغفرة وأجر عظيم}(5).
كلمة «يغضون} مشتقة من غضّ ـ على وزن حظّ ـ ومعناها تقليل النظر أو خفات الصوت ويقابل هذه الكلمة الإمعان بالنظر والجهر بالصوت.
وكلمة «امتحن} مشتقة من الإمتحان، والأصل في استعمالها إذابة الذهب وتطهيره من غير الخالص، كما أنّها تستعمل في بسط الجلد المعدّ للدّبغ، ثمّ استعملت بعدئذ في مطلق الإختبار كما هي الحال بالنسبة للآية محل البحث، ونتيجة ذلك خلوص القلب وبسطه لقبول التقوى...
وممّا يسترعي الانتباه أنّ الآية السابقة ورد فيها التعبير بالنبي، إلاّ أنّ هذه الآية ورد التعبير فيها عنه برسول الله، وكلتا الآيتين تشير إلى هذه (اللطيفة): وهي أنّ النّبي ليس عنده شيءٌ من نفسه، بل هو رسول الله ونبيّه، فإساءة الأدب إليه إساءة الأدب إلى الله ورعاية الأدب إليه رعاية لله.
ونكّرت كلمة (مغفرة) للتعظيم والأهمية... أي أنّ الله يجعل نصيبهم المغفرة الكبرى والتامة، وبعد تطهيرهم من الذنب يرزقهم الأجر العظيم، لأنّه لا بدّ من التطهير من الذنب أولاً، ثمّ الإنتفاع من الأجر العظيم من قِبل الله..
أمّا الآية الأُخرى فتشير إلى جهل أولئك الذين يجعلون أمر الله وراء ظهورهم، وعدم إدراكهم فتقول: {إنّ الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون}.
فأي عقل يدفع الإنسان إلى أن ينادي برفيع صوته أمام أعظم سفير إلهي فلا يلتفت الى آداب النداء كما فعلت قبيلة بني تميم فنادت النّبي بصوت مزعج يا محمّد يا محمّد أخرج إلينا وهو مركز المحبّة والعطف الإلهي؟!
وأساساً كلّما ترقّى عقل الإنسان زيد في أدبه فيعرف القيم الأخلاقية بصورة أحسن ومن هنا فإنّ إساءة الأدب دليل على عدم العقل، أو بتعبير آخر إنّ إساءة الأدب عمل الحيوان، أمّا الأدب أو رعاية الأدب فهومن عمل الإنسان...
جملة (أكثرهم لا يعقلون) (الأكثر) في لغة العرب يطلق أحياناً بمعنى الجميع، وإنّما استعمل هذا اللفظ رعايةً للإحتياط في الأدب حتى لو أنّ واحداً أُستثني من الشمول لا يضيع حقّه عند التعبير بالأكثر، فكأنّ الله يريد أن يقول: إنّي أنا الله الذي أحطت بكلّ شيء علماً، عند الكلام على مثل هذه الأُمور أراعي الأدب في ذلك فعلامَ لا تراعون في كلامكم هذه الناحية؟!
أولأنّه يوجد فيهم أناس يعقلون حقّاً، ولعادة الناس وعدم التفاتهم في رفع الصوت يريد القرآن أن يحذّرهم بهذا الأسلوب أن لا ينسوا الأدب وأن يستعملوا عقولهم وأفكارهم عند الكلام...
(الحجرات) : جمع (حجرة) وهي هنا إشارة إلى البيوت(6) المتعددة لأزواج النّبي المجاورة للمسجد...
وأصل الكلمة مأخوذ من «الحَجْر} على وزن الأجْر: أي المنع لأنّ الحجرة تمنع الآخرين من الدخول في حريم «حياة} الإنسان... والتعبير بـ«وراء} هنا كناية عن الخارج من أي جهة كان! لأنّ أبواب الحجرات كانت تتفتح على المسجد أحياناً فيقف الجهلة عندها فينادون : يا محمّد أخرج إلينا، فمنعهم القرآن ونهاهم عن ذلك!...
ويضيف القرآن إكمالاً للمعنى في نهاية الآية قائلاً: {ولو أنّهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيراً لهم}.
صحيح أنّ العجلة قد تجعل الإنسان أحياناً يبلغ قصده بسرعة، إلاّ أنّ الصبر في مثل هذا «المقام} والتأنّي مدعاة إلى المغفرة والأجر العظيم.
وحيث أنّ بعضهم قد ارتكبوا جهلاً هذا الخطأ من قبل، واستوحشوا من هذا الأمر وحاسبوا أنفسهم بعد نزول الآية، فإنّ القرآن يضيف قائلاً إنّهم تشملهم الرحمة عند التوبة: {والله غفور رحيم}.
______________________
1- الامثل ، الشيخ ناصر مكارم الشيرازي ، ج13،ص91-95.
2 ـ ورد الفعل (لا تقدّموا) على صيغة الفعل المتعدّي إلاّ أنّ المفعول محذوف هنا وتقديره: لا تقدّموا أمراً بين يدي الله ورسوله وقد احتمل بعضهم أنّ هذا الفعل لازم هنا ومفهومه لا تتقدّموا بين يدي الله وبالرغم من أنّ الفعلين مختلفان شكلاً إلاّ أنّ المعنى أو النتيجة واحدة..
3 ـ لمزيد الإطلاع بحثنا مسألة الحبط في ذيل الآية (217) من سورة البقرة فليراجع.
4 ـ يراجع مجمع البيان، ج9، ص130، وقد ورد هذا الحديث بتفاوت في بعض الكلمات عند
كثير من المفسّرين ولا سيما البخاري في صحيحه وسيد قطب في ظلاله وغيرهما.
5 ـ (اللام) في كلمة (التقوى) في الحقيقة هي لام الغاية وليست (لام العلّة) أي أنّ الله يجعل
قلوب أولئك مهيّأة للقبول والتقوى، لأنّ القلب إذا لم يَخلُص ولم يصف فلا يكون محلاً للتقوى
حقيقةً.
6 ـ بيوت جمع بيت وهذا اللفظ يطلق على الغرفة الواحدة[أو مجموع الغرف في مكان واحد لعائلة معيّنة] وهو مشتقٌّ من المبيت ليلاً...
|
|
تفوقت في الاختبار على الجميع.. فاكهة "خارقة" في عالم التغذية
|
|
|
|
|
أمين عام أوبك: النفط الخام والغاز الطبيعي "هبة من الله"
|
|
|
|
|
قسم شؤون المعارف ينظم دورة عن آليات عمل الفهارس الفنية للموسوعات والكتب لملاكاته
|
|
|