المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية

القرآن الكريم وعلومه
عدد المواضيع في هذا القسم 16679 موضوعاً
تأملات قرآنية
علوم القرآن
الإعجاز القرآني
قصص قرآنية
العقائد في القرآن
التفسير الجامع
آيات الأحكام

Untitled Document
أبحث عن شيء أخر

الأفعال التي تنصب مفعولين
23-12-2014
صيغ المبالغة
18-02-2015
الجملة الإنشائية وأقسامها
26-03-2015
اولاد الامام الحسين (عليه السلام)
3-04-2015
معاني صيغ الزيادة
17-02-2015
انواع التمور في العراق
27-5-2016


تفسير الاية (246-252) من سورة البقرة  
  
7924   09:22 صباحاً   التاريخ: 10-5-2017
المؤلف : اعداد : المرجع الإلكتروني للمعلوماتية
الكتاب أو المصدر : تفاسير الشيعة
الجزء والصفحة : ......
القسم : القرآن الكريم وعلومه / التفسير الجامع / حرف الباء / سورة البقرة /


قال تعالى : {أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246) وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (247) وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (248) فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُو وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249) وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (250) فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (251) تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} [البقرة : 246] .

 

تفسير مجمع البيان
- ذكر الطبرسي في تفسير هذه  الآيات (1) :

 

لما قدم تعالى ذكر الجهاد عقبه بذكر القصة المشهورة في بني إسرائيل تضمنت شرح ما نالهم في قعودهم عنه تحذيرا من سلوك طريقهم فيه {أ لم تر} أي أ لم ينته علمك يا محمد {إلى الملأ} أي جماعة الأشراف {من بني إسرائيل من بعد موسى} أي من بعد وفاته {إذ قالوا لنبي لهم} اختلف في ذلك النبي فقيل اسمه شمعون سمته أمه بذلك لأن أمه دعت إلى الله أن يرزقها غلاما فسمع الله دعاءها فيه وهو شمعون بن صفية من ولد لاوي بن يعقوب عن السدي وقيل هو يوشع بن نون بن أفراثيم بن يوسف بن يعقوب عن قتادة وقيل هو إشمويل وهو بالعربية إسماعيل عن أكثر المفسرين وهو المروي عن أبي جعفر .

 {ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله} اختلف في سبب سؤالهم ذلك فقيل كان سبب سؤالهم ذلك استذلال الجبابرة لهم لما ظهروا على بني إسرائيل وغلبوهم على كثير من ديارهم وسبوا كثيرا من ذراريهم بعد أن كانت الخطايا قد كثرت في بني إسرائيل وعظمت فيهم الأحداث ونسوا عهد الله تعالى ولم يكن لهم نبي يدبر أمرهم فبعث الله إليهم إشمويل نبيا فقالوا له إن كنت صادقا فابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله آية من نبوتك عن الربيع والكلبي وقيل أرادوا قتال العمالقة فسألوا ملكا يكون أميرا عليهم تنتظم به كلمتهم ويجتمع أمرهم ويستقيم حالهم في جهاد عدوهم عن السدي وقيل بعث الله إشمويل نبيا فلبثوا أربعين سنة بأحسن حال ثم كان من أمر جالوت والعمالقة ما كان فقالوا لإشمويل ابعث لنا ملكا عن وهب وقال أبوعبد الله كان الملك في ذلك الزمان هو الذي يسير بالجنود والنبي يقيم له أمره وينبئه بالخبر من عند ربه فأجابهم نبيهم ف {قال هل عسيتم إن كتب عليكم القتال} أي لعلكم إن فرض عليكم المحاربة مع ذلك الملك {ألا تقاتلوا} أن لا تفوا بما تقولون وتجنبوا فلا تقاتلوا وإنما سألهم عن ذلك ليعرف ما عندهم من الحرص على القتال وهذا كأخذ العهد عليهم ومعنى عسيتم قاربتم فإذا قلت عسيت أن أفعل كذا فمعناه قاربت فعله .

 {قالوا} يعني قال الملأ {وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله} معناه وأي شيء لنا في ترك القتال وقيل معناه ليس لنا ترك القتال {وقد أخرجنا} لفظه عام ومعناه خاص أي قد أخرج بعضنا {من ديارنا وأبنائنا}(2) أوطاننا وأهالينا بالسبي والقهر على نواحينا والمعنى أنهم أجابوا نبيهم بأن قالوا إنما كنا لا نرغب في القتال إذ كنا أعزاء لا يظهر علينا عدونا فأما إذا بلغ الأمر هذا المبلغ فلا بد من الجهاد {فلما كتب عليهم القتال} فيه حذف تقديره فسأل النبي الله تعالى أن يبعث لهم ملكا يجاهدون معه أعداءهم فسمع الله دعوته وأجاب مسألته فبعث لهم ملكا وكتب عليهم القتال أي فرض فلما كتب عليهم القتال {تولوا} أي أعرضوا عن القيام به وضيعوا أمر الله {إلا قليلا منهم} وهم الذين عبروا النهر على ما نبينه من بعد {والله عليم بالظالمين} هذا تهديد لمن يتولى عن القتال لأنهم ظلموا أنفسهم بمعصية الله .

وقوله تعالى : {وقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَث لَكمْ طالُوت مَلِكاً قَالُوا أَنى يَكُونُ لَهُ الْمُلْك عَلَيْنَا ونحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ ولَمْ يُؤْت سعَةً مِّنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصطفَاهُ عَلَيْكمْ وزَادَهُ بَسطةً فى الْعِلْمِ والْجِسمِ واللَّهُ يُؤْتى مُلْكهُ مَن يَشاءُ واللَّهُ وَسِعٌ عَلِيمٌ} :

{وقال لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا} أي جعله ملكا وكان طالوت من ولد بنيامين بن يعقوب ولم يكن من سبط النبوة ولا من سبط المملكة وسمي طالوت لطوله ويقال كان سقاء وقيل كان خرنبدجاً .

 وقيل كان دباغا وكانت النبوة في سبط لاوي بن يعقوب وكانت المملكة في سبط يهوذا بن يعقوب وقيل في سبط يوسف وقوله {ملكا} يعني أميرا على الجيش عن مجاهد وقيل بعثه نبيا بعد أن جعله ملكا {قالوا أنى يكون له الملك علينا} أي من أين له الملك؟ وهذا أول اعتراضهم إذ أنكروا ملكه .

 {ونحن أحق} أي أولى {بالملك منه} لأنا من سبط النبوة والمملكة وأوتينا المال {ولم يؤت سعة من المال} أي لم يعط ما يتملك به الناس وهو المال إذ لا بد للملك من المال يحصل به المماليك وقيل معناه ولم يؤت سعة من المال فيشرف به ويجبر نقصا لوكان فيه حتى يساوي أهل الأنساب فأعلمهم الله أنه أعرف بوجوه الحكمة منهم فإن المقصود في الملك والرئاسة هو العلم والشجاعة وأخبرهم بذلك عن لسان نبيهم {قال إن الله اصطفاه} أي اختاره {عليكم} عن ابن عباس {وزاده بسطة} أي فضيلة وسعة {في العلم والجسم} وكان أعلم بني إسرائيل في وقته وأجملهم وأتمهم وأعظمهم جسما وأقواهم شجاعة وقيل كان إذا قام الرجل فبسط يده رافعا لها نال رأسه قال وهب كان ذلك فيه قبل الملك وزاده ذلك بعد الملك {والله يؤتي ملكه من يشاء} أي لا تنكروا ملكه وإن لم يكن من أهل بيت الملك فإن الله سبحانه مالك الملك يؤتي الملك من يشاء .

 {والله واسع} قيل في معناه ثلاثة أقوال ( أحدها ) أنه واسع الفضل فحذف كما يقال فلان كبير أي كبير القدر ( والثاني ) أن الواسع بمعنى الموسع أي يوسع على من يشاء من نعمه كما جاء أليم بمعنى مؤلم وسميع بمعنى مسمع ( والثالث ) أن معناه ذو سعة نحو عيشة راضية أي ذات رضا ورجل تأمر أي ذو تمر ولابن أي ذو لبن .

 وقوله {عليم} أي عليم بمن ينبغي أن يؤتيه الفضل والمملكة إما للاستصلاح وإما للامتحان وفي هذه الآية دلالة على أن الملك قد يضاف إليه سبحانه وذلك بأن ينصب الملك للتدبير ويعطيه آلات الملك ويأمر الخلق بالانقياد له فعند ذلك يجوز أن يقال بعثه الله سبحانه ملكا وإن لم يكن في البعثة كالأنبياء ويقال في ملكه أيضا أنه من جهة الله سبحانه لأن تصرفه صادر عن إذنه وفيها دلالة أيضا على أن الملك ليس بواجب أن يكون وراثة وإنما يكون بحسب ما يعلمه الله من المصلحة وفيها دلالة على أن من شرط الإمام أن يكون أعلم من رعيته وأكمل وأفضل في خصال الفضل والشجاعة لأن الله علل تقديم طالوت عليهم بكونه أعلم وأقوى فلولا أن ذلك شرط لم يكن له معنى .

وقوله تعالى : {وقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ ءَايَةَ مُلْكهِ أَن يَأْتِيَكمُ التَّابُوت فِيهِ سكينَةٌ مِّن رَّبِّكمْ وبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَك ءَالُ مُوسى وءَالُ هَرُونَ تحْمِلُهُ الْمَلَئكَةُ إِنَّ فى ذَلِك لاَيَةً لَّكمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} :

{وقال لهم نبيهم إن آية ملكه} أي علامة تمليك الله إياه وحجة صحة ملكه {أن يأتيكم التابوت} وفي هذا دليل على أنهم قالوا لرسولهم إن كان ملكه بأمر من الله ومن عنده فأتنا بعلامة تدل على ذلك فأجابهم بهذا وروى علي بن إبراهيم في تفسيره عن أبي جعفر أن التابوت كان الذي أنزله الله على أم موسى فوضعت فيه ابنها وألقته في البحر وكان في بني إسرائيل معظما يتبركون به فلما حضر موسى الوفاة وضع فيه الألواح ودرعه وما كان عنده من آثار النبوة وأودعه عند وصيه يوشع بن نون فلم يزل التابوت بينهم وبنو إسرائيل في عز وشرف ما دام فيهم حتى استخفوا به وكان الصبيان يلعبون به في الطرقات .

 فلما عملوا المعاصي واستخفوا به رفعه الله عنهم فلما سألوا نبيهم أن يبعث إليهم ملكا بعث الله لهم طالوت ورد عليهم التابوت وقيل كان في أيدي أعداء بني إسرائيل من العمالقة غلبوهم عليه لما مرج أمر بني إسرائيل وحدث فيهم الأحداث ثم انتزعه الله من أيديهم ورده على بني إسرائيل تحمله الملائكة عن ابن العباس ووهب وروي ذلك عن أبي عبد الله وقيل كان التابوت الذي أنزله الله على آدم فيه صور الأنبياء فتوارثه أولاد آدم وكان في بني إسرائيل يستفتحون به على عدوهم وقال قتادة وكان في برية التيه خلفه هناك يوشع بن نون فحملته الملائكة إلى بني إسرائيل وقيل كان قدر التابوت ثلاثة أذرع في ذراعين عليه صفائح الذهب وكان من شمشار وكانوا يقدمونه في الحروب ويجعلونه أمام جندهم فإذا سمع من جوفه أنين زف التابوت أي سار وكان الناس يسيرون خلفه فإذا سكن الأنين وخمد فوقف الناس بوقوفه .

 {فيه سكينة من ربكم} قيل في التابوت نفسه وقيل فيما في التابوت واختلف في السكينة فقيل إن السكينة التي كانت فيه ريح هفافه من الجنة لها وجه كوجه الإنسان عن علي (عليه السلام) وقيل كان له جناحان ورأس كرأس الهرة من الزبرجد والزمرد عن مجاهد وروي ذلك في أخبارنا وقيل كان فيه آية يسكنون إليها عن عطا وقيل روح من الله يكلمهم بالبيان عند وقوع الاختلاف عن وهب .

 {وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون} قيل إنها عصا موسى ورضاض الألواح عن ابن عباس وقتادة والسدي وهو المروي عن أبي جعفر الصادق وقيل هي التوراة وشيء من ثياب موسى عن الحسن وقيل كان فيه أيضا لوحان من التوراة وقفيز من المن الذي كان ينزل عليهم ونعلا موسى وعمامة هارون وعصاه هذه أقوال أهل التفسير في السكينة والبقية .

 والظاهر أن السكينة أمنة وطمأنينة جعلها الله فيه ليسكن إليه بنو إسرائيل والبقية جائز أن يكون بقية من العلم أو شيء من علامات الأنبياء وجائز أن يتضمنها جميعا على ما قاله الزجاج وقيل أراد ب آل موسى وآل هارون موسى وهارون على نبينا وعليهما السلام يعني مما ترك موسى وهارون تقول العرب آل فلان يريدون نفسه أنشد أبو عبيدة :

فلا تبك ميتا بعد ميت أحبه ** علي وعباس وآل أبي بكر

يريد أبا بكر نفسه وقال جميل :

بثينة من آل النساء وإنما ** يكن لأدنى لا وصال لغائب (3)

 أي : من النساء {تحمله الملائكة} قيل حملته الملائكة بين السماء والأرض حتى رآه بنو إسرائيل عيانا عن ابن عباس والحسن وقيل لما غلب الأعداء على التابوت أدخلوه بيت الأصنام فأصبحت أصنامهم منكبة فأخرجوه ووضعوه ناحية من المدينة فأخذهم وجع في أعناقهم وكل موضع وضعوه فيه ظهر فيه بلاء وموت ووباء فأشير عليهم بأن يخرجوا التابوت فأجمع رأيهم على أن يأتوا به ويحملوه على عجلة ويشدوها على ثورين ففعلوا ذلك وأرسلوا الثورين فجاءت الملائكة وساقوا الثورين إلى بني إسرائيل فعلى هذا يكون معنى {تحمله الملائكة} تسوقه كما تقول حملت متاعي إلى مكة ومعناه كنت سببا لحمله إلى مكة {إن في ذلك لآية لكم} أي في رجوع التابوت إليكم علامة أن الله سبحانه ملك طالوت عليكم {إن كنتم مؤمنين} مصدقين ولا يجوز أن يكون على تثبيت الإيمان لهم لأنهم كفروا حين ردوا على نبيهم وقيل إن كنتم مؤمنين كما تزعمون .

وقوله تعالى : {فَلَمَّا فَصلَ طالُوت بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكم بِنَهَر فَمَن شرِب مِنْهُ فَلَيْس مِنى ومَن لَّمْ يَطعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنى إِلا مَنِ اغْتَرَف غُرْفَةَ بِيَدِهِ فَشرِبُوا مِنْهُ إِلا قَلِيلاً مِّنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُو والَّذِينَ ءَامَنُوا مَعَهُ قَالُوا لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوت وجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظنُّونَ أَنَّهُم مُّلَقُوا اللَّهِ كم مِّن فِئَة قَلِيلَة غَلَبَت فِئَةً كثِيرَةَ بِإِذْنِ اللَّهِ واللَّهُ مَعَ الصبرِينَ} :

{فلما فصل طالوت بالجنود} في الكلام حذف لدلالة ما بقي عليه وهو فأتاهم التابوت بالصفة التي وعدوا بها فصدقوا وانقادوا لطالوت فلما فصل طالوت أي خرج من مكانه وقطع الطريق بالجنود أي العساكر واختلف في عددهم فقيل كانوا ثمانين ألف مقاتل عن السدي وقيل سبعين ألفا عن مقاتل وذلك أنهم لما رأوا التابوت أيقنوا بالنصر فبادروا إلى الجهاد {قال} يعني طالوت {إن الله مبتليكم بنهر} أي مختبركم وممتحنكم ومعنى الابتلاء هاهنا تمييز الصادق عن الكاذب في قوله عن الحسن وكان سبب ابتلائهم بالنهر شكايتهم قلة الماء وخوف التلف من العطش عن وهب وقيل إنما ابتلوا بذلك ليصبروا عليه فيكثر ثوابهم ويستحقوا به النصر على عدوهم وليتعودوا الصبر على الشدائد فيصبروا عند المحاربة ولا ينهزموا .

 واختلف في النهر الذي ابتلوا به فقيل هو نهر بين الأردن وفلسطين عن قتادة والربيع وقيل هو نهر فلسطين عن ابن عباس والسدي وقوله {فمن شرب منه} الهاء كناية عن النهر في اللفظ وهو في المعنى للماء ويقال شربت من نهر كذا ويراد به الماء {فليس مني} معناه ليس من أهل ولايتي وليس من أصحابي وممن يتبعني {ومن لم يطعمه} أي ومن لم يطعم من ذلك الماء {فإنه مني} أي من أهل ولايتي وأوليائي وهومن الطعم الذي هوما يؤديه الذوق أي لم يجد طعمه لا من الطعام والطعم يوجد في الماء وفي الطعام جميعا .

 {إلا من اغترف غرفة بيده} إلا من أخذ الماء مرة واحدة باليد ومن قرأ بالضم فمعناه إلا من شرب مقدار ملء كفه {فشربوا منه} أي شربوا كلهم أكثر من غرفة إلا قليلا منهم قيل إن الذين شربوا منه غرفة كانوا ثلاث مائة وبضعة عشر رجلا عن الحسن وقتادة وجماعة وقيل أربعة آلاف رجل ونافق ستة وسبعون ألفا ثم نافق الأربعة الآلاف إلا ثلاثمائة وبضعة عشر عن السدي وقيل من استكثر من ذلك الماء عطش ومن لم يشرب إلا غرفة روي وذهب عطشه ورد طالوت عند ذلك العصاة منهم فلم يقطعوا معه النهر .

 {فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه} معناه فلما تخطى النهر طالوت والمؤمنون معه وهم أصحابه وروي عن البراء بن عازب وقتادة والحسن أنه إنما جاوز معه المؤمنون خاصة كانوا مثل عدد أهل بدر وقيل بل جاوز المؤمنون والكافرون إلا أن الكافرين انعزلوا وبقي المؤمنون على عدد أهل بدر عن ابن عباس والسدي وهذا أقوى لقوله سبحانه {فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه} فلما رأوا كثرة جنود جالوت {قالوا} أي قال الكفار منهم {لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده} فقال المؤمنون حينئذ الذين عددهم عدة أهل بدر {كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله} قال أبو القاسم البلخي ويجوز أن يكونوا كلهم مؤمنين غير أن بعضهم أشد إيقانا وأقوى اعتقادا وهم الذين قالوا {كم من فئة قليلة} إلى آخره {قال الذين يظنون أنهم ملاقوا الله} أي راجعون إلى الله وإلى جزائه قيل في يظنون ثلاثة أقوال ( أحدها ) إن معنى يظنون يستيقنون عن السدي كقول دريد بن الصمة :

فقلت لهم ظنوا بألفي مدجج *** سراتهم في الفارسي المسرد (4)

 أي : أيقنوا ( والثاني ) إن معناه يحدثون نفوسهم وهو أصل الظن لأن حديث النفس بالشيء قد يكون مع الشك وقد يكون مع العلم إلا أنه قد كثر على ما كان مع الشك ( والثالث ) يظنون أنهم ملاقوا الله بالقتل في تلك الوقعة {كم من فئة} أي فرقة {قليلة غلبت فئة كثيرة} أي قهرت فرقة كثيرة {بإذن الله} أي بنصره عن الحسن لأنه إذا أذن الله في القتال نصر فيه على الوجه الذي أذن فيه {والله مع الصابرين} بالنصرة لهم على أعدائهم .

وقوله تعالى : {ولَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوت وجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صبراً وثَبِّت أَقْدَامَنَا وانصرْنَا عَلى الْقَوْمِ الْكفِرِينَ} :

{ولما برزوا} أي ظهر طالوت والمؤمنون معه لمحاربة جالوت {وجنوده قالوا ربنا أفرغ} أي أصب علينا صبرا أي وفقنا للصبر على الجهاد وشبهة بتفريغ الإناء من جهة أنه نهاية ما توجبه الحكمة كما أنه نهاية ما في الواحد من الآنية {وثبت أقدامنا} أي وفقنا للثبوت على الأمر {وانصرنا} أعنا {على} جهاد {القوم الكافرين} قوم جالوت .

وقوله : {فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللَّهِ وقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوت وءَاتَاهُ اللَّهُ الْمُلْك والحْكمَةَ وعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ ولَولا دَفْعُ اللَّهِ النَّاس بَعْضهُم بِبَعْض لَّفَسدَتِ الأَرْض ولَكنَّ اللَّهَ ذُو فَضل عَلى الْعَلَمِينَ} :

فقد ذكر سبحانه تمام القصة فقال {فهزموهم} ولا بد من حذف هنا كأنه لما قالوا ربنا أفرغ علينا صبرا قال فاستجاب لهم ربهم فهزموهم بنصره أي دفعوهم وكسروهم لأن ذكر الهزيمة بعد سؤال النصرة دليل على معنى الإجابة ومعنى هزموهم سببوا لهزيمتهم بأن فعلوا ما ألجأهم إليها فعلى هذا يكون حقيقة وقال أبو علي الجبائي ذلك مجاز لأنهم لم يفعلوا هزيمتهم كما يقال أخرجه من منزله إذا ألجأه إلى الخروج ولم يفعل خروجه والصحيح الأول وقوله {بإذن الله} أي بأمر الله وقيل بعلم الله {وقتل داود جالوت} .

[القصة]

وكان من قصة داود على ما رواه علي بن إبراهيم بن هاشم عن الصادق (عليه السلام) أن الله أوحى إلى نبيهم أن جالوت يقتله من يستوي عليه درع موسى وهو رجل من ولد لاوي بن يعقوب واسمه داود بن أيشا راع وكان لأيشا عشرة بنين أصغرهم داود فلما بعث الله طالوت إلى بني إسرائيل وجمعهم لحرب جالوت بعث إلى أيشا بأن أحضر ولدك فلما حضروا دعا واحدا واحدا من ولده فألبسه درع موسى فمنهم من طالت عليه ومنهم من قصرت عنه فقال لأيشا هل خلفت من ولدك أحدا قال نعم أصغرهم تركته في الغنم يرعاها .

 فبعث إليه فجاء به فلما دعي أقبل ومعه مقلاع قال فنادته ثلاث صخرات في طريقه يا داود خذني (5) فأخذها في مخلاته وكان حجر الفيروزج وكان داود شديد البطش شجاعا قويا في بدنه فلما جاء إلى طالوت ألبسه درع موسى فاستوت عليه قال فجاء داود فوقف حذاء جالوت وكان جالوت على الفيل وعلى رأسه التاج وفي جبهته ياقوتة تلمع نورا وجنوده بين يديه فأخذ داود حجرا من تلك الأحجار فرمى به في ميمنة جالوت ووقع عليهم فانهزموا وأخذ حجرا آخر فرمى به في ميسرة جالوت فانهزموا ورمى بالثالث إلى جالوت فأصاب موضع الياقوتة في جبهته ووصلت إلى دماغه ووقع إلى الأرض ميتا .

 وقيل : إن جالوت طلب البراز فخرج إليه داود فرماه بحجر من مقلاع فوقع بين عينيه وخرج من قفاه وأصاب جماعة كثيرة من أهل عسكره فقتلهم وانهزم القوم عن آخرهم عن وهب وغيره من المفسرين .

 {وآتاه الله الملك} أي وأعطاه الملك بعد قتل داود جالوت بسبع سنين عن الضحاك {والحكمة} قيل النبوة ولم يكن نبيا قبل قتل جالوت فجمع الله له الملك والنبوة عند موت طالوت في حالة واحدة لأنه لا يجوز أن يترأس من ليس بنبي (6) لأنه قلب ما توجبه الحكمة لأن النبي يوثق بظاهره وباطنه ولا يخبر إلا بحق ولا يدعو إلا إلى حق فليس كذلك من ليس بنبي عن الحسن وقيل يجوز ذلك إذا كان يفعل ما يفعل بأمره ومشورته {وعلمه مما يشاء} معناه وعلمه أمور الدين وما شاء من أمور الدنيا منها صنعة الدروع فإنه كان يلين له الحديد كالشمع وقيل الزبور والحكم بين الناس وكلام الطير والنمل وقيل الصوت الطيب والألحان .

{ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض} قيل فيه ثلاثة أقوال ( أحدها ) لولا دفع الله بجنود المسلمين الكفار ومعرتهم لغلبوا وخربوا البلاد عن ابن عباس ومجاهد ( والثاني ) معناه يدفع الله بالبر عن الفاجر الهلاك عن علي وقتادة وجماعة من المفسرين ومثله ما رواه جميل عن أبي عبد الله قال إن الله يدفع بمن يصلي من شيعتنا عمن لا يصلي منهم ولو اجتمعوا على ترك الصلاة لهلكوا وإن الله ليدفع بمن يزكي من شيعتنا عمن لا يزكي منهم ولو اجتمعوا على ترك الزكاة لهلكوا وإن الله ليدفع بمن يحج من شيعتنا عمن لا يحج منهم ولو اجتمعوا على ترك الحج لهلكوا .

 وقريب من معناه ما روي عن النبي أنه قال لولا عباد الله ركع وصبيان رضع وبهائم رتع لصب عليكم العذاب صبا وروى جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله إن الله يصلح بصلاح الرجل المسلم ولده وولد ولده وأهل دويرته ودويرات حوله ولا يزالون في حفظ الله ما دام فيهم ( والثالث ) أن في معنى قول الحسن ما يزع (7) الله بالسلطان أكثر مما يزع بالقرآن لأن من يمتنع عن الفساد لخوف السلطان أكثر ممن يمتنع منه لأجل الوعد والوعيد الذي في القرآن {ولكن الله ذو فضل على العالمين} أي ذو نعمة عليهم في دينهم ودنياهم .

وقوله تعالى : {تِلْك ءَايَت اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْك بِالْحَقِّ وإِنَّك لَمِنَ الْمُرْسلِينَ} :

{تلك} إشارة إلى ما تقدم ذكره من إماتة ألوف من الناس دفعة واحدة وإحيائهم دفعة واحدة بدعاء نبيهم ومن تمليك طالوت وهومن أهل الخمول الذي لا ينقاد لمثله الناس لما جعل الله له من الآية علما على تمليكه ونصرة أصحاب طالوت مع قلة عددهم وضعفهم على جالوت وأصحابه مع قوتهم وشوكتهم {آيات الله} أي دلالات الله على قدرته {نتلوها عليك} نقرؤها عليك يا محمد {بالحق} بالصدق وقيل يقرأها جبريل عليك {بالحق} بأمرنا {وإنك لمن المرسلين} معناه وإنك لمن المرسلين بدلالة إخبارك بهذه الآيات مع أنك لم تشاهدها ولم تخالط أهلها ولا تعلم ذلك مع عدم المشاهدة ومخالطة أهلها إلا بوحي من جهة الله والله لا يوحي إلا إلى أنبيائه .

___________________________

1- مجمع البيان ، الطبرسي ، ج2 ، ص139-153 .

2- [أي من]

3- بثينة : العذرية كجهينة : صاحبة جميل .

4- المدجج : اللابس السلاح . سراه القوم : سادتهم . المسرد : الدرع .

5-[واحضر] .

6- [على نبي] .

7- أي : ما يكفه .

 

تفسير الكاشف
- ذكر محمد جواد مغنية في تفسير هذه  الآيات (1) :

 

{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلأِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى } . ألم تر خطاب في ظاهره موجه إلى النبي ، وفي المعنى إلى جميع السامعين . . وهذه الصيغة يخاطب بها العالم بالقصة ، وغير العالم بها ، فتقول له : ألم تر إلى فلان أي شيء فعل ، وأنت تريد أن تعرفه بما فعل ، والملأ اسم جمع ، لا واحد له من لفظه ، كالقوم والجيش والرهط . { إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} . قيل : ان النبي الذي قالوا له هذا القول هو صموئيل .

{ قالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلَّا تُقاتِلُوا} . هل هنا للتقرير ، وعسيتم بالفتح ، ومعناها المقاربة ، والمراد بها التوقع ، أي هل الأمر كما أتوقعه أنا منكم من التخاذل وترك القتال إذا فرض عليكم ؟ ! {قالُوا وما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وأَبْنائِنا} . أنكروا أن يكون لهم أي داع لترك الجهاد ، وبينوا السبب الذي يدعوهم للقتال ، وهو طردهم من ديارهم ، وبعدهم عن أبنائهم .

{ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ} . وأكثر الناس على هذا الوصف ، يقررون ويصممون على الاقدام والعمل ، حتى إذ جد الجد تواروا في جحورهم ، وأبلغ ما قيل في ذلك كلمة لسيد الشهداء الحسين بن علي ( عليه السلام ) :

الناس عبيد الدنيا ، والدين لعق على ألسنتهم يحوطونه ما درت معايشهم ، فإذا محصوا بالبلاء قل الديانون .

{وقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهً قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً قالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا ونَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ ولَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ } . هذا المنطق لا يختص ببني إسرائيل ، فلقد كان الناس ، وما زال أكثرهم يزعمون ان المناصب العالية يجب أن تكون لأهل المال والجاه : {وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا } [الفرقان : 41] .

{قالَ إِنَّ اللَّهً اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ والْجِسْمِ} . أي ان الرئاسة لا تكون بالمال والنسب ، بل بالعلم والإخلاص ، والمراد ببسطة الجسم السلامة من الأمراض ، لأن المرض يمنع من القيام بواجبات الرئاسة ، وقيل : ان طالوت كان أطول من الرجل المعتاد بمقدار ذراع اليد .

مشيئة اللَّه وسلطان الجور :

{واللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ } . ان اللَّه سبحانه مالك الملك يؤتي الملك من يشاء ، وينزع الملك ممن يشاء ، ويعز من يشاء ، ويذل من يشاء ، بيده الخير ، وهو على كل شيء قدير . . ما في ذلك ريب ، ولكنه جلت حكمته عادل

لا يظلم أحدا ، وحكيم لا يفعل عبثا ، كيف وهو القائل : {وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ} [الرعد : 8] . أي بنظام وسبب ، لا بالصدفة والفوضى ، حتى المال الحرام ، والسلطان القائم على الظلم والاستبداد لهما أسبابهما الاجتماعية من نظام جائر ، ومجتمع فاسد ، وجهل قاتل ، وما إليه .

وتسأل : هل يستند سلطان الجور ، والثراء المغتصب إلى مشيئة اللَّه ؟ .

الجواب : كلا ، لأن اللَّه سبحانه قد حرم الظلم ، والغصب ؟ ! . أجل ، انه تعالى لا يتدخل بإرادته التكوينية في الأمور الاجتماعية على طريقة ( كن فيكون ) .

انه سبحانه لا يردع الظالم عن ظلمه بقوة قاهرة ، وانما ينهاه بإرادة التشريع والإرشاد ، ويحذره من الظلم ، ويتوعده عليه ، فإذا خالف عاقبه يوم الجزاء الأكبر . . ولوشاء أن يمنعه لفعل ، ولكنه يترك الأمور تجري على أسبابها وسننها . . وربما كان هذا هو الوجه المسوغ لنسبة التمليك إليه بوجه عام ، وعليه يكون معنى يؤتي الملك من يشاء انه سبحانه لو أراد أن يمنع الملك بقوة قاهرة عمن لا يستحقه لفعل ، ولم يصل الملك إلى الظالم برغم وجود أسبابه العادية .

وكيف كان ، فان ثراء المرء وسلطانه يأتيان نتيجة للمجتمع الذي يعيش فيه ، أما نسبتهما إلى مشيئة اللَّه مباشرة ، وبدون توسط سبب من الأسباب الخارجية فخطأ محض .

{وقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ } . التابوت هو الصندوق الذي كان موسى يضع التوراة فيه ، وكان اللَّه قد رفعه إلى السماء بعد وفاة موسى سخطا على بني إسرائيل - كما قيل – {فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ } . أي تسكن إليه نفوسكم ، وتطمئن به قلوبكم ، حيث كان للتابوت شأن ديني عظيم عند بني إسرائيل .

{وبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وآلُ هارُونَ } . لم يبين اللَّه البقية ما هي ؟ .

وآل موسى وهارون هم الأنبياء الذين توارثوا التابوت . { تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ } . أي بمعجزة خارقة للعادة .

{فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ قالَ إِنَّ اللَّهً مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي ومَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ } . روي ان طالوت قال لبني إسرائيل : لا يخرج معي إلى الجهاد شيخ ولا مريض ، ولا من بنى بناء لم يفرغ منه ، ولا صاحب تجارة مشتغل بها ، ولا رجل تزوج امرأة لم يبن بها ، فاجتمع جماعة ممن وصف ، وكان الوقت قيظا شديد الحر ، وسلكوا مفازة لا ماء فيها ، ولما شكوا قلة الماء قال طالوت لهم : اللَّه سيختبر حالكم في الطاعة والمعصية بنهر تمرون عليه ، فمن شرب منه فليس من أشياعي المؤمنين الا أن يتناول قليلا ، وهو غرفة تؤخذ باليد . {فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ } . قيل :

كان عدد هؤلاء المؤمنين 313 على عدد أهل بدر . . ولقد كان ، وما زال ، ولن يزال الطيبون المخلصون أندر من كل نادر .

{ فَلَمَّا جاوَزَهُ هُو والَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قالُوا لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وجُنُودِهِ } .

سار طالوت هو والذين أطاعوه فيما ندبهم إليه بعد أن تخطوا النهر ، حتى التقوا بجالوت وجنوده ، ولما شاهدوا كثرة عدوهم انقسموا فريقين : فريق قال :

لا طاقة لنا بمحاربتهم ، وفريق قال : {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ واللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ } الذين ثبتوا وجاهدوا وضحوا من أجل حياة أفضل ، وهي أن يعيشوا أحرارا في وطن حر ، ومكتفين في مجتمع لا جائع فيه ، وعلماء في بلد العلم والحضارة ، أما الصبر على الذلة والمسكنة فإنه رجس من عمل الشيطان .

{ولَمَّا بَرَزُوا لِجالُوتَ وجُنُودِهِ قالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وثَبِّتْ أَقْدامَنا وانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ } . لما رأى المؤمنون القلة في جانبهم ، والكثرة في جانب عدوهم لجأوا إليه سبحانه داعين متضرعين بإخلاص ، فاستجاب لهم {وقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ } ونصر اللَّه المؤمنين على الكافرين ، وحقق بفضله ورحمته ظن من قال : {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ } .

 { وآتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ والْحِكْمَةَ وعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ} . أي ان اللَّه سبحانه منح داود الملك ، لأنه تولى منصب طالوت بعد وفاته ، والحكمة إشارة إلى الزبور ، قال تعالى : {وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا} [النساء : 163] . وعلمه صنع الدروع ، قال تعالى : { وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ} [الأنبياء : 80] .

{ولَولا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ ولكِنَّ اللَّهً ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ} . تشير الآية الكريمة إلى ان أي مجتمع لا تقوم فيه هيئة قوية رادعة لا بد أن تسوده الفوضى والانحلال . . وان العقل والشرع من غير قوة تنفيذية لا يحققان الأمن والنظام ، قال الإمام علي ( عليه السلام ) : (السلطان وزعة اللَّه في أرضه . .) ولكن طالما أفسد السلطان الأرض وأهلها . . وعلى الرغم من ذلك لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم .

{ تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ } . لقد تلى اللَّه آياته على نبيه الكريم ، وتلاها النبي علينا ، لنتدبر حقيقتها ، ونتخذها دستورا في مقاصدنا ، وجميع أفعالنا ، لنحيا حياة طيبة هادئة . . {قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ } [الأنبياء : 45] .

_______________________________

1- الكاشف ، محمد جواد مغنية ، ج1 ، ص379-383 .

 

تفسير الميزان
- ذكر الطباطبائي في تفسير هذه الآيات (1) :

 

قوله تعالى : {أ لم تر إلى الملإ من بني إسرائيل} إلى قوله : {في سبيل الله} ، - الملأ – كما قيل : الجماعة من الناس على رأي واحد ، سميت بالملإ لكونها تملأ العيون عظمة وأبهة .

وقولهم لنبيهم {ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله} ، على ما يعطيه السياق يدل على أن الملك المسمى بجالوت كان قد تملكهم ، وسار فيهم بما افتقدوا به جميع شئون حياتهم المستقلة من الديار والأولاد بعد ما كان الله أنجاهم من آل فرعون ، يسومونهم سوء العذاب ببعثة موسى وولايته وولاية من بعده من أوصيائه ، وبلغ من اشتداد الأمر عليهم ما انتبه به الخامد من قواهم الباطنة ، وعاد إلى أنفسهم العصبية الزائلة المضعفة فعند ذلك سأل الملأ منهم نبيهم أن يبعث لهم ملكا ليرتفع به اختلاف الكلمة من بينهم وتجتمع به قواهم المتفرقة الساقطة عن التأثير ، ويقاتلوا تحت أمره في سبيل الله .

قوله تعالى : قال : {هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا} ، كان بنو إسرائيل سألوا نبيهم أن يبعث لهم ملكا يقاتلون معه في سبيل الله وليس ذلك للنبي بل الأمر في ذلك إلى الله سبحانه ، ولذلك أرجع نبيهم الأمر في القتال وبعث الملك إلى الله تعالى ، ولم يصرح باسمه تعظيما لأن الذي أجابهم به هو السؤال عن مخالفتهم وكانت مرجوة منهم ظاهرة من حالهم بوحيه تعالى فنزه اسمه تعالى من التصريح به بل إنما أشار إلى أن الأمر منه وإليه تعالى بقوله : {إن كتب} ، و- الكتابة – وهي الفرض إنما تكون من الله تعالى .

وقد كانت المخالفة والتولي عن القتال مرجوا منهم لكنه أورده بطريق الاستفهام ليتم الحجة عليهم بإنكارهم فيما سيجيبون به من قولهم : {وما لنا أن لا نقاتل في سبيل الله} .

قوله تعالى : قالوا : {وما لنا أن لا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا} ، - الإخراج – من البلاد لما كان ملازما للتفرقة بينهم وبين أوطانهم المألوفة ، ومنعهم عن التصرف فيها والتمتع بها ، كني به عن مطلق التصرف والتمتع ، ولذلك نسب الإخراج إلى الأبناء أيضا كما نسب إلى البلاد .

قوله تعالى : {فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم والله عليم بالظالمين} ، تفريع على قول نبيهم : هل عسيتم "إلخ" ، وقولهم : {وما لنا أن لا نقاتل} ، وفي قوله تعالى : {والله عليم بالظالمين} ، دلالة على أن قول نبيهم لهم : {هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا} ، إنما كان لوحي من الله سبحانه : أنهم سيتولون عن القتال .

قوله تعالى : {وقال لهم نبيهم إن الله قد بعث} إلى قوله : {من المال} في جوابه (عليه السلام) هذا حيث نسب بعث الملك إلى الله تنبيه بما فات منهم إذ قالوا لنبيهم ابعث لنا ملكا نقاتل ولم يقولوا : اسأل الله أن يبعث لنا ملكا ويكتب لنا القتال .

وبالجملة التصريح باسم طالوت هو الذي أوجب منهم الاعتراض على ملكه وذلك لوجود صفتين فيه كانتا تنافيان عندهم الملك ، وهما ما حكاهما الله تعالى من قولهم أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ، ومن المعلوم أن قولهم هذا لنبيهم ، ولم يستدلوا على كونهم أحق بالملك منه بشيء يدل على أن دليله كان أمرا بينا لا يحتاج إلى الذكر ، وليس إلا أن بيت النبوة وبيت الملك في بني إسرائيل وهما بيتان مفتخران بموهبة النبوة والملك كانتا غير البيت الذي كان منه طالوت ، وبعبارة أخرى لم يكن طالوت من بيت الملك ولا من بيت النبوة ولذلك اعترضوا على ملكه {بأنى} ، وهم أهل بيت الملك أو الملك والنبوة معا ، أحق بالملك منه لأن الله جعل الملك فينا فكيف يقبل الانتقال إلى غيرنا ، وهذا الكلام منهم من فروع قولهم بنفي البداء وعدم جواز النسخ والتغيير حيث قالوا : {يد الله مغلولة غلت أيديهم} ، وقد أجاب عنه نبيهم بقوله : {إن الله اصطفاه عليكم} فهذه إحدى الصفتين المنافيتين للملك عندهم ، والصفة الثانية ما في قولهم : {ولم يؤت سعة من المال} وقد كان طالوت فقيرا ، وقد أجاب عنه نبيهم بقوله : {وزاده بسطة في العلم والجسم} "إلخ" .

قوله تعالى : {قال إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم} ، الاصطفاء والاستصفاء – الاختيار وأصله الصفو ، و- البسطة – هي السعة والقدرة ، وهذان جوابان عن اعتراضهم .

أما اعتراضهم بكونهم أحق بالملك من طالوت لشرف بيتهم ، فجوابه : أن هذه مزية كان الله سبحانه خص بيتهم بها وإذا اصطفى عليهم غيرهم كان أحق بالملك منهم ، وكان الشرف والتقدم لبيته على بيوتهم ولشخصه على أشخاصهم ، فإنما الفضل يتبع تفضيله تعالى .

وأما اعتراضهم بأنه لم يؤت سعة من المال ، فجوابه : أن الملك وهو استقرار السلطة على مجتمع من الناس حيث كان الغرض الوحيد منه أن يتلاءم الإرادات المتفرقة من الناس وتجتمع تحت إرادة واحدة وتتحد الأزمة باتصالها بزمام واحد فيسير بذلك كل فرد من أفراد المجتمع طريق كماله اللائق به فلا يزاحم بذلك فرد فردا ، ولا يتقدم فرد من غير حق ، ولا يتأخر فرد من غير حق .

وبالجملة الغرض من الملك أن يدبر صاحبه المجتمع تدبيرا يوصل كل فرد من أفراده إلى كماله اللائق به ، ويدفع كل ما يمانع ذلك ، والذي يلزم وجوده في نيل هذا المطلوب أمران : أحدهما : العلم بجميع مصالح حياة الناس ومفاسدها ، وثانيهما : القدرة الجسمية على إجراء ما يراه من مصالح المملكة ، وهما اللذان يشير إليهما قوله تعالى : {وزاده بسطة في العلم والجسم} ، وأما سعة المال فعده من مقومات الملك من الجهل .

ثم جمع الجميع تحت حجة واحدة ذكرها بقوله تعالى : {والله يؤتي ملكه من يشاء} ، وهو أن الملك لله وحده ليس لأحد فيه نصيب إلا ما آتاه الله سبحانه منه وهو مع ذلك لله كما يفيده الإضافة في قوله تعالى ، {يؤتي ملكه} ، وإذا كان كذلك فله تعالى التصرف في ملكه كيف شاء وأراد ، ليس لأحد أن يقول : لما ذا أو بما ذا أي أن يسأل عن علة التصرف لأن الله تعالى هو السبب المطلق ، ولا عن متمم العلية وأداة الفعل لأن الله تعالى تام لا يحتاج إلى متمم فلا ينبغي السؤال عن نقل الملك من بيت إلى بيت ، أو تقليده أحدا ليس له أسبابه الظاهرة من الجمع والمال .

والإيتاء والإفاضة الإلهية وإن كانت كيف شاء ولمن شاء غير أنها مع ذلك لا تقع جزافا خالية عن الحكم والمصالح ، فإن المقصود من قولنا : إنه تعالى يفعل ما يشاء ، ويؤتي الملك من يشاء ونظائر ذلك ليس أن الله سبحانه لا يراعي في فعله جانب المصلحة أو أنه يفعل فعلا فإن اتفق أن صادف المصلحة فقد صادف وإن لم يصادف فقد صار جزافا ولا محذور لأن الملك له فله أن يفعل ما يشاء هذا ، فإن هذا مما يبطله الظواهر الدينية والبراهين العقلية .

بل المقصود بذلك : أن الله سبحانه حيث ينتهي إليه كل خلق وأمر فالمصالح وجهات الخير مثل سائر الأشياء مخلوقة له تعالى ، وإذا كان كذلك لم يكن الله سبحانه في فعله مقهورا لمصلحة من المصالح محكوما بحكمها ، كما أننا في أفعالنا كذلك ، فإذا فعل سبحانه فعلا أو خلق خلقا ولا يفعل إلا الجميل ، ولا يخلق إلا الحسن كان فعله ذا مصلحة مرعيا فيه صلاح العباد غير أنه تعالى غير محكوم ولا مقهور للمصلحة .

ومن هنا صح اجتماع هذا التعليل مع ما تقدمه ، أعني اجتماع قوله تعالى : {والله يؤتي ملكه من يشاء} ، مع قوله تعالى : {إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم} ، فإن الحجة الأولى مشتملة على التعليل بالمصالح والأسباب ، والحجة الثانية على إطلاق الملك الذي يفعل ما يشاء ، ولولا أن إطلاق الملك وكونه تعالى يفعل ما يشاء لا ينافي كون أفعاله مقارنة للمصالح والحكم لم يصح الجمع بين الكلاميين فضلا عن تأييد أحدهما أو تتميمه بالآخر .

وقد أوضح هذا المعنى أحسن الإيضاح تذييل الآية بقوله تعالى : {والله واسع عليم} فإن الواسع يدل على عدم ممنوعيته تعالى عن فعل وإيتاء أصلا والعليم يدل على أن فعله تعالى فعل يقع عن علم ثابت غير مخطئ فهو سبحانه يفعل كل ما يشاء ولا يفعل إلا فعلا ذا مصلحة .

و- الوسعة والسعة – في الأصل حال في الجسم به يقبل أشياء أخر من حيث التمكن كسعة الإناء لما يصب فيه ، والصندوق لما يوضع فيه ، والدار لمن يحل فيها ثم استعير للغني ولكن لا كل غني ومن كل جهة ، بل من جهة إمكان البذل معه كان المال يسع بذل ما أريد بذله وبهذا المعنى يطلق عليه سبحانه ، فهو سبحانه واسع أي غني لا يعجزه بذل ما أراد بذله بل يقدر على ذلك .

قوله تعالى : {وقال لهم نبيهم إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم} ، التابوت – هو الصندوق ، وهو على ما قيل فعلوت من التوب بمعنى الرجوع لأن الإنسان يرجع إلى الصندوق رجوعا بعد رجوع .

__________________________

1- الميزان ، الطباطبائي ، ج2 ، ص242-245 .

 

تفسير الامثل
- ذكر الشيخ ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذه  الآيات (1) :

 

{ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبيّ لهم ابعث  لنا ملكاً نقاتل في سبيل الله} .

(الملأ) هم الجماعة يجتمعون على رأي فيملأون العيون رواءً ومنظراً والنفوس بهاءً وجلالاً ولذلك يقال لأشراف كلّ قوم (الملأ) لأنّهم بما لهم من مقام ومنزلة يملأون العين .

هذه الآية ـ كما قلنا ـ تشير إلى جماعة كبيرة من بني إسرائيل طلبوا بصوت واحد من نبيّهم أن يختار لهم أميراً وقائداً ليحاربوا بقيادته (جالوت) الّذي كان يُهدّد مجتمعهم ودينهم واقتصادهم بالخطر .

وعلى الرّغم من أنّ الجماعة المذكورة كانت تريد أن تدفع العدو المعتدي الذي أخرجهم من أرضهم ويُعيدوا ما اُخذ منهم ، فقد وُصفت تلك الحرب بأنّها في سبيل الله ، وبهذا يتبيّن أنّ ما يُساعد على تحرّر النّاس وخلاصهم من الأسر ورفع الظّلم والعدوان يُعتبر في سبيل الله .

وقد ذكر البعض أنّ اسم ذلك النبي هو(شمعون) وذكر آخرون بأنّه (إشموئيل) وبعضٌ (يوشع) ولكنّ المشهور بين المفسّرين أنّه (إشموئيل) إي إسماعيل بلغة العرب ، وبهذا وردت رواية عن الإمام الباقر (عليه السلام) أيضاً (2) .

ولمّا كان نبيّهم يعرف فيهم الضعف والخوف قال لهم : يمكن أن يصدر إليكم الأمر للجهاد فلا تطيعون {قال هل عسيتم إن كتب عليكم القتال أن لا تقاتلوا} .

ولكنّهم قالوا : كيف يمكن أن نتملّص من محاربة العدو الذي أجلانا عن أوطاننا وفرّق بيننا وبين أبنائنا {قالوا وما لنا ألاَّ نقاتل في سبيل الله وقد اُخرجنا من ديارنا وأبناءنا} وبذلك أعلنوا وفاءهم وتمسّكهم بالعهد .

ومع ذلك فإنّ هذا الجمع من بني إسرائيل لم يمنعهم اسم الله ولا أمره ولا الحفاظ على استقلالهم والدفاع عن وجودهم ولا تحرير أبناءهم من نقض العهد ، ولذلك يقول القرآن مباشرة بعد ذلك : {فلمّا كُتب عليهم القتال تولّوا إلاَّ قليلاً منهم والله عليم بالظالمين} .

وذكر بعض المفسّرين أنّ عدّة من بقي مع طالوت (313 نفر) بعدد جيش الإسلام يوم بدر (3) .

وعلى كلّ حال فإنّ نبيّهم أجابهم على طلبهم إلتزاماً منه بواجبه وجعل عليهم طالوت ملكاً بأمر من الله تعالى {وقال لهم نبيّهم إنّ الله قد بعث لكم طالوت ملكاً} .

ويتّضح من هذه الآية أنّ الله هو الذي اختار طالوت ليكون ملكاً على بني إسرائيل وقائداً لعسكرهم ، ولعلّ استعمال كلمة (قد بعث) يشير إلى ما ذكرنا في القصّة من الحوادث غير المتوقّعة الذي جاءت بطالوت إلى مدينة ذلك النبي والحضور في مجلسه ، فكذلك يظهر من كلمة (ملكاً) أنّ طالوت لم يكن قائداً للجيش فحسب ، بل كان ملكاً على ذلك المجتمع (4) .

ومن هنا بدأت المخالفات والإعتراضات وقال بعضهم : {قالوا أنّا يكون له الملك علينا ونحن أحقُّ بالملك منه ولم يُؤتَ سعةً من المال} .

وهذا هو أوّل اعترضاً ونقض في العهد من قِبل بني إسرائيل لنبيّهم مع أنّه قد صرّح لهم أنّ الله هو اختار طالوت ، وفي الواقع أنّهم اعترضوا على الله تعالى بقولهم : (إنّنا أجدر من طالوت بالحكم لأنّ الحكم لابدّ فيه من شرطين لا يتوفّران في طالوت وهما : الحسب والنسب من جهة ، والمال والثروة من جهة اُخرى ، وقد ذكرنا في القصّة أنّ طالوت كان من قبيلة مغمورة من قبائل بني إسرائيل ، ومن حيث الثروة لم يكن سوى مُزارع فقير .

غير أنّ القرآن الكريم يشير إلى الجواب القاطع على هذا الإعتراض إذ يقول : {إنّ الله اصطفاه وزاده بسطة في العلم والجسم} .

فأفهمهم بذلك أنّ اختيار الله طالوت ملكاً وقائداً لما يتمتّع به من علم وحكمة وعقل ، ومن الناحية البدنيّة فهو قوي ومقتدر .

وهذا يعني أوّلاً : أنّ هذا الإختيار هو إختيار الله تعالى .

وثانياً : إنّكم على خطأ كبير في تشخيص شرائط القيادة ، لأنّ النسب الرّفيع والثروة الكبيرة ليستا امتيازين للقائد إطلاقاً ، لأنّهما من الإمتيازات الإعتبارية الخارجيّة ، أمّا العلم والمعرفة وكذلك القوّة الجسميّة فهما امتيازان واقعيّان ذاتيان حيث يلعبان دوراً مهمّاً في شخصيّة القائد .

إنّ قائد العالم يعرف طريق سعادة المجتمع ويرسم الخطط للوصول إليه بعلمه وحنكته ، وكذلك يرسم الاُسلوب الصحيح في مواجهة الأعداء ، ثمّ يقوم بقوّته الجسمانيّة بتمثيل هذا المخطَّط على أرض الواقع .

كلمة (بسطة) إشارة إلى اتساع وجود الإنسان في أنوار العلم والقوّة ، أي أنّ الإنسان بالعلم والحكمة والقوّة الجسميّة الكافية يزداد سعةً في وجوده ، وهنا نلحظ أنّ البسطة في العلم تقدّمت على القوّة الجسميّة ، لأنّ الشرط الأوّل هو العلم والمعرفة .

ويُستفاد ضمناً من هذا التعبير أنّ مقام الإمامة والقيادة من الأحكام الإلهيّة وأنّ الله تعالى هو الذي يشخّص اللاّئق لها ، فلو رأى اللّياقة الكافية في أولاد الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لجعل الإمامة عندهم ، ولو توفّرت عند أشخاص آخرين لجعلها فيهم ، وهذا هوما يعتقد به علماء الشيعة ويدافعون عنه .

ثمّ تضيف الآية {والله يُؤتي ملكه من يشاء والله واسعٌ عليم} .

هذه الجملة يمكن أن تكون إشارة إلى شرط ثالث للقائد ، وهو توفير الله تعالى الإمكانيّات وآليات القيادة ووسائل الحكم ، لأنّه من الممكن أن يكون قائداً كاملاً من حيث العلم والقوّة ولكنّه محاط بظروف لا تمنحه أيّ استعداد للوصل إلى أهدافه المقدّسة ، ولاشكّ أنّ قائداً مع هذه الظّروف لا يمكن أن ينتصر وينجح في قيادته ، ولذلك يقول القرآن هنا أنّ الله تعالى يمنح الحكومة الإلهيّة لمن يشاء ، أي أنّه يهيّأ الظروف اللأزمة لنجاحه .

الآية التالية تبيّن أنّ بنى إسرائيل لم يكونوا قد اطمأنوا كلّ الاطمئنان إلى أنّ طالوت مبعوث من الله تعالى لقيادتهم على الرّغم من أن نبيّهم صرّح ذلك لهم ، ولهذا طلبوا منه الدّليل ، فكان جوابه أنّ الدليل سيكون مجيء التابوت أو صندوق العهد إليهم {وقال لهم نبيّهم إنّ آية ملكه أن يأتيكم التّابوت} .

فما هو تابوت بني إسرائيل أو صندوق العهد ؟ ومن الذي صنعه ؟ وما هي محتوياته ؟ فإنّ في تفاسيرنا وأحاديثنا ، وكذلك في العهد القديم ـ التوراة ـ كلاماً كثيراً عنه . إلاَّ أنّ أوضحها هوما جاءنا في أحاديث أهل البيت (عليهم السلام) وأقوال بعض المفسّرين من أمثال ابن عبّاس ، حيث قالوا إنّ التابوت هو الصندوق الذي وضعت فيه أُمّ موسى ابنها موسى وألقته في اليمّ ، وبعد أن انتشل أتباع فرعون الصندوق من البحر وأتوا به إليه وأخرجوا موسى منه ، ظلّ الصندوق في بيت فرعون ثمّ وقع بأيدي بني إسرائيل ، فكانوا يحترمونه ويتبرّكون به .

موسى (عليه السلام) وضع فيه الألواح المقدّسة ـ التي تحمل على ظهرها أحكام الله ـ ودرعه وأشياء أُخرى تخصّه وأودع كلّ ذلك في أواخر عمره لدى وصيّه يوشع ابن نون (5) .

وبهذا ازدادت أهميّة هذا الصندوق عند بني إسرائيل ، فكانوا يحملونه معهم كلّما نشبت حرب بينهم وبين الأعداء ، ليصعّد معنوياتهم ، لذلك قيل : إنّ بني

إسرائيل كانوا أعزّة كرماء ما دام ذلك الصندوق بمحتوياته المقدّسة بينهم ، ولكن بعد هبوط التزاماتهم الدينية وغلبة الأعداء عليهم سلب منهم الصندوق . واشموئيل ـ كما تذكر الآية ـ وعدهم بإعادة الصندوق باعتباره دليلاً على صدق قوله .

{فيه سكينةٌ مِن ربّكم وبقيةٌ ممّا ترك آلُ موسى وآلُ هارون} .

هذه الفقرة من الآية تبيّن أنّ الصندوق كما قلنا كان يحتوي على أشياء تضفي السكينة على بني إسرائيل وترفع معنوياتهم في الحوادث المختلفة {فيه سكينة من ربّكم} .

ثمّ إنّ محتويات الصندوق كانت تضمّ آثاراً ممّا خلف آل موسى وآل هارون أُضيفت إلى ما كان فيه من قبل ، وممّا يجدر ذكره هو أنّ «السكينة» بمعنى الهدوء ، ويقصد بها هنا هدوء النفس والقلب .

قال لهم اشموئيل : إنّ الصندوق سوف يعود إليكم لتستعيدوا الهدوء الذي فقدتموه . وفي الحقيقة أنّ هذا الصندوق بطابعه المعنويّ والتاريخيّ كان أكثر من مجرّد لواء لبني إسرائيل وشعار لهم . كان يمثّل رمز استقلالهم ووجودهم وبرؤيته كانوا يسترجعون ذكرى عظمتهم السابقة . لذلك كان الوعد بعودته بشارة عظيمة لهم .

{تحمله الملائكة} .

كيف جاء الملائكة بصندوق العهد ؟ في هذا أيضاً للمفسّرين كلام كثير أوضحها قولهم : جاء في التاريخ أنّه عندما وقع صندوق العهد بيد عبدة الأصنام في فلسطين وأخذوه إلى حيث يعبدون فيه أصنامهم ، أصابتهم على أثر ذلك مصائب كثيرة ، فقال بعضهم : ما هذه المصائب إلاَّ بسبب هذا الصندوق ، فعزموا على إبعاده عن مدينتهم وديارهم ، ولمّا لم يرض أحد بالقيام بالمهمّة اضطّروا إلى ربط الصندوق ببقرتين وأطلقوهما في الصحراء . واتّفق هذا في الوقت الذي تمّ فيه

نصب طالوت مَلكاً على بني إسرائيل . وأمر الله الملائكة أن يسوقوا الحيوانين نحو مدينة اشموئيل . وعندما رأى بنو إسرائيل الصندوق بينهم ، اعتبروه إشارة من الله على اختيار طالوت مَلكاً عليهم .

وعليه نسب حمل الصندوق إلى الملائكة ، لأنّهم هم الذين ساقوا البقرتين إلى بني إسرائيل .

في الحقيقة أنّ للملائكة معنىً واسعاً في القرآن والروايات ، يشمل فضلاً عن الكائنات الروحية العاقلة ، مجموعة من القوى الغامضة الموجودة في هذا العالم .

ويُستفاد ممّا تقدّم أنّه بالرّغم من ثبوت مسألة القيادة الإلهيّة لطالوت بالأدلّة والمعاجز الإلهيّة ، فهناك بعض الأفراد لضعف إيمانهم لم يسلّموا إلى هذا الحقّ ، وقد ظهرت هذه الحقيقة على أعمالهم العباديّة ومن ذلك تشير الجملة الأخيرة في هذه الآية {إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين} .

ثمّ أنّ بني إسرائيل رضخوا لقيادة طالوت فصنع منهم جيوشاً كثيرة وساروا إلى القتال ، وهنا تعرّض بني إسرائيل لاختبار عجيب ، ومن الأفضل أن نجمع تلك الأحداث ومجريات الاُمور من القرآن نفسه حيث يقول : {فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ } [البقرة : 249] (6) .

ويتّضح في هذه الموارد الامتحان الكبير الذي تعرّض له بنو إسرائيل وهو المقاومة الشديدة للعطش ، وكان هذا الامتحان ضروريّاً لجيش طالوت وخاصّة مع السّوابق السيّئة لهذا الجيش في بعض الحروب السابقة ، لأنّ الإنتصار يتوقّف على مقدار الانضباط وقدرة الإيمان والإستقامة في مقابل الأعداء والطّاعة لأوامر القيادة .

وطالوت الذي كان يتّجه بجنوده للجهاد ، كان لابدّ له أن يعلم إلى أيّ مدى يمكن الإعتماد على طاعة هؤلاء الجنود ، وعلى الأخصّ أُولئك الذين ارتضوه واستسلموا له على مضض متردّدين ، ولكنّهم في الباطن كانت تراودهم الشكوك بالنسبة لإمرته ، لذلك يؤمر طالوت أمراً إلهيّاً باختبارهم ، فيخبرهم أنّهم سوف يصلون عمّا قريب إلى نهر ، فعليهم أن يقاوموا عطشهم ، وألاَّ يشربوا إلاَّ قليلاً ، وبذلك يستطيع أن يعرف إن كان هؤلاء الذين يريدون أن يواجهوا سيوف الأعداء البتّارة يتحمّلون سويعات من العطش أم لا .

وشرب الأكثرية كما قلنا في سرد الحكاية ، وكما جاء بايجاز في الآية .

وهكذا جرت التصفية الثانية في جيش طالوت . وكانت التصفية الأُولى عندما نادى المنادي للاستعداد للحرب وطلب الجميع بالاشتراك في الجهاد إلاَّ الذين كانت لهم التزامات تجارية أو عمرانية أو نظائرها .

{فلمّا جاوَزه هو والذين آمنوا معه قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوتَ وجنودِه} .

تفيد هذه الآية أنّ تلك القلّة التي نجحت في الامتحان هي وحدها التي تحرّكت معه ، ولكن عندما خطر لهؤلاء القلّة أنهم مقدمون على مواجهة جيش جرّار وقوي ، ارتفعت أصواتهم بالتباكي على قلّة عددهم ، وهكذا بدأت المرحلة الثالثة في التصفية .

{قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ } [البقرة : 249] (7) .

«الفئة» أصلاً من «الفيء» بمعنى الرجوع ، ويقصد بها الجماعة الملتحمة التي يرجع بعضهم إلى بعض ليعضده . تقول الآية : إنّ الذين كانوا يؤمنون بيوم القيامة إيماناً راسخاً قالوا للآخرين : ينبغي ألاَّ تلتفتوا إلى (الكم) بل إلى (الكيف) إذ كثيراً ما يحدث أنّ الجماعة الصغيرة المتحلّية بالإيمان والعزم والتصميم تغلب الجماعة الكبيرة بإذن الله .

ينبغي أن ننتبه إلى أنّ «يظنّون» هنا تعني يعلمون ، أي أنّهم على يقين من قيام يوم القيامة ، ولا يعني الظنّ هنا الإحتمال ، وظنّ هذه تعني اليقين في كثير من الحالات ، حتّى لو اعتبرناها بمعنى الإحتمال ، فإنّها هنا تناسب المقام أيضاً ، إذ في هذه الحالة يكون المعنى أنّ مجرّد احتمال قيام يوم القيامة يكفي ، فكيف باليقين به حيث يحمل الإنسان على اتّخاذ قرار بالنسبة للأهداف الربّانية . إنّ من يحتمل النجاح في حياته ـ في الزراعة أو التجارة أو الصناعة أو السياسة ـ يمضي في مسيرته بكلّ عزم وتصميم .

أمّا لماذا يطلق على يوم القيامة يوم لقاء الله ، فذلك ما أوضحناه في الجزء الأول من هذا التفسير .

في الآية التالية يذكر القرآن الكريم موضوع المواجهة الحاسمة بين الجيشين ويقول : (ولمّا برزوا لجالوت وجنوده قالوا ربّنا أفرغ علينا صبراً وثبّت أقدامنا وأنصرنا على القوم الكافرين) .

(برزوا) من مادّة (بروز) بمعنى الظّهور ، فعندما يستعد المحارب للقتال ويتّجه إلى الميدان يقال أنّه برز للقتال ، وإذا طلب القتال من الأعداء يُقال أنّه طلب مبارزاً .

تقول هذه الآية أنّه عندما وصل طالوت وجنوده إلى حيث ظهر لهم جالوت وجيشه القوي ووقفوا في صفوف أمامه رفعوا أيديهم بالدّعاء ، وطلبوا من الله العليّ القدير ثلاثة اُمور ، الأوّل : الصّبر والإستقامة إلى آخر حد ، ولذا جاءت الجملة تقول : {أفرغ علينا صبراً} .

و(الإفراغ) تعني في الأصل صبّ السائل بحيث يخلو الإناء ممّا فيه تماماً ، ومجيء (صبر) بصيغة النكرة يؤكّد هذا المعنى بشكل أكبر .

الإعتماد على ربوبيّة الخالق جلّ وعلا بقولهم (ربّنا) وكذلك عبارة (إفراغ) مضافاً إلى كلمة (على) التي تبيّن أنّ النزول من الأعلى ، وكذلك عبارة (صبراً) في صيغة النكرة كلّ هذه المفردات تدلُّ على نكات عميقة لمفهوم هذا الدعاء وأنّه دعاء عميق المغزى وبعيد الأُفق .

الثاني : أنّهم طلبوا من الله تعالى أن يثبّت أقدامهم {وثبّت أقدامنا} حتّى لا يُرجّح الفرار على القرار ، والواقع أنّ الدعاء الأوّل إتّخذ سمة الطلب النفسي والباطني ، وهذا الدعاء له جنبة ظاهريّة وخارجيّة ، ومن المسلّم أنّ ثبّات القدم هومن نتائج روح الإستقامة والصبر .

الثالث : من الاُمور التي طلبها جيش طالوت هو{وانصرنا على القوم الكافرين} وهو في الواقع الهدف الأصلي من الجهاد ويُنفّذ النتيجة النهائيّة للصبر والإستقامة وثبات الأقدام .

ومن المسلّم أنّ الله تعالى سوف لا يترك عبادة هؤلاء لوحدهم أمام الأعداء مع قلّة عددهم وكثرة جيش العدو ، ولذلك تقول الآية التالية : {فهزموهم بإذن الله وقتل داوود جالوت} .

وكان داوود في ذلك الوقت شابّاً صغير السن وشجاعاً في جيش طالوت . ولا تبيّن الآية كيفيّة قتل ذلك الملك الجبّار بيد داود الشاب اليافع ، ولكن كما تقدّم في شرح هذه القصّة أنّ داود كان ماهراً في قذف الحجارة بالقلاّب حيث وضع في قلاّبه حجراً أو اثنين ورماه بقوّة وبمهارة نحو جالوت ، فأصاب الحجر جبهته بشدّة فصرعه في الوقت ، فتسّرب الخوف إلى جميع أفراد جيشه ، فانهزموا بسرعة أمام جيش طالوت ، وكأنّ الله تعالى أراد أن يظهر قدرته في هذا المورد وأنّ الملك العظيم والجيش الجرّار لا يستطيع الوقوف أمام شاب مراهق مسلّح بسلاح ابتدائي لا قيمة له .

تضيف الآية : {وآتاه الله الملك والحكمة وعلّمه ممّا يشاء} الضّمير في هاتين الجملتين يعود على داود الفاتح في هذه الحرب ، وعلى الرّغم من أنّ الآية لا تقول أنّ داود هذا هو داود النبي والد سليمان (عليهما السلام) ولكنّ جملة {وآتاه الله الملك والحكمة وعلّمه ممّا يشاء} تدلّ على أنّه وصل إلى مقام النبوّة ، لأنّ هذا ممّا يوصف به الأنبياء عادةً ، ففي الآية 20 من سورة ص نقرأ عن داود {وشددنا ملكه وآتيناه الحكم} كما أنّ الأحاديث الواردة في ذيل هذه الآية تشير إلى أنّه كان داود النبي نفسه .

وهذه العبارة يمكن أن تكون إشارة إلى العلم الإداري وتدبير البلاد وصنع الدّروع ووسائل الحرب وأمثال ذلك حيث كان داود (عليه السلام) يحتاج إليها في حكومته العظيمة ، لأنّ الله تعالى لا يُعطي منصباً ومقاماً لأحد العباد إلاّ ويؤتيه أيضاً الاستعداد الكامل والقابليّة اللاّزمة لذلك .

وفي ختام الآية إشارة إلى قانون كلّي فتقول : {ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكنّ الله ذو فضل على العالمين} .

فالله سبحانه وتعالى رحيم بالعباد ولذلك يمنع من تشرّي الفساد وسرايته إلى المجتمع البشري قاطبة .

وصحيح أنّ سنّة الله تعالى في هذه الدنيا تقوم على أصل الحريّة والإرادة والإختيار وأنّ الإنسان حرٌّ في اختيار طريق الخير أو الشر ، ولكن عندما يتعرّض العالم إلى الفساد والإندثار بسبب طغيان الطّواغيت ، فإنّ الله تعالى يبعث من عباده المخلصين من يقف أمام هذا الطغيان ويكسر شوكتهم ، وهذه من ألطاف الله تعالى على عباده . وشبيه هذا المعنى ورد في آية 40 من سورة الحج {ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدّمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد . . .} .

وهذه الآيات في الحقيقة بشارة للمؤمنين الّذين يقفون في مواقع أماميّة من مواجهة الطّواغيت والجبابرة فينتظرون نصرة الله لهم .

ويرد هنا سؤال ، وهو أنّ هذه الآية هل تشير إلى مسألة تنازع البقاء التي تعتبر أحد الأركان الأربعة لفرضية داروِن في مسألة تكامل الأنواع ؟ تقول الفرضيّة أنّ الحرب والنّزاع ضروريٌّ بين البشر ، وإلاّ فالسّكون والفساد سيعم الجميع ، فتعود الأجيال البشريّة إلى حالتها الاُولى ، فالتّنازع والصّراع الدائمي يؤدّي إلى بقاء الأقوى وزوال الضعفاء وانقراضهم ، وهكذا يتمّ البقاء للأصلح بزعمهم .

الجواب :

إنّ هذا التفسير يصح فيما إذا قطعنا صله هذه الآية لما قبلها تماماً ، وكذلك الآية المشابهة لها في سورة الحجّ ولكنّنا إذا اخذنا بنظر الإعتبار هذه الآيات رأيناها تدور حوّل محاربة الظّالمين والطّغاة ، فلولا منع الله تبارك وتعالى لملؤوا الأرض ظلماً وجوراً ، فعلى هذا لا تكون الحرب أصلاً كليّاً مقدّساً في حياة البشريّة .

ثمّ أنّ ما يقال عن قانون (تنازع البقاء) المبني على المبادئ الأربعة لنظريّة داروِن في (تطوّر الأنواع) ليست قانوناً علميّاً مسلّماً ، به بل هو فرضيّة أبطلها العلماء ، وحتّى الّذين كانوا يؤيّدون نظريّة تكامل الأنواع لم يعد أيّاً منهم يعوّل عليها ويعتبرون تطوّر الأحياء نتيجة الطفرة (8) .

وإذا ما تجاوزنا عن كلّ ذلك واعتبرنا فرضيّة تنازع البقاء مبدءً علميّاً فإنّه يمكن أن يكون كذلك فيما يتعلّق بالحيوان دون الإنسان ، لأنّ حياة الإنسان لا يمكن أن تتطوّر وفق هذا المبدأ أبداً ، لأنّ تكامل الإنسان يتحقّق في ضوء التّعاون على البقاء لا تنازع البقاء .

ويبدو أنّ تعميم فرضيّة تنازع البقاء على عالم الإنسان انّما هو ضربٌ من الفكر الاستعماري الّذي يؤكّده بعض علماء الاجتماع في الدول الرأسمالية لتسويغ حروب حكوماتهم الدمويّة البغيضة وإطفاء الطّابع العلمي على سلوكياتهم وجعل الحرب والنزاع ناموساً طبيعياً لتطوّر المجتمعات الإنسانية وتقدّمها ، أمّا الأشخاص الّذين وقعوا دون وعي تحت تأثير أفكار هؤلاء اللاّإنسانيّة وراحوا يطبّقون هذه الآية عليها فهم بعيدون عن تعاليم القرآن ، لأنّ القرآن يقول بكلّ صراحة : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} [البقرة : 208] .

ومن العجب أنّ بعض المفسّرين المسلمين مثل صاحب المنار وكذلك (المرائي) في تفسيره وقعوا تحت تأثير هذه الفرضيّة إلى الحدّ الذي اعتبروها أحد السنن الإلهيّة ، ففسّروا بها الآية محلّ البحث وتصوّروا أنّ هذه الفرضيّة من إبداعات القرآن لا من ابتكارات واكتشافات داروِن ، ولكن كما قلنا أنّ الآية المذكورة ليست ناظرة إلى هذه الفرضيّة ، ولا أنّ هذه الفرضيّة لها أساس علمي متين ، بل أنّ الأصل الحاكم على الروابط بين البشر هو التعاون على البقاء لا تنازع البقاء .

وآخر آية في هذا البحث تقول : {تلك آيات الله نتلوها عليك بالحقّ وإنّك لمن المرسلين} .

تشير هذه الآية إلى القصص الكثيرة التي وردت في القرآن بشأن بني إسرائيل وأنّ كلاَّ منها دليلاً على قدرة الله وعظمته ومنزّهة عن كلّ خرافة واُسطورة (بالحقّ) حيث نزلت على نبيّ الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) وكانت إحدى دلائل صدق نبوّته وأقواله .

_________________________________

1- الامثل ، ناصر مكارم الشيرازي ، ج2 ، ص62-72 .

2 ـ مجمع البيان : ج 1 و2 ص 350 .

3 ـ روح المعاني وتفسير الكبير في ذيل الآية المبحوثة .

4 ـ اعتبر صاحب «الكشّاف» طالوت اسماً أعجمياً مثل : جالوت وداود ، وقال الآخرون : إنّه

اسم عربي مأخوذ من مادة «طول» وإشارة إلى طول قامة . (تفسير الكبير : ج 6 ص 172) .

5- بحار الانوار ، ج13 ، ص438-440 .

7 ـ «فئة» من «فىء» في الأصل بمعنى الرجوع وبما أن كلّ جماعة تتعاضد فيما بينها وتعود

أحدها على الاُخرى بالعون والمساعدة اطلقت كلمة «فئة» .

6 ـ جنود جمع جند في الأصل بمعنى الأرض الكثيرة الأحجار والمتراكمة الصخور ثمّ اطلقت على كلّ شيء متراكم وعادةً تأتي بمعنى الجيش الكبير ، وعبارة «لم يطعمه» جاءت بدل كلمة لم يشربه وهي إشارة إلى أن الجنود لا ينبغي لهم أن يشربوا منه بمقدار كف واحدة بل لا يذوقونه أيضاً .

8 ـ لمزيد من الإطلاع راجع الكتاب «الفرضية الأخيرة في التكامل» .




وهو تفسير الآيات القرآنية على أساس الترتيب الزماني للآيات ، واعتبار الهجرة حدّاً زمنيّاً فاصلاً بين مرحلتين ، فكلُّ آيةٍ نزلت قبل الهجرة تُعتبر مكّيّة ، وكلّ آيةٍ نزلت بعد الهجرة فهي مدنيّة وإن كان مكان نزولها (مكّة) ، كالآيات التي نزلت على النبي حين كان في مكّة وقت الفتح ، فالمقياس هو الناحية الزمنيّة لا المكانيّة .

- المحكم هو الآيات التي معناها المقصود واضح لا يشتبه بالمعنى غير المقصود ، فيجب الايمان بمثل هذه الآيات والعمل بها.
- المتشابه هو الآيات التي لا تقصد ظواهرها ، ومعناها الحقيقي الذي يعبر عنه بـ«التأويل» لا يعلمه الا الله تعالى فيجب الايمان بمثل هذه الآيات ولكن لا يعمل بها.

النسخ في اللغة والقاموس هو بمعنى الإزالة والتغيير والتبديل والتحوير وابطال الشي‏ء ورفعه واقامة شي‏ء مقام شي‏ء، فيقال نسخت الشمس الظل : أي ازالته.
وتعريفه هو رفع حكم شرعي سابق بنص شرعي لا حق مع التراخي والزمان بينهما ، أي يكون بين الناسخ والمنسوخ زمن يكون المنسوخ ثابتا وملزما بحيث لو لم يكن النص الناسخ لاستمر العمل بالسابق وكان حكمه قائما .
وباختصار النسخ هو رفع الحكم الشرعي بخطاب قطعي للدلالة ومتأخر عنه أو هو بيان انتهاء امده والنسخ «جائز عقلا وواقع سمعا في شرائع ينسخ اللاحق منها السابق وفي شريعة واحدة» .