أقرأ أيضاً
التاريخ:
1022
التاريخ: 23-8-2020
1779
التاريخ: 15-10-2016
1887
التاريخ: 2023-08-29
1111
|
لا يمكن فصل فعاليات الانسان وتطوره، وعلاقته بالبنية الانتاجية ونموها من الشكل الفردي إلى النتاج الجماعي، عن الصفات البيئية، والطبيعية الجغرافية للموقع المعيش. فهو يشكل في وحدته مع الشرط الجغرافي والبيئي المقدّمة التأسيسية اللازمة للجغرافية التاريخية. بما يعنيه هذا من تحديد الشروط الأولية للنتاج الاجتماعي.
ولم تكن منطقة الشرق العربي الممتدة من الصحراء العربية الكبرى وحتى الخليج العربي معزولة عن التغيرات البيئية والمناخية التي تطرأ على الكون، بل يمكن القول بأن جملة التغيرات التي طرأت عليها خلقت الظروف المناسبة لحياة الانسان ( الجماعات الأناسية) المتطور من أشباه الانسان. وقد بدأ هذا الانسان يرسم الخطى الأولى لعلاقته بالطبيعة بدخولٍ لا يمكن تحديده بدقة خارج التأطير العام للباليوليث الأدنى والذي يشكل 99% من تاريخ الانسان والذي يمتد حتى (100,000) عام قبل يومنا هذا، حيث شقَّ هذا التطور نهاية لمرحلة طويلة من التطور البيولوجي استمر حوالي 14 مليون سنة من تطور الهوميثيد " أشباه الانسان" منها 2-3 مليون سنة الأخيرة عكست الآثار الأولية لأكثر الثقافات قدماً حيث تعلم الإنسان أن يحضر أدواته، وبدأ تدريجياً يبني سكنه الأولي، ليتبعه لاحقاً بالفن الصخري. ويتوضع كل هذا الزمن في الطور الجيولوجي الرابع. بحيث تؤكد القراءات الأولية لما تركه هذا الانسان من أدوات وآثار على جدران الكهوف أن التطور الفيزيائي- الفيزلوجي والثقافي مرتبطان بشكل وثيق. علماً بأن قسماً ضئيلاً جداً قد بقي فقط من الأدوات التي استخدمها انسان مجتمع الصيد ولاقط الثمار. فلم تصمد حتى أيامنا تلك الأعمال والأشغال والأدوات التي صنعت من الخشب والجلد ومن لحاء الشجر والألياف النباتية- وحتى الكثير من الأشغال العظيمة التي تحطمت في وسط غير ملائم _ كالطين والصلصال.
لقد عاش على سطح الأرض، وعلى مدى150-200 ألف سنة نوع بشري واحد وحيد ( هومو- سابينس) الانسان العاقل. وقد انتمت لهذا النوع، وبدون استثناء سلالات الباليوليث المتوسط والأخير. مثلها مثل كل السلالات التالية حتى المعاصرة وكل منها قدمت قسطها في مسألة تطور الانسانية(1).
فبعد كل النظريات والافتراضات التي كانت سائدة حول الموقع المفترض لنشوء وتطور الانسان العاقل الأولي خرج علينا العالم كوبنز بنظريته" قصة الجانب الشرقي- أصل الجنس البشري" والتي يؤكد فيها بأنه تطور على امتداد وادي الخسيف عند منابع ومجرى النيل في إفريقيا الشرقية(2)، قبل ثمانية ملايين من السنين وهذا ما يضعه في لب التأسيس التطوري للأنثروبولوجيا العربية اللاحقة، خصوصاً لو أخذنا الرابط المناخي والمعيشي الوثيق بين جغرافية ذلك الوادي وامتداده نحو القرن الافريقي، وبين المناطق الجنوبية من شبه الجزيرة العربية- خصوصاً إذا عدنا بذاكرتنا إلى الخلف أكثر عندما كانت تلك المنطقة تشكل وحدة تضاريسية واحدة، واكتفت لاحقاً بالوحدة المناخية والبيئية، وتزداد أهمية هذه المعطيات الموثوقة والموثقة إذا أدركنا بأن أنهار الجليد كانت تغطي أغلب مناطق أميركا الشمالية وشمال أوروبا حتى 15000 سنة من يومنا هذا فقط وهذا يعني أنها لم تكن قابلة للحياة الانتاجية قبل هذا التاريخ بالتأكيد.
ومع انتقالنا إلى فترة الباليوليث الأوسط حوالي 100000 إلى 40000 عام قبل يومنا، تميزت المرحلة الأناسية الثقافية بظهور وتطور إنسان النياندرتال الذي كان سائداً سابقاً أنه تواجد في أوروبا! بشكل سابق لغيرها من المناطق(4) إلى أن جاءت دراسة فاندرميرس وباريوسف الموسومة ب" الانسان الحديث في بلاد المشرق"(5) حيث يؤكدان أن جماعة الانسان العاقل الحديث " استوطنت المشرق العربي قبل النياندرتاليين واتبعت نمط عيش متماثل لنحو 60000 سنة، بحيث نسفت المكتشفات الحديثة الترابط المتبع سابقاً بين علم البيولوجيا والبايو أنثروبولوجيا " علم تطور الانسان القديم" فيقولان:" إن هذا الترابط بين البيولوجيا لحضارة يصعب تطبيقه في بلاد المشرق. فقد وجد علماء المستحاثات الذين ينقبون في مواقع هذه المنطقة مجموعات من المستحاثات تشتمل على عينات يبدو أنها أقدم من مثيلاتها التي في أوروبا. (6) ويتابعان " فقد استنتج بعض هؤلاء الباحثين، بعد مقارنتهم لعدد كبير من عينات مأخوذة من جماعات بشرية أقليمية تقطن في بقاع مختلفة من العالم، أن أفراد الانسان الحديث قد نشأت في مناطق شبه صحراوية في افريقيا منذ أكثر من 100000 عام (7). وتناسى هؤلاء الباحثون التغيرات المناخية والبيئية التي طرأت على الكون، بحيث تحولت الكثير من المناطق التي كانت تشكل غابات تلك المراحل إلى مناطق صحراوية أو شبه صحراوية، كما هو الحال بالنسبة للصحراء العربية الكبرى- الليبية نموذجاً- والتي اكتشفت فيها نقوش كهفية جدارية تثبت أنها كانت غنية ومسكونة بالحيوانات المدارية كما هو مبين في اللوحات المكتشفة في الصحراء العربية- الليبية وهذا يرتبط مع التموضع المناخي الملائم التالي لوادي الخسيف، بحيث كان كل من وادي النيل والدلتا، ومنطقة الرافدين مناطق مغمورة بعد انتهاء الطور الجليدي الأخير.
ويؤكد الباحثان المذكوران في دراستهما المنوه عنها أعلاه أن بعض مكتشفات الدفن في مغارة قفزة في فلسطين على سبيل المثال يدل على شعور ديني قبل ما ينوف على 100000 سنة فقد وجدا في أحد المدافن هيكلاً عظمياً لطفل عند قدمي الهيكل العظمي لامرأة شابة، ربما تكون أمه.؟ يظهر هذان الهيكلان بمظهر الانسان الحديث ولكن حضارتهما تشابه حضارة الانسان النياندرتالي الشرقي عربي الأكثر قوة. أما في أوروبا - وحسب قول الباحثين(8) فقد أقام الأفراد ذوو المظهر الحديث وكذلك النياندرتاليوم حضارات مختلفة، وذلك بعد مرور 60000 سنة مما كانت عليه في الشرق العربي. وهذا ما يتناقض قطعياً مع رأي الدكتور فراس السواح الذي يقول في مؤلفه" دين الانسان:" وفي الواقع، فإنه من غير المجدي التفتيش عن دلائل وآثار الحياة الدينية لبشر ذلك الزمان/ ويقصد الباليوليث الأدنى/ بسبب غموض الوثائق وتبعثرها، وصعوبة الربط بينها، فإذا أردنا البقاء في حدود ما تسمح به الوثيقة المادية من تفسير، يتوجب علينا القول بأن انسان الباليوليث الأدنى لم يتمتع بحياة دينية من أي نوع، وأن وسطه الفكري لم يتطور عن أسلافه من الرئيسات العليا، رغم صناعته للأدوات واستخدامها للتحكم بوسطه المادي" (9).
أما ما يتابعه الباحثان حول ضرورة الاستناد إلى وثائق من المكتشفات من أن عملية الدفن تلك وغيرها مما اكتشفوه في مغارة سخول بأن وضعيات الهياكل تدل على دفن مقصود، وهو أقدم عملية دفن عثر عليها حتى الآن، ويضيفان اكتشاف مجموعتين من الهياكل في مغارة شانيدار في سفوح جبال زاكروس في العراق، وكانت كلها من النياندرتاليين وتبدي ما يدل على سلوك بشري راقٍ، مع مجموعة في مغارة عمود قرب بحيرة طبرية، وهذا يعني الانتقال بالضرورة إلى عنصر الباليوليث الوسيط حيث تتقاطع في هذه المرحلة وجهة نظر الأستاذ فراس السواح مع الباحثين المذكورين حيث مارس الانسان في منطقة الشرق العربي عملية الدفن الطقسي،" فتظهر قبور النياندرتاليين في المشرق العربي تقاليد دفن تميزت بطي الجثة ضمن حفرة صغيرة وتوجيه الجسم وفق محور غرب- شرق. وتظهر الهياكل العظمية لأنسان النياندرتاليين المشرقي " العربي" بوادر ابتعاد مورفولوجي (المورفولوجيا هو علم شكل الأحياء) عن الهيئة الكلاسيكية للنياندرتال النموذجي في أوروبا واقتراباً من هيئة الانسان العاقل.
وهنا تجدر الاشارة إلى أن الحديث يدور في الشرق العربي عن إنسان متطور طقسياً ومورفولوجياً عن إنسان النياندرتاليين الذي سكن أوروبا في هذا الزمن- في المرحلة الفاصلة بين الباليوليث الأدنى والمتوسط، وفي المراحل الأخيرة من الباليوليث الأدنى" فالوجود الواضح لأفراد الانسان بأشكال حديثة في بلاد المشرق منذ 100000 سنة يقدم حقائق جديدة لتفسير وجود مستحاثات أخرى غربي آسيا. فقد يكون لأفراد الإنسان سلسلة نسب "سلالة" محلية واسعة الامتداد إلى حدٍ ما فبقايا الجمجمة التي وجدها ثورنطيل- بيتر في مغارة زوتّيّة بالقرب من مغارة عمود مثلاً- تثبت أن تأريخها يراوح بين 200,000- 250000 سنة مضت. وقد يكون صاحب هذه الجمجمة أحد أفراد الجماعة التي انحدرت منها جماعة الانسان النحيل " الحديث" في كل من سخول وقفزة" (10).
وليست البنية المورفولوجية للجمجمة، أو الأدوات المحيطة فقط هي التى وفقت هؤلاء العلماء إلى الجزم بوجود ذلك الفارق الزمني في التطور بل عثورهم أيضاً على العظم اللامي (Hyoid) وهو عظم منفصل يتحكم في حركة الانسان) وتم الاستدلال من خلال دراسته الدقيقة على أن جهاز التصويت لدى انسان الباليوليث الأدنى- المتوسط في منطقة الشرق العربي يشبه ما لدى الانسان الحديث وإلى أنه كان قادراً على إصدار الأصوات الضرورية لكلام مقطع.
ومن جانب آخر يتجه الباحثان إلى تفسير المرحلة اللاحقة التي بدأت منذ نحو 40,000 سنة إلى افتراض" أن جماعات الانسان الحديث في بلاد المشرق العربي انتقلت وانتشرت في أوروبا وذلك بعد أن حلَّوا محل النياتدرتاليين المحليين أو نتيجة لعمليات التكاثر فيما بينهم (11).
نستنتج مما سبق أن:
- انسان الباليوليت الأدنى ترك آثاراً قابلة للدراسة في بلاد المشرق العربي في حين كان فقيراً بها جداً في أوروبا.
- ظهور الانسان الحديث كان سباقاً في بلاد المشرق على ما هو عليه في أوروبا بعشرات الآلاف من السنين.
- ممارسة الدفن الطقسي ثبتت منذ المرحلة النهائية من الباليوليث الأدنى في منطقة الشرق العربي، وبما يسبق مثيلاتها في أوروبا بـ 60000 عام.
- وجود العظم اللامي وببنيته المعاصرة يؤكد على وجود عناصر التواصل الصوتي في مراحل سابقة لمثيلاتها في مناطق أخرى من العالم، ولألاف السنين، مما يثبت الانخراط في عملية النتاج الاجتماعي في مراحل باكرة.
كان ذلك، كان له الدور الهام" إن لم نقل الأهم" في وسائط تعبير الإنسان عن علاقته مع الأشياء المحيطة وفي ترتيب نمطية ما من التعامل مع الجماعة المحيطة. وهذا يعني بالضرورة أن تطور الانسان الثقافي برموزه المعرفية والدينية والفنية لا يرتبط بما يعنيه مستوى التطور التقني بالسوية التقنية لتطور الجماعة البشرية. أي أن التوازي في التطور التقني والثقافي هو رؤية ميكانيكية بعيدة عن الخطوط البيانية التاريخية لسيرورة الانسان. لا يمكننا أن ننفي أن السوية الراقية " بمعانيها المعرفية" من التطور الثقافي تشكل الأرضية المتينة الهامة باتجاه التطور التقني، وهي ما تدفع باتجاه تجاوز مفاهيم الزمن الاجتماعي وترتيبه الميقاتي، بخلق معادل جديد يتناسب مع التراكم الكمي والكيفي في سيرورة الأمة، وهذا ما نحاول اثباته بما يخص الأمة العربية، التي تمتلك خزاناً ثقافياً مميزاً، تستطيع الاستناد عليه لتحقيق قفزتها الحضارية التقنية في زمن اجتماعي خاص، تستطيع من خلاله تجاوز الفاصل الكبير من الزمن الميقاتي الذي يفصلها في الزمن الراهن عن المجتمعات المتقدمة تقنياً، إن ذلك يعني، بدايةً، أن التطور الثقافي لا يمكن أن يعاني من عملية قطع تاريخية، فهو عملية متواصلة سيرورية في تأصيلها وسبقها وصيرورتها اللاحقة وهو ما نقصده بعملية التأصيل في بدايات تكون المنظومات المعرفية فالحضارات الجليلة التي بناها العرب بما في ذلك البابلية والفينيقية والتدمرية والمصرية.. وحتى الاسلامية لم تكن مقاطع معزولة في تاريخ أناسي متقطع، إنها تواصل أناسي معرفي، مؤسَّس ثقافياً على ثوابت تأصيل عظيمة لا تمتد جذورها المعرفية لمراحل التاريخ الكتابي فقط، بل تمتد كما أكدنا أعلاه إلى مراحل الباليوليث الأدنى حيث تواجد في منطقتنا الانسان الحديث سباقاً بذلك تواجده في المناطق الأخرى من العالم بعشرات الآلاف من السنين.
معطياً لحياته قيمةً ما، متسائلاً عن طبيعة علاقة الأرض بالسماء، والجسد بالروح، والانسان الكائن الحلم بالواقع..
إن بداية الاشكالية في التساؤل تبدأ من طرح هذه الأسئلة. وما دمنا استطعنا التقاط بعض الأجوبة من خلال تلك المراحل المغرقة في القدم، فمعنى ذلك أننا استطعنا الوصول إلى البدايات السبّاقة التي حدَّدت الملامح العامة اللاحقة لتطور الانسانية، الذي تعيش تقنيته حالياً، ملايين الناس خارج دائرة تواجد هذا التكوين الأناسي الرفيع_ العرب.
فالتكوّن الثقافي- المعرفي- الفني/ يبدأ بعلاقة الاقتراب بين مفاهيم الجسد والروح والأرض القريبة، والسماء الجسد= الأرض بمكوناتهما المحسوسة التي يتعامل معها الانسان في صيغة الأداة التي يبتكرها، أو يحتاج إليها فيطورها، وأعضاء يتعامل معها بتوافق خاص تختلط فيه الأحاسيس الممكنة مع المجهولة. والأرض بمكوناتها التي تحمل النبات ويسير عليها ذلك الحيوان الذي دفع الانسان اللاكتابي- الباليوليتي إلى نقشه في أماكن إقامته عبر ابداعات انطباعية ورمزية وتجريدية كانت تتفاعل بحركية ترقى من مرحلة إلى أخرى قابلة للتعامل مع ما يحس به أو يركن إلى اللقمة التي يمنحه إياها بعد أراقة الدم من أحد الطرفين. فيقيم لنفسه هيكلية خاصة ترتبط برمزية ما، تدخل بين الحلم والواقع وتدخلهما. فينطلق لاحقاً معبِّراً عن فن في الارتقاء نحو الأعلى- نحو السماء وقد دفعته للاقتراب إليها عبر صورٍ رائعة. دون أن ينسى حركة القمر والشمس والكواكب فيها.
فلم يترك جثة الميت ملقيةً عبثاً، لابد أن يتجه نحو الشرق حيث يشكل نافذة ولادة الشمس والقمر. وفي حالات لاحقة كانت واسمة لمنطقة الشرق العربي بدأ، بفصل الرأس عن جسد المتوفى معتقداً أن الروح فيه، ويضعه في كوخه الصخري أو في كهفه. مازجاً بذلك اختلاط معتقدات أولية صافية تزاوج بين الطوطمية وعبادة الأسلاف.
وهكذا كانت البدايات الميثولوجية للنمو اللاحق للحلزون الثقافي، لكن التأسيس الأوّلي والهام كان ارتكازاً متيناً على تكوين سباق ومتين. فالتزيين الجنائزي بالقرون ارتبط بعلاقة ذلك الانسان بالحركة الدورية للهلال.
ولم يكن اللون الأحمر إلاَّ الرمز البسيط عن القرابين التي تقدم للمتوفى بعد أن تنثر على جثته الورود والزهور وقد سجي شرقاً بانتظار الشمس التي تحمل معها الحياة والخصب.
" إن مفهوم القربان في ذلك الزمن، مرتبط بمفهوم الآلهة المشخصة، أو الكائنات الروحية المقدسة التي صارت إلى ما يشبه الآلهة، مثل أرواح الأسلاف لدى بعض الثقافات" (12)..
انطلاقاً من ذلك كان الانبثاق الأولي في منطقة الشرق العربي باتجاه الثقافة المتواكبة التي سبق فيها أسلافنا العرب كل الشعوب والجماعات الأخرى حتى المحيطة والتي بدأت تأخذ انعكاسها في التقدم التقني المادي التقني.. وقد بدأوا يميزون عالماً خاصاً محدداً مشخصاً في التكوين الوصفي المحيط بهم مع ما يربطه بعالم آخر قابل للتخييل، يصل بينهما الحلم أو الموت.. ومن هنا أخذت الفلسفة في بدايتها الأولى تترنح في أولى خطاها على دروب الشرق العربي، الذي تميز في مراحل الانتقال من الباليوليث المتوسط إلى الأعلى بالتدجين النباتي والحيواني وهو ما دفع أيضاً هذا الشرق إلى السبق باتجاه الميزوليثية" فكان أول وأكثر الحضارات والثقافات الميزوليثية تطوراً توضّعت في الشرق العربي، حيث كانوا أول من اكتشف واستخدم الطواحين الحجرية وكان ذلك حوالي 10500 سنة قبل الميلاد" (13). وتلا ذلك الانتقال السباق إلى النيوليث كمرحلة أخيرة من العصر الحجري تميزت بانتقال البشر إلى الشكل المستقر للحياة" فمنذ الألف 8-7 قبل الميلاد أقيمت في الشرق العربي" مدن" محاطة بجدران حصينة (14)
وإذا كانت التغيرات المناخية والبيئية متوازية في منطقة الشرق العربي، والتي شملت دراساتها بشكل مفصل وادي النيل وما بين الرافدين إلاّ أن منطقة بلاد الشام من الشرق العربي بقيت في التحول الاساسي من العصر الحجري الوسيط " الميزوليتي الباكر" وحتى العصر الحجري الحديث " النيوليثي المبكر" موضوعة خلف مجموعة من إشارات الاستفهام التي لم تقدّم الأجوبة عليها تفسيراً تفصيلياً لقيام المواقع الحضارية العظيمة بعيداً عن الحزام الأخضر الممتد إلى الساحل البحري باتجاه الشمال والشرق الرافدي وجنوباً نحو العقبة وسيناء باتجاه الدلتا .
فيتضح التبدل المناخي في المشرق العربي بين الألف التاسع ق.م والألف السادس من انحسار نطاق النبات الطبيعي. فقد تسبب الهطول المطري الوفير في الفترة المتأخرة من العصر الحجري الوسيط في توسع مناطق غابات البحر المتوسط باتجاه الشرق. وقد حظيت هذه المناطق بأكثر من 300 ملم معدل هطول سنوي، وحظيت المناطق الوسيطة من الغابات المفتوحة والسهوب خلفها بحدود 150-300 ملم معدل هطول سنوي. وفي حين كانت غالبية المواقع السبعين المعروفة في مواقع الفترة المتأخرة من العصر الحجري الحديث في منطقة الهطول الأغزر أو في المنطقة الوسيطة فإن بعضها كان في جيوب سهوبية ملائمة لها على نحو خاص. فمثلاً كان موقع " أبو هريرة" وموقع" دبسي فرج- شرق" على الفرات، في حين كان موقع " أزرق" في واحة. وبعد ذلك بثلاثة آلاف عام انحسرت كل من الغابات العادية والمفتوحة والسهوب وتقدمت الصحارى. وحتى المواقع السهوبية بمواطنها الملائمة هُجرت آنذاك. ومن بين المواقع الثمانين المعروفة التي تعود للألف السادس من العصر الحجري الحديث، كانت تقع منطقة البحر المتوسط ضمن المنطقة الأكثر ملاءمة للزراعة المختلطة(15).
وبربط هذه المعطيات مع نتائج يان ايلينيك حول وجود الطواحين " الرحى" الحجرية منذ الألف العاشر قبل الميلاد في المشرق العربي نستنتج بأن تدجين النبات القمح ( الحنطة ) والجاودار والشعير في المشرق العربي كانت سابقة بالضرورة لاختراع الرحى. وإلاَّ لماذا الرحى اساساً ؟! خصوصاً إذا أخذت آلية البحث الطريق الطبيعي للتغيرات المناخية والبيئية التالية التي تدفع للاستقصاء في أوساط غير متوقعة في الظروف والشروط الحالية المناخية. وهذا أدى بدوره إلى كشف الكثير من الأسرار التي اتضحت لاحقاً في التكوين الانتاجي الجماعي التالي للتدجين النباتي والحيواني في منطقة الشرق العربي، والذي كان سباقاً بالضرورة ومن خلال الوثائق السابقة في آلية التطور الثقافي بآلاف السنين عن غيره من المواقع الأخرى التي رسمت خرائط متأخرة لانتقال النياندرتال إلى العصور التالية.
____________
(1) يان ايلينيك -الفن عند الانسان البدائي- ترجمة د. جمال الدين الخضور دار الحصاد دمشق ص 279
(2) كوبنز. ي مجلة العلوم المجلد11 - العدد 2 شباط 1995 ص12.
(3) هيوتن د. أ، وودوك ج. م- تغير مناخ الكرة الأرضية - مجلة العلوم المجلد 6 العدد 22 تشرين الثاني 1989 ص 11
(4) فراس السواح - دين الإنسان ص 124، دار علاء الدين دمشق ط 1 -1994
(5) فاندرميرش وبار- يوسف. الإنسان الحديث في الشرق - مجلة العلوم المجلد 11- العدد -1- " يناير" كانون الثاني - 1995 ص30
(6) المصدر نفسه ص31
(7) المصدر نفسه ص 32
(8) المصدر نفسه ص 31
(9) فراس السواح - دين الإنسان ص 124
(10) فاندرميرش وبار -يوسف -الإنسان الحديث في بلاد الشرق -مجلد 11-1 كانون الثاني 1995
(11) المصدر نفسه
(12) فراس السواح - دين الانسان ص 129
(13) يان ايلينيك - نفس المعطيات السابقة ص 306.
( 14) المصدر نفسه. ص 307
(15) مور أ. م. ت - قرية زراعية سورية مع نهر الفرات سبقت العصر الحجري الحديث- مجلة العلوم المجلد 6- العدد-10 تشرين الأول- 1989.-نشرت الدراسة في Scintific American August (1979)
|
|
تفوقت في الاختبار على الجميع.. فاكهة "خارقة" في عالم التغذية
|
|
|
|
|
أمين عام أوبك: النفط الخام والغاز الطبيعي "هبة من الله"
|
|
|
|
|
قسم شؤون المعارف ينظم دورة عن آليات عمل الفهارس الفنية للموسوعات والكتب لملاكاته
|
|
|