أقرأ أيضاً
التاريخ: 12-2-2017
7699
التاريخ: 1-3-2017
9316
التاريخ: 14-2-2017
3750
التاريخ: 10-5-2017
7272
|
قال تعالى : {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوبِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوصَدَقَةٍ أَو نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (196) الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ (197) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198) ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199) فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَو أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ (200) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201) أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (202) وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [البقرة: 196-203].
بين سبحانه فرض الحج والعمرة على العباد بعد بيانه فريضة الجهاد فقال {وأتموا الحج والعمرة لله} أي أتموهما بمناسكهما وحدودهما وتأدية كل ما فيهما عن ابن عباس ومجاهد وقيل معناه أقيموهما إلى آخر ما فيهما وهو المروي عن أمير المؤمنين وعلي بن الحسين وعن سعيد بن جبير ومسروق والسدي وقوله {لله} أي اقصدوا بهما التقرب إلى الله والعمرة واجبة عندنا مثل الحج وبه قال الشافعي في الجديد وقال أهل العراق أنها مسنونة وأركان أفعال الحج النية والإحرام والوقوف بعرفة والوقوف بالمشعر وطواف الزيارة والسعي بين الصفا والمروة وأما الفرائض التي ليست بأركان فالتلبية وركعتا الطواف وطواف النساء وركعتا الطواف له وأما المسنونات من أفعال الحج فمذكورة في الكتب المصنفة فيه وأركان فرائض العمرة النية والإحرام وطواف الزيارة والسعي وأما ما ليس بركن من فرائضها فالتلبية وركعتا الطواف وطواف النساء وركعتا الطواف له .
وقوله {فإن أحصرتم} فيه قولان ( أحدهما ): أن معناه منعكم خوف أو عدو أو مرض فامتنعتم لذلك عن ابن عباس ومجاهد وقتادة وعطا ، وهو المروي عن أئمتنا ( والثاني ) معناه إن منعكم حابس قاهر عن مالك {فما استيسر من الهدي} فعليكم ما سهل من الهدي أو فأهدوا ما تيسر من الهدي إذا أردتم الإحلال والهدي يكون على ثلاثة أنواع جزور أو بقرة أو شاة وأيسرها شاة ، وهو المروي عن علي وابن عباس والحسن وقتادة وروي عن ابن عمر وعائشة أنه ما كان من الإبل والبقر دون غيرهما والأول هو الصحيح.
{ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله} أي لا تتحللوا من إحرامكم حتى يبلغ الهدي محله وينحر أو يذبح واختلف في محل الهدي على قولين ( الأول ) أنه الحرم فإذا ذبح به في يوم النحر أحل عن ابن عباس وابن مسعود والحسن وعطا ( والثاني ) أنه الموضع الذي يصد فيه لأن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) نحر هديه بالحديبية وأمر أصحابه ففعلوا مثل ذلك وليست الحديبية من الحرم عن مالك وأما على مذهبنا فالأول حكم المحصر بالمرض والثاني حكم المحصور بالعدو وإن كان الإحرام بالحج فمحله منى يوم النحر وإن كان الإحرام بالعمرة فمحله مكة .
{فمن كان منكم مريضا أوبه أذى من رأسه} أي من مرض منكم مرضا يحتاج فيه إلى الحلق للمداواة أو تأذى بهوام رأسه أبيح له الحلق بشرط الفدية وروى أصحابنا أن هذه نزلت في إنسان يعرف بكعب بن عجرة وأنه كان قد قمل رأسه وقوله {ففدية} أي فحلق لذلك العذر فعليه فدية أي بدل وجزاء يقوم مقام ذلك من صيام أو صدقة أو نسك المروي عن أئمتنا أن الصيام ثلاثة أيام والصدقة على ستة مساكين وروي على عشرة مساكين والنسك شاة وهو مخير فيها.
وقوله {فإذا أمنتم} معناه فإذا أمنتم الموانع من العدو و المرض وكل مانع {فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي} فعليه ما تيسر من الهدي والتمتع عندنا هو الفرض اللازم لمن لم يكن من حاضري المسجد الحرام وحاضر المسجد الحرام هومن كان على اثني عشر ميلا من كل جانب إلى مكة فمن كان خارجا عن هذا الحد فليس من الحاضرين وصفة التمتع بالعمرة إلى الحج أن ينشئ الإحرام في أشهر الحج ثم يدخل إلى مكة فيطوف بالبيت ويسعى بين الصفا والمروة ويقصر ويحل من إحرامه ثم ينشئ إحراما آخر للحج من المسجد الحرام ويخرج إلى عرفات ثم يفيض إلى المشعر ويأتي بأفعال الحج على ما هو مذكور في الكتب وفي بعض ذلك خلاف بين الفقهاء والهدي واجب للتمتع بلا خلاف لظاهر التنزيل على خلاف في أنه نسك أو جبران وعندنا أنه نسك .
{فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج} أي فمن لم يجد الهدي ولا ثمنه فعليه صيام ثلاثة أيام في الحج وعندنا أن هذه الأيام الثلاثة يوم قبل يوم التروية ويوم التروية ويوم عرفة وإن صام في أول العشر جاز ذلك رخصة وإن صام يوم التروية ويوم عرفة قضى يوما آخر بعد انقضاء أيام التشريق وإن فاته صوم يوم التروية أيضا صام الأيام الثلاثة بعد أيام التشريق متتابعات وقوله {وسبعة إذا رجعتم} أي وسبعة أيام إذا رجعتم إلى بلادكم وأهاليكم وبه قال قتادة وعطاء وقيل معناه إذا رجعتم من مني فصوموها في الطريق عن مجاهد والأول هو الصحيح عندنا.
وقوله {تلك عشرة كاملة} فيه أقوال ( أحدها ) أن معناه كاملة من الهدي إذا وقعت بدلا منه استكملت ثوابه عن الحسن ، وهو المروي عن أبي جعفر واختاره الجبائي ( وثانيها ) أنه لإزالة الإبهام لئلا يظن أن الواو بمعنى أو فيكون كأنه قال فصيام ثلاثة أيام في الحج أو سبعة إذا رجعتم لأنه إذا استعمل أو بمعنى الواو جاز أن يستعمل الواو بمعنى أو كما قال : {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ } [النساء: 3] فالواو هاهنا بمعنى أو فذكر ذلك لارتفاع اللبس عن الزجاج وأبي القاسم البلخي ( وثالثها ) أنه إنما قال كاملة للتوكيد كما قال جرير :
ثلاث واثنتان فهن خمس *** وسادسة تميل إلى تمام
وقوله {ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام} أي ما تقدم ذكره من التمتع بالعمرة إلى الحج ليس لأهل مكة ومن يجري مجراهم وإنما هو لمن لم يكن من حاضري مكة وهومن يكون بينه وبينها أكثر من اثني عشر ميلا من كل جانب {واتقوا الله} فيما أمركم به ونهاكم عنه {واعلموا أن الله شديد العقاب} لمن عصاه .
الحديث: روى معاوية بن عماد عن الصادق (عليه السلام) أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) أقام بالمدينة عشر سنين لم يحج ثم أنزل عليه وأذن في الناس الآية فأمر المؤذنين أن يؤذنوا بأعلى أصواتهم بأن رسول الله يحج من عامه هذا فعلم به من حضر المدينة وأهل العوالي والأعراب فاجتمعوا فخرج رسول الله في أربع بقين من ذي القعدة فلما انتهى إلى ذي الحليفة فزالت الشمس اغتسل ثم خرج حتى أتى المسجد الذي عنده الشجرة فصلى فيه الظهر وأحرم بالحج ثم ساق الحديث إلى أن قال:
فلما وقف رسول الله بالمروة بعد فراغه من السعي، أقبل على الناس بوجهه فحمد الله وأثنى عليه ثم قال إن هذا جبرائيل وأومأ بيده إلى خلفه يأمرني أن آمر من لم يسق هديا أن يحل ولو استقبلت من أمري ما استدبرت لصنعت مثل ما أمرتكم ولكني سقت الهدي ولا ينبغي لسائق الهدي أن يحل حتى يبلغ هذا الهدي محله فقال له رجل من القوم أ نخرج حجاجا ورؤوسنا تقطر فقال إنك لن تؤمن بها أبدا فقام إليه سراقة بن مالك بن جعثم الكناني فقال يا رسول الله علمتنا ديننا فكأنا خلقنا اليوم فهذا الذي أمرتنا به لعامنا أولما نستقبل فقال له رسول الله بل هو للأبد إلى يوم القيامة ثم شبك بين أصابعه بعضها في بعض وقال دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة وقدم علي من اليمن على رسول الله وهو بمكة فدخل على فاطمة وهي قد أحلت، فوجد (2) عليها ثيابا مصبوغة فقال ما هذا يا فاطمة فقالت أمرنا بهذا رسول الله ، فخرج (3) إلى رسول الله مستفتيا ، محرشاً على فاطمة فقال: يا رسول الله إني رأيت فاطمة قد أحلت وعليها ثياب مصبوغة فقال رسول الله أنا أمرت الناس بذلك وأنت يا علي بم أهللت فقال : قلت يا رسول الله إهلالا كإهلال النبي فقال رسول الله كن على إحرامك مثلي وأنت شريكي في هديي.
قال: ونزل رسول الله بمكة بالبطحاء هو وأصحابه ولم ينزل الدور فلما كان يوم التروية عند زوال الشمس أمر الناس أن يغتسلوا ويهلوا بالحج فخرج النبي وأصحابه مهلين بالحج حتى أتوا منى وصلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء الآخرة والفجر ثم غدا والناس معه وكانت قريش تفيض من المزدلفة وهو جمع ويمنعون الناس أن يفيضوا منها فأنزل الله على نبيه : {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} [البقرة: 199] يعني إبراهيم وإسماعيل وإسحاق في إفاضتهم منها ومن كان بعدهم.
فلما رأت قريش أن قبة رسول الله قد مضت كأنه دخل في أنفسهم شيء للذي كانوا يرجون من الإفاضة من مكانهم حتى انتهى إلى نمرة وهي بطن عرفة بجبال الأراك فضرب قبته وضرب الناس أخبيتهم عندها فلما زالت الشمس خرج رسول الله ومعه قومه (4) وقد اغتسل وقطع التلبية حتى وقف بالمسجد فوعظ الناس وأمرهم ونهاهم ثم صلى الظهر والعصر بأذان وإقامتين ثم مضى إلى الموقف فوقف به فجعل الناس يبتدرون أخفاف ناقته يقفون إلى جانبها فنحاها ففعلوا مثل ذلك فقال يا أيها الناس أنه ليس موضع أخفاف ناقتي الموقف ولكن هذا كله موقف وأومأ بيده إلى الموقف فتفرق الناس .
وفعل مثل ذلك بالمزدلفة فتوقف حتى وقع قرص الشمس ثم أفاض وأمر الناس بالدعة حتى إذا انتهى إلى المزدلفة وهي المشعر الحرام صلى المغرب والعشاء الآخرة بأذان واحد وإقامتين ثم أقام حتى صلى فيها الفجر وعجل ضعفاء بني هاشم بالليل فأمرهم أن لا يرموا الجمرة جمرة العقبة حتى تطلع الشمس.
فلما أضاء له النهار، أفاض حتى انتهى إلى منى فرمى جمرة العقبة وكان الهدي الذي جاء به رسول الله أربعا وستين أوستا وستين وجاء علي بأربع وثلاثين أوست وثلاثين فنحر رسول الله ستا وستين بدنة ونحر علي (عليه السلام) أربعا وثلاثين بدنة وأمر رسول الله أن يأخذ من كل بدنة منها جذوة من لحم ثم تطرح في برمة (5) ثم تطبخ فأكل رسول الله منها وعلي وتحسيا من مرقها ولم يعط الجزارين جلودها ولا جلالها ولا قلائدها وتصدق به وحلق وزار البيت ورجع إلى منى فأقام بها حتى كان يوم الثالث من آخر أيام التشريق ثم رمى الجمار ونفر حتى انتهى إلى الأبطح فقالت عائشة يا رسول الله ترجع نساؤك بحجة وعمرة معا وأرجع بحجة فأقام بالأبطح وبعث معها عبد الرحمن بن أبي بكر إلى التنعيم فأهلت بعمرة ثم جاءت فطافت بالبيت وصلت ركعتين عند مقام إبراهيم وسعت بين الصفا والمروة ثم أتت النبي فارتحل من يومه فلم يدخل المسجد ولم يطف بالبيت ودخل من أعلى مكة من عقبة المدنيين وخرج من أسفل مكة من ذي طوى .
{الْحَجُّ أَشهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَض فِيهِنَّ الحَْجَّ فَلا رَفَث ولا فُسوقَ ولا جِدَالَ فى الْحَجّ ومَا تَفْعَلُوا مِنْ خَير يَعْلَمْهُ اللَّهُ وتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيرَ الزَّادِ التَّقْوَى واتَّقُونِ يَأُولى الأَلْبَابِ}
{الحج} أي أشهر الحج {أشهر معلومات} أي أشهر مؤقتة معينة لا يجوز فيها التبديل والتغيير بالتقديم والتأخير اللذين كان يفعلهما النسأة الذين أنزل فيهم {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} [التوبة: 37] . وأشهر الحج عندنا: شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة على ما روي عن أبي جعفر وبه قال ابن عباس ومجاهد والحسن وغيرهم وقيل هي شوال وذو القعدة وذو الحجة عن عطاء والربيع وطاووس وروي ذلك في أخبارنا وإنما صارت هذه أشهر الحج لأنه لا يصح الإحرام بالحج إلا فيها بلا خلاف وعندنا لا يصح أيضا الإحرام بالعمرة التي يتمتع بها إلى الحج إلا فيها ومن قال أن جميع ذي الحجة من أشهر الحج قال لأنه يصح أن يقع فيها بعض أفعال الحج مثل صوم الأيام الثلاثة وذبح الهدي.
ومتى قيل كيف سمي الشهران وبعض الثالث أشهرا فجوابه أن الاثنين قد يقع عليه لفظ الجمع كما في قوله (ظهراهما مثل ظهور الترسين ) وأيضا فقد يضاف الفعل إلى الوقت وإن وقع في بعضه ويضاف الوقت إليه كذلك تقول صليت صلاة يوم الجمعة وصلاة يوم العيد وإن كانت الصلاة في بعضه وقدم زيد يوم كذا وإن كان قدم في بعضه فكذلك جاز أن يقال في شهر الحج ذو الحجة وإن وقع الحج في بعضه .
{فمن فرض فيهن الحج} معناه فمن أوجب على نفسه فيهن الحج أي فمن أحرم فيهن بالحج بلا خلاف أو بالعمرة التي يتمتع بها إلى الحج على مذهبنا {فلا رفث} كني بالرفث عن الجماع هاهنا عند أصحابنا وهو قول ابن مسعود وقتادة وقيل هو مواعدة الجماع والتعريض للنساء به عن ابن عباس وابن عمر وعطا وقيل هو الجماع والتعريض له بمداعبة أو مواعدة عن الحسن {ولا فسوق} وروى أصحابنا أنه الكذب وقيل هو معاصي الله كلها عن ابن عباس والحسن وقتادة وهذا أعم ويدخل فيه الكذب وقيل هو التنابز بالألقاب لقوله {بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان} عن الضحاك وقيل هو السباب لقوله ( سباب المؤمن فسوق وقتاله كفر ) عن إبراهيم ومجاهد وقال بعضهم لا يجوز أن يراد به هنا إلا ما نهي المحرم عنه مما يكون حلالا له إذا أحل لاختصاصه بالنهي عنه وهذا تخصص للعموم بلا دليل وقد يقول القائل ينبغي لك أن تقيد لسانك في رمضان لئلا يفسد صومك وقد جاء في الحديث إذا صمت فليصم سمعك وبصرك ولا يكون يوم صومك كيوم فطرك فإنما خصه بذلك لعظم حرمته .
{ولا جدال في الحج} روى أصحابنا أنه قول لا والله وبلى والله صادقا أو كاذبا وللمفسرين فيه قولان ( أحدهما ) أنه المراء والسباب والإغضاب على جهة المحك(6) واللجاج عن ابن عباس وابن مسعود والحسن ( والثاني ) أن معناه لا جدال في أن الحج قد استدار في ذي الحجة لأنهم كانوا ينسئون الشهور فيقدمون ويؤخرون فربما اتفق في غيره عن مجاهد والسدي {وما تفعلوا من خير يعلمه الله} معناه ما تفعلوا من خير يجازكم الله العالم به لأن الله عالم بجميع المعلومات على كل حال إلا أنه جعل يعلمه في موضع يجازه للمبالغة في صفة العدل أي أنه يعاملكم معاملة من يعلمه إذا ظهر منكم فيجازي به وذلك تأكيد أن الجزاء لا يكون إلا بالفعل دون ما يعلم أنه يكون منهم قبل أن يفعلوه.
{وتزودوا فإن خير الزاد التقوى} قيل فيه قولان ( أحدهما ) أن معناه أن قوما كانوا يرمون بأزوادهم ويتسمون بالمتوكلة فقيل لهم تزودوا من الطعام ولا تلقوا كلكم على الناس وخير الزاد مع ذلك التقوى عن الحسن وقتادة ومجاهد ( والثاني ) أن معناه تزودوا من الأعمال الصالحة {فإن خير الزاد التقوى} وذكر ذلك في أثناء أفعال الحج لأنه أحق شيء بالاستكثار من أعمال البر فيه {واتقون} فيما أمرتكم به ونهيتكم عنه {يا أولي الألباب} يا ذوي العقول .
وقوله : {لَيْس عَلَيْكمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُوا فَضلاً مِّن رَّبِّكمْ فَإِذَا أَفَضتُم مِّنْ عَرَفَت فَاذْكرُوا اللَّهَ عِندَ الْمَشعَرِ الْحَرَامِ واذْكرُوهُ كَمَا هَدَامْ وإِن كنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضالِّينَ}
{ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم} قيل كانوا يتأثمون بالتجارة في الحج فرفع الله بهذه اللفظة الإثم عمن يتجر في الحج عن ابن عباس ومجاهد والحسن وعطاء وفي هذا تصريح بالإذن في التجارة وهو المروي عن أئمتنا وقيل كان في الحج أجراء ومكارون وكان الناس يقولون أنه لا حج لهم فبين سبحانه أنه لا إثم على الحاج في أن يكون أجيرا لغيره أو مكاريا وقيل معناه لا جناح عليكم أن تطلبوا المغفرة من ربكم رواه جابر عن أبي جعفر (عليه السلام).
{فإذا أفضتم من عرفات} أي دفعتم عنها بعد الاجتماع فيها {فاذكروا الله عند المشعر الحرام} وفي هذا دلالة على أن الوقوف بالمشعر الحرام فريضة كما ذهبنا إليه لأن ظاهر الأمر على الوجوب فقد أوجب الله الذكر فيه ولا يجوز أن يوجب الذكر فيه إلا وقد أوجب الكون فيه ولأن كل من أوجب الذكر فيه فقد أوجب الوقوف وتقدير الكلام فإذا أفضتم من عرفات فكونوا بالمشعر الحرام واذكروا الله فيه {واذكروه كما هداكم} معناه واذكروه بالثناء والشكر على حسب نعمته عليكم بالهداية فإن الشكر يجب أن يكون على حسب النعمة في عظم المنزلة كما يجب أن يكون على مقدارها لو صغرت النعمة ولا يجوز التسوية بين من عظمت نعمته وبين من صغرت نعمته وتقدير الكلام واذكروه ذكرا مثل هدايته إياكم {وإن كنتم} أي وإنكم كنتم من قبله أي من قبل الهدى وقيل من قبل محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) فتكون الهاء كناية عن غير مذكور {لمن الضالين} عن النبوة والشريعة فهداكم إليه .
وقوله تعالى : {ثُمَّ أَفِيضوا مِنْ حَيْث أَفَاض النَّاس واستَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} :
{ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس} قيل فيه قولان ( أحدهما ) أن المراد به الإفاضة من عرفات وأنه أمر لقريش وحلفائها وهم الحمس لأنهم كانوا لا يقفون مع الناس بعرفة ولا يفيضون منها ويقولون نحن أهل حرم الله فلا نخرج منه وكانوا يقفون بالمزدلفة ويفيضون منها فأمرهم الله بالوقوف بعرفة والإفاضة منها كما يفيض الناس والمراد بالناس سائر العرب عن ابن عباس وعائشة وعطاء ومجاهد والحسن وقتادة وهو المروي عن الباقر (عليه السلام) وقال الضحاك أنه أمر لجميع الحاج أن يفيضوا من حيث أفاض إبراهيم عن الضحاك قال ولما كان إبراهيم إماما كان بمنزلة الأمة فسماه وحده ناسا - ( والثاني ) - أن المراد به الإفاضة من المزدلفة إلى منى يوم النحر قبل طلوع الشمس للرمي والنحر عن الجبائي قال والآية تدل عليه لأنه قال فإذا أفضتم من عرفات ثم قال {ثم أفيضوا} فوجب أن يكون إفاضة ثانية فدل ذلك على أن الإفاضتين واجبتان والناس المراد به إبراهيم كما أنه في قوله {الذين قال لهم الناس} نعيم بن مسعود الأشجعي وقيل إن الناس إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ومن بعدهم من الأنبياء عن أبي عبد الله .
ومما يسأل على الأول أن يقال إذا كان ثم للترتيب فما معنى الترتيب هاهنا وقد روى أصحابنا في جوابه أن هاهنا تقديما وتأخيرا وتقديره ( ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام واستغفروا الله إن الله غفور رحيم ) وقيل أراد بالناس آدم عن سعيد بن جبير والزهري وقيل هم أهل اليمن وربيعة عن الكلبي وقيل هم العلماء الذين يعلمون الدين ويعلمونه الناس {واستغفروا الله} أي اطلبوا المغفرة منه بالندم على ما سلف من المعاصي {إن الله غفور} أي كثير المغفرة {رحيم} واسع الرحمة .
وقوله : {فَإِذَا قَضيْتُمْ مَّنَسِكَكمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ ءَابَاءَكمْ أَو أَشدَّ ذِكراً فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا ءَاتِنَا فى الدُّنْيَا ومَا لَهُ فى الاَخِرَةِ مِنْ خَلَق}:
{فإذا قضيتم مناسككم} معناه فإذا أديتم مناسككم وقيل فإذا فرغتم من مناسككم والمناسك جمع المنسك والمنسك يجوز أن يكون موضع النسك ويجوز أن يكون مصدرا فإن كان موضعا فالمعنى فإذا قضيتم ما وجب عليكم إيقاعه في متعبداتكم وإن كان بمعنى المصدر فإنما جمع لأنه يشتمل على أفعال وأذكار فجاز جمعه كالأصوات أي فإذا قضيتم أفعال الحج. {فاذكروا الله}.
واختلف في الذكر على قولين - ( أحدهما ) - أن المراد به التكبير المختص بأيام منى لأنه الذكر المرغب فيه المندوب إليه في هذه الأيام ( والآخر ) أن المراد به سائر الأدعية في تلك المواطن لأن الدعاء فيها أفضل منه في غيرها {كذكركم آباءكم} معناه ما روي عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) أنهم كانوا إذا فرغوا من الحج يجتمعون هناك ويعدون مفاخر آبائهم وم آثرهم ويذكرون أيامهم القديمة وأياديهم الجسيمة فأمرهم الله سبحانه أن يذكروه مكان ذكرهم آباءهم في هذا الموضع.
{أو أشد ذكرا} أو يزيدوا على ذلك بأن يذكروا نعم الله ويعدوا آلاءه ويشكروا نعماءه لأن آباءهم وإن كانت لهم عليهم أياد ونعم فنعم الله عليهم أعظم وأياديه عندهم أفخم ولأنه المنعم بتلك الم آثر والمفاخر على آبائهم وعليهم وهذا هو الوجه في تشبيهه هذا الذكر الواجب بذلك الذكر الذي هو دونه في الوجوب وهو قول الحسن وقتادة وقيل معناه واستغيثوا بالله وأفزعوا إليه كما يفزع الصبي إلى أبيه في جميع أموره ويلهج بذكره فيقول يا أبت عن عطاء والأول أصح وقوله {فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا} بين سبحانه أن الناس في تلك المواطن أصناف فمنهم من يسأل نعيم الدنيا ولا يسأل نعيم الآخرة لأنه غير مؤمن بالبعث والنشور {وما له في الآخرة من خلاق} أي نصيب من الخير موفور .
- وقوله : {ومِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا ءَاتِنَا فى الدُّنْيَا حَسنَةً وفى الاَخِرَةِ حَسنَةً وقِنَا عَذَاب النَّار}:
لما ذكر سبحانه دعاء من سأله من أمور الدنيا في تلك المواقف الشريفة ما لا يرتضيه عقبه بما يسأله المؤمنون فيها من الدعاء الذي يرغب فيه فقال {ومنهم من يقول ربنا آتنا} أي أعطنا {في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} أي نعيم الدنيا ونعيم الآخرة عن أنس وقتادة وروي عن أبي عبد الله أنها السعة في الرزق والمعاش وحسن الخلق في الدنيا ورضوان الله والجنة في الآخرة وقيل العلم والعبادة في الدنيا والجنة في الآخرة عن الحسن وقتادة وقيل هي المال في الدنيا وفي الآخرة الجنة عن ابن زيد والسدي وقيل هي المرأة الصالحة في الدنيا وفي الآخرة الجنة عن علي (عليه السلام) وروي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) أنه قال: ((من أوتي قلبا شاكرا ولسانا ذاكرا وزوجة مؤمنة تعينه على أمر دنياه وأخراه فقد أوتي في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة ووقى عذاب النار)) .
- وقوله : {أُولَئك لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسبُوا واللَّهُ سرِيعُ الحْسابِ}:
{أولئك لهم نصيب مما كسبوا} أي حظ من كسبهم باستحقاقهم الثواب عليه {والله سريع الحساب} ذكر فيه وجوه ( أحدها ) أن معناه سريع المجازاة للعباد على أعمالهم وأن وقت الجزاء قريب ويجري مجراه قوله وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب وعبر عن الجزاء بالحساب لأن الجزاء كفاء للعمل وبمقداره فهو حساب له يقال أحسبني الشيء كفاني ( وثانيها ) أن يكون المراد به أنه يحاسب أهل الموقف في أوقات يسيرة لا يشغله حساب أحد عن حساب غيره كما لا يشغله شأن عن شأن وورد في الخبر أنه تعالى يحاسب الخلائق كلهم في مقدار لمح البصر وروي بقدر حلب شاة وهذا أحد ما يدل على أنه ليس بجسم وأنه لا يحتاج في فعل الكلام إلى آلة لأنه لوكان كذلك لما جاز أن يخاطب اثنين في وقت واحد بمخاطبتين مختلفتين ولكان يشغله خطاب بعض الخلق عن خطاب غيره ولكانت مدة محاسبته للخلق على أعمالهم طويلة وروي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال معناه أنه يحاسب الخلق دفعة كما يرزقهم دفعة ( وثالثها ) أن معناه أنه تعالى سريع القبول لدعاء هؤلاء والإجابة لهم من غير احتباس فيه وبحث عن المقدار الذي يستحقه كل داع كما يحتبس المخلوقون للإحصاء والاحتساب ويقرب منه ما روي عن ابن عباس أنه قال يريد أنه لا حساب على هؤلاء إنما يعطون كتبهم بأيمانهم فيقال لهم هذه سيئاتكم قد تجاوزت بها عنكم وهذه حسناتكم قد ضعفتها لكم .
- وقوله : {واذْكرُوا اللَّهَ فى أَيَّام مَّعْدُودَت فَمَن تَعَجَّلَ فى يَوْمَينِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ ومَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى واتَّقُوا اللَّهَ واعْلَمُوا أَنَّكمْ إِلَيْهِ تحْشرُونَ}:
{واذكروا الله في أيام معدودات} هذا أمر من الله للمكلفين أن يذكروه في أيام معدودات وهي أيام التشريق ثلاثة أيام بعد النحر والأيام المعلومات عشر ذي الحجة عن ابن عباس والحسن وأكثر أهل العلم وهو المروي عن أئمتنا وذكر الفراء أن المعلومات أيام التشريق والمعدودات العشر والذكر المأمور به هو أن تقول عقيب خمس عشرة صلوات الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد الله أكبر على ما هدانا والحمد لله على ما أولانا والله أكبر على ما رزقنا من بهيمة الأنعام وأول التكبير عندنا عقيب الظهر من يوم النحر وآخره عقيب صلاة الفجر من اليوم الرابع من النحر هذا لمن كان بمنى ومن كان بغير منى من الأمصار يكبر عقيب عشر صلوات أولها صلاة الظهر من يوم النحر أيضا هذا هو المروي عن الصادق (عليه السلام) وفي ذلك اختلاف بين الفقهاء ووافقنا في ابتداء التكبير من صلاة الظهر من يوم النحر ابن عباس وابن عمر.
قوله {فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه} المعنى في ذلك الرخصة في جواز النفر في اليوم الثاني من أيام التشريق والأفضل أن يقيم إلى النفر الأخير وهو الثالث من التشريق وإذا نفر في الأول نفر بعد الزوال إلى غروب الشمس فإن غربت فليس له أن ينفر إلى اليوم الثالث وقوله {فلا إثم عليه} فيه قولان - ( أحدهما ) - أن معناه لا إثم عليه لأن سيئاته صارت مكفرة بما كان من حجه المبرور وهو قول ابن مسعود - ( والثاني ) - إن معناه لا إثم عليه في التعجيل والتأخير وإنما نفي الإثم لئلا يتوهم متوهم إن في التعجيل إثما وإنما قال {فلا إثم عليه} في التأخير على جهة المزاوجة كما يقال إن أعلنت الصدقة فحسن وأن أسررت فحسن وإن كان الإسرار أحسن وأفضل عن الحسن.
وقوله {لمن اتقى} فيه قولان - ( أحدهما ) - إن الحج يقع مبرورا مكفرا للسيئات إذا اتقي ما نهى الله عنه والآخر ما رواه أصحابنا أن قوله {لمن اتقى} متعلق بالتعجيل في اليومين وتقديره فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه لمن اتقى الصيد إلى انقضاء النفر الأخير وما بقي من إحرامه ومن لم يتقها فلا يجوز النفر في الأول وهو المروي عن ابن عباس واختاره الفراء وقد روي أيضا عن أبي عبد الله في قوله {فمن تعجل في يومين} أي من مات في هذين اليومين فقد كفر عنه كل ذنب {ومن تأخر} أي من أجله فلا إثم عليه إذا اتقى الكبائر وقوله {واتقوا الله} أي اجتنبوا معاصي الله {واعلموا أنكم إليه تحشرون} أي تحققوا أنكم بعد موتكم تجمعون إلى الموضع الذي يحكم الله فيه بينكم ويجازيكم على أعمالكم .
_____________________
1- مجمع البيان ، الطبرسي ، ج2 ، ص37-54.
2- [ريحا طيبة ووجد] .
3- [علي (عليه السلام) ].
4- وفي نسختين مخطوطتين : (قوسه) بالسين بدل الميم.
5- البرمة : القدر من الحجر .
6- المحك : الخصومة.
تعرضت هذه الآيات من 196 إلى 203 لبعض أحكام الحج ، وقد وضع الفقهاء كتبا خاصة ، وألفت فيه كتابا ، اسمه الحج على المذاهب الخمسة ، ثم أدرجته في كتاب الفقه على المذاهب الخمسة عند ما أعيد طبع هذا الكتاب للمرة الثالثة ، كما تكلمت عن الحج مطولا في الجزء الثاني من كتاب فقه الإمام جعفر الصادق ( عليه السلام ) . . وقد كان الحج معروفا منذ عهد إبراهيم وإسماعيل ( عليه السلام )، واستمر عليه أهل الجاهلية ، وأقره الإسلام بعد أن خلَّصه من المنكرات ، وطعّمه ببعض المناسك .
{وأَتِمُّوا الْحَجَّ والْعُمْرَةَ لِلَّهِ} . معنى الحج في اللغة القصد ، وفي الشرع عبادة خاصة في مكان مخصوص في زمن معين ، والعمرة في اللغة مطلق الزيارة ، وفي الشرع زيارة بيت اللَّه الحرام على نحو خاص .
والحج واجب كتابا وسنة واجماعا ، بل ثبت وجوبه بالبديهة الدينية ، ومن أنكره فليس بمسلم ، تماما كمن أنكر وجوب الصوم والصلاة ، أما العمرة فقد أوجبها الإمامية والشافعية ، وقال باستحبابها الحنفية والمالكية . . وقوله تعالى :
للَّه أي حجوا واعتمروا لوجه اللَّه وحده ، لا لمقاصد دنيوية ، فقد كانت العرب تقصد الحج للاجتماع والتفاخر والتنافر ، وقضاء الحوائج ، وحضور الأسواق ، فأمر اللَّه بالقصد إليه للعبادة الخالصة من كل شائبة .
{فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ}. الإحصار هو الحبس والمنع ، والهدي ما يضحي به الحاج أيام حجه ، والمعنى إذا أحرمتم للحج أو العمرة ، ثم منعكم مانع من إكمال العبادة على وجهها الشرعي من مرض أو عدو، وما إليه من العوائق - إذا كان الأمر كذلك فعليكم أن تذبحوا ما تيسر ، وأقله شاة ، وأوسطه بقرة ، وأعلاه ناقة .
{ولا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ } . الخطاب للمحصورين الذين منعوا من إتمام الحج أو العمرة ، وعليهم أن لا يحلوا من إحرامهم ، حتى يعلموا ان الهدي الذي بعثوه قد بلغ المكان الذي يجب فيه الذبح ، ومكان الذبح منى ان كان الإحرام للحج ، ومكة ان كان للعمرة . . هذا ، إذا كان المرض هو المانع ، أما إذا كان المانع العدو فان محل الذبح هو المكان الذي حصل فيه المنع ، لأن النبي ( صلى الله عليه واله وسلم ) ذبح هديه في الحديبية حين صده المشركون عن زيارة بيت اللَّه الحرام .
{فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوبِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَو صَدَقَةٍ أَو نُسُكٍ} . أي ان المحرم إذا حلق رأسه لضرورة فعليه كفارة مخيرا بين صيام ثلاثة أيام ، أو اطعام ستة مساكين ، أو التضحية ، وأقلها شاة .
{فَإِذا أَمِنْتُمْ } . أي لم يمنعكم مانع من إكمال الحج . {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} . أي ان من أتى بالعمرة ، ثم حج بعدها في نفس السنة فعليه الهدي ، وهذا النوع من الحج هو المعروف بحج التمتع الذي يجب على غير أهل مكة ، وانما سمي حج التمتع لأن الحاج بعد أن ينتهي من العمرة يحل له أن يتمتع بكل ما حرم عليه ، حين كان محرما للعمرة إلى أن يحرم للحج .
{فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ} .
قال الإمام الصادق ( عليه السلام ) إذا لم يجد المتمتع الهدي صام ثلاثة أيام في الحج :
السابع والثامن والتاسع من ذي الحجة - ولا يشترط فيها الإقامة - وسبعة أيام إذا رجع إلى أهله ، تلك عشرة كاملة لجزاء الهدي .
{ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ }. قال صاحب مجمع البيان : (أي ما تقدم ذكره من التمتع بالعمرة إلى الحج ليس لأهل مكة ، ومن يجري مجراها ، وانما هو لمن لم يكن من حاضري مكة ، وهومن يكون بينه وبينها أكثر من اثني عشر ميلا من كل جانب) . وقال فقهاء الإمامية : ان حج التمتع فرض للبعيد عن مكة ، ولا يجوز له ان يحج حج القران والإفراد ، والقران والإفراد فرض لأهل مكة وضواحيها ، ولا يجوز أن يحجوا حج التمتع ، والتفصيل في كتب الفقه .
{الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ } . هي شوال وذو القعدة والعشر الأول من ذي الحجة ، فمن أحرم قبلها لم يصح منه الحج ، ومن أحرم فيها صح ، وأتى ببقية الأعمال .
{فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ} . أي ألزم نفسه بالحج في هذه الأيام ( فَلا رَفَثَ ولا فُسُوقَ ولا جِدالَ فِي الْحَجِّ ) . الرفث الجماع ، فإذا جامع الرجل زوجته ، وهو محرم فسد حجه ، تماما كما لو جامع أو أكل وهو صائم ، وعليه المضي في إكمال حجه ، ثم القضاء في العام المقبل ، كما هو الحكم فيمن أفسد صومه برمضان ، والفسوق الكذب والسباب ، أما الجدال فجاء تفسيره في روايات أهل البيت ( عليه السلام ) بقول الرجل : لا واللَّه ، وبلى واللَّه .
{لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ } . كانوا في الجاهلية يتاجرون ويكتسبون أيام الحج ، فتوهم البعض ان هذا محرم ، فأزال اللَّه سبحانه هذا الوهم ، وبيّن ان الاكتساب لا يتنافى مع الإخلاص في أعمال الحج .
{ فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهً عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ } . عرفات موقف معلوم ، والإفاضة من عرفات الخروج منها ، والمشعر الحرام المكان المعروف
بالمزدلفة ، والوقوف فيها واجب ، تماما كالوقوف في عرفات .
{ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ } . قيل : ان قريشا كانوا لا يقفون مع الناس بعرفات ترفعا وتكبرا ، فأمر اللَّه نبيه أن يقف بها ويخرج منها مع الناس ، ليبطل ما كانت عليه قريش .
{ فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهً كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَو أَشَدَّ ذِكْراً } . جاء عن الإمام الباقر أبي الإمام الصادق ( عليه السلام ) : انهم كانوا إذا فرغوا من الحج يجتمعون هناك ، ويذكرون مفاخر آبائهم ومآثرهم ، فأمرهم اللَّه سبحانه أن يتركوا ذلك ، ويذكروا اللَّه ونعمه عليهم ، لأنه هو المنعم الأول عليهم وعلى آبائهم .
{فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وما لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ . ومِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وقِنا عَذابَ النَّارِ . أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا واللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ } . الناس في حجهم نوعان :
نوع لا يطلب إلا متاع الدنيا ، ولا همّ له إلا همها ، وإذا عبد اللَّه فإنما يعبده من أجلها . وهذا النوع محروم من نعيم الآخرة ، ونوع يطلب خير الدارين ، ويعمل لدنياه وآخرته ، ولهذا حظ وافر عند اللَّه غدا جزاء على صالح أعماله .
ونقل صاحب تفسير روح البيان عن الإمام علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) ان الحسنة في الدنيا هي المرأة الصالحة ، وفي الآخرة الحوراء ، أما عذاب النار فالمراد به المرأة السوء . . وسواء أصح هذا النقل عن الإمام ، أم لم يصح فاني أعرف إنسانا يشعر من أعماق نفسه انه لوكان في جهنم ، ثم خيّر بين الخروج منها على أن يعود إلى زوجته التي عاشرها في الدنيا ، وبين البقاء في جهنم لاختار البقاء في جهنم على معاشرة تلك الزوجة التي أبدله اللَّه بخير منها . .
{واذْكُرُوا اللَّهً فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ } . المراد بها أيام التشريق ، وهي اليوم الحادي عشر ، والثاني عشر ، والثالث عشر من ذي الحجة ، ولا يجب على الحاج المبيت بمنى ليلة الثالث عشر ، على شريطة أن يخرج من منى في اليوم الثاني عشر بعد الزوال ، وقبل المغيب ، وأن يكون قد اتقى الصيد والنساء ، وهو محرم ، وفي هذا تجد تفسير قوله تعالى : {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ ومَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقى } . أي اتقى الصيد والنساء في إحرامه . .
وإذا كان قد أتى النساء أو الصيد ، أو غابت الشمس في اليوم الثاني عشر ، وهو في منى ، وجب عليه المبيت فيها حتما ليلة الثالث عشر ، ورمي الجمار الثلاث في صبيحته .
_____________________
1- الكاشف ، محمد جواد مغنية ، ج1 ، ص303-307.
نزلت الآيات في حجة الوداع، آخر حجة حجها رسول الله، وفيها تشريع حج التمتع.
قوله تعالى: {وأتموا الحج والعمرة لله} ، تمام الشيء هو الجزء الذي بانضمامه إلى سائر أجزاء الشيء يكون الشيء هو هو، ويترتب عليه آثاره المطلوبة منه فالإتمام هوضم تمام الشيء إليه بعد الشروع في بعض أجزائه، والكمال هو حال أو وصف أو أمر إذا وجده الشيء ترتب عليه من الأثر بعد تمامه ما لا يترتب عليه لولا الكمال، فانضمام أجزاء الإنسان بعضها إلى بعض هو تمامه، وكونه إنسانا عالما أو شجاعا أو عفيفا كماله، وربما يستعمل التمام مقام الكمال بالاستعارة بدعوى كون الوصف الزائد على الشيء داخلا فيه اهتماما بأمره وشأنه، والمراد بإتمام الحج والعمرة هو المعنى الأول الحقيقي، والدليل عليه قوله تعالى بعده: {فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي}، فإن ذلك تفريع على التمام بمعنى إيصال العمل إلى آخر أجزائه وضمه إلى أجزائه المأتي بها بعد الشروع ولا معنى يصحح تفريعه على الإتمام بمعنى الإكمال وهو ظاهر.
والحج هو العمل المعروف بين المسلمين الذي شرعه إبراهيم الخليل (عليه السلام) وكان بعده بين العرب ثم أمضاه الله سبحانه لهذه الأمة شريعة باقية إلى يوم القيامة.
ويبتدى هذا العمل بالإحرام والوقوف في العرفات ثم المشعر الحرام، وفيها التضحية بمنى ورمي الجمرات الثلاث والطواف وصلاته والسعي بين الصفا والمروة، وفيها أمور مفروضة أخر، وهو على ثلاثة أقسام: حج الإفراد، وحج القران، وحج التمتع الذي شرعه الله في آخر عهد رسول الله.
والعمرة عمل آخر وهو زيارة البيت بالإحرام من أحد المواقيت والطواف وصلاته والسعي بين الصفا والمروة والتقصير، وهما أعني الحج، والعمرة عبادتان لا يتمان إلا لوجه الله ويدل عليه قوله تعالى: وأتموا الحج والعمرة لله الآية.
قوله تعالى: {فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي ولا تحلقوا رؤوسكم }إلخ"، الإحصار هو الحبس والمنع، والمراد الممنوعية عن الإتمام بسبب مرض أو عدو بعد الشروع بالإحرام والاستيسار صيرورة الشيء يسيرا غير عسير كأنه يجلب اليسر لنفسه، والهدي هوما يقدمه الإنسان من النعم إلى غيره أو إلى محل للتقرب به، وأصله من الهدية بمعنى التحفة أومن الهدى بمعنى الهداية التي هي السوق إلى المقصود، والهدي والهدية كالتمر والتمرة، والمراد به ما يسوقه الإنسان للتضحية به في حجه من النعم.
قوله تعالى: {فمن كان منكم مريضا أوبه أذى من رأسه } إلخ" الفاء للتفريع، وتفريع هذا الحكم على النهي عن حلق الرأس يدل على أن المراد بالمرض هو خصوص المرض الذي يتضرر فيه من ترك الشعر على الرأس من غير حلق، والإتيان بقوله: {أوبه أذى من رأسه} بلفظة أو الترديد يدل على أن المراد بالأذى ما كان من غير طريق المرض كالهوام فهو كناية عن التأذي من الهوام كالقمل على الرأس، فهذان الأمران يجوزان الحلق مع الفدية بشيء من الخصال الثلاث: التي هي الصيام، والصدقة، والنسك.
وقد وردت السنة أن الصيام ثلاثة أيام، وأن الصدقة إطعام ستة مساكين، وأن النسك شاة.
قوله تعالى: {فإذا أمنتم فمن تمتع بالعمرة إلى الحج} ، تفريع على الإحصار، أي إذا أمنتم المانع من مرض أو عدو أو غير ذلك فمن تمتع بالعمرة إلى الحج، أي تمتع بسبب العمرة من حيث ختمها والإحلال إلى زمان الإهلال بالحج فما استيسر من الهدي، فالباء للسببية، وسببية العمرة للتمتع بما كان لا يجوز له في حال الإحرام كالنساء والصيد ونحوهما من جهة تمامها بالإحلال.
قوله تعالى: {فما استيسر من الهدي}، ظاهر الآية أن ذلك نسك، لا جبران لما فات منه من الإهلال بالحج من الميقات فإن ذلك أمر يحتاج إلى زيادة مئونة في فهمه من الآية كما هو ظاهر.
فإن قيل: إن ترتب قوله: {فما استيسر من الهدي}، على قوله: {فمن تمتع} ، ترتب الجزاء على الشرط مع أن اشتمال الشرط على لفظ التمتع مشعر بأن الهدي واقع بإزاء التمتع الذي هو نوع تسهيل شرع له تخفيفا فهو جبران لذلك.
قلت: يدفعه قوله تعالى: {بالعمرة} ، فإن ذلك يناسب التجويز للتمتع في أثناء عمل واحد، ولا معنى للتسهيل حيث لا إحرام لتمام العمرة وعدم الإهلال بالحج بعد، على أن هذا الاستشعار لو صح فإنما يتم به كون تشريع الهدي من أجل تشريع التمتع بالعمرة إلى الحج لا كون الهدي جبرانا لما فاته من الإهلال بالحج من الميقات دون مكة، وظاهر الآية كون قوله: {فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي} إخبارا عن تشريع التمتع لا إنشاء للتشريع فإنه يجعل التمتع مفروغا عنه ثم يبنى عليه تشريع الهدي، ففرق بين قولنا: من تمتع فعليه هدي وقولنا تمتعوا وسوقوا الهدي، وأما إنشاء تشريع التمتع فإنما يتضمنه قوله: تعالى في ذيل الآية {ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام}.
قوله تعالى: {فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم}، جعل الحج ظرفا للصيام باعتبار اتحاده مع زمان الاشتغال به ومكانه، فالزمان الذي يعد زمانا للحج، وهومن زمان إحرام الحج إلى الرجوع، زمان الصيام ثلاثة أيام، ولذلك وردت الروايات عن أئمة أهل البيت أن وقت الصيام قبل يوم الأضحى أو بعد أيام التشريق لمن لم يقدر على الصيام قبله وإلا فعند الرجوع إلى وطنه، وظرف السبعة إنما هو بعد الرجوع فإن ذلك هو الظاهر من قوله: {إذا رجعتم}، ولم يقل حين الرجوع على أن الالتفات من الغيبة إلى الحضور في قوله {إذا رجعتم} لا يخلو عن إشعار بذلك.
قوله تعالى: {تلك عشرة كاملة}، أي الثلاثة والسبعة عشرة كاملة وفي جعل السبعة مكملة للعشرة لا متممة دلالة على أن لكل من الثلاثة والسبعة حكما مستقلا آخر على ما مر من معنى التمام والكمال في أول الآية فالثلاثة عمل تام في نفسه، وإنما تتوقف على السبعة في كمالها لا تمامها.
قوله تعالى: {ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام}، أي الحكم المتقدم ذكره وهو التمتع بالعمرة إلى الحج لغير الحاضر، وهو الذي بينه وبين المسجد الحرام. أكثر من اثني عشر ميلا على ما فسرته السنة، وأهل الرجل خاصته: من زوجته وعياله، والتعبير عن النائي البعيد بأن لا يكون أهله حاضري المسجد الحرام من ألطف التعبيرات، وفيه إيماء إلى حكمة التشريع وهو التخفيف والتسهيل، فإن المسافر من البلاد النائية للحج، وهو عمل لا يخلو من الكد ومقاسات التعب ووعثاء الطريق، لا يخلو عن الحاجة إلى السكن والراحة، والإنسان إنما يسكن ويستريح عند أهله، وليس للنائي أهل عند المسجد الحرام، فبدله الله سبحانه من التمتع بالعمرة إلى الحج والإهلال بالحج من المسجد الحرام من غير أن يسير ثانيا إلى الميقات.
وقد عرفت: أن الجملة الدالة على تشريع المتعة إنما هي هذه الجملة أعني قوله: {ذلك لمن لم يكن } إلخ"، دون قوله: {فمن تمتع بالعمرة إلى الحج}، وهو كلام مطلق غير مقيد بوقت دون وقت ولا شخص دون شخص ولا حال دون حال.
قوله تعالى: {واتقوا الله واعلموا أن الله شديد العقاب} ، التشديد البالغ في هذا التذليل مع أن صدر الكلام لم يشتمل على أزيد من تشريع حكم في الحج ينبىء عن أن المخاطبين كان المترقب من حالهم إنكار الحكم أو التوقف في قبوله وكذلك كان الأمر فإن الحج خاصة من بين الأحكام المشرعة في الدين كان موجودا بينهم من عصر إبراهيم الخليل معروفا عندهم معمولا به فيهم قد أنسته نفوسهم وألفته قلوبهم وقد أمضاه الإسلام على ما كان تقريبا إلى آخر عهد النبي فلم يكن تغيير وضعه أمرا هينا سهل القبول عندهم ولذلك قابلوه بالإنكار وكان ذلك غير واقع في نفوس كثير منهم على ما يظهر من الروايات، ولذلك اضطر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى أن يخطبهم فيبين لهم أن الحكم لله يحكم ما يشاء، وأنه حكم عام لا يستثني فيه أحد من نبي أو أمة فهذا هو الموجب للتشديد الذي في آخر الآية بالأمر بالتقوى والتحذير عن عقاب الله سبحانه.
قوله تعالى: {الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج} إلى قوله: {في الحج} ، أي زمان الحج أشهر معلومات عند القوم وقد بينته السنة وهي: شوال وذو القعدة وذو الحجة.
وكون زمان الحج من ذي الحجة بعض هذا الشهر دون كله لا ينافي عده شهرا للحج فإنه من قبيل قولنا: زمان مجيئي إليك يوم الجمعة مع أن المجيء إنما هو في بعضه دون جميعه.
وفي تكرار لفظ الحج ثلاث مرات في الآية على أنه من قبيل وضع الظاهر موضع المضمر لطف الإيجاز فإن المراد بالحج الأول زمان الحج وبالحج الثاني نفس العمل وبالثالث زمانه ومكانه، ولولا الإظهار لم يكن بد من إطناب غير لازم كما قيل.
وفرض الحج جعله فرضا على نفسه بالشروع فيه لقوله تعالى: {وأتموا الحج والعمرة لله} الآية، والرفث كما مر مطلق التصريح بما يكنى عنه، والفسوق هو الخروج عن الطاعة، والجدال المراء في الكلام، لكن السنة فسرت الرفث بالجماع، والفسوق بالكذب، والجدال بقول لا والله وبلى والله.
قوله تعالى: {وما تفعلوا من خير يعلمه الله}، تذكرة بأن الأعمال غير غائبة عنه تعالى، ودعوة إلى التقوى لئلا يفقد المشتغل بطاعة الله روح الحضور ومعنى العمل، وهذا دأب القرآن يبين أصول المعارف ويقص القصص ويذكر الشرائع ويشفع البيان في جميعها بالعظة والوصية لئلا يفارق العلم العمل، فإن العلم من غير عمل لا قيمة له في الإسلام، ولذلك ختم هذه الدعوة بقوله: {واتقوني يا أولي الألباب}، بالعدول من الغيبة إلى التكلم الذي يدل على كمال الاهتمام والاقتراب والتعين.
قوله تعالى: {ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم}، هو نظير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9] إلى أن قال: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة: 10] ، فبدل البيع بالابتغاء من فضل الله فهو هو، ولذلك فسرت السنة الابتغاء من الفضل في هذه الآية من البيع فدلت الآية على إباحة البيع أثناء الحج.
قوله تعالى: {فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام}، الإفاضة هي الصدور عن المكان جماعة فهي تدل على وقوف عرفات كما تدل على الوقوف بالمشعر الحرام، وهي المزدلفة.
قوله تعالى: {واذكروه كما هديكم } "إلخ" أي واذكروه ذكرا يماثل هدايته إياكم وأنكم كنتم من قبل هدايته إياكم لمن الضالين.
قوله تعالى: {ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس}، ظاهره إيجاب الإفاضة على ما كان من دأب الناس وإلحاق المخاطبين في هذا الشأن بهم فينطبق على ما نقل أن قريشا وحلفاءها وهم الحمس كانوا لا يقفون بعرفات بل بالمزدلفة وكانوا يقولون: نحن أهل حرم الله لا نفارق الحرم فأمرهم الله سبحانه بالإفاضة من حيث أفاض الناس وهو عرفات.
وعلى هذا فذكر هذا الحكم بعد قوله: {فإذا أفضتم من عرفات} ، بثم الدالة على التأخير اعتبار للترتيب الذكري، والكلام بمنزلة الاستدراك، والمعنى أن أحكام الحج هي التي ذكرت غير أنه يجب عليكم في الإفاضة أن تفيضوا من عرفات لا من المزدلفة، وربما قيل: إن في الآيتين تقديما وتأخيرا في التأليف، والترتيب: ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس. فإذا أفضتم من عرفات.
قوله تعالى: {فإذا قضيتم مناسككم} إلى قوله: {ذكرا}، دعوة إلى ذكر الله والبلاغ فيه بأن يذكره الناسك كذكره آباءه وأشد منه لأن نعمته في حقه وهي نعمة الهداية كما ذكره بقوله تعالى: {واذكروه كما هديكم} أعظم من حق آبائه عليه، وقد قيل: إن العرب كانت في الجاهلية إذا فرغت من الحج مكثت حينا في منى فكانوا يتفاخرون بالآباء بالنظم والنثر فبدله الله تعالى من ذكره كذكرهم أو أشد من ذكرهم، وأوفي قوله أو أشد ذكرا، للإضراب فتفيد معنى بل، وقد وصف الذكر بالشدة وهو أمر يقبل الشدة في الكيفية كما يقبل الكثرة في الكمية قال تعالى: { اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا} [الأحزاب: 41] ، وقال تعالى: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا } [الأحزاب: 35] ، فإن الذكر بحسب الحقيقة ليس مقصورا في اللفظ، بل هو أمر يتعلق بالحضور القلبي واللفظ حاك عنه، فيمكن أن يتصف بالكثرة من حيث الموارد بأن يذكر الله سبحانه في غالب الحالات كما قال تعالى: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ } [آل عمران: 191] ، وأن يتصف بالشدة في مورد من الموارد، ولما كان المورد المستفاد من قوله تعالى: {فإذا قضيتم مناسككم}، موردا يستوجب التلهي عنه تعالى ونسيانه كان الأنسب توصيف الذكر الذي أمر به فيه بالشدة دون الكثرة كما هو ظاهر.
قوله تعالى: {فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا} "إلخ" تفريع على قوله تعالى: {فاذكروا الله كذكركم آباءكم}، والناس مطلق، فالمراد به أفراد الإنسان أعم من الكافر الذي لا يذكر إلا آباءه أي لا يبتغي إلا المفاخر الدنيوية ولا يطلب إلا الدنيا ولا شغل له بالآخرة، ومن المؤمن الذي لا يريد إلا ما عند الله سبحانه، ولو أراد من الدنيا شيئا لم يرد إلا ما يرتضيه له ربه، وعلى هذا فالمراد بالقول والدعاء ما هو سؤال بلسان الحال دون المقال، ويكون معنى الآية أن من الناس من لا يريد إلا الدنيا ولا نصيب له في الآخرة ومنهم من لا يريد إلا ما يرتضيه له ربه سواء في الدنيا أوفي الآخرة ولهؤلاء نصيب في الآخرة.
ومن هنا يظهر: وجه ذكر الحسنة في قول أهل الآخرة دون أهل الدنيا، وذلك أن من يريد الدنيا لا يقيده بأن يكون حسنا عند الله سبحانه بل الدنيا وما هو يتمتع به في الحياة الأرضية كلها حسنة عنده موافقة لهوى نفسه، وهذا بخلاف من يريد ما عند الله سبحانه فإن ما في الدنيا وما في الآخرة ينقسم عنده إلى حسنة وسيئة ولا يريد ولا يسأل ربه إلا الحسنة دون السيئة.
والمقابلة بين قوله: {وما له في الآخرة من خلاق}، وقوله: {أولئك لهم نصيب مما كسبوا}، تعطي أن أعمال الطائفة الأولى باطلة حابطة بخلاف الثانية كما قال تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان: 23] ، وقال تعالى: { وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا} [الأحقاف: 20] ، وقال تعالى: {فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} [الكهف: 105].
قوله تعالى: {والله سريع الحساب}، اسم من أسماء الله الحسنى، وإطلاقه يدل على شموله للدنيا والآخرة معا، فالحساب جار، كلما عمل عبد شيئا من الحسنات أو غيرها آتاه الله الجزاء جزاء وفاقا.
فالمحصل من معنى قوله: {فمن الناس من يقول} إلى آخر الآيات، أن اذكروا الله تعالى فإن الناس على طائفتين: منهم من يريد الدنيا فلا يذكر غيرها ولا نصيب له في الآخرة، ومنهم من يريد ما عند الله مما يرتضيه له وله نصيب من الآخرة والله سريع الحساب يسرع في حساب ما يريده عبده فيعطيه كما يريد، فكونوا من أهل النصيب بذكر الله ولا تكونوا ممن لا خلاق له بتركه ذكر ربه فتكونوا قانطين آيسين.
قوله تعالى: {واذكروا الله في أيام معدودات}، الأيام المعدودات هي أيام التشريق وهي اليوم الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر من ذي الحجة، والدليل على أن هذه الأيام بعد العشرة من ذي الحجة ذكر الحكم بعد الفراغ عن ذكر أعمال الحج، والدليل على كونها ثلاثة أيام قوله تعالى: {فمن تعجل في يومين} "إلخ"، فإن التعجل في يومين إنما يكون إذا كانت الأيام ثلاثة، يوم ينفر فيه، ويومان يتعجل فيهما فهي ثلاثة، وقد فسرت في الروايات بذلك أيضا.
قوله تعالى: {فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه لمن اتقى}، لا نافية للجنس فقوله: {لا إثم عليه} في الموضعين ينفي جنس الإثم عن الحاج ولم يقيد بشيء أصلا، ولوكان المراد لا إثم عليه في التعجل أوفي التأخر لكان من اللازم تقييده به، فالمعنى أن من أتم عمل الحج فهو مغفور لا ذنب له سواء تعجل في يومين أو تأخر، ومن هنا يظهر: أن الآية ليست في مقام بيان التخيير بين التأخر والتعجل للناسك، بل المراد بيان كون الذنوب مغفورة للناسك على أي حال.
وأما قوله: {لمن اتقى}، فليس بيانا للتعجل والتأخر وإلا لكان حق الكلام أن يقال: على من اتقى، بل الظاهر أن قوله: {لمن اتقى} نظير قوله تعالى: {ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام} الآية، والمراد أن هذا الحكم لمن اتقى وأما من لم يتق فليس له، ومن اللازم أن يكون هذه التقوى تقوى مما نهى الله سبحانه عنه في الحج واختصه به فيئول المعنى أن الحكم إنما هو لمن اتقى تروك الإحرام أو بعضها أما من لم يتق فيجب أن يقيم بمنى ويذكر الله في أيام معدودات، وقد ورد هذا المعنى في بعض ما روي عن أئمة أهل البيت كما سيجيء إن شاء الله.
قوله تعالى: {واتقوا الله واعلموا أنكم إليه تحشرون}، أمر بالتقوى في خاتمة الكلام وتذكير بالحشر والبعث فإن التقوى لا تتم والمعصية لا تجتنب إلا مع ذكر يوم الجزاء، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} [ص: 26].
وفي اختيار لفظ الحشر في قوله تعالى: {أنكم إليه تحشرون}، مع ما في نسك الحج من حشر الناس وجمعهم لطف ظاهر، وإشعار بأن الناسك ينبغي أن يذكر بهذا الجمع والإفاضة يوما يحشر الله سبحانه الناس لا يغادر منهم أحدا.
____________________
1- الميزان ، الطباطبائي ، ج2 ، ص64-70.
بعض أحكام الحجّ المهمّة :
لا يُعلم بدقّة تاريخ نزول الآيات المتعلّقة بالحجّ في القرآن الكريم، ولكن يرى بعض المفسّرين العظام أنّها نزلت في حجّة الوداع(2)، في حين يرى بعضهم أنّ جملة {فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي} ناظرة إلى حادثة (الحديبيّة) الواقعة في السنّة السادسة للهجرة حيث منع المسلمون من زيارة بيت الله الحرام(3).
ففي هذه الآية ذُكرت أحكام كثيرة :
1 ـ في مطلع الآية تأكيداً على أنّ أعمال العمرة والحجّ ينبغي أن تكون لله وطلب مرضاته فقط {وأتمّوا الحجّ والعمرة لله} من هنا لا ينبغي أن يشوب أعمال الحجّ نيّة اُخرى غير الدافع الإلهي وكذلك الإتيان بالعمل العبادي هذا كاملاً وتامّاً بمقتضى جملة (وأتمّوا).
2 ـ ثمّ أنّ الآية تشير إلى الأشخاص الّذين لا يحالفهم التوفيق لأداء مناسك الحجّ والعمرة بعد لبس ثياب الاحرام بسبب المرض الشديد أو خوف العدو وأمثال ذلك، فتقول {فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي} فمثل هذا الشخص عليه أن يذبح ما تيّسر له من الهدي ويخرج بذلك من احرامه(4).
وعلى كلّ حال فإنّ الأشخاص الّذين منعهم مانع ولم يتمكنّوا من أداء مراسم الحجّ والعمرة فيمكنهم بالاستفادة من هذه المسألة أن يحلّوا من إحرامهم.
ونعلم أيضاً أنّ الهدي يمكن أن يكون بعيراً أو بقرة أو خروفاً، وهذا الأخير أقلّ الهدي مؤنةً، ولهذا كانت جملة (فما استيسر من الهدي)تشير غالباً إلى الغنم.
3 ـ ثمّ أنّ الآية الشريفة تشير إلى أمر آخر من مناسك الحجّ فتقول : {ولا تحلقوا رؤوسكم حتّى يبلغ الهدي محلّه}.
فهل أنّ هذا الأمر يتعلّق بالأشخاص المحصورين الممنوعين من أداء مراسم الحجّ، فهو بمثابة تكميل للأوامر السابقة، أو أنّه يشمل جميع الحجّاج ؟ اختار بعض المفسّرين الرأي الأوّل وقالوا أنّ المراد من محل الهدي أي محل الأضحية هو الحرم(5).
وقال آخرون أنّ المراد هو المكان الّذي حصل فيه المانع والمزاحم ويستدلّ بفعل النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) في واقعة الحديبيّة الّتي هي مكان خارج الحرم المكّي، حيث أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد منع المشركين له ذبح هديه في ذلك المكان وأمر أصحابه أن يفعلوا ذلك أيضاً(6).
يقول المفسّر الكبير المرحوم الطبرسي : (ذهب علمائنا إلى أنّ المحصور إذا كان بسبب المرض فيجب عليه ذبح الأضحية في الحرم، وإذا كان بسبب منع الأعداء فيجب الذبح في نفس ذلك المكان الّذي مُنع به)(6).
ولكنّ ذهب مفسرون آخرون إلى أنّ هذه الجملة ناظرة إلى جميع الحجّاج وتقول : لا يحقّ لأحد التقصير (حلق الرأس والخروج من الإحرام) إلاّ أن يذبح هديه في محلّه (ذبح الهدي في الحجّ يكون في منى وفي العمرة يكون في مكّة).
وعلى كلّ حال، فالمراد من بلوغ الهدي محلّه هو أن يصل الهدي إلى محل الذبح فيُذبح، وهذا التعبير كناية عن الذبح.
ومع الأخذ بنظر الاعتبار عموميّة التعبير الوارد في الآية الشريفة فالتفسير الثاني يكون أنسب ظاهراً بحيث يشمل المحصور وغير المحصور.
4 ـ ثمّ تقول الآية (فمن كان منكم مريضاً أوبه أذىً من رأسه ففديةٌ من صيام أو صدقة أو نُسُك).
(نُسُك) في الأصل جمع (نسيكة) بمعنى حيوان مذبوح، وهذه المفردة جاءت بمعنى العبادة أيضاً(8) ولهذا يقول الراغب في المفردات بعد أن فسّر النُسُك
بالعبادة : هذا الإصطلاح يأتي في أعمال الحجّ و(نسيكة) بمعنى (ذبيحة).
ويرى بعض المفسّرين أيضاً أنّ الأصل في هذه الكلمة هو سبائك الفضّة، وقيل للعبادة (نُسُك) بسبب أنّها تطهّر الإنسان وتخلّصه من الشوائب(9).
وعلى أيّ حال فإنّ ظاهر الآية أنّ مثل هذا الشخص مخيّراً بين ثلاث اُمور (الصوم والصدقة أو ذبح شاة). والوارد في روايات أهل البيت (عليهم السلام) أنّ الصوم في هذا المورد يجب أن يكون ثلاثة أيّام والصّدقة على ستّة مساكين، وفي رواية اُخرى على عشرة مساكين، وكلمة (نُسُك) تعني شاة(10).
5 ـ ثمّ تضيف الآية (فإذا آمنتم فمن تمتّع بالعمرة إلى الحجّ فما استيسر من الهدي)وهذه إشارة إلى أنّه يجب الذبح في حجّ التمتّع ويكون المكلّف في هذا الحجّ قد أتى بالعمرة قبله، ولا فرق في هذا الهدي بين أن يكون من الابل أومن البقر أومن الضّأن دون أن يخرج من الإحرام.
وحول الأصل في كلمة (الهدي) فهناك قولان حسب ما أورده المرحوم الطبرسي : الأوّل أنّه مأخوذ من (الهدية) وبما أنّ الأضحية هي في الواقع هديّة إلى بيت الله الحرام فقد اطلق عليها هذه الكلمة، والآخر أنها من مادّة (الهداية) لأن الحيوان المقرّر للذّبح يؤتى به مع الحاج إلى بيت الله الحرام، أو يكون هدايته إلى بيت الله.
ولكنّ ظاهر كلام الراغب في المفردات أنّه مأخوذ من الهديّة فقط فيقول : (هَدْي) جمع ومفرده (هديّة).
وقد أورد في معجم مقاييس اللغة أنّ لهذه الكلمة أصلان : الهداية والهديّة، ولكنّ لا يبعد أن تعود كليهما إلى الهداية، لأنّ الهديّة تعني الشيء الّذي يهدى إلى الشخص الآخر، أي يساق إليه هديّة (فتأمّل بدّقة).
6 ـ ثمّ أنّ الآية تبيّن حكم الأشخاص الغير قادرين على ذبح الهدي في حجّ التمتع فتقول : {فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيّام في الحجّ وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة}.
فعلى هذا فلولم يجد الإنسان أضحيةً أو أنّ وضعه المالي لا يطيق ذلك فيجب عليه جبران ذلك بصيام عشرة أيّام، يصوم ثلاثة أيّام منها (يوم السابع والثامن والتاسع من ذي الحجّة) في أيّام الحجّ ـ وهذه هي من الأيّام الّتي يجوز فيها الصوم في السفر ـ ويأتي بصيام سبعة أيّام بعد ذلك حين العودة إلى الوطن.
واضح أن مجموع ثلاثة أيّام في الحج وسبعة بعد الرجوع يساوي عشرة، لكنّ القرآن عاد فأكّد بأنّها عشرة كاملة.
بعض المفسّرين قال في تفسير هذه الجملة أن الواو تأتي للجمع وتأتي أحياناً للتخيير بمعنى (أو)، ومن أجل رفع توهّم التخيير أكّدت الآية على رقم عشرة، ويُحتمل أيضاً أن التعبير بكلمة (كاملة) إشارة إلى أنّ صوم الأيّام العشرة يحلّ محل الهدي بشكل كامل، ولهذا ينبغي للحجاج أن يطمأنّوا لذلك وأنّ جميع ما يترتّب على الأضحية من ثواب وبركة سوف يكون من نصيبهم أيضاً.
وقال بعضهم : إنّ هذا التعبير إشارة إلى نكتة لطيفة في العدد (عشرة) لأنّه من جانب أكمل الأعداد، لأنّ الأعداد تتصاعد من واحد يتصل إلى عشرة بشكل تكاملي، ثمّ بعد ذلك تترتّب من عشرة وأحد الأعداد الاُخرى لتكون أحد عشر واثنى(11) عشر... حتّى تصل إلى عشرين أي ضعف العدد عشرة ثمّ ثلاثين وهكذا.
7 ـ ثمّ أنّ الآية الشريفة تتعرّض إلى بيان حكم آخر وتقول (ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام) فعلى هذا لا يكون لأهل مكّة أو الساكنين في أطرافها حجّ التمتّع، لأنّه يختصّ بالمسلمين خارج هذه المنطقة، فالمشهور بين الفقهاء أنّ كلّ شخص يبعد عن مكّة 48 ميلاً فإنّ وظيفته حجّ التمتّع، وأمّا إذا كان دون هذه المسافة فوظيفته حجّ القِران أو الإفراد والّذي تكون عمرته بعد الإتيان بمراسم الحجّ (وتفصيل هذا الموضوع وبيان مراتبه مذكور في الكتب الفقهيّة).
وبعد بيان هذه الأحكام السبعة تأمر الآية في ختامها بالتقوى وتقول {واتّقوا الله وأعلموا أنّ الله شديد العقاب} ولعلّ هذا التأكيد يعود إلى أنّ الحجّ عبادة إسلاميّة هامّة ولا ينبغي للمسلمين التّساهل في أداء مناسكه وأنّ ذلك سيؤدّي إلى اضرار كثيرة، وأحياناً يسبّب فساد الحجّ وزوال بركاته المهمّة.
{الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوق وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرِ يَعْلَمْهُ اللهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَأُوْلِي الاْلْبَابِ(197)لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِن رَّبِّكُمْ فاذا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَات فَاذُكُرُواْ اللهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَيكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّآلِّينَ (198) ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُواْ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}:
خير الزّاد والمتاع :
تواصل هذه الآيات الشريفة بيان أحكام الحجّ وزيارة بيت الله الحرام وتقرّر طائفة من التشريعات الجديدة :
1 ـ تقول الآية {الحجّ أشهر معلومات}(12).
والمراد بهذه الأشهر : هي شوال، ذي القعدة، ذي الحجّة (شهر ذي الحجّة بكامله أو العشرة الأوائل منه) وهذه الأشهر تسمّى (أشهر الحجّ) لأنّ قسماً من أعمال الحجّ والعمرة لا يمكن الإتيان بها في غير هذه الأشهر، وقسماً آخر يجب الإتيان بها في اليوم التاسع إلى الثاني عشر من شهر ذي الحجّة، والسبب في أنّ القرآن الكريم لم يصرّح باسماء هذه الأشهر لأنّها معلومة للجميع وقد أكّد عليها القرآن الكريم بهذه الآية.
ثمّ أنّ هذه الآية تستبطن نفياً لأحد التقاليد الخرافيّة في الجاهليّة حيث كانوا يستبدلون هذه الأشهر بغيرها في حالة حدوث حرب بينهم فيقدّموا ويؤخّروا منها كيف ما شاؤوا، فالقرآن يقول : «إنّ هذه الأشهر معلومة ومعيّنة فلا يصحّ تقديمها وتأخيرها»(13).
2 ـ ثمّ تأمر الآية الكريمة فيمن أحرم إلى الحجّ وشرع بأداء مناسك الحجّ وتقول : {فمن فرض فيهنّ الحجّ فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحجّ}.
(رفث) بالأصل بمعنى الكلام والحديث المتضمّن ذكر بعض الاُمور القبيحة أعمّ من الاُمور الجنسيّة أو مقدّماتها، ثمّ بات كناية عن الجماع، ولكنّ البعض ذهبوا إلى أنّ مفردة (رَفَثَ) لا تطلق على هذا النوع من الكلام إلاّ في حضور النساء، فلوكان الحديث في غياب النساء فلا يسمّى بالرّفث(14).
وذهب البعض إلى أنّ الأصل في هذه الكلمة هو الميل العملي للنّساء من المزاح واللّمس والتماس البدني الّذي ينتهي بالمقاربة الجنسيّة (15).
(فسوق) بمعنى الذّنب والخروج من طاعة الله، و(جدال) تأتي بمعنى المكالمة المقرونة بالنّزاع، وهي في الأصل بمعنى شدّ الحبل ولفّه، ومن هذا استعملت في الجدال بين اثنين، لأنّ كلّ منهما يشدّ الكلام ويحاول إثبات صحّة رأيه ونظره.
وعلى كلّ حال، ورد هذا الأمر للحجّاج في حرمة المقاربة مع الأزواج، وكذلك وجوب اجتناب الكذب والفحش (مع أنّ هذا العمل حرام أيضاً في غير مواضع الإحرام ولكنّه ورد النهي عنه في أعمال الحجّ بالخصوص ضمن المحرّمات الخمسة والعشرين على المحرم).
وكذلك من المحرّمات على المحرم في الحجّ هو الجدال والقسم بالله تعالى سواء كان على حقّ أم باطل، وهو قول (لا والله، بلى والله).
وهكذا ينبغي أن تكون أجواء الحجّ طاهرة من التمتّعات الجنسيّة وكذلك من الذنوب والجدال العقيم وأمثال ذلك، لأنّها أجواء عباديّة تتطلّب الإخلاص وترك اللّذائذ الماديّة وتقتبس روح الإنسان من ذلك المحيط الطّاهر قوّة جديدة تسوقها إلى عالم آخر بعيداً عن عالم المادّة، وفي نفس الوقت تقوّي الاُلفة والاتحاد والاتفاق والاُخوّة بين المسلمين باجتناب كلّ ما ينافي هذه الاُمور.
وطبعاً لكلّ واحد من هذه الأحكام الشرعيّة شروح وشرائط مذكورة في كتب مناسك الحجّ الفقهيّة.
3 ـ بعد ذلك تعقّب الآية وتبيّن المسائل المعنويّة للحجّ وما يتعلّق بالإخلاص وتقول (وما تفعلوا من خير يعلمه الله) .
وهذا أوّل لطف إلهي يناله الصالحون، فالمرحلة الأُولى من لذّة الإنسان المؤمن هي إحساسه بأنّ ما يعمله في سبيل الله إنّما هو بعين الله، ويا لها لذّة.
وتضيف الآية : {وتزوّدوا فإنّ خير الزاد التقوى}.
هذه الآية أمرت بحمل الزاد. قيل : إن جماعة من أهل اليمن كانوا يحجّون دون أن يصحبوا معهم زاداً للطريق، قائلين : نحن ضيوف الله وطعامنا عليه (16). وهذه الفقرة من الآية أمرت بحمل الزاد، لأن الله سبحانه هيّأ للجميع طعامهم بالطرق الطبيعية.
والآية تشير في الوقت نفسه إلى مسألة معنوية هي زاد التقوى، فهناك حاجة إلى زاد من نوع آخر هو «التقوى».
والعبارة تنطوي على توعية المسلمين بالنسبة لعطاء الحجّ المعنوي وتفتّح أبصارهم على ما في ساحة الحجّ من معان عميقة تشدّ الإنسان بتاريخ الرسل والأنبياء وبمشاهد تضحية إبراهيم بطل التوحيد، وبمظاهر عظمة الله سبحانه ممّا لا يوجد في مكان آخر، ولابدّ للحاج أن يستلهم من هذه الساحة زاداً يعينه على مواصلة مسيرته نحو الله فيما بقي من عمره.
{واتقونِ يا أُولي الألباب} (17).
الحديث موجّه إلى أُولي الألباب والعقول، والتركيز عليهم بانتهاج التقوى لأنهم هم القادرون على التزوّد كما ينبغي من العطاء التربوي لمناسك الحجّ، والآخرون لا ينالون منها سوى المظاهر والقشور.
الآية التالية ترفع بعضا لاشتباهات في مسألة الحجّ وتقول {ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربّكم}.
لقد كان التعامل الإقتصادي بكافّة ألوانه محضوراً في موسم الحجّ عند الجاهليّين، وكانوا يعتقدون ببطلان الحجّ إذا اقترن بالنّشاط الإقتصادي (18) ، فالآية مورد البحث تعلن بطلان هذا الحكم الجاهلي وتؤكّد أنّه لا مانع من التعامل الإقتصادي والتّجاري في موسم الحجّ، وتسمح بابتغاء فضل الله في هذا الموسم عن طريق العمل والكد.
وهذا النمط من التفكير كان سائداً في العصر الجاهلي ونجده كذلك في زماننا هذا وأنّ هذه العبادة العظيمة ـ يعني الحجّ ـ يجب أن تكون خالصة من أيّة شوائب ماديّة، ولكن بما أنّ سائر العاملين في هذا السبيل مضافاً إلى الناس الّذين يقصدون بيت الله من بعيد الدّيار يمكنهم أن يحلّوا الكثير من مشاكلهم الإقتصاديّة في سفر الحجّ هذا، ولهذا السبب أبطل القرآن الكريم هذا اللّون من التفكير، ويُحق لهؤلاء الأشخاص أن يأتوا بعبادة الحجّ ويؤدّوا مناسكه ضمن أداء خدماتهم الاُخرى ولا يكونوا في مضيقة من هذه الجهة، بل أنّ النصوص الإسلاميّة التي تتحدّث عن حكمة الحجّ تشير أيضاً إلى الجوانب الإقتصادية إضافة إلى الجوانب الأخلاقية والسياسية والثقافية، وتوضّح أنّ سفر المسلمين من كلِّ فجٍّ عميق إلى بيت الله الحرام لعقد مؤتمر الحجّ العظيم يستطيع أن يكون منطلقاً لتحرّك اقتصادي عامّ في المجتمعات الإسلامية. وذلك يتحقّق باجتماع الأدمغة الإقتصادية الإسلامية المفكّرة قبل أداء المناسك أو بعده لوضع أُسس اقتصاد سليم في المجتمعات الإسلامية يقوم على أساس التعاون والتبادل الإقتصادي بين أبناء الأُمّة الإسلامية، والاستغناء عن الأجانب والأعداء، وبلوغ المستوى الممكن اللائق من الإكتفاء الذاتي.
من هنا، فهذه المعاملات والمبادلات التجارية سبل لتقوية بنية المجتمع الإسلامي أمام أعداء الإسلام، ذلك لأنّ أيّ شعب من الشعوب لا يمكن أن ينال استقلاله الكامل دون أن يقوم على أساس اقتصادي قوي، ولكن النشاط
الإقتصادي في موسم الحجّ ينبغي طبعاً أن ينضوي تحت الأبعاد العبادية والأخلاقية للحجّ، لا أن يقدّم ويهيمن عليها. وواضح أنّ الحجّاج لهم الوقت الكافي قبل أعمال الحجّ وبعده لمثل هذا النشاط.
يروي هشام بن الحكم أنّه سأل الإمام جعفر بن محمّد الصادق (عليه السلام) عن العلّة الّتي لأجلها كلّف الله العباد الحجّ والطواف بالبيت، فقال «... فجعل فيه الاجتماع من الشرق والغرب ليتعارفوا ولينزع كلّ قوم من التجارات من بلد إلى بلد ولينتفع بذلك المكاري والجمّال... ولوكان كلّ قوم إنّما يتكلّمون على بلادهم وما فيها هلكوا وخربت البلاد وسقطت الجلب والأرباح...»(19)
ثمّ تعطف الآية الشريفة على ما تقدّم من مناسك الحجّ وتقول {فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام وأذكروه كما هداكم وإن كنتم من قبله لمن الضالّين}.
ثمّ تقول الآية في حديثها هذا : {ثمّ أفيضوا من حيث أفاض الناس} فهذا المقطع يتضمّن أمراً بالإفاضة أي بالاندفاع والحركة من المشعر الحرام إلى أرض منى.
ففي نهاية الآية تُعطي أمراً بالاستغفار والتوبة وتقول : {واستغفروا الله إنّ الله غفور رحيم}.
ففي هذا المقطع من الآيات إشارة إلى ثلاث مواقف من مواقف الحجّ (عرفات) وهي صحراء وتقع على بعد 20 كيلومتراً تقريباً من مكّة ويجب على الحجّاج أن يقفوا في هذا المحل من ظهر يوم التاسع من ذي الحجّة إلى غروب الشمس فيشتغلوا بالعبادة والذكر، ثمّ الوقوف بـ (المشعر الحرام أو المزدلفة) حيث يبيتون
هناك ليلة عيد الأضحى ويبقون هناك إلى قبل طلوع الشمس مشغولين بالدعاء والمناجاة مع الله تعالى، والثالث أرض (منى) وهي محل ذبح الأضاحي ورمي الجمرات وحلّ الإحرام واداء مناسك العيد.
- وقوله تعالى : {فَإِذَا قَضَيْتُم مَّناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ ءَابآءَكُمْ أَو أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَآ ءَاتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الاْخِرَةِ مِنْ خَلاق (200) وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَآ ءَاتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنةً وَفي الاْخِرَةِ حَسَنةً وَقِنا عَذَابَ النَّارِ (201) أُوْلَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمّا كَسَبُواْ وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ}:
الحجّ رمز وحدة المسلمين :
هذه الآيات تواصل الأبحاث المتعلّقة بالحجّ في الآيات السابقة، فالبرغم من أنّ أعراب الجاهلية ورثوا مناسك الحجّ بوسائط عديدة من إبراهيم الخليل (عليه السلام)ولكنّهم خلطوا هذه العبادة العظيمة والبناءة والّتي تُعتبر ولادة ثانية لحجّاج بيت الله الحرام بالخرافات الكثيرة بحيث أنها خرجت من شكلها الأصلي ونُسخت وتحوّلت إلى وسيلة للتفرقة والنّفاق.
الآية الاُولى من الآيات محل البحث تقول {فإذا قضيتم مناسككم فأذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكراً}.
إنّ العزّة والعظمة يكملان بالارتباط في الله تعالى لا بالارتباط الوهمي بالأسلاف، وليس المراد من هذه العبارة أنّكم اُذكروا أسلافكم وأذكروا الله كذلك، بل هو إشارة إلى هذه الحقيقة بأنّكم تذكرون أسلافكم من أجل بعض الخصال والمواهب الحميدة، فلماذا لا تذكرون الله تعالى ربّ السموات والأرض والرازق والواهب لجميع هذه النعم في العالم وهو منبع ومصدر جميع الكمالات وصفات الجلال والجمال.
أمّا المراد من (ذكر الله) في هذه الآية فهناك أقوال كثيرة بين المفسّرين، ولكنّ الظاهر أنّها تشمل جميع الأذكار الإلهيّة بعد أداء مناسك الحجّ، وفي الحقيقة أنّه يجب شكر الله تعالى على جميع نعمه وخاصّة نعمة الإيمان والهداية إلى هذه العبادة العظيمة، فتكتمل الآثار التربويّة للحجّ بذكر الله.
بعد ذلك يوضّح القرآن طبيعة مجموعتين من الناس وطريقة تفكيرهم.. مجموعة لا تفكّر إلاّ بمصالحها الماديّة ولا تتجّه في الدعاء إلى الله إلاّ من هذه المنطلقات الماديّة فتقول {فمن الناس من يقول ربّنا آتنا في الدنيا وماله في الآخرة من خلاق}(20).
والمجموعة الثانية تتحدّث عنهم الآية بقولها {ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدّنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار}.
وهذه الفقرات من الآيات محل البحث تشير إلى هاتين الطائفتين وأنّ الناس في هذه العبادة العظيمة على نوعين، فبعض لا يفكر إلاّ بالمنافع الماديّة الدنيويّة ولا يريد من الله سواها، فمن البديهي أنّه يبقى له شيء في الآخرة.
ولكنّ الطائفة الثانية اتسّعت آفاقهم الفكريّة فاتجّهوا إلى طلب السّعادة في الدنيا باعتبارها مقدّمة لتكاملهم المعنوي وطلب السّعادة في الآخرة، فهذه الآية الكريمة توضّح في الحقيقة منطق الإسلام في المسائل الماديّة والمعنويّة وتدين الغارقين في الماديّات كما تدين المنعزلين عن الحياة.
أمّا ما المراد من (الحسنة) ؟ فهناك تفاسير مختلفه لها، فقد ورد في الرواية عن الإمام الصادق (عليه السلام) في تفسير الحسنة : (إنّها السّعة في الرّزق والمعاش وحس الخلق في الدنيا ورضوان الله والجنّة في الآخرة)(21).
ولكنّ بعض المفسّرين ذهبوا إلى أنّها تتضمّن معنى العلم والعبادة في الدنيا والجنّة في الآخرة، أو المال في الدنيا والجنّة في الآخرة، أو الزوجة الصالحة في الدنيا والجنّة في الآخرة، وقد ورد عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) هذه المعاني (من أوتي قلباً شاكراً ولساناً ذاكراً وزوجة مؤمنة تعينه على أمر دنياه واُخراه فقد أُوتي في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة ووُقي عذاب النار)(22).
وواضح أنّ تفسير الحسنة هذا له مفهوم واسع بحيث يشمل جميع المواهب الماديّة والمعنويّة، وما ورد في الرواية أعلاه أوفي كلمات المفسّرين فهو بيان لأبرز المصاديق لا حصر الحسنة بهذه المصاديق، فما تصوّره بعض المفسّرين من أنّ الحسنة الواردة في الآية بصورة المفرد النكرة لا تشمل على كلّ خير، ولهذا وقع الاختلاف في مصداقها بين المفسّرين(23)، إنّما هو إشتباه محض، لأنّ المفرد النكرة تارة يأتي بمعنى الجنس ومورد الآية ظاهراً من هذا القبيل، فالمؤمنون ـ كما ذهب إليه بعض المفسّرين ـ يطلبون من الله تعالى أصل الحسنة بدون أن ينتخبوا لها مصداقاً من المصاديق، بل يوكلون هذا الأمر إلى مشيئته وإرادته وفضله تعالى(24).
وفي آخر آية إشارة إلى الطائفة الثانية (الّذين طلبوا من الله الحسنة في الدنيا والآخرة) فتقول {اُولئك لهم نصيب ممّا كسبوا والله سريع الحساب}.
وفي الحقيقة هذه الآية تقع في النقطة المقابلة للجملة الأخيرة من الآية السابقة {وما له في الآخرة من خلاق}.
واحتمل البعض أنّها تتعلّق بكلا الطائفتين، فالطائفة الاُولى يتمتّعون بالنعم والمواهب الدنيويّة، والطائفة الثانية يتمتّعون بخير الدنيا والآخرة كما ورد ما يشبه هذه الآيات في سورة الإسراء الآية 18 إلى 20 حيث يقول : {من كان يريد العاجلة عجّلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثمّ جعلنا له جهنم يصليها مذموماً مدحوراً ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فاُولئك كان سعيهم مشكوراً كُلاٍّ نمدُّ هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربّك وما كان عطاء ربّك محظوراً}.
ولكنّ التفسير الأوّل منسجم مع الآيات مورد البحث أكثر.
عبارة (نصيب) مع أنّها جاءت بصورة نكرة، ولكنّ القرائن تدلّ على أنّ النكرة هنا لبيان العظمة، والتعبير بقوله {ممّا كسبوا} ليست إشارة إلى قلّة النصيب والثواب والجزاء، لأنّه من الممكن أن تكون (من) ابتدائيّة لا تبعيضيّة.
أمّا التعبير بقوله (كَسَب) في جملة (ممّا كسبوا) فتعني ـ كما ذهب إليه كثير من المفسّرين ـ الدّعاء لطلب خير الدنيا والآخرة، فاختيار هذا التعبير قد يكون إشارة إلى نكتة لطيفة وهو أنّ الدعاء بذاته يعتبر من أفضل العبادات والأعمال، ومن خلال التحقيق في عشرات الآيات الواردة في القرآن المجيد في مادّة «كسب» ومشتقاتها يُستفاد جيّداً أنّ هذه المفردة تستعمل أيضاً لغير الأعمال الجسميّة أيضاً، أي الأعمال القلبيّة والروحيّة كما ورد في الآية 225 من سورة البقرة {ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم}.
فلا عجب أن يكون الدّعاء إذاً نوع من الكسب والإكتساب وخاصّةً إذا لم يكن الدعاء باللّسان فقط بل مقترن بجميع وجود الإنسان.
أمّا جملة {والله سريع الحساب} الواردة في الفقرة الأخيرة من الآية فإنّها تشير إلى سرعة حساب الله تعالى لعباده، فإنّه يُجازي بالثواب والعقاب نقداً وبدون تأخير، فقد ورد في الحديث الشريف (إنّ الله تعالى يحاسب الخلائق كلّهم في مقدار لمح البصر)(25).
وهذا لأنّ علم الله ليس كعلم المخلوقات المحدود حيث يشغلها موضوع عن موضوع آخر.
إضافة إلى ذلك أنّ محاسبة الله لا ينبغي أن تستلزم زماناً، لأنّ أعمالنا ذات آثار باقية في جسم وروح الموجودات المحيطة بنا وفي الأرض وأمواج الهواء، فالإنسان يشبه من هذه الجهة السّيارات المجهّزة بقياس السرعة والمسافة حيث تقرأ فيها كلّ لحظة مقدار عملها وسيرها ولا يحتاج بعدها إلى كتاب لحساب المسافات الّتي طوتها السيّارة طيلة عمرها.
- {واذْكُرُوا اللهَ فِي أيَّام مَعْدُودات فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْن فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَرَ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْه، لِمَنْ اتقى واتَقُوا اللهَ واعلَمُوا أَنَكُمْ إلَيْهِ تُحْشَرُونَ}:
آخر كلام عن الحجّ :
هذه الآية في الحقيقة آخر آية وردت في بيان مناسك الحجّ وإبطال السّنن الجاهليّة في المفاخرات الموهومة بالنسبة للأسلاف فتوصي المسلمين (بعد مراسم العيد) أن يذكروا الله تعالى (واذكروا الله في أيّام معدودات).
ومع الأخذ بنظر الاعتبار أن هذا الأمر بقرينة الآيات السابقة ناضرة إلى الأيّام الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر الّتي تسمّى بلسان الروايات (أيّام التشريق) ويتّضح من اسم هذه الأيّام أنّها فترة إشراق الرّوح الإنسانية في ظل تلك المناسك العظيمة.
وفي الآية 28 من سورة الحجّ ورد الأمر بذكر الله في {أيّام معلومات} وهنا وردت عبارة في (أيّام معدودات) فالمعروف هو أنّ الأيّام المعلومات تعني العشرة الأيّام من بداية ذي الحجّة، وأما {أيّام معدودات} فالمراد بها أيّام التشريق المذكورة آنفاً، ولكنّ بعض المفسّرين أورد احتمالات اُخرى غير ذلك في شرح الآية 28 من سورة الحجّ، وسيأتي في شرح الآية 28 من سورة الحجّ(26).
أمّا المراد من (أذكار) فقد ورد في الأحاديث الإسلاميّة أنّها تعني تلاوة التكبيرات التالية بعد خمسة عشر صلاة في هذه الأيّام (ابتداءً من صلاة الظهر من يوم العيد حتّى صلاة الصبح من اليوم الثالث العشر) وهي (الله أكبر الله أكبر لا إله إلاّ الله والله أكبر ولله الحمد، الله أكبر على ما هدانا الله أكبر على ما رزقنا من بهيمة الأنعام)(27).
ثمّ تشير الآية إلى هذا الحكم الشرعي {فمن تعجّل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخّر فلا إثم عليه لمن اتّقى} وهذا التعبير بالحقيقة إشارة إلى نوع من التخيير في أداء ذكر الله بين يومين أو ثلاثة أيّام.
وجملة (لمن أتّقى) ظاهراً قيد للتعجيل في اليومين، أي لا إثم على من تعجّل واختار اليومين أو الثلاثة، وهذا التعجيل يختص بمثل هؤلاء الأشخاص.
وجاء في روايات أهل البيت (عليهم السلام) أنّ المراد من التقوى هنا هي تجنّب الصيد، أي أنّ الأشخاص حين الإحرام يجب عليهم تجنّب الصيد أو جميع تروك الإحرام، فيمكنهم البقاء بعد عيد الأضحى يومين في منى ولأداء مناسكهم وذكر الله تعالى، أمّا من لم يتّق فيجب عليه البقاء ثلاثة أيّام هناك لأداء المراسم العباديّة وذكر الله تعالى(28).
وذهب البعض إلى أنّ جملة (لا إثم عليه) إشارة إلى نفي كلّ إثم وذنب عن زوّار بيت الله الحرام، أي أنّ الحاج بعد أداء مناسكه عن ايمان وإخلاص ووعي يُغفر له ما تقدّم من ذنبه وتزول رواسب المعاصي وأدران الذنوب من قلبه ونفسه، ويخرج من هذه العبادة التربويّة خالصاً طاهراً نقيّاً.
فمع أنّ هذا المعنى صحيح بذاته، إلاّ أنّ ظاهر الآية ينسجم مع المعنى الأوّل أكثر.
وفي نهاية الآية نلاحظ أمراً كليّاً بالتّقوى حيث تقول الآية {واتّقوا الله واعلموا أنّكم إليه تُحشرون}.
فعلى أحد هذين التفسيرين المذكورين آنفاً يمكن أن تكون هذه الجملة إشارة إلى أنّ المناسك الروحانيّة في الحجّ تطهّر الإنسان من الذنوب السّابقة كيوم ولدته اُمّه، ولكن عليكم تقوى الله والحذر من الوقوع في الذنب مرّة اُخرى.
__________________________
1- الامثل ، ناصر مكارم الشيرازي ، ج1 ، ص472-494.
2 ـ الميزان، المجلد 2، ص 75 (ذيل الآية مورد البحث). مستدرك الوسائل ، ج8 ، ص85-،ح8119-6.
3 ـ تفسير في ظلال القرآن، ج 1، ص 277.
4 ـ ذكر احتمالان في تفسير الآية، أحدهما أن «ما» في «ما استيسر» مبتدأ، وخبرها محذوف بتقدير «عليكم» فتكون الجملة «فعليكم ما استيسر من الهدي» والثاني أن «ما» مفعول لفعل مقدّر تقديره : «فاهدوا ما استيسر من الهدي».
5- لمزيد الايضاح راجع تفسير جامع البيان ، ج2، ص120 ، وتفاسير اخرى ، ذيل الاية مورد البحث .
6- المصدر السابق .
7 ـ مجمع البيان، ذيل الاية مورد البحث.
8- تفسير مجمع البيان ، ج1، ص290 .
9 ـ التفسير الكبير، ج 5، ص 152.
10 ـ مجمع البيان، ج 1، ص 291 (ومثل هذا المعنى ورد في تفسير القرطبي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)حول الصوم وإطعام المسكين ذيل هذه الآية مورد البحث).
11 ـ «عشرون» و«عشرين» وإن كان على شكل الجمع، ولكن يطلق الجمع أحياناً على الاثنين وما علا.
12 ـ بما أن الحج ليس هو الأشهر نفسها، لذا ذهب المفسرون إلى وجود تقدير وهو: «أشهر الحج أشهر معلومات»، وذهب بعض إلى عدم وجود تقدير، واحتملوا أن الجملة كناية عن شدة ارتباط الحج بهذه الأشهر الخاصّة وكأنه هو هي.
13 ـ مجمع البيان، ج 1، ص 293 ـ التفسير الكبير، ج 5، ص 160.
14 ـ التفسير الكبير، ج 5، ص 164.
15 ـ التحقيق في كلمات القرآن الكريم.
16– تفسير جامع البيان ، ج2 ، ص150 ، والتفسير الكبير ، ج5 ، ص314.
17ـ «الباب» جمع «لب»، ويقال للعقل الخالص «لب» أيضاً.
18- تفسير جامع البيان ، ج2 ، ص164، وتفسير مجمع البيان ، ذيل الاية مورد البحث .
19 ـ وسائل الشيعة، ج 8، كتاب الحجّ باب 1 من أبواب وجوب الحجّ، ح 18.
20 ـ «خلاق» كما يقول الراغب تعني الفضائل الأخلاقية التي يكتسبها، وهنا على قول
الطبرسي أنها تعني النصيب (الذي هو نتيجة الفضائل الأخلاقية).
21 ـ مجمع البيان، ج 1، ص 297.
22 ـ مجمع البيان، ج 1، ص 298.
23 ـ التفسير الكبير، ج 5، ص 189.
24 ـ في ظلال القرآن، ج 1، ص 290.
25 ـ مجمع البيان، ج 1، ص 298، ذيل الآية.
26 ـ بالرغم من أن «أيام» جمع «يوم» وهو مذكر، إلاّ أنه وصف بـ «معلومات» و«معدودات» بصيغة المؤنث، وقيل أن ذلك لأن الأيّام مركبة من ساعات، ولعلّه إشارة إلى أنكم ينبغي أن تذكروا الله طيلة ساعات هذه الأيّام.
27- اصول الكافي ، ج4 ، ص516، ح2و3.
28- المصدر السابق ، ص 521،و522 ، ح10.
|
|
تفوقت في الاختبار على الجميع.. فاكهة "خارقة" في عالم التغذية
|
|
|
|
|
أمين عام أوبك: النفط الخام والغاز الطبيعي "هبة من الله"
|
|
|
|
|
قسم شؤون المعارف ينظم دورة عن آليات عمل الفهارس الفنية للموسوعات والكتب لملاكاته
|
|
|