أقرأ أيضاً
التاريخ: 15-2-2017
6683
التاريخ: 11-2-2017
4447
التاريخ: 2-3-2017
13030
التاريخ: 11-5-2017
6658
|
قال تعالى : {وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (35) فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36) فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37) قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } [البقرة: 35، 39].
ذكر سبحانه ما أمر به آدم (عليه السلام) بعد أن أنعم عليه بما اختصه من العلوم لما أوجب له به من الإعظام و أسجد له الملائكة الكرام فقال عز اسمه {وقلنا } و هذه نون الكبرياء و العظمة لا نون الجمع {يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة} أي اتخذ أنت و امرأتك الجنة مسكنا و مأوى لتأوي إليه و تسكن فيه أنت و امرأتك و اختلف في هذا الأمر فقيل أنه أمر تعبد و قيل هو إباحة لأنه ليس فيه مشقة فلا يتعلق به تكليف و قوله { وكلا} إباحة و قوله {ولا تقربا} تعبد بالاتفاق و روي عن ابن عباس و ابن مسعود أنه لما أخرج إبليس من الجنة و لعن و بقي آدم وحده استوحش إذ ليس معه من يسكن إليه فخلقت حواء ليسكن إليها و روي أن الله تعالى ألقى على آدم النوم و أخذ منه ضلعا فخلق منه حواء فاستيقظ آدم فإذا عند رأسه امرأة فسألها من أنت قالت امرأة قال لم خلقت قالت لتسكن إلي فقالت الملائكة ما اسمها يا آدم قال حواء قالوا و لم سميت حواء قال لأنها خلقت من حي فعندها قال الله تعالى {اسكن أنت و زوجك الجنة } و قيل إنها خلقت قبل أن يسكن آدم الجنة ثم أدخلا معا الجنة و في كتاب النبوة أن الله تعالى خلق آدم من الطين و خلق حواء من آدم فهمة الرجال الماء و الطين و همة النساء الرجال قال أهل التحقيق ليس يمتنع أن يخلق الله حواء من جملة جسد آدم بعد أن لا يكون مما لا يتم الحي حيا إلا معه لأن ما هذه صفته لا يجوز أن ينقل إلى غيره أو يخلق منه حي آخر من حيث يؤدي إلى أن لا يمكن إيصال الثواب إلى مستحقه لأن المستحق لذلك هو الجملة بأجمعها و إنما سميت حواء لأنها خلقت من حي على ما ذكرناه قبل و قيل لأنها أم كل حي و اختلف في الجنة التي أسكن فيها آدم فقال أبو هاشم هي جنة من جنان السماء غير جنة الخلد لأن جنة الخلد أكلها دائم و لا تكليف فيها و قال أبو مسلم هي جنة من جنان الدنيا في الأرض و قال أن قوله {اهبطوا منها} لا يقتضي كونها في السماء لأنه مثل قوله {اهبطوا مصرا} و استدل بعضهم على أنها لم تكن جنة الخلد بقوله تعالى حكاية عن إبليس {هل أدلك على شجرة الخلد} فلو كانت جنة الخلد لكان آدم عالما بذلك و لم يحتج إلى دلالة و قال أكثر المفسرين و الحسن البصري و عمرو بن عبيد و واصل بن عطاء و كثير من المعتزلة كالجبائي و الرماني و ابن الإخشيد إنها كانت جنة الخلد لأن الألف و اللام للتعريف و صارا كالعلم عليها قالوا و يجوز أن تكون وسوسة إبليس من خارج الجنة من حيث يسمعان كلامه قالوا و قال من يزعم أن جنة الخلد من يدخلها لا يخرج منها غير صحيح لأن ذلك إنما يكون إذا استقر أهل الجنة فيها للثواب فأما قبل ذلك فإنها تفنى لقوله تعالى {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص: 88] و قوله {وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا } [البقرة: 35] أي كلا من الجنة كثيرا واسعا لا عناء فيه {حيث شئتما} من بقاع الجنة و قيل منها أي من ثمارها إلا ما استثناه {ولا تقربا هذه الشجرة} أي لا تأكلا منها و هو المروي عن الباقر (عليه السلام) فمعناه لا تقرباها بالأكل و يدل عليه أن المخالفة وقعت بالأكل بلا خلاف لا بالدنو منها و لذلك قال فأكلا منها فبدت لهما سوآتهما و اختلف في هذا النهي فقيل أنه نهي التحريم و قيل أنه نهي التنزيه دون التحريم كمن يقول لغيره لا تجلس على الطرق و هو قريب من مذهبنا فإن عندنا أن آدم كان مندوبا إلى ترك التناول من الشجرة و كان بالتناول منها تاركا نفلا و فضلا و لم يكن فاعلا لقبيح فإن الأنبياء (عليهم السلام) لا يجوز عليهم القبائح لا صغيرها و لا كبيرها و قالت المعتزلة كان ذلك صغيرة من آدم (عليه السلام) على اختلاف بينهم في أنه وقع منه على سبيل العمد أو السهو أو التأويل و إنما قلنا أنه لا يجوز مواقعة الكبائر على الأنبياء (عليهم السلام) من حيث إن القبيح يستحق فاعله به الذم و العقاب لأن المعاصي عندنا كلها كبائر و إنما تسمى صغيرة بإضافتها إلى ما هو أكبر عقابا منها لأن الإحباط قد دل الدليل عندنا على بطلانه وإذا بطل ذلك فلا معصية إلا و يستحق فاعلها الذم و العقاب و إذا كان الذم و العقاب منفيين عن الأنبياء (عليهم السلام) وجب أن ينتفي عنهم سائر الذنوب و لأنه لو جاز عليهم شيء من ذلك لنفرعن قبول قولهم و المراد بالتنفير أن النفس إلى قبول قول من لا تجوز عليه شيئا من المعاصي أسكن منها إلى قول من يجوز عليه ذلك و لا يجوز عليهم كل ما يكون منفرا عنه من الخلق المشوهة و الهيئات المستنكرة و إذا صح ما ذكرناه علمنا أن مخالفة آدم (عليه السلام) لظاهر النهي كان على الوجه الذي بيناه و اختلف في الشجرة التي نهي عنها آدم فقيل هي السنبلة عن ابن عباس و قيل هي الكرمة عن ابن مسعود و السدي و قيل هي التينة عن ابن جريج و قيل هي شجرة الكافور يروي عن علي (عليه السلام) و قيل هي شجرة العلم علم الخير و الشر عن الكلبي و قيل هي شجرة الخلد التي كانت تأكل منها الملائكة عن ابن جذعان و قوله {فتكونا من الظالمين} أي تكونا بأكلها من الظالمين لأنفسكما و يجوز أن يقال لمن بخس نفسه الثواب أنه ظالم لنفسه كقوله تعالى حكاية عن أيوب إني كنت من الظالمين حيث بخس نفسه الثواب بترك المندوب إليه و اختلفوا هل كان يجوز ابتداء الخلق في الجنة فجوز البصريون من أهل العدل ذلك قالوا يجوز أن ينعمهم الله في الجنة مؤبدا تفضلا منه لا على وجه الثواب لأن ذلك نعمة منه تعالى كما أن خلقهم و تعريضهم للثواب نعمة و قال أبو القاسم البلخي لا يجوز ذلك لأنه لو فعل ذلك لا يخلو إما أن يكونوا متعبدين بالمعرفة أو لا يكونوا كذلك فلو كانوا متعبدين لم يكن بد من ترغيب و ترهيب و وعد و وعيد و كان يكون لا بد من دار أخرى يجازون فيها و يخلدون و إن كانوا غير متعبدين كانوا مهملين و ذلك غير جائز و جوابه أنه سبحانه لو ابتدأ خلقهم في الجنة لكان يضطرهم إلى المعرفة و يلجئهم إلى فعل الحسن و ترك القبيح و متى راموا القبيح منعوا منه فلا يؤدي إلى ما قاله و هذا كما يدخل الله الجنة الأطفال و غير المكلفين لا على وجه الثواب .
ثم بين سبحانه حال آدم (عليه السلام) قال {فأزلهما الشيطان} أي حملهما على الزلة نسب الإزلال إلى الشيطان لما وقع بدعائه و وسوسته و إغوائه {عنها } أي عن الجنة و ما كانا فيه من عظيم الرتبة و المنزلة و الشيطان المراد به إبليس { فأخرجهما مما كانا فيه} من النعمة و الدعة و يحتمل أن يكون أراد إخراجهما من الجنة حتى اهبطا و يحتمل أن يكون أراد من الطاعة إلى المعصية و أضاف الإخراج إليه لأنه كان السبب فيه كما يقال صرفني فلان عن هذا الأمر و لم يكن إخراجهما من الجنة و إهباطهما إلى الأرض على وجه العقوبة لأن الدليل قد دل على أن الأنبياء عليهم السلام لا تجوز عليهم القبائح على حال و من أجاز العقاب على الأنبياء فقد أساء عليهم الثناء و أعظم الفرية على الله سبحانه و تعالى و إذا صح ما قلناه فإنما أخرج الله آدم من الجنة لأن المصلحة قد تغيرت بتناوله من الشجرة فاقتضت الحكمة و التدبير الإلهي إهباطه إلى الأرض و ابتلاءه بالتكليف و المشقة و سلبه ما ألبسه إياه من ثياب الجنة لأن إنعامه عليه بذلك كان على وجه التفضل و الامتنان فله أن يمنع ذلك تشديدا للبلوى و الامتحان كما له أن يفقر بعد الإغناء و يميت بعد الإحياء و يسقم بعد الصحة و يعقب المحنة بعد المحنة و اختلف في كيفية وصول إبليس إلى آدم و حواء حتى وسوس إليهما و إبليس كان قد أخرج من الجنة حين أبى السجود و هما في الجنة فقيل إن آدم كان يخرج إلى باب الجنة و إبليس لم يكن ممنوعا من الدنو منه فكان يكلمه و كان هذا قبل أن أهبط إلى الأرض و بعد أن أخرج من الجنة عن أبي علي الجبائي و قيل أنه كلمهما من الأرض بكلام عرفاه و فهماه منه و قيل أنه دخل في فقم الحية و خاطبهما من فقمها و الفقم جانب الشدق(2) و قيل أنه راسلهما بالخطاب و ظاهر القرآن يدل على أنه شافههما بالخطاب .
و قوله { وقلنا اهبطوا } خاطب بخطاب الجمع و فيه وجوه ( أحدها ) أنه خاطب آدم و حواء و إبليس و هو اختيار الزجاج و قول جماعة من المفسرين و هذا غير منكر و أن إبليس قد أخرج قبل ذلك بدلالة قوله اخرج منها فإنك رجيم فجمع الخبر للنبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) لأنهم قد اجتمعوا في الهبوط و إن كانت أوقاتهم متفرقة فيه كما يقال أخرج جميع من في الحبس و إن أخرجوا متفرقين و الثاني أنه أراد آدم و حواء و الحية و في هذا الوجه بعد لأن خطاب من لا يفهم الخطاب لا يحسن و لأنه لم يتقدم للحية ذكر و الكناية عن غير مذكور لا تحسن إلا بحيث لا يقع لبس مثل قوله {حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ } [ص: 32] و قوله {مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ } [فاطر: 45] و قول حاتم :
أ ماوي ما يغني الثراء عن الفتى *** إذا حشرجت(3) يوما و ضاق بها الصدر
(والثالث) أنه أراد آدم و حواء و ذريتهما لأن الوالدين يدلان على الذرية و يتعلق بهما (والرابع ) أن يكون الخطاب يختص ب آدم و حواء عليهما السلام و خاطب الاثنين على الجمع على عادة العرب و ذلك لأن الاثنين أول الجمع قال الله تعالى { إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} [الأنبياء: 78] أراد حكم داود و سليمان و قد تأول قوله تعالى { فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ } [النساء: 11] على معنى فإن كان له أخوان (والخامس) آدم و حواء و الوسوسة عن الحسن و هذا ضعيف و قوله {بعضكم لبعض عدو} يعني آدم و ذريته و إبليس و ذريته و لم يكن من آدم إليه ما يوجب عداوته إياه و لكن حسده الملعون و خالفه فنشأت بينهما العداوة ثم إن عداوة آدم له إيمان و عداوة إبليس له كفر و قال الحسن يريد بني آدم و بني إبليس و ليس ذلك بأمر بل هو تحذير يعني أن الله تعالى لا يأمر بالعداوة فالأمر مختص بالهبوط و المعاداة يجري مجرى الحال لأن الظاهر يقتضي أنه أمرهما بالهبوط في حال عداوة بعضهم بعضا فأما على الوجه الذي يتضمن أن الخطاب يختص ب آدم و حواء فالمراد به أن ذريتهما يعادي بعضهم بعضا و علق الخطاب بهما للاختصاص بين الذرية و بين أصلها و قوله {ولكم في الأرض مستقر} أي مقر و مقام و ثبوت بأن جعل الأرض قرارا لكم {ومتاع} أي استمتاع {إلى حين} إلى وقت الموت و قيل إلى يوم القيامة و قيل إلى فناء الآجال أي كل امرىء(4) مستقر إلى فناء أجله و قال أبو بكر السراج لو قال و لكم في الأرض مستقر و متاع لظن أنه غير منقطع فقال {إلى حين} أي إلى حين انقطاعه و الفرق بين قول القائل أن هذا لكم حينا و بين قوله {إلى حين} إلى أن يدل على الانتهاء و لا بد أن يكون له ابتداء و ليس كذلك الوجه الآخر و في هذه الآية دلالة على أن الله تعالى لا يريد المعصية و لا يصد أحدا عن الطاعة و لا يخرجه عنها و لا يسبب المعصية ذلك إلى الشيطان جل ربنا و تقدس عما نسبه إلى إبليس و الشياطين و يدل أيضا على أن لوسوسة إبليس تأثيرا في المعاصي .
قوله {فتلقى آدم } أي قبل و أخذ و تناول على سبيل الطاعة {من ربه} و رب كل شيء { كلمات} و أغنى قوله {فتلقى} عن أن يقول فرغب إلى الله بهن أو سأله بحقهن لأن معنى التلقي يقيد ذلك و ينبىء عما حذف من الكلام اختصارا و لهذا قال تعالى {فتاب عليه} لأنه لا يتوب عليه إلا بأن سأل بتلك الكلمات و على قراءة من قرأ فتلقى آدم من ربه كلمات لا يكون معنى التلقي القبول بل معناه أن الكلمات تداركته بالنجاة و الرحمة و اختلف في الكلمات ما هي فقيل هي قوله ربنا ظلمنا أنفسنا الآية عن الحسن و قتادة و عكرمة و سعيد بن جبير و أن في ذلك اعترافا بالخطيئة فلذلك وقعت موقع الندم و حقيقته الإنابة و قيل هي قوله ( اللهم لا إله إلا أنت سبحانك و بحمدك رب إني ظلمت نفسي فارحمني إنك خير الراحمين ) ( اللهم لا إله إلا أنت سبحانك و بحمدك رب إني ظلمت نفسي فتب علي إنك أنت التواب الرحيم ) عن مجاهد و هو المروي عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) و قيل بل هي سبحان الله و الحمد لله و لا إله إلا الله و الله أكبر و قيل و هي رواية تختص بأهل البيت عليهم السلام أن آدم رأى مكتوبا على العرش أسماء معظمة مكرمة فسأل عنها فقيل له هذه أسماء أجل الخلق منزلة عند الله تعالى و الأسماء محمد و علي و فاطمة و الحسن و الحسين فتوسل آدم (عليه السلام) إلى ربه بهم في قبول توبته و رفع منزلته قوله {فتاب عليه} فيه حذف أي تاب آدم فتاب الله عليه أي قبل توبته و قيل تاب عليه أي وفقه للتوبة و هداه إليها بأن لقنه الكلمات حتى قالها فلما قالها قبل توبته {إنه هو التواب } أي كثير القبول للتوبة يقبل مرة بعد مرة و هو في صفة العباد الكثير التوبة و قيل إن معناه أنه يقبل التوبة و إن عظمت الذنوب فيسقط عقابها قوله { الرحيم} إنما ذكره ليدل به على أنه متفضل بقبول التوبة و منعم به و أن ذلك ليس على وجه الوجوب و إنما قال فتاب عليه و لم يقل عليهما لأنه اختصر و حذف للإيجاز و التغليب كقوله سبحانه و تعالى {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} [التوبة: 62] و معناه أن يرضوهما و قوله { وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا} [الجمعة: 11]
و كقول الشاعر
رماني بأمر كنت منه و والدي *** بريا و من جول الطوي رماني(5)
و قال الآخر :
نحن بما عندنا و أنت بما *** عندك راض و الرأي مختلف
فكذلك معنى الآية فتاب عليهما و قال الحسن البصري لم يخلق الله آدم إلا للأرض و لو لم يعص لأخرجه إلى الأرض على غير تلك الحال و قال غيره يجوز أن يكون خلقه للأرض إن عصى و لغيرها إن لم يعص و هو الأقوى .
ثم بين تعالى إهباطهم إلى الأرض فقال {اهبطوا} أي انزلوا و الخطاب لآدم و حواء على ما ذكرناه من الاختلاف فيه فيما تقدم و اختلف في تكرار الهبوط فقيل الهبوط الأول من الجنة إلى السماء و هذا الهبوط من السماء إلى الأرض عن أبي علي و قيل إنما كرر للتأكيد و قيل إنما كرر لاختلاف الحالين فقد بين بقوله { وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو} إن الإهباط إنما كان في حال عداوة بعضهم لبعض و بين بقوله {قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى} أن الإهباط إنما كان للابتلاء والتكليف كما يقال اذهب سالما معافى اذهب مصاحبا وإن كان الذهاب واحدا لاختلاف الحالين {فإما يأتينكم مني هدى} أي بيان و دلالة وقيل أنبياء و رسل وعلى هذا القول الأخير يكون الخطاب في قوله اهبطوا لآدم و حواء و ذريتهما كقوله تعالى {فقال لها و للأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين} أي أتينا بما فينا من الخلق طائعين {فمن تبع هداي} أي اقتدى برسلي و احتذى أدلتي فلا يلحقهم خوف من أهوال يوم القيامة من العقاب و لا هم يحزنون على فوات الثواب فأما الخوف و الحزن في الدنيا فإنه يجوز أن يلحقهم لأن من المعلوم أن المؤمنين لا ينفكون منه و في هذه الآية دلالة على أن الهدى قد يثبت و لا اهتداء و أن الاهتداء إنما يقع بالإتباع و القبول .
{الذين كفروا} أي جحدوا {وكذبوا ب آياتنا} أي دلالاتنا و ما أنزلناه على الأنبياء ف {أولئك أصحاب النار} أي الملازمون للنار {هم فيها خالدون} أي دائمون و في هذه الآية دلالة على أن من مات مصرا على كفره غير تائب منه و كذب ب آيات ربه فهو مخلد في نار جهنم و آيات الله دلائله و كتبه المنزلة على رسله و الآية مثل الحجة و الدلالة و إن كان بينهما فرق في الأصل يقال دلالة هذا الكلام كذا و لا يقال آيته و من استدل بهذه الآية على أن عمل الجوارح قد يكون من الكفر بقوله {وكذبوا بآياتنا} فقوله يفسد بأن التكذيب نفسه و إن لم يكن كفرا فهو دلالة على الكفر لأنه لا يقع إلا من كافر كالسجود للشمس و غيره .
______________________
1- مجمع البيان ، الطبرسي ، ج1 ، ص166-180.
2- الشدق بفتح الشين وكسرها : زاوية الفم من باطن الخدين .
3- ماوي : اسم زوجة حاتم على ما قيل . والحشرجة : تردد صوت النفس والغرغرة عند الموت .
4- وفي نسختين مخطوطتين ((امر)) بدل (امرئ) ولعله أنسب.
5- الجول بضم الجيم : جدار البئر . الضّوى كغنى : البئر المضوية : اي المبينة بالحجر ونحوه.
أمر اللَّه سبحانه آدم وحواء بسكنى الجنة ، وأباح لهما كل ما فيها ، ما عدا شجرة واحدة فإنه جل وعز نهاهما عنها ، ولكن الشيطان أغراهما بالأكل منها ، ولما استجابا له اقتضت حكمته تعالى إخراجهما من الجنة إلى الأرض ، وابتلاءهما بالتكليف والعمل ، والصحة والسقم ، والشدة والرخاء ، ثم الموت حين يأتي الأجل ، وشعر آدم بالنكبة فندم ، وسأل ربه مخلصا أن يقبل توبته فقبل منه ، وغفر له ، لأن اللَّه تواب رحيم . . واحسب ان حواء تابت أيضا مع آدم ، ولكن اللَّه سبحانه لم يشر إلى توبتها ، ولا فرق عند اللَّه بين الذكر والأنثى ، فمن أطاع وعمل صالحا أسكنه الجنة وأرضاه ، ومن تمرد وعصى أدخله النار وأخزاه ذكرا كان أو أنثى .
وقد تعرض كثير من المفسرين إلى الجنة التي خرج منها : ما هي حقيقتها ؟
وأين كانت ؟ وإلى الشجرة : هل هي التين أو القمح ؟ وعن الحية التي دخل إبليس في جوفها ، وعن المكان الذي هبط عليه آدم : هل هو الهند أو الحجاز ؟
إلى غير ذلك مما جاء في الإسرائيليات ، ولم يشر إليه القرآن الكريم ، ولا ثبت في السنة النبوية بالطريق الصحيح ، ولا يملك العقل معرفة شيء منها ، ولا تتصل بالحياة من قريب أو بعيد . . أجل لا بد من التنبيه إلى الأمور التالية :
حواء وضلع آدم :
من الشائع ان حواء خلقت من ضلع آدم . . ولا مصدر صحيح لهذه الإشاعة . .
والخبر الذي جاء به غير معتمد ، وعلى تقدير صحته فان المراد منه الإشارة إلى المساواة وعدم الفرق بين الرجل والمرأة ، وانها منه ، وهو منها . . بل عن كتاب « ما لا يحضره الفقيه » ان الإمام الصادق ( عليه السلام ) حين سئل عن صحة هذه الإشاعة استنكرها ، وقال : تعالى اللَّه عن ذلك علوا كبيرا . . هل عجز اللَّه أن يخلق لآدم زوجة من غير ضلعه . . حتى ينكح بعضه بعضا . .
ضعف الإرادة وسيلة للحرمان :
اقتضت حكمة اللَّه سبحانه أن يمكث آدم وزوجه في الجنة بعض الوقت ، ثم يخرجا منها لسبب ، هما اللذان أوجداه ، وأخذا به بملء إرادتهما واختيارهما ، ولو لا ذلك لبقيا في الجنة إلى الأبد ينعمان فيها من غير كد وعناء .
وأيضا اقتضت حكمته تعالى أن يستقر آدم وحواء في هذا الأرض إلى حين يتناسلان ويكدحان وكذلك النسل والذرية ، وفي الوقت نفسه يسأل الجميع عما يأتون من أقوال وأفعال . . كما اقتضت حكمته تعالى أن يعود آدم وزوجه إلى الجنة بعد الموت ، ويخلدا فيها إلى ما لا نهاية (2) .
وتسأل : ما هي الحكمة من دخول آدم الجنة ، ثم الخروج منها إلى الأرض ، ثم خروجه وعودته ثانية إلى الجنة بعد الموت ؟
الجواب : ربما كانت الحكمة أن يمر آدم بتجربة ينتفع بها ، ويستفيد منها هو وأبناؤه من بعده ، وان يعود إلى هذه الأرض مزودا بهذه التجربة المفيدة النافعة ، وأعني بها ان الإنسان لا يستطيع أبدا أن يعيش في فوضى ، وكما يريد من غير مقاييس ومعايير ، وان من راعاها مالكا لإرادته غير مندفع مع ميوله عاش في هناء وسعادة لا تحديد لها ولا نهاية ، وان من استخف بالقيم وضعف
أمام شهوته أصاب ما أصاب آدم من العناء والندم ، وابتلي بالمشقة والمصاعب .
عصمة الأنبياء :
اتفق المسلمون على ان آدم من الأنبياء ، والأنبياء كما هو المرتكز في الذهن منزهون عن الزلل . . إذن فما معنى قوله تعالى : « فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ » ؟ . من أجل هذا رأى العلماء انهم بحاجة ماسة إلى البحث عن عصمة الأنبياء ، ثم تفسير هذه الآية وما إليها في ضوء ما ينتهون إليه من النتائج . . ونحن نجمل القول عن ذلك فيما يلي ، ليكون كالأصل في كل ما يتصل بهذا الموضوع .
ومعنى عصمة النبي تنزيهه بحكم العقل عن الخطأ والخطيئة في كل ما يتصل بالدين وأحكامه ، بحيث يبلغ النبي من الطهر والقداسة ، والعلم والمعرفة باللَّه وما يريده من عباده - مرتبة تستحيل معها المخالفة عمدا وسهوا ، فمن أثبت العصمة للأنبياء بهذا المعنى ، وبشتى أقسامها الآتية أوّل الآيات التي تتنافى بظاهرها مع هذا المبدأ تمشيا مع القاعدة الكلية ، وهي وجوب تأويل النقل بما يتفق مع صريح العقل . ومن نفى العصمة عن الأنبياء أبقى الظاهر على ظاهره . . ولعلماء المذاهب في العصمة أقوال تختلف باختلاف هذه الأقسام :
1 - العصمة في العقيدة وأصول الدين ، أي تنزيه النبي عن الكفر والإلحاد ، وما إليه . . وهذه ثابتة لكل نبي بالبديهة والاتفاق ، إذ لا يعقل أن يكفر النبي بالذي اختاره للنبوة .
2 - العصمة في التبليغ عن اللَّه تعالى ، فإذا قال : ان اللَّه يأمر بهذا ، وينهى عن ذاك فالأمر على ما قال .
واتفق الشيعة الإمامية على ثبوت هذه العصمة لكل نبي ، لأن الغرض من التبليغ حمل المكلفين على الحق ، فان أخطأ المبلغ انتقض الغرض من تبليغه ، ويؤيده قوله تعالى : ما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى . وقوله : {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7] . وبكلمة ان القول بعصمة الأنبياء لا ينفك أبدا عن القول بأن قولهم وفعلهم وتقريرهم حجة ودليل .
وبعد ان قال الرازي في تفسيره : « اتفقوا - أي المسلمون - على ان الخطأ
في التبليغ لا يجوز عمدا ولا سهوا » . قال : « ومن الناس من جوز ذلك سهوا » .
ولا أدري من عنى بهؤلاء الناس ؟ .
3 - العصمة في الفتيا ، ومعنى الفتيا ان يفتي النبي بشيء عام ، كتحريم الربا ، وتحليل البيع ، ذكر هذا القسم الرازي في تفسيره ، وقال : « اجمعوا على ان خطأ الأنبياء لا يجوز في ذلك على سبيل العمد ، أما على سبيل السهو فجوزه بعضهم ، ومنعه آخرون » .
ويلاحظ ان هذا القسم يرجع إلى القسم الثاني ، أي التبليغ . . وينبغي أن يجعل القسم الثالث العصمة في الحكم لا في الفتوى (3) .
واتفق الإمامية على ان النبي معصوم عن الخطأ في الحكم ، كما هو معصوم في التبليغ ، مع انهم نقلوا عن الرسول الأعظم (صلى الله عليه واله) انه قال : « انما أقضي بينكم بالبينات والايمان . . أنا بشر وانكم تختصمون إليّ ، ولعل بعضكم يكون ألحن بحجته من بعض - أي أفطن من خصمه - فاحكم له على نحو ما أسمع منه ، فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذ منه شيئا ، فإنما أقطع له قطعة من نار » . . اللهم الا أن يكون الخطأ في حكمه - على تقديره - انما هو في البينة ، أو في يمين الحالف ، أو ما أشبه ، أي في مستند الحكم لا في الحاكم .
4 - العصمة في أفعال الأنبياء ، وسيرتهم الخاصة . . وقال الإيجي في الجزء الثامن من المواقف : « ان الحشوية أجازوا على الأنبياء فعل الذنوب الكبائر ، كالكذب عمدا وسهوا ، ومنعه جمهور الأشاعرة - أي السنة - عمدا لا سهوا ، أما الصغائر فتجوز عليهم عمدا فضلا عن السهو » .
وقال الإمامية : ان الأنبياء معصومون في كل ما يقولون ويفعلون ، تماما كما هم معصومون في العقيدة والتبليغ . . ويستحيل عليهم فعل الصغائر فضلا عن الكبائر ، ولن تصدر منهم إطلاقا لا على سبيل القصد ، ولا على سبيل السهو ، لا قبل النبوة ولا بعدها .
وقد أوّلوا كل آية لا يتفق ظاهرها مع هذا المبدأ ، وقالوا في أكل آدم من الشجرة ان النهي عنها لم يكن نهي تحريم وتعبد ، كما هو الشأن في « لا تزن . . لا تسرق » بل نهي ارشاد ونصيحة ، تماما كقولك لمن تريد له الخير :
لا تشتر هذا الثوب ، لأنه ليس بجيد ، فإذا لم يسمع منك لم يفعل محرما ، ولم يظلم أحدا ، وانما ظلم نفسه ، وفعل ما كان الأولى به ان لا يفعله . . وبديهة ان الأكل من الشجرة لم يترتب عليه ظلم أي انسان سوى الآكل ، وعليه يكون معنى التوبة من آدم التوبة من فعل المرجوح والمفضول ، وترك الأفضل والأرجح . .
هذا ، إلى أن أمر التوبة سهل يسير ، فان الأنبياء والأبرياء دائما يرددون قول :
« أستغفر اللَّه وأتوب إليه » . . وكفى دليلا على ذلك دعاء الإمام زين العابدين في الصحيفة السجادية المعروف بدعاء التوبة الذي جاء فيه : اللهم اني أعتذر إليك من جهلي ، واستوهبك سوء فعلي .
أهل البيت :
وبالمناسبة قال محيي الدين المعروف بابن عربي في كتابه الكبير الفتوح المكية ج 1 ص 196 الطبعة القديمة : « ان اللَّه سبحانه طهر نبيه وأهل بيته بدليل قوله تعالى : { إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب: 33]. . والرجس في اللغة القذر ، ولا شيء أقذر من الذنوب . .
وعليه فلا يضاف لأهل البيت إلا مطهر مقدس ، بل هم عين الطهارة » . . ثم قال ابن عربي : ان سلمان الفارسي معصوم أيضا ، لأن أهل البيت معصومون بشهادة اللَّه ، وقد ثبت عن رسول اللَّه انه قال : سلمان منا أهل البيت ، فيكون سلمان معصوما بشهادة اللَّه ورسوله .
وقال في الجزء الثاني من الكتاب المذكور ص 127 : « لا يبقى في النار موحد ممن بعث إليه رسول اللَّه لأن النار ترجع على الموحدين بردا وسلاما ببركة أهل البيت في الآخرة ، فما أعظم بركة أهل البيت ! » .
____________________
1- الكاشف ، محمد جواد مغنية ، ج1 ،ص84-88.
2- جاء في الاخبار ان آدم يكنى في الجنة بأبي محمد توقيرا وتعظيما ، ولا يكنى في الجنة انسان غيره .
3- الفرق بين الحكم والفتوى ان موضوع الحكم لا يكون إلا خاصا ، كحكم القاضي بأن هذا العقد الذي جرى بين زيد وبكر باطل ، أما موضوع الفتوى فعام كأحل اللَّه البيع ، وحرم الربا .
قوله تعالى: {قلنا يا آدم اسكن}، على أن قصة سجود الملائكة لآدم تكررت في عدة مواضع من القرآن الكريم.
لم يقع قصة الجنة إلا في ثلاث مواضع: أحدها: هاهنا من سورة البقرة.
الثاني: في سورة الأعراف.
قال الله تعالى: {وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (19) فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ (20) وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21) فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ (22) قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23) قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (24) قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ } [الأعراف: 19 - 25]
و الثالث: في سورة طه.
قال الله تعالى: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا (115) وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى (116) فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى (117) إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى (119) فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى (120) فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121) ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى (122) قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى } [طه: 115 - 125]
الآيات.
وسياق الآيات و خاصة قوله تعالى في صدر القصة: {إني جاعل في الأرض خليفة} يعطي أن آدم (عليه السلام) إنما خلق ليحيا في الأرض و يموت فيها و إنما أسكنهما الله الجنة لاختبارهما و لتبدو لهما سوآتهما حتى يهبطا إلى الأرض، و كذا سياق قوله تعالى في سورة طه: {فقلنا يا آدم}، و في سورة الأعراف: {ويا آدم اسكن} حيث سبك قصة الجنة مع قصة إسجاد الملائكة كلتيهما كقصة واحدة متواصلة، و بالجملة فهو (عليه السلام) كان مخلوقا ليسكن الأرض، و كان الطريق إلى الاستقرار في الأرض هذا الطريق، و هو تفضيله على الملائكة لإثبات خلافته، ثم أمرهم بالسجدة، ثم إسكان الجنة.
و النهي عن قرب الشجرة المنهية حتى يأكلا منها فيبدو لهما سوآتهما فيهبطا إلى الأرض، فآخر العوامل للاستقرار في الأرض، و انتخاب الحياة الدنيوية ظهور السوأة، و هي العورة بقرينة قوله تعالى: {وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة} فهو التمايل الحيواني و يستلزم التغذي و النمو أيضا فما كان لإبليس هم إلا إبداء سوآتهما، و آدم و زوجته و إن كانا قد سواهما الله تعالى تسوية أرضية بشرية ثم أدخلهما الجنة لم يمكثا بعد التسوية، و لم يمهلا كثيرا، ليتم في الدنيا إدراكهما لسوآتهما و لا لغيرها من لوازم الحياة الدنيا و احتياجاتها حتى أدخلهما الله الجنة، و أنه إنما أدخلهما الله الجنة حين أدخلهما و لما ينفصلا و لما ينقطع إدراكهما عن عالم الروح و الملائكة، و الدليل على ذلك قوله تعالى: {ليبدي لهما} ما ووري عنهما و لم يقل ما كان ووري عنهما، و هو مشعر بأن مواراة السوآة ما كانت ممكنة في الحياة الدنيا استدامة و إنما تمشت دفعة ما و استعقب ذلك إسكان الجنة فظهور السوآة كان مقضيا محتوما في الحياة الأرضية و مع أكل الشجرة، و لذلك قال تعالى: {فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى}، و قال تعالى: {وأخرجهما مما كانا فيه} و أيضا هو تعالى غفر خطيئتهما بعد ما تابا و لم يرجعهما إلى الجنة بل أهبطهما إلى الدنيا ليحييا فيها و لو لم تكن الحياة الأرضية مع أكل الشجرة و ظهور السوآة حتما مقضيا، و الرجوع إلى الجنة مع ذلك محالا، لرجعا إليها بعد حط الخطيئة، فالعامل في خروجهما من الجنة و هبوطهما هو الأكل من الشجرة و ظهور السوآة، و كان ذلك بوسوسة الشيطان اللعين، و قد قال تعالى في سورة طه في صدر القصة: "{ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي و لم نجد له عزما}".
ثم ساق تعالى القصة.
فهل هذا العهد هو قوله تعالى: لا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين؟ أو أنه قوله تعالى: {إن هذا عدو لك و لزوجك} أو أنه العهد بمعنى الميثاق العمومي المأخوذ من جميع الإنسان، و من الأنبياء خاصة بوجه آكد و أغلظ.
والاحتمال الأول غير صحيح لقوله تعالى: "{فوسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما ووري عنهما من سوآتهما و قال ما نهيكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين. و قاسمهما إني لكما لمن الناصحين} الآيتان فهما قد كانا حين اقتراف الخطيئة و اقتراب الشجرة على ذكر من النهي، و قد قال تعالى: "فنسي و لم نجد له عزما" فالعهد المذكور ليس هو النهي عن قرب الشجرة و أما الاحتمال الثاني و هو أن يكون العهد المذكور هو التحذير عن اتباع إبليس فهو و إن لم يكن بالبعيد، كل البعيد، لكن ظواهر الآيات لا تساعد عليه فإن العهد مخصوص بآدم (عليه السلام) كما هو ظاهر الآية.
مع أن التحذير عن إبليس كان لهما معا، و أيضا ذيل الآيات و هو على طبق صدرها في سورة طه يناسب العهد بمعنى الميثاق الكلي، لا العهد بمعنى التحذير عن إبليس، قال تعالى: "{فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل و لا يشقى و من أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا و نحشره يوم القيامة أعمى الآيات} فبحسب التطبيق ينطبق قوله تعالى: {ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا} على نسيان العهد و هو كما ترى مع العهد بمعنى الميثاق على الربوبية و العبودية أنسب منه مع التحذير من إبليس، إذ لا كثير مناسبة بحسب المفهوم بين الإعراض عن الذكر و اتباع إبليس، و أما الميثاق على الربوبية فهو له أنسب، فإن الميثاق على الربوبية هو أن لا ينسى الإنسان كونه تعالى ربا له أي مالكا مدبرا أي لا ينسى الإنسان أبدا و لا في حال أنه مملوك طلق لا يملك لنفسه شيئا لا نفعا و لا ضرا و لا موتا و لا حياة و لا نشورا، أي لا ذاتا و لا وصفا و لا فعلا.
و الخطيئة التي تقابله هو إعراض الإنسان عن ذكر مقام ربه و الغفلة عنه بالالتفات إلى نفسه أو ما يعود و يرجع إلى نفسه من زخارف الحياة الدنيا الفانية البالية هذا.
لكنك إذا أمعنت النظر في الحياة الدنيا على اختلاف جهاتها و تشتت أطرافها و أنحائها و وحدتها و اشتراكها بين المؤمن و الكافر وجدتها بحسب الحقيقة و الباطن مختلفة في الموردين بحسب ذوق العلم بالله تعالى و الجهل به فالعارف بمقام ربه إذا نظر إلى نفسه و كذلك إلى الحياة الدنيا الجامعة لأقسام الكدورات و أنواع الآلام و ضروب المكاره من موت و حياة، و صحة و سقم، و سعة و إقتار، و راحة و تعب، و وجدان و فقدان.
على أن الجميع أعم مما في نفس الإنسان أو في غيره مملوكة لربه، لا استقلال لشيء منها و فيها، بل الكل ممن ليس عنده إلا الحسن و البهاء و الجمال و الخير على ما يليق بعزته و جلاله، و لا يترشح من لدنه إلا الجميل و الخير، فإذا نظر إليها و هي هكذا لم ير مكروها يكرهه و لا مخوفا يخافه، و لا مهيبا يهابه، و لا محذورا يحذره، بل يرى كل ما يراه حسنا محبوبا إلا ما يأمره ربه أن يكرهه و يبغضه، و هو مع ذلك يكرهه لأمره، و يحب ما يحب و يلتذ و يبتهج بأمره، لا شغل له إلا بربه، كل ذلك لما يرى الجميع ملكا طلقا لربه لا نصيب و لا حظ لشيء غيره في شيء منها، فما له و لمالك الأمر و ما يتصرف به في ملكه؟ من إحياء و إماتة، و نفع و ضر و غيرها، فهذه هي الحياة الطيبة التي لا شقاء فيها البتة و هي نور لا ظلمة معه، و سرور لا غم معه، و وجدان لا فقد معه، و غنى لا فقر معه كل ذلك بالله سبحانه، و في مقابل هذه الحياة حياة الجاهل بمقام ربه، إذ هذا المسكين بانقطاعه عن ربه لا يقع بصره على موجود من نفسه و غيره إلا رآه مستقلا بنفسه ضارا أو نافعا خيرا أو شرا فهو يتقلب في حياته بين الخوف عما يخاف فوته، و الحذر عما يحذر وقوعه، و الحزن لما يفوته، و الحسرة لما يضيع عنه من جاه أو مال أو بنين أو أعوان و سائر ما يحبه و يتكل و يعتمد عليه و يؤثره.
كلما نضج جلده بالاعتياد بمكروه والسكون إلى مرارة بدل جلدا غيره، ليذوق العذاب بفؤاد مضطرب قلق، و حشى ذائب محترق ، وصدر ضيق حرج ، كأنما يصعد في السماء، كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون.
إذا عرفت هذا علمت: أن مرجع الأمرين أعني نسيان الميثاق و شقاء الحياة الدنيا واحد، و أن الشقاء الدنيوي من فروع نسيان الميثاق.
وهذا هو الذي يشعر به كلامه سبحانه حيث أتى بالتكليف الجامع لأهل الدنيا في سورة طه فقال تعالى : "{فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل و لا يشقى. و من أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا و نحشره يوم القيامة أعمى}.
وبدل ذلك في هذه السورة من قوله : {فمن اتبع هداي فلا خوف عليهم و لا هم يحزنون}.
ومن هنا تحدس إن كنت ذا فطانة أن الشجرة كانت شجرة في اقترابها تعب الحياة الدنيا و شقاؤها، وهو أن يعيش الإنسان في الدنيا ناسيا لربه، غافلا عن مقامه، و أن آدم (عليه السلام) كأنه أراد أن يجمع بينها و بين الميثاق المأخوذ عليه، فلم يتمكن فنسي الميثاق و وقع في تعب الحياة الدنيا ، ثم تدورك له ذلك بالتوبة.
قوله تعالى : {وكلا منها رغدا} الرغد الهناء وطيب العيش وأرغد القوم مواشيهم تركوها ترعى كيف شاءت ، وقوم رغد، و نساء رغد، أي ذوو عيش رغيد.
وقوله تعالى : {ولا تقربا هذه الشجرة} وكأن النهي إنما كان عن أكل الثمرة و إنما تعلق بالقرب من الشجرة إيذانا بشدة النهي و مبالغة في التأكيد و يشهد بذلك قوله تعالى {فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا} [الأعراف : 22].
وقوله تعالى: {فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا } [طه: 121] ، فكانت المخالفة بالأكل فهو المنهي عنه بقوله: {ولا تقربا}.
قوله تعالى: {فتكونا من الظالمين}، من الظلم لا من الظلمة على ما احتمله بعضهم و قد اعترفا بظلمهما حيث قالا على ما حكاه الله تعالى عنهما: {ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا}.
إلا أنه تعالى بدل في سورة طه هذه الكلمة أعني قوله: فتكونا من الظالمين من قوله فتشقى و الشقاء هو التعب ثم فسر التعب و فصله، فقال: { إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى} [طه: 118، 119].
ومن هنا يظهر أن وبال هذا الظلم إنما كان هو الوقوع في تعب حياة هذه الدنيا من جوع و عطش وعراء وعناء وعلى هذا فالظلم منهما إنما هو ظلمهما لأنفسهما، لا بمعنى المعصية المصطلحة والظلم على الله سبحانه.
ومن هنا يظهر أيضا أن هذا النهي أعني قوله: {ولا تقربا}، إنما كان نهيا تنزيهيا إرشاديا يرشد به إلى ما فيه خير المكلف و صلاحه في مقام النصح لا نهيا مولويا.
فهما إنما ظلما أنفسهما في ترك الجنة على أن جزاء المخالفة للنهي المولوي التكليفي يتبدل بالتوبة إذا قبلت و لم يتبدل في موردهما، فإنهما تابا و قبلت توبتهما و لم يرجعا إلى ما كانا فيه من الجنة و لو لا أن التكليف إرشادي ليس له إلا التبعة التكوينية دون التشريعية لاستلزام قبول التوبة رجوعهما إلى ما كانا فيه من مقام القرب و سيأتي لهذا الكلام بقية فيما سيأتي إن شاء الله.
قوله سبحانه: {فأزلهما الشيطان}، الظاهر من هذه الجملة كنظائرها و إن لم يكن أزيد من وسوسة الشيطان لهما مثل ما يوسوس لنا بني آدم على نحو إلقاء الوسوسة في القلب من غير رؤية الشخص.
لكن الظاهر من أمثال قوله تعالى في سورة طه: {فقلنا يا آدم إن هذا عدو لك ولزوجك} يدل على أنه تعالى أراهما الشيطان و عرفهما إياه بالشخص و العين دون الوصف و كذا قوله تعالى حكاية عن الشيطان: {ياآدم هل أدلك على شجرة الخلد} الآية حيث أتى بالكلام في صورة حكاية الخطاب، و يدل ذلك على متكلم مشعور به.
و كذا قوله تعالى في سورة الأعراف: {وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ} [الأعراف: 21] و القسم إنما يكون من مقاسم مشعور به.
و كذا قوله تعالى: {وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ } [الأعراف: 22] .
كل ذلك يدل على أنه كان يتراءى لهما و كانا يشاهدانه.
ولو كان حالهما (عليهما السلام) مثل حالنا من عدم المشاهدة حين الوسوسة لجاز لهما أن يقولا: ربنا إننا لم نشعر وخلنا أن هذه الوساوس هي من أفكارنا من غير استشعار بحضوره، و لا قصد لمخالفة ما وصيتنا به من التحذير من وسوسته.
وبالجملة فهما كانا يشاهدانه و يعرفانه، و الأنبياء و هم المعصومون بعصمة الله كذلك يعرفونه و يشاهدونه حين تعرضه بهم لو تعرض على ما وردت به الروايات في نوح و إبراهيم و موسى و عيسى و يحيى وأيوب وإسماعيل و محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) هذا.
و كذا ظاهر هذه الآيات كظاهر قوله تعالى: "ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة" حيث ينبىء عن كونهما معه لعنه الله بحيال الشجرة في الجنة، فقد كان دخل الجنة، و صاحبهما و غرهما بوسوسته، و لا محذور فيه إذ لم تكن الجنة جنة الخلد حتى لا يدخلها الشيطان، و الدليل على ذلك خروجهم جميعا من هذه الجنة.
و أما قوله تعالى خطابا لإبليس: {قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا } [الأعراف: 13]: ، فيمكن أن يكون المراد به الخروج من الملائكة، أو الخروج من السماء من جهة كونها مقام قرب و تشريف.
قوله تعالى: {وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو} الآية ظاهر السياق أنه خطاب لآدم و زوجته و إبليس و قد خص إبليس وحده بالخطاب في سورة الأعراف حيث قال: {فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها} الآية فقوله تعالى: {اهبطوا} كالجمع بين الخطابين و حكاية عن قضاء قضى الله به العداوة بين إبليس لعنه الله و بين آدم و زوجته و ذريتهما، و كذلك قضى به حياتهم في الأرض وموتهم فيها و بعثهم منها.
وذرية آدم مع آدم في الحكم كما ربما يستشعر من ظاهر قوله: {فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون} الآية وكما سيأتي في قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ } [الأعراف : 11].
إن إسجاد الملائكة لآدم (عليه السلام) إنما كان من جهة أنه خليفة أرضي، فكان المسجود له آدم و حكم السجدة لجميع البشر، فكان أقامه آدم (عليه السلام) مقام المسجود له معنونا بعنوان الأنموذج والنائب.
وبالجملة يشبه أن تكون هذه القصة التي قصها الله تعالى من إسكان آدم و زوجته الجنة، ثم إهباطهما لأكل الشجرة كالمثل يمثل به ما كان الإنسان فيه قبل نزوله إلى الدنيا من السعادة والكرامة بسكونه حظيرة القدس، ومنزل الرفعة والقرب ، ودار نعمة وسرور، وأنس و نور، ورفقاء طاهرين، و أخلاء روحانيين ، وجوار رب العالمين.
ثم إنه يختار مكانه كل تعب و عناء و مكروه و ألم بالميل إلى حياة فانية، و جيفة منتنة دانية، ثم إنه لو رجع بعد ذلك إلى ربه لأعاده إلى دار كرامته و سعادته و لو لم يرجع إليه و أخلد إلى الأرض واتبع هواه فقد بدل نعمة الله كفرا وأحل بنفسه دار البوار، جهنم يصلاها و بئس القرار.
قوله تعالى: "فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه"، التلقي هو التلقن، و هو أخذ الكلام مع فهم و فقه وهذا التلقي كان هو الطريق المسهل لآدم (عليه السلام) توبته.
ومن ذلك يظهر أن التوبة توبتان: توبة من الله تعالى و هي الرجوع إلى العبد بالرحمة، و توبة من العبد و هي الرجوع إلى الله بالاستغفار و الانقلاع من المعصية.
و توبة العبد، محفوفة بتوبتين من الله تعالى، فإن العبد لا يستغني عن ربه في حال من الأحوال، فرجوعه عن المعصية إليه يحتاج إلى توفيقه تعالى و إعانته و رحمته حتى يتحقق منه التوبة، ثم تمس الحاجة إلى قبوله تعالى وعنايته ورحمته ، فتوبة العبد إذا قبلت كانت بين توبتين من الله كما يدل عليه قوله تعالى : {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا } [التوبة : 118] .
وقراءة نصب آدم و رفع كلمات تناسب هذه النكتة، و إن كانت القراءة الأخرى و هي قراءة رفع آدم و نصب كلمات لا تنافيه أيضا.
وأما أن هذه الكلمات ما هي؟ فربما يحتمل أنها هي ما يحكيه الله تعالى عنهما في سورة الأعراف بقوله : {قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 23] ، إلا أن وقوع هذه الكلمات أعني قوله: {قالا ربنا ظلمنا} الآية قبل قوله: "{قلنا اهبطوا} في سورة الأعراف و وقوع قوله {فتلقى آدم} الآية بعد قوله: قلنا اهبطوا، في هذه السورة لا يساعد عليه.
لكن هاهنا شيء : و هو أنك عرفت في صدر القصة أن الله تعالى حيث قال : {إني جاعل في الأرض خليفة}، قالت الملائكة : {أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء و نحن نسبح بحمدك ونقدس لك} الآية و هو تعالى لم يرد عليهم دعواهم على الخليفة الأرضي بما رموه به و لم يجب عنه بشيء إلا أنه علم آدم الأسماء كلها .
ولو لا أنه كان فيما صنعه تعالى من تعليم الأسماء ما يسد باب اعتراضهم ذلك لم ينقطع كلامهم و لا تمت الحجة عليهم قطعا.
ففي جملة ما علمه الله تعالى آدم من الأسماء أمر ينفع العاصي إذا عصى و المذنب إذا أذنب، فلعل تلقيه من ربه كان متعلقا بشيء من تلك الأسماء فافهم ذلك.
واعلم أن آدم (عليه السلام) و إن ظلم نفسه في إلقائها إلى شفا جرف الهلكة و منشعب طريقي السعادة و الشقاوة أعني الدنيا، فلو وقف في مهبطه فقد هلك، و لو رجع إلى سعادته الأولى فقد أتعب نفسه و ظلمها، فهو (عليه السلام) ظالم لنفسه على كل تقدير، إلا أنه (عليه السلام) هيأ لنفسه بنزوله درجة من السعادة و منزلة من الكمال ما كان ينالها لو لم ينزل و كذلك ما كان ينالها لو نزل من غير خطيئة.
فمتى كان يمكنه أن يشاهد ما لنفسه من الفقر و المذلة و المسكنة و الحاجة و القصور وله في كل ما يصيبه من التعب و العناء و الكد روح وراحة في حظيرة القدس و جوار رب العالمين، فلله تعالى صفات من عفو و مغفرة و توبة و ستر و فضل ورأفة ورحمة لا ينالها إلا المذنبون، وله في أيام الدهر نفحات لا يرتاح بها إلا المتعرضون.
فهذه التوبة هي التي استدعت تشريع الطريق الذي يتوقع سلوكه و تنظيف المنزل الذي يرجى سكونه، فوراءها تشريع الدين و تقويم الملة.
ويدل على ذلك ما تراه أن الله تعالى يكرر في كلامه تقدم التوبة على الإيمان.
قال تعالى: { فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ} [هود: 112] ، و قال: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ} [طه: 82] ، إلى غير ذلك من الآيات.
قوله تعالى: {قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى}.
وهذا أول ما شرع من الدين لآدم (عليه السلام) و ذريته، أوجز الدين كله في جملتين لا يزاد عليه شيء إلى يوم القيامة.
وأنت إذا تدبرت هذه القصة قصة الجنة و خاصة ما وقع في سورة طه وجدت أن المستفاد منها أن جريان القصة أوجب قضاءين منه تعالى في آدم و ذريته، فأكل الشجرة أوجب حكمه تعالى و قضاءه بالهبوط و الاستقرار في الأرض و الحياة فيها تلك الحياة الشقية التي حذرا منها حين نهيا عن اقتراب الشجرة هذا. و أن التوبة ثانيا: تعقب قضاء و حكما ثانيا منه تعالى بإكرام آدم و ذريته بالهداية إلى العبودية فالمقضي أولا كان نفس الحياة الأرضية، ثم بالتوبة طيب الله تلك الحياة بأن ركب عليها الهداية إلى العبودية، فتألفت الحياة من حياة أرضية، و حياة سماوية.
وهذا هو المستفاد من تكرار الأمر بالهبوط في هذه السورة حيث قال تعالى: "{وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين} الآية و قال تعالى: {قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى} الآية.
وتوسيط التوبة بين الأمرين بالهبوط مشعر بأن التوبة وقعت و لما ينفصلا من الجنة و إن لم يكونا أيضا فيها كاستقرارهما فيها قبل ذلك.
يشعر بذلك أيضا قوله تعالى: {وناديهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة} الآية بعد ما قال لهما: {لا تقربا هذه الشجرة} فأتى بلفظة تلكما و هي إشارة إلى البعيد بعد ما أتى بلفظة هذه و هي إشارة إلى القريب و عبر بلفظة نادى و هي للبعيد بعد ما أتى بلفظة قال و هي للقريب فافهم.
واعلم أن ظاهر قوله تعالى: {وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو و لكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين} الآية و قوله تعالى: {قال فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون} الآية أن نحوة هذه الحياة بعد الهبوط تغاير نحوها في الجنة قبل الهبوط، و أن هذه حياة ممتزجة حقيقتها بحقيقة الأرض ذات عناء و شقاء يلزمها أن يتكون الإنسان في الأرض ثم يعاد بالموت إليها ثم يخرج بالبعث منها.
فالحياة الأرضية تغاير حياة الجنة فحياتها حياة سماوية غير أرضية.
ومن هنا يمكن أن يجزم أن جنة آدم كانت في السماء، و إن لم تكن جنة الآخرة جنة الخلد التي لا يخرج منها من دخل فيها.
نعم: يبقى الكلام في معنى السماء و لعلنا سنوفق لاستيفاء البحث منه، إن شاء الله تعالى.
بقي هنا شيء و هو القول في خطيئة آدم فنقول ظاهر الآيات في بادي النظر و إن كان تحقق المعصية و الخطيئة منه (عليه السلام) كما قال تعالى: فتكونا من الظالمين، و قال تعالى: {وعصى آدم ربه فغوى} الآية، و كما اعترف به فيما حكاه الله عنهما: {ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا و ترحمنا لنكونن من الخاسرين} الآية.
لكن التدبر في آيات القصة و الدقة في النهي الوارد عن أكل الشجرة يوجب القطع بأن النهي المذكور لم يكن نهيا مولويا و إنما هو نهي إرشادي يراد به الإرشاد و الهداية إلى ما في مورد التكليف من الصلاح و الخير لا البعث و الإرادة المولوية.
ويدل على ذلك أولا: أنه تعالى فرع على النهي في هذه السورة و في سورة الأعراف أنه ظلم حيث قال: {لا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين} ثم بدله في سورة طه من قوله:{فتشقى} مفرعا إياه على ترك الجنة.
ومعنى الشقاء التعب ثم ذكر بعده كالتفسير له: "إن لك أن لا تجوع فيها و لا تعرى، وأنك لا تظمؤا فيها ولا تضحى" الآيات.
فأوضح أن المراد بالشقاء هو التعب الدنيوي، الذي تستتبعه هذه الحياة الأرضية من جوع و عطش و عراء و غير ذلك.
فالتوقي من هذه الأمور هو الموجب للنهي الكذائي لا جهة أخرى مولوية فالنهي إرشادي، و مخالفة النهي الإرشادي لا توجب معصية مولوية، و تعديا عن طور العبودية و على هذا فالمراد بالظلم أيضا في ما ورد من الآيات ظلمهما على أنفسهما في إلقائها في التعب و التهلكة دون الظلم المذموم في باب الربوبية و العبودية و هو ظاهر.
و ثانيا: أن التوبة، و هي الرجوع من العبد إذا استتبع القبول من جانب المولى أوجب كون الذنب كلا ذنب، و المعصية كأنها لم تصدر، فيعامل مع العاصي التائب معاملة المطيع المنقاد، و في مورد فعله معاملة الامتثال و الانقياد.
و لو كان النهي عن أكل الشجرة مولويا و كانت التوبة توبة عن ذنب عبودي و رجوعا عن مخالفة نهي مولوي كان اللازم رجوعهما إلى الجنة مع أنهما لم يرجعا.
و من هنا يعلم أن استتباع الأكل المنهي للخروج من الجنة كان استتباعا ضروريا تكوينيا، نظير استتباع السم للقتل و النار للإحراق، كما في موارد التكاليف الإرشادية لا استتباعا من قبيل المجازاة المولوية في التكاليف المولوية، كدخول النار لتارك الصلاة، و استحقاق الذم و استيجاب البعد في المخالفات العمومية الاجتماعية المولوية. و ثالثا: أن قوله تعالى: {قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم و لا هم يحزنون، والذين كفروا و كذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} الآيات".
و هو كلمة جامعة لجميع التشريعات التفصيلية التي أنزلها الله تعالى في هذه الدنيا من طرق ملائكته وكتبه و رسله، يحكي عن أول تشريع شرع للإنسان في هذه الدنيا التي هي دنيا آدم و ذريته، و قد وقع على ما يحكي الله تعالى بعد الأمر الثاني بالهبوط و من الواضح أن الأمر بالهبوط أمر تكويني متأخر عن الكون في الجنة و اقتراف الخطيئة، فلم يكن حين مخالفة النهي و اقتراب الشجرة لا دين مشروع و لا تكليف مولوي فلم يتحقق عند ذلك ذنب عبودي، ولا معصية مولوية.
ولا ينافي ذلك كون خطاب اسجدوا للملائكة ولإبليس و هو قبل خطاب لا تقربا، خطابا مولويا لأن المكلف غير المكلف.
فإن قلت: إذا كان النهي نهيا إرشاديا لا نهيا مولويا فما معنى عده تعالى فعلهما ظلما و عصيانا و غواية؟.
قلت: أما الظلم فقد مر أن المراد به ظلمهما لأنفسهما في جنب الله تعالى، و أما العصيان فهو لغة عدم الانفعال أو الانفعال بصعوبة كما يقال: كسرته فانكسر و كسرته فعصى، و العصيان و هو عدم الانفعال عن الأمر أو النهي كما يتحقق في مورد التكاليف المولوية كذلك يتحقق في مورد الخطابات الإرشادية.
وأما تعين معنى المعصية في هذه الأزمنة عندنا جماعة المسلمين في مخالفة مثل صل، أم صم، أوحج، أو لا تشرب الخمر، أو لا تزن و نحو ذلك فهو تعين بنحو الحقيقة الشرعية أو المتشرعة لا يضر بعموم المعنى بحسب اللغة و العرف العام هذا.
وأما الغواية فهو عدم اقتدار الإنسان مثلا على حفظ المقصد و تدبير نفسه في معيشته بحيث يناسب المقصد و يلائمه.
وواضح أنه يختلف باختلاف الموارد من إرشاد و مولوية.
فإن قلت : فما معنى التوبة حينئذ و قولهما : {وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف : 23].
قلت: التوبة كما مر هي الرجوع و الرجوع، يختلف بحسب اختلاف موارده.
فكما يجوز للعبد المتمرد عن أمر سيده و إرادته أن يتوب إليه، فيرد إليه مقامه الزائل من القرب عنده كذلك يجوز للمريض الذي نهاه الطبيب نهيا إرشاديا عن أكل شيء معين من الفواكه و المأكولات، و إنما كان ذلك منه مراعاة لجانب سلامته و عافيته فلم ينته المريض عن نهيه فاقترفه فتضرر فأشرف على الهلاك.
يجوز أن يتوب إلى الطبيب ليشير إليه بدواء يعيده إلى سابق حاله و عافيته، فيذكر له أن ذلك محتاج إلى تحمل التعب و المشقة و العناء و الرياضة خلال مدة حتى يعود إلى سلامة المزاج الأولية بل إلى أشرف منها و أحسن، هذا.
و أما المغفرة و الرحمة و الخسران فالكلام فيها نظير الكلام في نظائرها في اختلافها بحسب اختلاف مواردها، هذا.
____________________
1- الميزان ، الطباطبائي ، ج1 ، ص109-119.
يستفاد من آيات القرآن أن آدم خُلق للعيش على هذه الأرض. لكنّ الله شاء أن يسكنه قبل ذلك الجنّة، وهي روضة خضراء موفورة النعمة في هذا العالم، وخالية من كل ما يزعج آدم.
لعل مرحلة مكوث آدم في الجنّة كانت مرحلة تحضيرية لعدم ممارسة آدم للحياة على الارض وصعوبة تحمّل المشاكل الدنيوية بدون مقدمة، ومن أجل تأهيل آدم لتحمل مسؤوليات المستقبل، ولتفهيمه أهمية حمل هذه المسؤوليات والتكاليف الإِلهية في تحقيق سعادته، ولإِعطائه صورة عن الشقاء الذي يستتبع إهمال هذه التكاليف، ولتنبيهه بالمحظورات التي سيواجهها على ظهر الأرض.
وكان من الضروري أيضاً أن يعلم آدم بإمكان العودة إلى الله بعد المعصية. فمعصية الله ـ لا تسدّ إلى الإبد ـ أبواب السعادة أمامه، بل يستطيع أن يرجع ويعاهد الله أن لا يعود لمثلها، وعند ذاك يعود إلى النعم الإِلهية.
ينبغي أن ينضج آدم(عليه السلام) في هذا الجوّ إلى حد معيّن، وأن يعرف أصدقاءه وأعداءه، ويتعلم كيف يعيش على ظهر الأرض. نعم، كانت هذه مجموعة من التعاليم الضرورية التي تؤهله للحياة على ظهر الأرض.
كانت هذه مقدمات تأهيلية يحتاجها آدم وأبناء آدم في حياتهم الجديدة. ولعل الفترة التي قضاها آدم في الجنّة أن ينهض بمسؤولية الخلافة على الأرض كانت تدريبية أو تمرينية.
وهنا رأى «آدم» نفسه أمام أمر إلهي يقضي بعدم الاقتراب من الشجرة، لكن الشيطان أبى إلاّ أن ينفذ بقسمه في إغواء آدم وذريته، فطفق يوسوس لآدم ويعده وزوجه ـ كما يبدو من سائر آيات القرآن الكريم ـ بالخلود وباتخاذ شكل الملائكة وأقسم أنه لهما من الناصحين.(2)
تقول الآية بعد ذلك: {فَأَزَلَّهُما الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ}(3).
نعم. أُخرجا من الجنة حيث الراحة والهدوءُ وعدم الألم والتعب والعناء، على أثر وسوسة الشيطان.
وصدر لهما الأمر الإِلهي بالهبوط (وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْض عَدُوُّ، وَلَكُمْ فِي الاَْرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلى حِين).
وهنا، فهم آدم أنه ظلم نفسه، وأخرج من الجوّ الهادي الملي بنعم الجنّة بسبب استسلامه لوسوسة الشيطان. وهبط في جوّ مفعم بالتعب والمشقة والعناء. مع أن آدم كان نبيّاً ومعصوماً، فإن الله يؤاخذ الإنبياء بترك الأولى ـ كما سنرى ـ كما يؤاخذ باقي الأفراد على ذنوبهم. وهو عقاب شديد تلقاه آدم جرّاء عصيانه.
عودة آدم(عليه السلام) إلى الله
بعد حادثة وسوسة إبليس، وصدور الأمر الإِلهي لآدم بالخروج من الجنّة، فهم آدم أنه ظلم نفسه، وأنه أُخرج من ذلك الجوّ الهاديء المنعّم على أثر إغواء الشيطان، ليعيش في جوّ جديد مليء بالتعب والنصب. وهنا أخذ آدم يفكر في تلافي خطئه، فاتجه بكل وجوده إلى بارئه وهو نادم أشدّ الندم.
وأدركته رحمة الله في هذه اللحظات كما تقول الآية {فَتَلَقّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَات فَتَابَ عَلَيْهِ، إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الْرَّحِيمُ}.
«التوبة» في اللغة بمعنى «العودة»، وهي في التعبير القرآني، بمعنى العودة عن الذنب، إن نُسبت إلى المذنب. وإن نسبت كلمة التوبة إلى الله فتعني عودته سبحانه إلى الرحمة التي كانت مسلوبة عن العبد المذنب. ولذلك فهو تعالى «توّاب» في التعبير القرآني.
بعبارة اُخرى «توبة» العبد عودته إلى الله، لأن الذنب فرار من الله والتوبة رجوع إليه. وتوبة الله، إغداق رحمته على عبده الآيب(4).
صحيح أن آدم لم يرتكب محرّماً، ولكن ترك الأَولى يعتبر معصية منه. ولذلك سرعان ما تدارك الموقف، وعاد إلى خالقه.
وسنتحدث فيما بعد عن المقصود بـ «الكلمات» في الآية.
على أيّ حال، لقد حدث ما لا ينبغي أن يحدث ـ أو ما ينبغي أن يحدث ـ وقُبلت توبة آدم. لكن الأثر الوضعي للهبوط في الأرض لم يتغير، كما يذكر القرآن: {قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعاً، فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنّي هُدىً، فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ. وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}.
_______________
1- الامثل ، ناصر مكارم الشيرازي ، ج1 ، 138و147.
2 ـ الأعراف، 20 و 21.
3 ـ مرجع الضمير في «عنها» إمّا أن يعود على «الجنّة» ويكون معنى «ممّا كانا فيه» في هذه الحالة: من مقامهما الذي كانا فيه. وإمّا أن يعود على «الشّجرة» فيكون معنى الآية: إن الشيطان أزلهما بوسيلة الشّجرة، وأخرجهما من الجنّة التي كانا فيها.
4 ـ ولذلك، توبة العبد تتعدى بحرف الجر (إلى)، وتوبة الله تتعدى بـ(على)، فيقال في الاُولى «تاب إليه» وفي الثانية «تاب عليه»، راجع التّفسير الكبير للفخر الرازي وتفسير الصافي، ذيل آيات بحثنا.
|
|
تفوقت في الاختبار على الجميع.. فاكهة "خارقة" في عالم التغذية
|
|
|
|
|
أمين عام أوبك: النفط الخام والغاز الطبيعي "هبة من الله"
|
|
|
|
|
قسم شؤون المعارف ينظم دورة عن آليات عمل الفهارس الفنية للموسوعات والكتب لملاكاته
|
|
|