المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية

القرآن الكريم وعلومه
عدد المواضيع في هذا القسم 16674 موضوعاً
تأملات قرآنية
علوم القرآن
الإعجاز القرآني
قصص قرآنية
العقائد في القرآن
التفسير الجامع
آيات الأحكام

Untitled Document
أبحث عن شيء أخر
الرقابة الذاتيّة والاجتماعيّة
2024-07-02
الأسلوب العمليّ في الأمر والنهي
2024-07-02
ساحة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
2024-07-02
فلسفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
2024-07-02
معنى الصدق
2024-07-02
{كيف تكفرون بالله}
2024-07-02

الأفعال التي تنصب مفعولين
23-12-2014
صيغ المبالغة
18-02-2015
الجملة الإنشائية وأقسامها
26-03-2015
اولاد الامام الحسين (عليه السلام)
3-04-2015
معاني صيغ الزيادة
17-02-2015
انواع التمور في العراق
27-5-2016


تفسير الاية (282-283) من سورة البقرة  
  
6191   04:33 مساءً   التاريخ: 11-5-2017
المؤلف : اعداد : المرجع الإلكتروني للمعلوماتية
الكتاب أو المصدر : تفاسير الشيعة
الجزء والصفحة : ......
القسم : القرآن الكريم وعلومه / التفسير الجامع / حرف الباء / سورة البقرة /


قال تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَو ضَعِيفًا أَولَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُو فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَو كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282) وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ }  [البقرة : 282-283]

 

تفسير مجمع البيان
- ذكر الطبرسي في تفسير هاتين الآيتين (1) :

 

لما أمر سبحانه بإنظار المعسر وتأجيل دينه عقبه ببيان أحكام الحقوق المؤجلة وعقود المداينة فقال {يا أيها الذين آمنوا} أي صدقوا الله ورسوله {إذا تداينتم} أي تعاملتم وداين بعضكم بعضا {بدين} قيل فيه قولان ( أحدهما ) أنه على وجه التأكيد وتمكين المعنى في النفس كقوله تعالى ولا طائر يطير بجناحيه ( والآخر ) أنه إنما قال بدين لأن تداينتم قد يكون بمعنى تجازيتم من الدين الذي هو الجزاء وقد يكون بمعنى تعاملتم بدين فقيده بالدين لتخليص اللفظ من الاشتراك .

 {إلى أجل مسمى} أي وقت مذكور معلوم بالتسمية قال ابن عباس إن الآية وردت في السلم خاصة وكان يقول أشهد أن الله أباح السلم المضمون إلى أجل معلوم وأنزل فيه أطول آية من كتابه وتلا هذه الآية وظاهر الآية يقع على كل دين مؤجل سلما كان أو غيره وعليه المفسرون والفقهاء {فاكتبوه} معناه فاكتبوا الدين في صك لئلا يقع فيه نسيان أو جحود وليكون ذلك توثقة للحق ونظرا للذي له الحق وللذي عليه الحق وللشهود فوجه النظر للذي له الحق أن يكون حقه موثقا بالصك والشهود فلا يضيع حقه ووجه النظر للذي عليه الحق أن يكون أبعد به من الجحود فلا يستوجب النقمة والعقوبة .

 وجه النظر للشهود أنه إذا كتب بخطه كان ذلك أقوم للشهادة وأبعد من السهو وأقرب إلى الذكر واختلف في هذا الأمر فقيل هو مندوب إليه عن أبي سعيد الخدري والحسن والشعبي وهو الأصح وعليه الأكثر وقيل هو فرض عن الربيع وكعب ويدل على صحة القول الأول قوله فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اوتمن أمانته والمفهوم من هذا الظاهر فإن ائتمنه على ماله أن يأتمنه عليه ثم بين كيفية الكتابة فقال {وليكتب بينكم كاتب بالعدل} يعني وليكتب كتاب المداينة أو البيع بين المتعاقدين كاتب بالقسط والإنصاف والحق لا يزيد فيه ولا ينقص منه في صفة ولا مقدار ولا يستبدل ولا يكتب شيئا يضر بأحدهما إلا بعلمه .

 {ولا يأب كاتب} أي ولا يمتنع كاتب من {أن يكتب} الصك على الوجه المأمور به {كما علمه الله} من الكتابة بالعدل وقيل كما فضله الله تعالى بتعليمه إياه فلا يبخل على غيره بالكتابة واختلف في الكتابة هل هي فرض أم لا فقيل هي فرض على الكفاية كالجهاد ونحوه عن الشعبي وجماعة من المفسرين واختاره الرماني والجبائي وجوز الجبائي أن يأخذ الكاتب والشاهد الأجرة على ذلك .

 قال الشيخ أبو جعفر الطوسي وعندنا لا يجوز ذلك والورق الذي يكتب فيه على صاحب الدين دون من عليه الدين ويكون الكتاب في يده لأنه له وقيل واجب على الكاتب أن يكتب في حال فراغه عن السدي وقيل واجب عليه أن يكتب إذا أمر عن مجاهد وعطا وقيل إن ذلك في الموضع الذي لا يقدر فيه على كاتب غيره فيضر بصاحب الدين إن امتنع فإذا كان كذلك فهو فريضة وإن قدر على كاتب غيره فهو في سعة إذا قام به غيره عن الحسن وقيل كان واجبا ثم نسخ بقوله {ولا يضار كاتب ولا شهيد} عن الضحاك .

 {فليكتب} أمر للكاتب أي فليكتب الصك على الوجه المأمور به وكانت الكتبة على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) فيهم قلة فلذلك أكد بقوله {فليكتب} إذ الجمع بين الأمر بالشيء والنهي عن تركه أدعى إلى فعله من الاقتصار على أحدهما ثم بين سبحانه كيفية الإملاء على الكاتب فقال سبحانه {وليملل الذي عليه الحق} يعني المديون يقر على نفسه بلسانه ليعلم ما عليه فليكتب {وليتق الله ربه} أي الذي عليه الحق في الإملاء {ولا يبخس} أي ولا ينقص {منه} أي من الحق {شيئا} لا من قدره ولا من صفته ثم بين الله تعالى حال من لا يصح منه الإملاء فقال {فإن كان الذي عليه الحق سفيها} أي جاهلا بالإملاء عن مجاهد وقيل صغيرا طفلا عن السدي والضحاك وقيل عاجزا أحمق عن ابن زيد {أو ضعيفا} أي ضعيف العقل من عته أو جنون وقيل شيخا خرفا {أولا يستطيع أن يمل هو} أي مجنونا وقيل عييا أخرس عن ابن عباس وقيل الأقرب أن يحمل على ثلاث صفات لكيلا يؤدي إلى التكرار .

 ثم اختلف في ذلك فقيل السفيه المجنون والضعيف الصغير ومن لا يستطيع أن يمل الأخرس ونحوه ثم يدخل في كل واحد من هو في معناه وقيل السفيه المبذر والضعيف الصبي المراهق ومن لا يستطيع أن يمل المجنون عن القاضي {فليملل وليه بالعدل} قيل معناه فليملل ولي الذي عليه الحق إذا عجز عن الإملاء بنفسه عن الضحاك وابن زيد وقيل معناه ولي الحق وهو الذي له الحق عن ابن عباس لأنه أعلم بدينه فيملي بالحق والعدل .

 ثم أمر سبحانه بالإشهاد فقال {واستشهدوا شهيدين من رجالكم} يعني اطلبوا الشهود وأشهدوا على المكتوب رجلين من رجالكم أي من أهل دينكم وقال مجاهد معناه من الأحرار العالمين البالغين المسلمين دون العبيد والكفار والحرية ليست بشرط عندنا في قبول الشهادة وإنما اشترط الإسلام مع العدالة وبه قال شريح والليثي وأبو ثور وقيل هذا أمر للقضاة بأن يلتمسوا عند القضاء بالحق شهيدين من المدعي عند إنكار المدعي عليه فيكون السين في الحالتين سين السؤال والطلب .

 {فإن لم يكونا رجلين} يعني فإن لم يكن الشهيدان رجلين {فرجل وامرأتان} أي فليكن رجل وامرأتان أو فليشهد رجل وامرأتان {ممن ترضون من الشهداء} عدالته وهذا يدل على أن العدالة شرط في الشهود ويدل أيضا على أنا لم نتعبد بإشهاد مرضيين على الإطلاق لقوله {ممن ترضون} ولم يقل من المرضيين لأنه لا طريق لنا إلى معرفة من هو مرضي عند الله تعالى وإنما تعبدنا بإشهاد من هو مرضي عندنا في الظاهر وهومن نرضى دينه وأمانته ونعرفه بالستر والصلاح {أن تضل إحداهما} أي تنسى إحدى المرأتين .

 {فتذكر إحداهما الأخرى} قيل هومن الذكر الذي هو ضد النسيان عن الربيع والسدي والضحاك وأكثر المفسرين والتقدير فتذكر إحداهما الأخرى الشهادة التي تحملتاها ومن قرأ فتذكر بالتخفيف من الإذكار فهو بهذا المعنى أيضا أي يقول لها هل تذكرين يوم شهدنا في موضع كذا وبحضرتنا فلان أو فلانة حتى تذكر الشهادة وهذا لأن النسيان يغلب على النساء أكثر مما يغلب على الرجال وقيل هومن الذكر أي يجعلها كذكر من الرجال عن سفيان بن عيينة والأول أقوى .

 فإن قيل لم كرر لفظة إحداهما وهلا قال فتذكرها الأخرى فجوابه على وجهين ( أحدهما ) أنه إنما كرر ليكون الفاعل مقدما على المفعول ولو قال فتذكرها الأخرى لكان قد فصل بين الفعل والفاعل بالمفعول وذلك مكروه ( والثاني ) ما قاله حسين بن علي المغربي إن معناه إن تضل إحدى الشهادتين أي تضيع بالنسيان فتذكر إحدى المرأتين الأخرى لئلا يتكرر لفظ إحداهما بلا معنى ويؤيد ذلك أنه لا يسمى ناسي الشهادة ضالا ويقال ضلت الشهادة إذا ضاعت كما قال سبحانه قالوا ضلوا عنا أي ضاعوا منا .

 ثم خاطب سبحانه الشهود فقال {ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا} وفي معناه ثلاثة أقوال ( أحدها ) أن معناه ولا يمتنع الشهداء إذا دعوا لإقامة الشهادة عن مجاهد وعطا وسعيد بن جبير وهذا إذا كانوا عالمين بالشهادة على وجه لا يرتابون فيه ولم يخافوا من أدائها ضررا ( والثاني ) أن معناه إذا دعوا لإثبات الشهادة وتحملها عن قتادة والربيع ( والثالث ) أن معناه إذا دعوا إلى إثبات الشهادة وإلى إقامتها عن ابن عباس والحسن وعن أبي عبد الله (عليه السلام) وهو أولى لأنه أعم فائدة .

 {ولا تسئموا} أي ولا تضجروا ولا تملوا {أن تكتبوا} أي تكتبوا الحق {صغيرا} كان الحق {أو كبيرا} وقيل إن هذا خطاب للشاهد ومعناه لا تملوا أن تكتبوا الشهادة على الحق {إلى أجله} أي إلى أجل الدين وقيل معناه إلى أجل الشاهد أي إلى الوقت الذي تجوز فيه الشهادة والأول أقوى {ذلكم} الكتاب أو كتابة الشهادة والصك {أقسط} أي أعدل {عند الله} لأنه سبحانه أمر به واتباع أمره أعدل من تركه {وأقوم للشهادة} أي أصوب للشهادة وأبعد من الزيادة والنقصان والسهو والغلط والنسيان وقيل معناه أحفظ للشهادة مأخوذ من القيام على الشيء بمعنى الحفظ {وأدنى ألا ترتابوا} أي أقرب إلى أن لا تشكوا في مبلغ الحق والأجل {إلا أن تكون تجارة} معناه إلا أن تقع تجارة أي مداينة ومبايعة حاضرة حالة يدا بيد ومن قرأ بالنصب فمعناه إلا أن تكون التجارة تجارة {حاضرة تديرونها بينكم} أي تتناقلونها من يد إلى يد نقدا لا نسيئة .

 {فليس عليكم جناح} أي حرج وضيق {ألا تكتبوها} ومعناه فليس عليكم إثم في ترك كتابتها لأن الكتابة للوثيقة ولا يحتاج إلى الوثيقة إلا في النسيئة دون النقد {وأشهدوا إذا تبايعتم} أي وأشهدوا الشهود على بيعكم إذا تبايعتم وهذا أمر على الاستحباب والندب عن الحسن وجميع الفقهاء . وقال أصحاب الظاهر الإشهاد فرض في التبايع {ولا يضار كاتب ولا شهيد} أصله يضارر بكسر الراء الأولى عن الحسن وقتادة وعطا وابن زيد فيكون النهي للكاتب والشاهد عن المضارة فعلى هذا فمعنى المضارة أن يكتب الكاتب ما لم يمل عليه ويشهد الشاهد بما لم يستشهد فيه أو بأن يمتنع من إقامة الشهادة .

وقيل الأصل فيه لا يضارر بفتح الراء الأولى عن ابن مسعود ومجاهد فيكون معناه لا يكلف الكاتب الكتابة في حال عذر ولا يتفرغ إليها ولا يضيق الأمر على الشاهد بأن يدعى إلى إثبات الشهادة وإقامتها في حال عذر ولا يعنف عليهما قال الزجاج والأول أبين لقوله {وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم} فالفاسق أشبه بغير العدل وبمن حرف الكتاب منه بالذي دعا شاهدا ليشهد أودعا كاتبا ليكتب وهو مشغول وقال غيره معناه وإن تفعلوا مضارة الكاتب والشهيد فإن المضارة في الكتابة والشهادة فسوق بكم أي خروج عما أمر الله سبحانه به .

 {واتقوا الله} فيما أمركم به ونهاكم عنه {ويعلمكم الله} ما تحتاجون إليه من أمور دينكم {والله بكل شيء عليم} أي عليم بذلك وبكل ما سواه من المعلومات وذكر علي بن إبراهيم بن هاشم في تفسيره أن في البقرة خمسمائة حكم وفي هذه الآية خاصة خمسة عشر حكما .

ثم ذكر سبحانه حكم الوثيقة بالرهن عند عدم الوثيقة بالإشهاد فقال {وإن كنتم} أيها المتداينون المتبايعون {على سفر} أي مسافرين {ولم تجدوا كاتبا} للصك ولا شهودا تشهدونهم {فرهان مقبوضة} تقديره فالوثيقة رهن فيكون رهن خبر مبتدأ محذوف ويجوز أن يكون التقدير فرهان مقبوضة يقوم مقام الوثيقة بالصك والشهود والقبض شرط في صحة الرهن فإن لم يقبض لم ينعقد الرهن بالإجماع {فإن أمن بعضكم بعضا} أي فإن أمن صاحب الحق الذي عليه الحق ووثق به وائتمنه على حقه ولم يستوثق منه بصك ولا رهن {فليؤد الذي اؤتمن} أي الذي عليه الحق {أمانته} بأن لا يجحد حقه ولا يبخس منه شيئا ويؤديه إليه وافيا وقت محله من غير مطل ولا تسويف وأراد بقوله {أمانته} أي ما اوتمن فيه فهو مصدر بمعنى المفعول .

 {وليتق الله ربه} معناه وليتق الذي عليه الحق عقوبة الله ربه فيما اؤتمن عليه بجحوده أو النقصان منه {ولا تكتموا الشهادة} يعني بعد تحملها وهو خطاب للشهود ونهي لهم عن كتمان الشهادة إذا دعوا إليها {ومن يكتمها} أي ومن يكتم الشهادة مع علمه بالمشهود به وعدم ارتيابه فيه وتمكنه من أدائها من غير ضرر بعد ما دعي إلى إقامتها {فإنه آثم قلبه} أضاف الإثم إلى القلب وإن كان الآثم هو الجملة لأن اكتساب الإثم بكتمان الشهادة يقع بالقلب لأن العزم على الكتمان إنما يقع بالقلب ولأن إضافة الإثم إلى القلب أبلغ في الذم كما أن إضافة الإيمان إلى القلب أبلغ في المدح قال تعالى {أولئك كتب في قلوبهم الإيمان} .

 {والله بما تعملون} أي ما تسرونه وتكتمونه {عليم} وروي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) أنه قال لا ينقضي كلام شاهد زور من بين يدي الحاكم حتى يتبوأ مقعده من النار وكذلك من كتم الشهادة وفي قوله تعالى {فإن أمن بعضكم بعضا} دلالة على أن الإشهاد والكتابة في المداينة ليسا بواجبين وإنما هو على سبيل الاحتياط وتضمنت هذه الآية وما قبلها من بدائع لطف الله تعالى ونظره لعباده في أمر معاشهم ومعادهم وتعليمهم ما لا يسعهم جهله ما فيه بصيرة لمن تبصر وكفاية لمن تفكر .

_________________________

1- مجمع البيان ، الطبرسي ، ج2 ، 219-225 .

 

تفسير الكاشف
- ذكر محمد جواد مغنية في تفسير هاتين الآيتين (1) :

 

ذكر اللَّه سبحانه في آخر هذه السورة أحكاما شرعية تتعلق بالصدقات والربا والدّين والتجارة والرهن ، وتقدم الكلام عن الصدقة والربا ، والكلام الآن في بعض مسائل الدّين والرهن والتجارة ، وقد اهتمت الآية كثيرا بكتابة الدين ، والاشهاد عليه ، حيث أمر اللَّه بالكتابة أولا بقوله : {فَاكْتُبُوهُ } . وثانيا :

{ولا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ } . وثالثا في بيان الحكمة من الكتابة والاشهاد :

{ ذلِكُمْ أَقْسَطُ . .} {وأَقْوَمُ . .} {وأَدْنى } .

وبالرغم من ذلك فان أكثر فقهاء المذاهب لم يوجبوا الكتابة في الدين ، ولا في البيع ، ولا الاشهاد عليهما ، وحملوا الأمر بذلك على الاستحباب ، ويؤيد قولهم بالاستحباب ان اللَّه سبحانه بعد أن أمر بالكتابة والاشهاد قال : { فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ } . أي إذا أئتمن الدائن المديون من غير صك ولا إشهاد فعلى المديون الوفاء ، وهذا ترخيص ظاهر بترك الكتابة والاشهاد ، وقريبا يأتي تفسير هذه الآية ، وهي {فَإِنْ أَمِنَ } .

{ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ } . التداين على وزن تفاعل ، أي داين بعضكم بعضا ، ويأتي التداين لمعنيين : الأول التداين بالمال . الثاني المجازاة ، قال الإمام علي ( عليه السلام ) : كما تدين تدان ، ولما كان اللفظ محتملا لهذين المعنيين قال تعالى : تداينتم بدين ، دفعا لإرادة المجازاة من التداين ، والأجل الوقت المضروب لانقضاء الأمد ، والمسمى هو الذي يعين بالتسمية ، كالسنة والشهر ، وقوله تعالى : {فَاكْتُبُوهُ}  أمر بكتابة الدّين ، والأمر يدل على الوجوب ، ولكن جرت سيرة المسلمين منذ القديم على عدم الالتزام بكتابة الدّين والاشهاد عليه ، فتعين حمل الأمر على الندب والإرشاد .

بين القرض والدّين :

يشترك الدّين مع القرض في ان كلا منهما يتوقف الانتفاع به على استهلاكه ، وانه حق ثابت في الذمة ، ويفترق القرض عن الدّين في ان العين المقترضة تسدد بمثلها في الجنس والصفات ، فإذا استقرضت نقدا ثبت في ذمتك للمقرض نقد مثله ، وكذا إذا استقرضت طعاما أو شرابا أو ثوبا ، وعلى هذا ينحصر القرض في المثليات دون القيميات .

أما الدّين فيثبت في الذمة بسبب من الأسباب الموجبة له ، كالقرض ، والبيع نسيئة ، والزواج بمهر مؤجل ، والجناية ، وما إلى هذه ، وعلى هذا يكون الدّين أعم من القرض ، ويقضى بمثله ان كان مثليا ، وبقيمته ان كان قيميا .

{ولْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ} . لما كان الغرض من كتابة الدين ضمان الحق لكل من الدائن والمدين ، ودفع التنازع والتخاصم بينهما - لما كان كذلك وجب أن يكون الكاتب أمينا عارفا بأحكام الدين ، إذ لوكان جاهلا ، أو متحيزا انتقض الغرض المقصود .

وتسأل : لما ذا قال : ليكتب كاتب بالعدل ، ولم يقل : ليكتب بينكم كاتب عادل ؟

الجواب : لأن الكتابة بين الناس لا يشترط فيها أن يتصف الكاتب بالعدالة بمعناها الشرعي ، كما هو الشأن في القاضي والمفتي وإمام الجماعة في الصلاة ، لأن الغرض من كتابة الدّين ضمان الحق وصيانته ، كما أشرنا ، ويكفي لذلك أن يكون الكاتب عادلا في هذه الجهة فقط ، لا في جميع أقواله وأفعاله . . ومن هنا يمكن القول بأن هذه الآية تشعر بأن الشاهد لا يشترط فيه العدالة الشرعية ، بل يكفي الثقة بكونه صادقا وعادلا في شهادته ، لم يتحيز فيها لأحد المتخاصمين ، ونحمل عدالة الشاهد التي وردت في الأخبار على العدالة النسبية ، دون العدالة المطلقة .

وان قال قائل : ان إعطاء حكم كاتب الدين للشاهد قياس ، وأنت من القائلين ببطلانه ؟ .

قلنا في جوابه : ان كاتب الدين شاهد على من أملى عليه الدين ، وان لم يسمّ شاهدا عند العرف ، وبكلمة ان للشاهد فردين لافظا وكاتبا ، هذا يشهد بالكلام المكتوب ، وذاك يشهد بالكلام الملفوظ ، والكتابة أخت اللفظ .

{ولا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ } . المراد بعلمه اللَّه أمره والمأمور به الكتابة بالعدل ، ومن غير تحيز ، وقوله : {فَلْيَكْتُبْ}  تأكيد لقوله : {لا يَأْبَ } . وسر هذا التأكيد ان الذين يحسنون الكتابة آنذاك كانوا قلة ، فإذا ما امتنع الكاتب تعذر الاستعانة بغيره .

وتسأل : ان قوله تعالى : {ولا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ } نهي ، والنهي يدل على التحريم ، ومعنى هذا ان الكاتب يجب عليه أن يلبي إذا دعي إلى كتابة الدين ، مع العلم بأن هذه الكتابة ندب لا فرض ، فكيف زاد الفرع على الأصل ؟ .

الجواب : كما حملنا قوله تعالى : { فَاكْتُبُوهُ } على الاستحباب دون الوجوب نحمل قوله : ( لا يَأْبَ ) على الكراهة دون التحريم . . اللهم الا إذا تيقن المدعو إلى الكتابة بأن امتناعه سبب تام للفساد ، ووقوع المتخاصمين في الحرام . . فعندها يحرم عليه أن يمتنع ، ولكن من باب دفع الفساد ، لا من باب وجوب كتابة الدين .

{ولْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ ولْيَتَّقِ اللَّهً رَبَّهُ ولا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً} . يملل ، أي يملي ، والذي عليه الحق هو المديون ، والضمير في منه يعود على الدين ، أو على الحق ، والمعنى ان المديون يجب أن يلقي على كاتب الدين الحق الذي عليه للدائن ، دون نقصان ، يلقيه بلفظ صريح واضح ، ليكون إقرارا منه بالحق يلزم به هو أو ورثته عند الاقتضاء ، فربما توفي قبل وفاء الدين ، وتمنع الورثة عن الدفع ، فيذهب الحق على صاحبه إذا لم يكن بيده حجة من غريمه تثبت دعواه .

وهذا أقل ما يجب على المديون تجاه صاحب الدين الذي قضى حاجته ، وحل مشكلته ساعة العسرة ، وقد رأيت أكثر من واحد يخفض جناح الذل لصاحب المال من الحاجة راجيا أن يقرضه ما يسد به الضرورة ، حتى إذا استجاب صاحب المال ، وأحسن تنكر له المديون ، واتخذه عدوا ، ووصفه بكل قبيح ، لا لشيء الا لأنه طالبه بحقه . وفضلا عن ان مقابلة الإحسان بالإساءة حرام شرعا وعقلا فإنها تنبئ عن الخبث واللؤم .

شكر الخالق والمخلوق :

قال تعالى في الآية 14 من سورة لقمان : {أَنِ اشْكُرْ لِي ولِوالِدَيْكَ} .

وفي الحديث : (لا يشكر اللَّه من لا يشكر الناس) . وفي حديث آخر :

(من أسدى معروفا إلى انسان ، فشكر الخالق ، وقال : الشكر للَّه . وتجاهل صاحب المعروف ، فان اللَّه سبحانه لا يقبل منه الشكر ، حتى يشكر من أجرى المعروف على يده . .) ومن هنا اشتهر : من لا يشكر المخلوق لا يشكر الخالق ، ولهذه الملازمة أسرار :

1 - ان العقل والشرع يحكمان بوجوب شكر المنعم ، أي منعم كان ، ومن ترك هذا الشكر فقد عصى اللَّه سبحانه ، والعصيان كفر وجحود لأنعمه جل وعلا .

2 - ان كرامة الإنسان من كرامة اللَّه ، وفي الحديث : (ان اللَّه يقول يوم القيامة لعبد من عباده : ما منعك إذا مرضت أن تعودني ؟ . فيقول العبد :

سبحانك أنت رب العباد ، لا تألم ولا تمرض . . فيقول اللَّه : مرض أخوك المؤمن ، فلم تعده ، فو عزتي وجلالي لوعدته لوجدتني عنده ، ثم لتكفلت بحوائجك ، وقضيتها لك ، وذلك من كرامة عبدي ، وأنا الرحمن الرحيم) .

3 - ان شكر المحسن من الوفاء ، والوفاء دليل الصدق والإيمان ، بل هو أصل الفضائل ، فحيث يوجد الوفاء يوجد الصدق والإخلاص والأمانة والتضحية . .

والوفاء لا يتجزأ ، فمن يفي لمن أحسن إليه فإنه يفي أيضا للأهل والأصدقاء والوطن ، وللإنسانية جمعاء ، ومن غدر بمن أحسن إليه ، أو تجاهله ، فإنه يتجاهل ويغدر أيضا بأهله وأصدقائه ووطنه ، ومن هنا قيل بحق : من لا وفاء عنده لا دين له .

وأروع ما يكون الوفاء في وقت المحنة وساعة العسرة ، لأن الوفاء في وقت النعمة والميسرة وفاء للمال ، لا لصاحبه ، وللدنيا ، لا لمن هي في يده .

{فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَو ضَعِيفاً أَولا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُو فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ } . السفيه المبذر الذي لا يحسن التصرف في المال ، والضعيف الصبي ، ومن لا يستطيع الإملاء المجنون ، كل هؤلاء لا يصح منهم الإملاء والإقرار ، فلا بد أن يقوم مقامهم من يتولى شؤونهم ، ويقوم بعنايتهم . .

وتجمل الإشارة إلى أن الولي على قسمين : ولي خاص ، وهو الأب والجد للأب ، وولي عام ، وهو الحاكم الشرعي الجامع بين الاجتهاد والعدالة ، ولا ولاية له إلا مع فقد الأب والجد ، والتفصيل في كتب الفقه ومنها الجزء الخامس من كتاب فقه الإمام جعفر الصادق .

{واسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ } . هذا هو النوع الثاني من الأمور التي اعتبرها اللَّه في الدين ، الأول الكتابة ، والثاني الاشهاد ، واستشهدوا ، أي أشهدوا ، يقال : استشهدت الرجل ، واشهدته بمعنى واحد ، والشهيدان هما الشاهدان ، وقد اعتبر القانون الوضعي وجود شاهدين في تحرير العقود الرسمية ، تماما كما جاء في القرآن ، وقوله : {مِنْ رِجالِكُمْ } استدل به الفقهاء على ان الشاهد يشترط فيه الإسلام .

وقال الشيعة الإمامية والحنفية : هذا إذا كان المشهود عليه مسلما ، أما إذا كان غير مسلم فان شهادة أهل ملة تقبل على ملتهم . وقال المالكية والشافعية :

لا تقبل شهادة غير المسلم ، حتى ولوكان على مثله . ( المغني وفتح القدير ، باب الشهادة ) .

{فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وامْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ } . تثبت الحقوق المالية بشهادة رجلين ، ورجل وامرأتين ، ورجل ويمين باتفاق المذاهب إلا أبا حنيفة فإنه قال : لا يقضى بشاهد ويمين . والقرآن الكريم ذكر شهادة الرجلين ، والرجل والمرأتين فقط . أما ثبوت الحق المالي بالشاهد واليمين فقد صرحت به السنة النبوية .

وتسأل : هل يثبت الحق المالي بشهادة النساء فقط ؟ ثم هل يثبت بشهادة المرأتين ويمين ، كما ثبت بشهادة الرجل واليمين ؟

الجواب : اتفقت المذاهب على ان الحقوق في المال لا تثبت بشهادة النساء مفردات عن الرجال ، وبدون يمين ، واختلفت في ثبوتها بشهادة امرأتين ويمين . قال المالكية والإمامية : يثبت ، وقال غيرهم : لا يثبت .

وقوله تعالى : {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ}  يحتمل معنيين : المعنى الأول أن يكون المراد من الرضا خصوص الرضا لنفس هذه الشهادة الخاصة ، لا للشهود بما هم مرضيون دينا وصلاحا بصرف النظر عن شهادتهم هذه وغيرها ، وعلى هذا فلا تشترط العدالة في الشاهد ، بل يكفي أن يثق القاضي بأن شهادة الشاهد مطابقة للواقع ، كما هو شأن الشهادة في القوانين الوضعية ، حيث تركت تقدير الشهادة للقاضي وحده .

المعنى الثاني أن يكون المراد الرضا للشهود أنفسهم بما هم مرضيون دينا وصلاحا ، وعليه فلا بد من عدالة الشاهد نفسه . . ان لفظ الآية يحتمل هذا المعنى والمعنى الأول ، ولكن الاخبار وفتوى الفقهاء يرجحان إرادة العدالة في الشاهد نفسه . . قال الإمام علي ( عليه السلام ) : (اشهدوا ممن ترتضون دينه وأمانته وصلاحه وعفته ، وعلى هذا إذا شهد العدلان فعلى القاضي أن يحكم بموجب شهادتهما ، سواء أحصل له العلم من قولهما ، أم لم يحصل تعبدا بالنص ، أما إذا شهد عنده غير العدول فلا يحكم بشهادتهم الا إذا حصل له العلم من أقوالهم ، بحيث يكون العلم هو المصدر للحكم ، لا شهادة غير العدول .

{ أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الأُخْرى } . هنا سؤالان :

الأول : لما ذا قال : ان تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى ، ولم يقل فتذكرها الأخرى ، فأعاد الاسم الظاهر ، وهو إحداهما في جملتين لا فاصل بينهما بعيد أو قريب ؟ .

وأجيب عن ذلك بوجوه خيرها جميعا ان شهادة المرأتين لما كانت بمنزلة شهادة الرجل الواحد وجب الجمع بين المرأتين لتؤدي كل منهما شهادتها على مسمع من الثانية ، حتى إذا تركت شيئا من الشهادة ذهولا عنه ذكرتها الأخرى ، فإذا انتهت الأولى أدت الثانية بمحضر من زميلتها ، ومثلت الدور الذي مثلته تلك ، وعليه تكون شهادة كل منهما متممة لشهادة الأخرى ، وهذا المعنى لا يتأدى الا بإعادة لفظ إحداهما ، لكي ينطبق على الاثنتين ، ولو قال فتذكرها الأخرى لكان المعنى لئلا تنسى واحدة فتذكر الثانية ، فتكون إحداهما ناسية ، والأخرى ذاكرة ، وليس هذا بمراد ، وانما المراد ان كلا منهما تذكر الأخرى كما قدمنا .

وتجمل الإشارة إلى انه لا يجب الجمع بين الشهود إذا كانوا رجالا ، بل التفريق أولى على العكس من النساء الشاهدات .

السؤال الثاني : ما هو السر في ان شهادة امرأتين تساوي شهادة الرجل الواحد ؟ .

وأجيب عن هذا السؤال بأوجه ، منها ان المرأة ضعيفة العقل ، ومن الطريف جواب بعض المفسرين بأن مزاج المرأة تكثر فيه الرطوبة . . ولو صح هذا القول يكون كل رطب المزاج نصف شاهد ، حتى ولوكان رجلا ، وكل حار المزاج يكون شاهدا كاملا ، حتى ولوكان امرأة . . وأرجح الأقوال نسبيا ان الرجل يملك عاطفته وهواه أكثر من المرأة - غالبا - والجواب الصحيح ان علينا ان نتعبد بالنص ، حتى ولو جهلنا الحكمة منه .

وتجمل الإشارة إلى أن القاضي قد تركن نفسه إلى شهادة امرأة واحدة ، ويحصل له العلم من قولها أكثر مما تركن نفسه إلى شهادة عشرة رجال غير عدول . .

والقاضي يجوز له أن يقضي بعلمه إذا تكوّن هذا العلم من ظروف الدعوى وملابساتها وقرائنها ، ولو كانت هذه القرينة شهادة امرأة ، ما دامت وسيلة للعلم أو الاطمئنان .

{ولا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا } . إذا دعاك داع لتشهد له على حق أودين وجب عليك أن تستجيب لدعوته على الكفاية ، أي إذا قام غيرك بهذه المهمة سقط الوجوب عنك ، والا كنت مسؤولا أمام اللَّه سبحانه ، والدليل هذه الآية ، والحديث الشريف : (إذا دعاك الرجل ، لتشهد له على حق أودين فلا يسعك أن تتقاعس عنه) .

{ولا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَو كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ } . السأم الملال ، والضمير في تكتبوه يعود إلى الدين أو الحق ، والقصد هو الحث على كتابة الدين من غير فرق بين قليله وكثيره ، ما دام الغرض التحفظ من وقوع النزاع والخلاف .

{ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وأَدْنى أَلَّا تَرْتابُوا} . أي ان كتابة الدين والاشهاد عليه أعدل وأبلغ في الاستقامة وأقرب إلى نفي الشك والارتياب .

وتسأل : ان اللَّه سبحانه أمر بالكتابة أولا في قوله : ( فَاكْتُبُوهُ ) وثانيا : {ولا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ } . وثالثا أشار إلى الحكمة من ذلك بأن الكتابة أقسط وأقوم وأدنى ، ومع كل هذا فقد أفتى الفقهاء باستحباب الكتابة ، لا بوجوبها ، لسيرة المسلمين القطعية منذ الصدر الأول ، حتى اليوم ، ونحن معهم في ذلك ، ولكن هناك شيء آخر غير كتابة الدين ، والاشهاد عليه ، وهوان الفقهاء قد أوجبوا على القاضي أن يحكم بموجب البينة العادلة ، حتى ولولم يحصل له العلم منها ، وما ذاك إلا تعبدا بالنص . . ولكن الفقهاء لم يعتبروا الكتابة وسيلة من وسائل الإثبات كالبينة ، وقالوا : لا يجوز الحكم بموجبها الا إذا أوجبت العلم أو الاطمئنان . . ألا يدل هذا الأمر المتكرر بالكتابة على انها طريق لاثبات الحق ، ولو بالدلالة الالتزامية ؟ . .

الجواب : ان الأمر بكتابة الدين صونا للحق الثابت شيء ، واعتبار البينة العادلة طريقا لاثبات الحق شيء آخر ، ومن هنا يجب الحكم بموجب البينة ، سواء أقرّ بها المحكوم عليه ، أو أنكرها ، أما الكتابة فلا بد من سؤال المدعى عليه عنها ، فان أقر بها دخلت في باب الإقرار ، وان أنكرها احتاج إثباتها إلى وسيلة من وسائل الإثبات كالبينة أو اليمين أو الاختبار والمقابلة بينها وبين خط الكاتب ، وعليه فلا تكون الكتابة وسيلة مستقلة بذاتها ، كما هو الشأن في البينة .

{ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلَّا تَكْتُبُوها } .

المصدر من ان وصلتها في محل نصب على الاستثناء المنقطع ، لأن الكلام المتقدم كان في كتابة الدين المؤجل ، والكلام هنا في التجارة الحاضرة ، وإباحة عدم كتابتها ، ومعنى التجارة الحاضرة البيع بثمن معجل ، لا مؤجل ، ومعنى تديرونها

بينكم تتناقلونها من يد إلى يد ، فيأخذ البائع الثمن من المشتري ، ويأخذ المشتري المثمن من البائع ، وينتقل بذلك ما كان في يد كل إلى ملك الآخر .

ومحصل المعنى من مجموع الكلام انه لا بأس عليكم بترك الكتابة في المعاملات التجارية التي تقع بينكم بثمن معجل ، أما السر لإباحة ترك الكتابة في ذلك فلأن مثل هذا البيع المعروف ببيع المعاطاة يجري كثيرا بين الناس ، فلو كلفوا بكتابة الصكوك لكل المبيعات لشق الأمر عليهم ، بخاصة في الأشياء الصغيرة .

وكيف كان ، فان المسائل التجارية يوكل الشارع الأقدس أمرها إلى الناس يديرونها بينهم حسبما تستدعيه مصالحهم ، فان كانت المصلحة في الكتابة والتسجيل فعلوا ، كما هو شأنهم في بيع العقارات ، وغيرها من المنقولات الثمينة كالسيارات ، وما إليها ، وان كانت المصلحة في ترك الكتابة تركوها ، كما هي عادتهم في بيع المأكول والملبوس . . وإذا أمر اللَّه بكتابة الدين والبيع ، أو رخص بتركها فإنما يأمر استحبابا وإرشادا إلى ما يجنبهم المشاكل والمتاعب . . أجل ، انه تعالى ينهاهم تحريما عن الغش والتغرير ، والربا والاستغلال ، وأكل المال بالباطل من غير عوض ومقابل .

وتسأل : ان نفي الجناح عن ترك كتابة التجارة الحاضرة يشعر بأن ترك كتابة الديون فيه جناح ، وعليه تكون كتابة الديون واجبة خلافا لما عليه الفقهاء الذين قالوا باستحبابها ، لا بوجوبها .

الجواب : ان المراد بقوله تعالى : {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلَّا تَكْتُبُوها}  نفي البأس والمضرة الدنيوية ، لا نفي الإثم والمضرة الأخروية ، كي يكون الأمر بكتابة الديون للوجوب .

{وأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ } . اتفق الفقهاء على ان الاشهاد على البيع ندب ، لا فرض إلا الظاهرية ، فإنهم قالوا بأنه فرض ، لا ندب عملا بظاهر اللفظ .

{ولا يُضَارَّ كاتِبٌ ولا شَهِيدٌ} . إذا اتفق المتبايعان على الكتابة والاشهاد في الدين أو البيع فعلى الكاتب أن يكتب بالعدل ، وعلى الشاهد أن يشهد بالحق . .

وتقدم الكلام عن لفظ لا يضار واعرابه في الآية 233 ، وهو قوله تعالى : {لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها } .

{وإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ } . الفسوق هو الخروج عن طاعة اللَّه ، وكل من

فعل شيئا نهى اللَّه عنه ، أوترك شيئا أمر اللَّه به فهو فاسق خارج عن طاعة اللَّه ، مستحق لغضبه وعقابه . {واتَّقُوا اللَّهً } في الطاعة لجميع أوامره ونواهيه .

{ ويُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ واللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } . يعلمكم ما فيه خير لكم دينا ودنيا .

وبديهة ان اللَّه سبحانه لا يعلمنا مباشرة ، ولا يلقي العلم في عقولنا وقلوبنا إلقاء ، وانما يعلمنا بواسطة الوحي الذي ينزله على أنبيائه ، هذا الوحي الذي يتضمن كل ما فيه هدايتنا وإرشادنا إلى المصالح التي تضمن بقاءنا وسعادتنا .

مع الصوفية :

قال الصوفية كلهم أوجلهم : لا سبيل إلى المعرفة والعلم باللَّه ووحيه ، والشريعة وأسرارها إلا الايمان والتقوى ، فمن اتقى اللَّه عرفه وعرف شريعته وأحكامها ، وعرف الآخرة وأهوالها ، وفهم القرآن والحديث من غير درس وتعلم ، ويسمون علمهم هذا بالعلم اللدني ، واستدلوا بأدلة منها قوله تعالى :

{واتَّقُوا اللَّهً ويُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ } . ولفظ الآية الكريمة يأبى هذا الاستدلال ، لأنه لوكان كما قالوا لجزم يعلمكم جوابا لاتقوا ، ولأقترن الجواب بالفاء ، لا بالواو . .

هذا ، إلى ان من أمعن الفكر في قول الصوفية هذا يجده أشبه بهذيان المحموم الذي يلغو ويقول : ان البيت لا يتم بناؤه إلا بعد السكن فيه ، وان الثوب لا يتم نسيجه إلا بعد لبسه .

ولا أدري كيف يدعي الصوفية العلم بالحديث ، وقد تواتر عن الرسول ( صلى الله عليه واله  ) :

(اطلبوا العلم ولو بالصين . . العلم بالتعلم) ؟ ونحن لا نشك أبدا في أن النظريات تتبلور بالتطبيق والعمل ، وان العالم العامل تتفتح له أبواب بمعلومات جديدة ، ولكن هذا شيء ، وكون التقوى وسيلة إلى المعرفة شيء آخر .

{وإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ ولَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ } . بعد ان أمر اللَّه بكتابة الدين صيانة له جعل الرهن وثيقة له بدلا عن الكتابة ، حيث تتعذر في السفر .

واتفق الفقهاء على ان عقد الرهن لا يتم إلا بالقبض ، واستدلوا بقوله تعالى :

( فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ ) . والتفصيل في كتب الفقه ، ومنها الجزء الرابع من فقه الإمام جعفر الصادق .

وتسأل : ان الرهن جائز في السفر والحضر ، ومع وجود الكاتب وعدمه ، فما هو القصد من التقييد بالسفر ، وعدم وجود الكاتب ؟

وتخطى بعض المفسرين هذا السؤال ، وتجاهله بالمرة ، مع انه يسبق إلى ذهن كل عارف بالأحكام الشرعية . . وأجاب أكثرهم عنه بأن اللَّه أجراه على الأعم الأغلب ، إذ الغالب في السفر عدم وجود الكاتب في ذاك العصر . . ويلاحظ بأن الغالب في السفر أيضا عدم وجود الرهن ، ومن الذي يحمل في سفره أشياءه التي يمكن رهنها إلا ما ندر ؟

والجواب الصحيح ان الآية بظاهرها تدل على عدم جواز الرهن في الحضر ، بناء على ان للشرط مفهوما ، وهو هنا : ان لم تكونوا على سفر فلا رهان ، ولكن هذا الظاهر لا يجوز الاعتماد عليه بعد أن ثبت ان النبي ( صلى الله عليه واله ) الذي نزل الوحي على قلبه لم يعمل به ، فلقد رهن درعه عند يهودي ، وهو حاضر في المدينة ، وليست هذه هي الآية الوحيدة التي نترك ظاهرها بالسنة النبوية ، ومن هنا أجمعت الأمة على عدم جواز العمل بظاهر آية من آيات الأحكام الشرعية إلا بعد البحث والتنقيب عن الأحاديث النبوية الواردة مورد الحكم المدلول للآية الكريمة .

{فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ ولْيَتَّقِ اللَّهً رَبَّهُ } . أي ان الدائن إذا أحسن الظن بالمديون ، وأعطاه بلا صك ولا رهن ولا إشهاد ثقة بصدقه ووفائه ، ان كان كذلك فعلى المديون أن يكون عند حسن ظن الدائن ، ويرد له الحق كاملا . .

وهذا الحكم عام لا يختص بالدين ، بل يشمل الأمانات بكاملها ، قال تعالى :

{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء : 58] . وقال رسول اللَّه ( صلى الله عليه واله ) : لا تنظروا إلى صلاة الرجل وصومه ، وكثرة حجه ومعروفه ، وطنطنته بالليل ، ولكن انظروا إلى صدق حديثه وأدائه للأمانة ، وقال الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) : لوان قاتل أبي ائتمنني على السيف الذي قتله به لأديته إليه .

{ولا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ ومَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} فرق بين تحمل الشهادة ، وبين الأدلاء بها بعد تحملها ، فمعنى تحمل الشهادة ان يدعوك داع لتشهد له

على حق أودين ، وتجب الإجابة هنا كفاية لا عينا كما ذكرنا في تفسير قوله تعالى : { ولا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا} . أما الأدلاء بها فهو أن يدعوك صاحب الحق بعد أن تتحمل الشهادة لتدلي بها أمام المحاكم ، ولا يسعك أن تمتنع عن إجابته إذا توقف ثبوت الحق على الاستماع إلى شهادتك ، وأمنت الضرر ، فإذا امتنعت ، والحال هذه ، فأنت آثم ، لقوله تعالى : {ولا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ ومَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ } . والمراد بآثم قلبه انه يعاقب عقاب من قصد وتعمد الإثم ، لأن القصد والعمد من صفات القلب .

_______________________________
1- الكاشف ، محمد جواد مغنية ، ج1 ، ص441-452 .

 

تفسير الميزان
- ذكر الطباطبائي في تفسير هاتين الآيتين (1) :

 

قوله تعالى : {إذا تداينتم} "إلخ" ، التداين ، مداينة بعضهم بعضا ، والإملال والإملاء إلقاء الرجل للكاتب ما يكتبه ، والبخس هو النقص والحيف والسأمة هي الملال ، والمضارة مفاعلة من الضرر ويستعمل لما بين الاثنين وغيره .

والفسوق هو الخروج عن الطاعة .

والرهان ، وقرىء فرهن بضمتين وكلاهما جمع الرهن بمعنى المرهون .

والإظهار الواقع في موقع الإضمار في قوله تعالى : {فإن كان الذي عليه الحق} ، لرفع اللبس برجوع الضمير إلى الكاتب السابق ذكره .

والضمير البارز في قوله : {أن يمل هو فليملل وليه} ، فائدته تشريك من عليه الحق مع وليه ، فإن هذه الصورة تغاير الصورتين الأوليين بأن الولي في الصورتين الأوليين هو المسئول بالأمر المستقل فيه بخلاف هذه الصورة فإن الذي عليه الحق يشارك الولي في العمل فكأنه قيل : ما يستطيعه من العمل فعليه ذلك وما لا يستطيعه هو فعلى وليه .

وقوله : {أن تضل إحداهما} ، على تقدير حذر أن تضل إحداهما ، وفي قوله : {إحداهما الأخرى} وضع الظاهر موضع المضمر ، والنكتة فيه اختلاف معنى اللفظ في الموضعين ، فالمراد من الأول إحداهما لا على التعيين ، ومن الثاني إحداهما بعد ضلال الأخرى ، فالمعنيان مختلفان .

وقوله {واتقوا} أمر بالتقوى فيما ساقه الله إليهم في هذه الآية من الأمر والنهي ، وأما قوله : {ويعلمكم الله والله بكل شيء عليم} ، فكلام مستأنف مسوق في مقام الامتنان كقوله تعالى في آية الإرث : { يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا } [النساء : 176] ، فالمراد به الامتنان بتعليم شرائع الدين ومسائل الحلال والحرام .

وما قيل : إن قوله : {واتقوا الله ويعلمكم الله} يدل على أن التقوى سبب للتعليم الإلهي ، فيه أنه وإن كان حقا يدل عليه الكتاب والسنة ، لكن هذه الآية بمعزل عن الدلالة عليه لمكان واو العطف على أن هذا المعنى لا يلائم سياق الآية وارتباط ذيلها بصدرها .

ويؤيد ما ذكرنا تكرار لفظ الجلالة ثانيا فإنه لولا كون قوله ويعلمكم الله ، كلاما مستأنفا كان مقتضى السياق أن يقال : يعلمكم بإضمار الفاعل ، ففي قوله تعالى : {واتقوا الله ويعلمكم الله والله بكل شيء عليم} ، أظهر الاسم أولا وثانيا لوقوعه في كلامين مستقلين ، وأظهر ثالثا ليدل به على التعليل ، كأنه قيل : هو بكل شيء عليم لأنه الله .

واعلم : أن الآيتين تدلان على ما يقرب من عشرين حكما من أصول أحكام الدين والرهن وغيرهما ، والأخبار فيها وفيما يتعلق بها كثيرة لكن البحث عنها راجع إلى الفقه ، ولذلك آثرنا الإغماض عن ذلك فمن أراد البحث عنها فعليه بمظانه من الفقه .

____________________________

1- الميزان ، الطباطبائي ، ج2 ، ص370-371 .

 

تفسير الامثل
- ذكر الشيخ ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هاتين الآيتين (1) :

 

تدوين الأوراق التجارية :

بعد أن شنّ القرآن على الربا والإحتكار والبخل حرباً شعواء ، وضع تعليمات دقيقة لتنظيم الروابط التجارية والاقتصادية ، لكي تنمو رؤوس الأموال نموّاً طبيعياً دون أن تعتريها عوائق أو تنتابها خلافات ومنازعات .

تضع هذه الآية التي هي أطول آيات القرآن تسعة عشر بنداً من التعليمات التي تنظّم الشؤون المالية ، نذكرها على التوالي : (2)

1 ـ إذا أقرض شخص شخصاً أو عقد صفقة ، بحيث كان أحدهما مديناً ، فلكي لا يقع أيّ سوء تفاهم واختلاف في المستقبل ، يجب أن يكتب بينهما العقد بتفاصيله {يا أيّها الذين آمنوا إذا تداينتم بدَين إلى أجل مسمّى فاكتبوه} .

من الجدير بالذكر أنّه يستعمل كلمة «دَين» هنا ولا يستعمل كلمة «قرض» ، وذلك لأنّ القرض هو تبادل شيئين متشابهين كالنقود أو البضاعة التي يقترضها المقترض ويستفيد منها ، ثمّ يعيد نقوداً أو بضاعةً إلى المقرض مثلاً بمثل . أمّا «الدَين» فأوسع معنى ، فهو يشمل كلّ تعامل ، مثل المصالحة والإيجار والشراء والبيع وأمثالها ، بحيث إنّ أحد الطرفين يصبح مديناً للطرف الآخر . وعليه فهذه الآية تشمل جميع المعاملات التي فيها دَين يبقى في ذمّة المدين ، بما في ذلك القرض .

2 ـ لكي يطمئن الطرفان على صحّة العقد ويأمنا احتمال تدخّل أحدهما فيه ، فيجب أن يكون الكاتب شخصاً ثالثاً {وليكتب بينكم كاتب} .

على الرغم من أنّ ظاهر الآية يدلّ على وجوب كتابة العقد ، يتبيّن من الآية التالية {فإن أمن بعضكم بعضاً فليؤدّ الذي اؤتمن أمانته} أنّ لزوم الكتابة يتحقّق إذا لم يطمئن الطرفان أحدهما إلى الآخر واحتمل حصول خلافات فيما بعد .

3 ـ عل كاتب العقد أن يقف إلى جانب الحقّ ، وأن يكتب الحقيقة الواقعة (بالعدل) .

4 ـ يجب على كاتب العقد ، الذي وهبه الله علماً بأحكام كتابة العقود وشروط التعامل ، أن لا يمتنع عن كتابة العقد ، بل عليه أن يساعد طرفي المعاملة في هذا الأمر الاجتماعي {ولا يأبَ كاتب أن يكتب كما علّمه الله فليكتب} .

إنّ تعبير (كما علّمه الله) حسب التفسير المذكور للتوكيد ولزيادة الترغيب . ويمكن القول إنّه يشير إلى أمر آخر ، وهو ضرورة التزامه الأمانة ، وأن يكتب العقد ، كما علّمه الله ، كتابة متقنة .

بديهيّ أنّ قبول الدعوة إلى تنظيم العقود ليست واجباً عينياً ، كما يتّضح من قوله سبحانه {ولا تسأموا أن تكتبوه صغيراً أو كبيراً} .

5 ـ على أحد الطرفين أن يملي تفاصيل العقد على الكاتب . ولكن أيّ الطرفين ؟ تقول الآية : المدين الذي عليه الحق : {وليملل الذي عليه الحقّ} .

من المتّفق عليه أنّ التوقيع المهمّ في العقد هو توقيع المدين ، ولذلك فإنّ العقد الذي يكتب بإملائه يعتبر مستمسكاً لا يمكنه انكاره (3) .

6 ـ على المدين عند الإملاء أن يضع الله نصب عينيه ، فلا يترك شيئاً إلاَّ قاله ليكتبه الكاتب (وليتّق الله ربّه ولا يبخس منه شيئاً) .

7 ـ إذا كان المدين واحداً ممّن تنطبق عليه صفة «السفيه» ، وهو الخفيف العقل الذي يعجز عن إدارة أمواله ولا يميّز بين ضرره ومنفعته ، أو «الضعيف» القاصر في فكره والضعيف في عقله المجنون ، أو «الأبكم والأصم» الذي لا يقدر على النطق ،

فإنّ لوليّه أن يملي العقد فيكتب الكاتب بموجب إملائه {فإن كان الذي عليه الحقّ سفيهاً أو ضعيفاً أولا يستطيع أن يملّ هو فليملل وليّه} .

8 ـ على «الولي» في الإملاء والإعتراف بالدَين ، أن يلتزم العدل وأن يحافظ على مصلحة موكّله ، وأن يتجنّب الإبتعاد عن الحقّ {فليملل وليّه بالعدل} .

9 ـ بالإضافة إلى كتابة العقد ، على الطرفين أن يستشهدا بشاهدين { وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ }  (4) .

10 و11 ـ يجب أن يكون الشاهدان بالغين ومسلمين وهذا يستفاد من عبارة (من رجالكم) أي ممّن هم على دينكم .

12 ـ يجوز اختيار شاهدتين من النساء وشاهد من الرجال {فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان} .

13 ـ لابدّ أن يكون الشاهدان موضع ثقة (ممّن ترضَون من الشهداء) . يتبيّن من هذه الآية أنّ الشهود يجب أن يكونوا ممّن يُطمأنّ إليهم من جميع الوجوه ، وهذه هي «العدالة» التي وردت في الأخبار أيضاً .

14 ـ وإذا كان الشاهدان من الرجال ، فلكلّ منهما أن يشهد منفرداً . أمّا إذا كانوا رجلاً واحداً وامرأتين ، فعلى المرأتين أن تدليا بشهادتهما معاً لكي تذكّر إحداهما الاُخرى إذا نسيت شيئاً أو أخطأت فيه .

أمّا سبب اعتبار شهادة أمرأتين تعدل شهادة رجل واحد ، فهو لأنّ المرأة كائن عاطفي وقد تقع تحت مؤثّرات خارجية ، لذلك فوجود امرأة أُخرى معها يحول بينها وبين التأثير العاطفي وغيره : {أن تَضِلّ إحداهما فتُذكّر إحداهما الأُخرى} .

15 ـ ويجب على الشهود إذا دُعوا إلى الشهادة أن يحضروا من غير تأخير ولا عُذر كما قال : {ولا يأب الشهداء إذا ما دُعوا} .

وهذا من أهم الأحكام الإسلامية ولا يقوم القسط والعدل إلاَّ به .

16 ـ تجب كتابة الدين سواء أكان الدَين صغيراً أو كبيراً ، لأنّ الإسلام يريد أن لا يقع أيّ نزاع في الشؤون التجارية ، حتّى في العقود الصغيرة التي قد تجرّ إلى مشاكل كبيرة {ولا تسأموا أن تَكْتُبُوه صغيراً أو كبيراً إلى أجله}(5) والسأم هو الملل من أمر لكثرة لبثه .

وتشير الآية هنا إلى فلسفة هذه الأحكام ، فتقول إنّ الدقّة في تنظيم العقود والمستندات تضمن من جهة تحقيق العدالة ، كما أنّها تطمئن الشهود من جهة أُخرى عند أداء الشهادة ، وتحول من جهة ثالثة دون ظهور سوء الظنّ بين أفراد المجتمع {ذلكم أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى ألاَّ ترتابوا} .

17 ـ إذا كان التعاقد نقداً فلا ضرورة للكتابة {إلاَّ أن تكون تجارةً حاضرةً تديرونها بينكم فليس عليكم جناح ألاَّ تكتبوها} .

«التجارة الحاضرة» تعني التعامل النقدي ، و«تديرونها» تعني الجارية في التداول لتوضيح معنى التجارة الحاضرة . وتعبير {فليس عليكم جناح} يعني : ليس هناك ما يمنع من كتابة العقود النقدية أيضاً ، وهو خير ، لأنّه يزيل كلّ خطأ أو اعتراض محتملين فيما بعد .

18 ـ في المعاملات النقدية وإن لم تحتج إلى كتابة عقد ، لابدّ من شهود : {وأشهِدوا إذا تبايعتم} .

19 ـ وآخر حكم تذكره الآية هو أنّه ينبغي ألاَّ يصيب كاتب العقد ولا الشهود أيّ ضرر بسبب تأييدهم الحقّ والعدالة : {ولا يضارّ كاتب ولا شهيد} .

والفعل «يضارّ» يعني ـ كما فسّرناه ـ أن لا يصيب الكتاب والشهود ضرر ، أي أنّه مجهول . ولا حاجة إلى تفسيره بأنّه يعني أن لا يصدر من الكاتب والشهود ضرر في الكتابة والشهادة ، بعبارة أُخرى لا حاجة إلى اعتباره فعلاً معلوماً ، لأنّ هذا التأكيد ورد في فقرة سابقة من الآية .

ثمّ تقول الآية إنّه إذا آذى أحد شاهداً أو كاتباً لقوله الحق فهو إثم وفسوق يخرج المرء من مسيرة العبادة لله : (وإن تفعلوا فإنّه فُسُوق بكم) .

وفي الختام ، وبعد كلّ تلك الأحكام ، تدعو الآية الناس إلى التقوى وامتثال أمر الله : (واتقوا الله) ثمّ تقول إنّ الله يعلّمكم كلّ ما تحتاجونه في حياتكم المادّية والمعنوية : (ويعلّمكم الله) وهو يعلم كلّ مصالح الناس ومفاسدهم ويقرّر ما هو الصالح لهم : {والله بكلّ شيء عليم} .

وقوله : {وَإِن كُنتُمْ عَلَى سَفَر وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِباً فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِن بَعْضُكُم بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ ءَاثِمٌ قَلْبُهُ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ } :

هذه الآية تكمل البحث في الآية السابقة وتشتمل على احكام اُخرى :

1 ـ عند التعامل إذا لم يكن هناك من يكتب لكم عقودكم ، كأن يقع ذلك في سفر ، عندئذ على المدين أن يضع شيئاً عند الدائن باسم الرهن لكي يطمئّن الدائن {وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتباً فرهان مقبوضة} .

قد يبدو من ظاهر الآية لأول وهلة أنّ تشريع «قانون الرهن» يختصّ بالسفر ، ولكن بالنظر إلى الجملة التالية وهي (ولم تجدوا كاتباً) يتبيّن أنّ القصد هو بيان نموذج لحاله لا يمكن الوصول فيها إلى كاتب ، وعليه فللطرفين أن يكتفيا بالرهن حتّى في موطنهما . وكذلك وردت الأحاديث عن أهل البيت (عليهم السلام) . وفي المصادر الشيعية والسنّيّة أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) رهن درعه في المدينة عند شخص غير مسلم واقترض منه مبلغاً من المال (6) .

2 ـ يجب أن يبقى الرهن عند الدائن حتّى يطمئن (فرهان مقبوضة) .

جاء في تفسير العيّاشي أنّ الإمام الصادق (عليه السلام) قال : «لا رهن إلاَّ مقبوضة» (7) .

3 ـ جميع هذه الأحكام ـ من كتابة العقد ، واستشهاد الشهود ، وأخذ الرهن ـ تكون في حالة عدم وجود ثقة تامّة بين الجانبين ، وإلاَّ فلا حاجة إلى كتابة عقد ، وعلى المدين أن يحترم ثقة الدائن به ، فيسدّد دَينه في الوقت المعيّن ، وأن لا ينسى تقوى الله (فإن أمن بعضكم بعضاً فليؤدّ الذي اؤتمن أمانته وليتّق الله ربّه) .

4 ـ على الذين لهم علم بما للآخرين من حقوق في المعاملات أوفي غيرها ، إذا دعوا للإدلاء بشهادتهم أن لا يكتموها ، لأنّ كتمان الشهادة من الذنوب الكبيرة {ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنّه آثم قلبُه} .

طبيعيّ أنّ الشهادة تجب علينا إذا لم يستطع الآخرون إثبات الحقّ بشهادتهم ، أمّا إذا ثبت الحقّ فيسقط وجوب الإدلاء بالشهادة عن الآخرين ، أي أنّ أداء الشهادة واجب كفائي .

وبما أنّ كتمان الشهادة والإمتناع عن الإدلاء بها يكون من أعمال القلب ، فقد نسب هذا الإثم إلى القلب (8) ، فقال : (فإنه آثم قلبه) ومرّة اُخرى يؤكّد في ختام الآية ضرورة ملاحظة الأمانة وحقوق الآخرين : {والله بما تعملون عليم} .

_________________________________

1- الامثل ، ناصر مكارم الشيرازي ، ج2 ، ص163-170 .

2 ـ وطبعاً يستفاد من بعض الأحكام ضمناً «وليس بالدلالة المطابقية» أنه لو اضيفت تلك الأحكام إلى الأحكام التسعة عشر المذكورة لبلغت أكثر من واحد وعشرين حكماً .

3 ـ «وليملل» من مادة «ملة» بمعنى الدين والأحكام الإلهية وقال بعض أنها من مادة «ملال» وبما أن في الملاء هناك تكرار مملل اُطلقت هذه الكلمة عليه (تارة بصورة املاء واُخرى بصورة املال) .

4 ـ قال بعض ان التفاوت بين «شاهد» و«شهيد» هو أن الشاهد يقال لمن حضر الواقعة حتّى يمكنه أن يشهد عليها والشهيد هو الذي يؤدي الشهادة .

5 ـ تقديم «الصغير» على «الكبير» من أجل أن الناس عادة يهملون المعاملات الصغيرة أولا يلتزمون بكتابتها وهذا يؤدي إلى التنازع أو أنه يحتمل أن الناس يظنون أن كتابة المعاملات الصغيرة دليل على البخل ، ولذلك تعرض القرآن لنفيه .

6 ـ تفسير روح الجنان : ج 2 ص 420 ، وتفسير المراغي ذيل الآية المبحوثة .

7 ـ نور الثقلين : ج 1 ص 301 .

8 ـ لتوضيح معنى القلب انظر الجزء الأوّل ص 72 . (المراد من القلب في القرآن هو الروح والعقل) .




وهو تفسير الآيات القرآنية على أساس الترتيب الزماني للآيات ، واعتبار الهجرة حدّاً زمنيّاً فاصلاً بين مرحلتين ، فكلُّ آيةٍ نزلت قبل الهجرة تُعتبر مكّيّة ، وكلّ آيةٍ نزلت بعد الهجرة فهي مدنيّة وإن كان مكان نزولها (مكّة) ، كالآيات التي نزلت على النبي حين كان في مكّة وقت الفتح ، فالمقياس هو الناحية الزمنيّة لا المكانيّة .

- المحكم هو الآيات التي معناها المقصود واضح لا يشتبه بالمعنى غير المقصود ، فيجب الايمان بمثل هذه الآيات والعمل بها.
- المتشابه هو الآيات التي لا تقصد ظواهرها ، ومعناها الحقيقي الذي يعبر عنه بـ«التأويل» لا يعلمه الا الله تعالى فيجب الايمان بمثل هذه الآيات ولكن لا يعمل بها.

النسخ في اللغة والقاموس هو بمعنى الإزالة والتغيير والتبديل والتحوير وابطال الشي‏ء ورفعه واقامة شي‏ء مقام شي‏ء، فيقال نسخت الشمس الظل : أي ازالته.
وتعريفه هو رفع حكم شرعي سابق بنص شرعي لا حق مع التراخي والزمان بينهما ، أي يكون بين الناسخ والمنسوخ زمن يكون المنسوخ ثابتا وملزما بحيث لو لم يكن النص الناسخ لاستمر العمل بالسابق وكان حكمه قائما .
وباختصار النسخ هو رفع الحكم الشرعي بخطاب قطعي للدلالة ومتأخر عنه أو هو بيان انتهاء امده والنسخ «جائز عقلا وواقع سمعا في شرائع ينسخ اللاحق منها السابق وفي شريعة واحدة» .