أقرأ أيضاً
التاريخ: 5-2-2017
3818
التاريخ: 27-2-2017
8902
التاريخ: 3-2-2017
26044
التاريخ: 5-2-2017
7197
|
قال تعالى : {إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً} [النساء : 48] .
إنه تعالى آيس الكفار من رحمته ، فقال {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} : معناه إن الله لا يغفر أن يشرك به أحد ، ولا يغفر ذنب الشرك لاحد ، ويغفر ما دونه من الذنوب ، لمن يريد . قال المحققون : هذه الآية أرجى آية في القرآن ، لان فيها إدخال ما دون الشرك ، من جميع المعاصي في مشيئة الغفران . وقف الله المؤمنين الموحدين بهذه الآية بين الخوف والرجاء وبين العدل والفضل ، وذلك صفة المؤمن ، ولذلك قال الصادق عليه السلام : " لو وزن رجاء المؤمن وخوفه لاعتدلا " ، ويؤيده قوله سبحانه {ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون ولا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون} . وروي عن ابن عباس أنه قال . : ثماني آيات نزلت في سورة النساء ، خير لهذه الأمة مما طلعت عليه الشمس ، وغربت ، قوله سبحانه : {يريد الله ليبين لكم} ، و {يريد الله أن يخفف عنكم} ، {إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه} ، {إن الله لا يظلم مثقال ذرة} ، {ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه يجز به} ، {إن الله لا يغفر أن يشرك به} ، في الموضعين ، {ما يفعل الله بعذابكم} .
وبيان وجه الاستدلال بهذه الآية على أن الله تعالى يغفر الذنوب من غير توبة أنه نفى غفران الشرك ، ولم ينف غفرانه على كل حال ، بل نفى أن يغفر من غير توبة ، لان الأمة أجمعت على أن الله يغفر بالتوبة ، وإن كان الغفران مع التوبة عند المعتزلة على وجه الوجوب ، وعندنا على وجه التفضل ، فعلى هذا ، يجب أن يكون المراد بقوله {ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} أنه يغفر ما دون الشرك من الذنوب بغير توبة لمن يشاء من المذنبين غير الكافرين ، وإنما قلنا ذلك ، لان موضوع الكلام الذي يدخله النفي والإثبات ، وينضم إليه الأعلى والأدون ، أن يخالف الثاني الأول ، ألا ترى أنه لا يحسن أن يقول الرجل : أنا لا أدخل على الأمير إلا إذا دعاني ، وأدخل على من دونه إذا دعاني وإنما يكون الكلام مفيدا إذا قال وأدخل على من دونه وإن لم يدعني .
ولا معنى لقول من يقول من المعتزلة إن في حمل الآية على ظاهرها ، وإدخال ما دون الشرك في المشيئة ، إغراء على المعصية ، لان الإغراء إنما يحصل بالقطع على الغفران . فأما إذا كان الغفران متعلقا بالمشيئة فلا إغراء فيه ، بل يكون العبد به واقفا بين الخوف والرجاء ، على الصفة التي وصف الله بها عباده المرتضين ، في قوله تعالى {يدعون ربهم خوفا وطمعا ويحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه} . وبهذا وردت الأخبار الكثيرة من طريق الخاص والعام ، وانعقد عليه إجماع سلف أهل الإسلام .
ومن قال : إن في غفران ذنوب البعض دون البعض ، ميلا ومحاباة ، ولا يجوز الميل والمحاباة على الله ، وجوابه : إن الله متفضل بالغفران . وللمتفضل أن يتفضل على قوم دون قوم ، وإنسان دون إنسان ، وهو عادل في تعذيب من يعذبه ، وليس يمنع العقل ولا الشرع من الفضل والعدل . ومن قال منهم : إن لفظة {ما دون ذلك} ، وإن كانت عامة في الذنوب التي هي دون الشرك ، فإنما نخصها ونحملها على الصغائر ، أو ما يقع منه التوبة ، لأجل عموم ظاهر آيات الوعيد . فجوابه : إنا نعكس عليكم ذلك ، فنقول : بل قد خصصوا ظاهر تلك الآيات لعموم ظاهر هذه الآية ، وهذا أولى لما روي عن بعض السلف أنه قال : " إن هذه الآية استثناء على جميع القرآن " يريد به والله أعلم جميع آيات الوعيد ، وأيضا فإن الصغائر تقع عندكم محبطة ، ولا تجوز المؤاخذة بها . وما هذا حكمه ، فكيف يعلق بالمشيئة ، فإن أحدا لا يقول إني أفعل الواجب إن شئت ، وأرد الوديعة إن شئت ، وقوله {ومن يشرك بالله فقد افترى} : أي فقد كذب بقوله إن العبادة يستحقها غير الله ، وأثم {إثما عظيما} : أي غير مغفور ، وجاءت الرواية عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال : " ما في القرآن آية أرجى عندي من هذه الآية "! .
________________
1 . تفسير مجمع البيان ، ج3 ، ص 101-103 .
{إِنَّ اللَّهً لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ ويَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ} . وقبل الشروع بتفسير الآية نمهد بأمرين يتصلان بها اتصالا وثيقا :
1- ينقسم الشرك إلى نوعين : شرك في الألوهية ، كمن يعتقد بتعدد الخالق والرازق . وشرك في الطاعة ، كمن يؤمن بإله واحد نظريا ، ولكن يطيع المخلوق في معصية الخالق . والكفر أيضا على نوعين : كفر في الألوهية وجحودها من رأس . وكفر في الطاعة ، كمن يؤمن بإله واحد ، ثم يعصيه تهاونا ، ومنه كفران النعم ، وعدم شكر المنعم . والمراد بالشرك في الآية النوعان الأولان من الشرك والكفر ، أي الإيمان بتعدد الآلهة ، وعدم الإيمان بشيء إطلاقا .
2 - إذا ورد كلام عام يحكم حكما إيجابيا على عديد من الأفراد ، وورد أيضا كلام خاص ينفي حكم الخاص عن بعض الأفراد التي تناولها العام ، وكان الكلامان من مصدر واحد ، ان كان الأمر كذلك وجب حمل العام على الخاص ، أي استثناء ما دل عليه الخاص مما دل عليه العام ، وللتوضيح نضرب هذا المثال :
قال تعالى : {والسَّارِقُ والسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما} . فقد دلت الآية على ان كل سارق تقطع يده ، حتى أيام المجاعة ، ثم جاء الحديث الشريف يقول :
« لا يقطع السارق في عام مسنت » أي مجاعة ، فوجب ، والحال هذه ، أن نقيد آية السرقة العامة بحديث المجاعة ، والحكم بأن كل سارق يقطع إلا أيام المجاعة .
وبعد ان تمهد معنا هذا نقارن بين ثلاث آيات ، ومن نتيجة المقارنة يتضح المراد من قوله تعالى : {إِنَّ اللَّهً لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} .
جاء في الآية 53 الزمر : {قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهً يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} . فلفظ هذه الآية عام ، ومعناها واضح ، وهو ان اللَّه يغفر كل ذنب ، حتى الشرك ، ولكن آية {إِنَّ اللَّهً لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} لفظها خاص ، ومعناها واضح أيضا ، وهو ان اللَّه لا يغفر الشرك ، فوجب استثناء المشرك من آية الزمر جمعا بين الآيتين ، ثم جاءت آية ثالثة تقول : {وإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وآمَنَ وعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى - 82 طه} ، فهذه الآية أخرجت التائب من آية {إِنَّ اللَّهً لا يَغْفِرُ}تماما كما أخرجت هي المشرك من آية الزمر .
فتحصل معنا من مقارنة الآيات الثلاث ، وعطف بعضها على بعض ان من تاب من الشرك غفر اللَّه له ، لأنه كفّر عن ذنبه ، وان من مات على الشرك فلا نجاة له ، لأنه فوّت الفرصة على نفسه ، ولأن الصفح عنه إغراء بالشرك والخضوع لغير الحق والعدل . . هذا ، إلى ان العفو عن المشرك ، معناه ان اللَّه يقول لمن أساء : أحسنت . . تعالى اللَّه عن ذلك علوا كبيرا .
وتسأل : ان قوله تعالى : {ويَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ} يشعر بأن أي ذنب - غير الشرك - يرتكبه الإنسان يجوز أن يغفره اللَّه قبل التوبة ، لأن غفران الذنب مع التوبة ثابت بنص الكتاب والسنة ، فيختص قوله : {يَغْفِرُ} بالمؤمن المذنب غير التائب . . وبكلمة ان الآية تدل على ان الصفح عن ذنب المؤمن لا ينحصر بالتوبة فقط ، بل قد يصفح اللَّه عن ذنوب المؤمنين ، دون أن يتوبوا ؟ .
الجواب : اتفق المسلمون على أن من مات على توبة قبل اللَّه منه للآيات القرآنية والأحاديث النبوية ، واختلفوا في المسلم المذنب إذا مات قبل التوبة .
قال الخوارج : هو مخلد في النار ، تماما كالكافر ، سواء أكان ذنبه كبيرا أم صغيرا .
وقالت طائفة من المرجئة : هو في الجنة من غير عقاب ، إذ لا يضر مع الإيمان معصية ، ولا ينفع مع الكفر طاعة بزعمهم .
وقال الشيعة والسنة : لا يخلد في النار ، ويترك ذنبه لمشيئة اللَّه ، فإن شاء غفر ، وأدخله الجنة منذ اللحظة الأولى ، وان شاء عذّبه بمقدار ما يستحق ، ثم أدخله الجنة .
والذي نراه نحن لا يختلف كثيرا عن قول السنة والشيعة ، ونقرره بهذا الأسلوب : ان اللَّه سبحانه لا يشاء الغفران عبثا ، ومن غير حكمة تستدعيه ، والحكمة الموجبة للغفران لا تنحصر بالتوبة ، فقد تكون الشفاعة ، أو غيرها ، وليس من الضروري أن نعلمها بالتفصيل ، بل يكفي العلم بأن اللَّه حكيم وكفى .
وعليه فلا مانع في نظر العقل أن يغفر اللَّه ذنوب المؤمن ، وان لم يتب . . وسبق منا كلام يتعلق بهذا البحث عند تفسير الآية 81 من سورة البقرة ، فقرة مرتكب الكبيرة ص 139 من المجلد الأول .
دليل التوحيد والأقانيم الثلاثة :
{ومَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً} . لأنه آمن بالمستحيل . ومن الأدلة على ان اللَّه واحد انه لو وجد إلهان : فلا يخلو : إما أن يكون أحدهما قادرا على تدبير العالم ، وإما ان لا يكون ، فان كان قادرا كان وجود الثاني عبثا ، ولزوم ما لا يلزم ، وان لم يكن قادرا فلا يصلح للألوهية ، لعجزه من جهة ، وعدم الفائدة من وجوده من جهة ثانية .
وخير الأدلة كلها ما استدل به سبحانه على وحدانية ذاته بذاته ، حيث قال : {لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ - 22 الأنبياء} . أي لو كان في السماء والأرض آلهة سوى اللَّه لما استقامتا ، ولفسد من فيهما وما فيهما ، ولم ينتظم أمر من الأمور . ذلك انه لو وجد إلهان لكان كل منهما قادرا ، ومن شأن القادر أن يكون مريدا ضد ما يريده الآخر ، وعليه فإذا أراد أحدهما خلق شيء ، وأراد الآخر خلافه ، فأما أن يحصل مرادهما معا ، فيلزم اجتماع الوجود والعدم ، وهو محال ، وأما أن يحصل مراد أحدهما دون الآخر ، فيكون هذا الآخر عاجزا ومغلوبا على أمره . . وبديهة ان العاجز لا يكون إلها .
وفي الآية 91 المؤمنون : { مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ ولَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ } . ومن الأمثلة الشائعة « حصانان لا يربطان على معلف واحد » .
وقال علي أمير المؤمنين لولده الحسن (عليه السلام) : « واعلم يا بني انه لو كان لربك شريك لأتتك رسله ، ورأيت آثار ملكه وسلطانه ، ولعرفت أفعاله وصفاته » .
وتسأل : هل القول : ان اللَّه واحد ، ولكنه ذو أقانيم ثلاثة : أب وابن وروح القدس هو من باب التوحيد ، أو من باب تعدد الآلهة ؟ .
الجواب : ان هذا يتوقف على بيان المراد من الأقانيم ، فان أريد منها الصفات كالرحمن والرحيم فهو من التوحيد ، وان أريد منها الشخص فهو من التعدد . .
وقال سعيد الخوري الشرتوني في أقرب الموارد : « أقانيم جمع أقنوم ، ومعناه الأصل والشخص » . وعلى هذا يكون من تعدد الآلهة ، لا من التوحيد ، ويؤيده ان لفظ الأب والابن ، يستدعيان التعدد والتغاير في الشخص والذات . . بالإضافة إلى ان الصور والتماثيل في المعابد الخاصة للسيدة العذراء (عليه السلام) تعبر بوضوح عن التعدد ، لأنها تحمل بين يديها طفلا يرمز إلى السيد المسيح (عليه السلام) .
____________________________
1- تفسير الكاشف ، ج2 ، ص 342 – 345 .
قوله تعالى : { إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ } ظاهر السياق أن الآية في مقام التعليل للحكم المذكور في الآية السابقة أعني قوله : { آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ } إلخ ، فيعود المعنى إلى مثل قولنا : فإنكم إن لم تؤمنوا به كنتم بذلك مشركين ، والله لا يغفر أن يشرك به فيحل عليكم غضبه وعقوبته فيطمس وجوهكم بردها على أدبارها أو يلعنكم فنتيجة عدم المغفرة هذه ترتب آثار الشرك الدنيوية من طمس أو لعن عليه.
وهذا هو الفرق بين مضمون هذه الآية ، وقوله تعالى : { إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً } : [ النساء : 116 ] ، فإن هذه الآية ( آية 48 ) ، تهدد بآثار الشرك الدنيوية ، وتلك ( آية 116 ) ، تهدد بآثاره الأخروية ، وذلك بحسب الانطباق على المورد وإن كانتا بحسب الإطلاق كلتاهما شاملتين لجميع الآثار.
ومغفرته سبحانه وعدم مغفرته لا يقع شيء منهما وقوعا جزافيا بل على وفق الحكمة ، وهو العزيز الحكيم ، فأما عدم مغفرته للشرك فإن الخلقة إنما تثبت على ما فيها من الرحمة على أساس العبودية والربوبية ، قال تعالى : { وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } : [ الذاريات : 56 ] ، ولا عبودية مع شرك ، وأما مغفرته لسائر المعاصي والذنوب التي دون الشرك فلشفاعة من جعل له الشفاعة من الأنبياء والأولياء والملائكة والأعمال الصالحة على ما مر تفصيله في بحث الشفاعة في الجزء الأول من هذا الكتاب .
وأما التوبة فالآية غير متعرضة لشأنها من حيث خصوص مورد الآية لأن موردها عدم الإيمان ولا توبة معه ، على أن التوبة يغفر معها جميع الذنوب حتى الشرك ، قال تعالى : { قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ } : [ الزمر : 54 ] .
والمراد بالشرك في الآية ما يعم الكفر لا محالة فإن الكافر أيضا لا يغفر له البتة وإن لم يصدق عليه المشرك بعنوان التسمية بناء على أن أهل الكتاب لا يسمون في القرآن مشركين وإن كان كفرهم بالقرآن وبما جاء به النبي شركا منهم أشركوا به ( راجع تفسير آية 221 من البقرة ) ، وإذا لم يؤمن أهل الكتاب بما نزل الله مصدقا لما معهم فقد كفروا به ، وأشركوا ما في أيديهم بالله سبحانه فإنه شيء لا يريده الله على الصفة التي أخذوه بها فالمؤمن بموسى عليه السلام إذا كفر بالمسيح عليه السلام فقد كفر بالله وأشرك به موسى ، ولعل ما ذكرناه هو النكتة لقوله تعالى : { أَنْ يُشْرَكَ بِهِ } دون أن يقول : المشرك أو المشركين.
وقوله تعالى : { لِمَنْ يَشاءُ } تقييد للكلام لدفع توهم أن لأحد من الناس تأثيرا فيه تعالى يوجب به عليه المغفرة فيحكم عليه تعالى حاكم أو يقهره قاهر ، وتعليق الأمور الثابتة في القرآن على المشيئة كثير والوجه في كلها أو جلها دفع ما ذكرناه من التوهم كقوله تعالى : { خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ } : [ هود : 108 ] .
على أن من الحكمة ألا يغفر لكل مذنب ذنبه وإلا لغا الأمر والنهي ، وبطل التشريع ، وفسد أمر التربية الإلهية ، وإليه الإشارة بقوله : { لِمَنْ يَشاءُ } ، ومن هنا يظهر أن كل واحد من المعاصي لا بد أن لا يغفر بعض أفراده وإلا لغا النهي عنه ، وهذا لا ينافي عموم لسان آيات أسباب المغفرة فإن الكلام في الوقوع دون الوعد على وجه الإطلاق ، ومن المعاصي ما يصدر عمن لا يغفر له بشرك ونحوه.
فمعنى الآية أنه تعالى لا يغفر الشرك من كافر ولا مشرك ، ويغفر سائر الذنوب دون الشرك بشفاعة شافع من عباده أو عمل صالح ، وليس هو تعالى مقهورا أن يغفر كل ذنب من هذه الذنوب لكل مذنب بل له أن يغفر وله أن لا يغفر ، كل ذلك لحكمة .
___________________________
1. تفسير الميزان ، ج4 ، ص 314-315 .
أرجى آيات القرآن :
الآية الحاضرة تعلن بصراحة أنّ جميع الذنوب والمعاصي قابلة للمغفرة والعفو ، إلا «الشرك» فإنّه لا يغفر أبدا ، إلّا أن يكف المشرك عن شركه ويتوب ويصير موحدا ، وبعبارة أخرى : ليس هناك أي ذنب قادر بوحده على إزالة الإيمان ، كما ليس هناك أي عمل صالح قادر على خلاص الإنسان إذا كان مقرونا بالشرك (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ).
إنّ ارتباط هذه الآية بالآيات السابقة إنّما هو من جهة أن اليهود والنصارى كانوا بشكل من الإشكال مشركين ، كل طائفة بشكل معين ، والقرآن ينذرهم ـ بهذه الآية ـ بأن يتركوا هذه العقيدة الفاسدة التي لا يشملها العفو والغفران ، ثمّ يبيّن في خاتمة الآية دليل هذا الأمر إذ يقول : (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً) (2) .
وهذه الآية من الآيات التي تطمئن الموحدين إلى رحمة الله ولطفه ، لأنّ في هذه الآية قد بيّن سبحانه إمكان العفو عن جميع المعاصي والذنوب غير الشرك ، فهي كما جاء في حديث عن أمير المؤمنين علي عليه السلام أرجى آيات القرآن الكريم إذ قال : «ما في القرآن آية أرجى عندي من هذه الآية».
وهذه الآية ـ كما قال ابن عباس «ثماني آيات نزلت في سورة النساء ، خير لهذه الأمّة ممّا طلعت عليه الشمس وغربت وعدّ منها هذه الآية» (3) .
لأنّ هناك كثيرين يرتكبون المعاصي العظيمة ثمّ يقنطون من رحمة الله وغفرانه إلى الأبد ، فيتسبب قنوطهم في أن يسيروا بقية عمرهم في طريق المعصية والخطأ بنفس القوّة والإصرار ، ولكن الأمل في عفو الله وغفرانه خير وسيلة رادعة بالنسبة إلى هؤلاء ، وخير مانع من تماديهم في المعصية والطغيان ، وعلى هذا الأساس فإنّ هذه الآية تهدف ـ في الحقيقة ـ إلى مسألة تربوية.
فإذا رأينا عصاة مجرمين (كما يقول بعض المفسّرين ، ويعلم ذلك من الروايات المذكورة في ذيل هذه الآية) أمثال «وحشي» غلام هند وقاتل بطل الإسلام حمزة بن عبد المطلب عم النّبي صلى الله عليه وآله وسلم يؤمن مع نزول هذه الآية ، وينتهي عن جرائمه وشقاوته ، فإن من الطبيعي أن يوجد ذلك مثل هذا الأمل لدي العصاة الآخرين ، فلا ييأسوا من رحمة الله وغفرانه ، ولا يتورطوا في المزيد من الذنوب والمعاصي.
ويمكن أن يقال : إنّ هذه الآية من شأنها أن تشجع الناس في الوقت ذاته على الذنب وتغريهم بالمعصية ، لما فيها من الوعد بالعفو عن «جميع الذنوب ما عدا الشرك».
ولكن لا شك أنّ المراد من الوعد بالعفو والمغفرة ليس هو الوعد المطلق من
كل قيد وشرط ، بل يشمل الأشخاص الذين يظهرون من أنفسهم نوعا من اللياقة والصلاح لمثل هذا العفو والغفران ، وكما أشرنا إلى ذلك في ما سبق ، فإن مشيئة الله ـ في هذه الآية والآيات المشابهة لها ـ بمعنى الحكمة الإلهية ، لأن مشيئته تعالى لا تنفصل عن حكمته أبداً ، ومن البديهي والمسلم أن حكمته لا تقتضي أن ينال أحد العفو الإلهي من دون قابلية وصلاح لذلك.
وعلى هذا الأساس فإن الجوانب والأبعاد التربوية البناءة في هذه الآية تفوق ـ بمراتب كثيرة ـ إمكان سوء استخدام الوعد الموجود فيها.
__________________
1. تفسير الأمثل ، ج3 ، ص 154 – 155 .
2. الافتراء ، مشتقة من مادة فرى على وزن (فرد) بمعنى القطع ، وحيث أنّ قطع بعض أجزاء الشيء السالم يفسد ذلك الشيء ويخربه استعمل في كل مخالفة ، ومن جملة ذلك الشرك والكذب والتهمة.
3. مجمع البيان ، ج ٣ ، ص ٥٧.
|
|
علامات بسيطة في جسدك قد تنذر بمرض "قاتل"
|
|
|
|
|
أول صور ثلاثية الأبعاد للغدة الزعترية البشرية
|
|
|
|
|
السيد السيستاني يستقبل المبعوث الخاص للأمين العام للأمم المتحدة في العراق
|
|
|