أقرأ أيضاً
التاريخ: 2024-05-20
846
التاريخ: 2024-04-18
648
التاريخ: 2024-03-10
991
التاريخ: 3-10-2016
1522
|
لقد كان الدين في مصر من فوق كل شيء ومن أسفل منه. فنحن نراه فيها في كل مرحلة من مراحله وفي كل شكل من أشكاله، من الطواطم إلى علم اللاهوت. ونرى أثره في الأدب وفي نظام الحكم وفي الفن، وفي كل شيء عدا الأخلاق. وليس هو مختلف عن الصور والأنواع فحسب، بل هو أيضا غزير موفور.
ولسنا نجد في بلد من البلاد، إذا استثنينا بلاد الرومان والهند، ما نجده من الآلهة الكثيرة في مصر، وليس في وسعنا أن ندرس المصري- بل ليس في وسعنا أن ندرس الإنسان على الإطلاق- إلا إذا درسنا آلهته.
يقول المصري إن بداية الخلق هي السماء؛ وقد ظلت هي والنيل أكبر أربابه إلى آخر أيامه. ولم تكن الأجرام السماوية العجيبة، في اعتقاده، مجرد أجرام، بل كانت هي الصور الخارجية لأرواح عظيمة، لآلهة ذوات إرادات- لم تكن متفقة على الدوام- توجه حركاتها المختلفة المعقدة وكانت السماء قبة تقف في فضائها الواسع بقرة عظيمة هي الإلهة حتحور والأرض من تحت أقدامها، وبطنها يكسوه جمال عشرة آلاف نجم،. وكانت للمصريين عقيدة أخرى (لأن الآلهة والأساطير كانت تختلف من إقليم إلى إقليم) تقول إن السماء هي الإله سيبو النائم في لطف على الأرض، وهي الإلهة نويت؛ ومن تزاوج الربين المهولين ولدت كل الأشياء. ومن عقائدهم أن الأبراج والنجوم قد تكون آلهة، من ذلك أن ساحو وسيديت (أي كوكبتي الجبار والشعرى) كانا إلهين مهولين، وأن ساحو كان يأكل الآلهة ثلاث مرات في اليوم بانتظام. وكان يحدث في بعض الأحيان أن إلهاً من هذه الآلهة المهولة يأكل القمر، ولكن ذلك لن يدوم إلا قليلا، لأن دعاء الناس وغضب الآلهة الأخرى لا يلبثان أن يضطرّا الخنزير النهم إلى أن يتقايأه مرة أخرى. وعلى هذا النحو كان عامة المصريين يفسرون خسوف القمر.
وكان القمر إلهاً ولعله كان أقدم ما عبد من الآلهة في مصر، ولكن الشمس في الدين الرسمي كانت أعظم الآلهة. وكانت تعبد في بعض الأحيان على إنها الإله الأعلى رع أو رى الأب اللامع الذي لقح الأم الأرض بأشعة الحرارة والضوء النافذة. وكانت تصور أحياناً على أنها عجل مقدس يولد مرة في فجر كل يوم، ويمخر عباب السماء في قارب سماوي ثم ينحدر إلى الغرب في كل مساء كما ينحدر الشيخ المسن مترنحاً إلى قبره؛ أو أن الشمس كانت هي الإله حورس مصوراً في صورة باشق رشيق يطير في عظمة وجلال في السماوات يوماً بعد يوم كأنه يشرف من عليائه على مملكته. ولقد أصبح فيما بعد رمزاً متواتراً من الرموز الدينية والملكية. وكان رع أو الشمس هو الخالق على الدوام، ولما أشرق أول مرة ورأى الأرض صحراء جرداء غمرها بأشعته فبعث فيها النشاط فخرجت من عيونه كل الكائنات الحية من نبات وحيوان وإنسان- مختلطة بعضها ببعض. ولما كان أول من خُلق من الرجال والنساء أبناء رع الأدنين فقد كانوا مكملين سعداء. ولكن أبنائهم انحدروا شيئاً فشيئاً إلى طريق الضلال، فخسروا ما كانوا عليه من سعادة وكمال. وغضب رع من أجل ذلك على خلقه، فأهلك عددا كبيراً من الجنس البشري. على أن العلماء المصريين كانوا يشكون في هذه العقائد الشعبية (كما كان يؤكد بعض العلماء السومريين) أن الخلائق الأولين كانوا كالبهائم لا يستطيعون النطق بألفاظ مفهومة، ولا يعرفون شيئاً من فنون الحياة. وقصارى القول أن هذه الأساطير كانت في جملتها أساطير دالة على الذكاء تعبر في تقوى وصلاح عن اعتراف الإنسان بفضل الأرض والشمس.
وكانت هذه الروح الدينية غزيرة خصبة بلغ من خصبها أن المصريين لم يعبدوا مصدر الحياة فحسب بل عبدوا مع هذا المصدر كل صورة من صور الحياة. فكانت بعض النباتات مقدسة لديهم، فالنخلة التي تظلل الناس في قلب الصحراء، وعين الماء التي تسقيهم في الواحة، والغيضة التي يلتقون عندها ويستريحون، والجميزة التي تترعرع ترعرعاً عجيباً في الرمال، كانت هذه عندهم، لأسباب قوية لا يستطيع أحد أن ينكرها عليهم أشياء مقدسة. ولقد ظل المصري الساذج إلى آخر أيام حضارته يقرب إليها قرابين الخيار والعنب والتين. ولم يكن هذا كل شيء بل إن الخضر الوضيعة قد وجدت لها من يعبدها، حتى لقد أخذ تين Taine يلهو بالتدليل على أن البصل الذي أغضب بوسويه Bossuet وأحفظه كان من المعبودات على ضفاف النيل.
وكانت الآلهة من الحيوان أكثر ذيوعاً بين المصريين من آلهة النبات. وكانت هذه الآلهة من الكثرة بحيث غصت بها هياكلها كأنها معرض حيوانات صاخبة. وعبد المصريون في هذه المقاطعة أو تلك وفي هذا الوقت أو ذاك العجل والتمساح والصقر والبقرة والإوزة والعنزة والكبش والقط والكلب والدجاجة والخطاف وابن آوي والأفعى؛ وتركوا بعض هذه الدواب تجوس خلال الهياكل ولها من الحرية ما للبقرة المقدسة في الهند حتى هذه الأيام. ولما تحولت الآلهة إلى آدميين ظلت محتفظة بصورتها الحيوانية المزدوجة وبرموزها، فكان آمون يمثل بإوزة أو بكبش، ورع يرمز له بصرصور أو عجل، وأوزير بعجل أو كبش، وسبك بتمساح، وحورس بصقر أو بازى، وحتحور ببقرة، وتحوت إله الحكمة برباح. وكانت النساء يقدمن أحيانا لهذه الآلهة ليكنّ زوجات لهنّ، وكان العجل- وهو الذي يتقمصة أوزير- صاحب هذا الشرف العظيم بنوع خاص. ويقول أفلوطرخس إن أجمل النساء في منديس كنّ يقدّمن لمضاجعة التيس المقدس. وقد بقيت هذه الشعائر الدينية من بداية الأمر إلى نهايته عنصراً أساسياً قومياً في الديانة المصرية. أما الآلهة من بني الإنسان فقد جاءت إلى مصر في وقت متأخر كثيراً، ولعلها جاءتها هدايا من غرب آسية.
وكان المصريون يقدسون المعز والعجل تقديساً خاصاً ويعدونهما رمز القدرة الجنسية الخالقة. ولم يكونا مجرد رمزين لأوزير بل كانا تجسيداً له. وكثيراً ما كان أوزير يرسم وأعضائه التناسلية كبيرة بارزة دلالة على قوته العظمى؛ وكان المصريون في المواكب الدينية يحملون له نماذج بهذه الصورة، أو أخرى ذات ثلاثة قضبان. وكان النساء في بعض المناسبات يحملن مثل هذه الصور الذكرية ويحركنها تحريكا آليا بالخيوط. والعبادة الجنسية لا تظهر فقط في الرسوم الكثيرة التي نراها في نقوش الهياكل ذات قضبان منتصبة، بل إنا فضلا عن هذا نراها كثيرا في الرموز المصرية على هيئة صليب ذي مقبض كان يتخذ رمزاً للاتصال الجنسي وللحياة القوية.
ثم صار الآلهة في آخر الأمر بشراً- أو بعبارة أصح أصبح البشر آلهة. ولم يكن آلهة مصر من الآدميين إلا رجالاً متفوقين أو نساء متفوقات خلقوا في صور عظيمة باسلة، ولكنهم خلقوا من عظام وعضلات ولحم ودم؛ يجوعون ويأكلون، ويظمأون ويشربون، ويحبون ويتزوجون، ويكرهون ويقتلون، ويشيخون ويموتون، شأنهم في هذا شأن آلهة اليونان سواء بسواء. من ذلك أن أوزير إله النيل المبارك كان يحتفل بموته ولقبه في كل عام، وكان يرمز بموته وبعثه لانخفاض النيل وارتفاعه، ولعلهما كانا يرمزان أيضا لموات الأرض وحياتها. وكان في مقدور كل مصري في عهد الأسر المتأخرة أن يقص كيف غضب سِتْ (أو سيت) إله الجفاف الخبيث الذي أيبس الزرع بأنفاسه المحرقة، كيف غضب هذا الإله الخبيث من أوزير (النيل) لأنه يزيد (بفيضه) من خِصب الأرض؛ فقتله وحكم بجفافه الجبار في مملكة أوزير. (ويقصدون بهذا أن النهر الذي يرتفع ماؤه في سنة من السنين)، وظل الأمر كذلك حتى قام حورس الباسل ابن إيزيس فغلب سِتْ ونفاه من الأرض. وعاد أوزير بعدئذ إلى الحياة بفضل ما في حب إيزيس من حرارة، وحكم مصر حكماً صالحاً، وحرّم أكل لحم الآدميين ونشر لواء الحضارة، ثم صعد إلى السماء ليحكم فيها ويكون إلهاً. وكانت هذه أسطورة ذات معنى عميق، ذلك بأن التاريخ- كدين الشرق- ثنائي، فهو سجل للنزاع بين الخلق والدمار، وبين الخصب والجفاف، وبين الشباب المتجدد والفناء، بين الخير والشر، بين الحياة والموت.
ومن أعمق الأساطير أيضا أسطورة إيزيس الأم العظمى. ولم تكن إيزيس أخت أوزير وزوجته الوفية فحسب، بل كانت من بعض الوجوه أجل منه قدراً، لأنها قهرت الموت بالحب شأنها في ذلك شأن النساء بوجه عام. كذلك لم يكن فضلها مقصوراً على أرض النهر السوداء التي أخصبها مس أوزير- النيل فأغنت مصر كلها بإنتاجها- لم يكن فضلها مقصوراً على هذه الأرض، بل كان لها فضل أعظم من هذا وأنفع، لقد كانت رمز القوة الخالقة الخفية التي أوجدت الأرض وكل ما عليها من الكائنات الحية، وأوجدت ذلك الحنو الأموي الذي يحيط بالحياة الجديدة حتى يتم نموها مهما كلفها من جهد وعناء. وكانت ترمز في مصر- كما ترمز كالي، وإستير، وسيبيل في آسية؛ وكما ترالز ديمتر في بلاد اليونان وسيريز في رومة- كما ترمز هذه كلها إلى ما للعنصر النسوي من أسبقية وأفضلية واستقلال في الخَلْق، وفي الميراث وإلى ما كان للمرأة أول الأمر من زعامة في حرث الأرض؛ ذلك أن إيزيس (كما تقول الأسطورة) هي التي عثرت على القمح والشعير حين كانا ينموان نمواً برياً في أرض مصر، وكشفت عنهما لأوزير. وكان المصريون يعبدون عبادة قائمة على الحب والإخلاص فصوروا لها صوراً من الجواهر لأنها في اعتقادهم أم الإله. وكان كهنتها الحليقون ينشدون لها الأناشيد ويسبحون بحمدها في العشي والإبكار. وكانت صورة قدسية لها تمثالها وهي ترضع في ريبة طفلها الذي حملت فيه بمعجزة من المعجزات توضع في معبد ابنها المقدس حورس (إله الشمس) في منتصف فصل الشتاء من كل عام، أي في الوقت الذي يتفق ومولد الشمس السنوي في أواخر شهر ديسمبر. ولقد كان لهذه الأساطير والرموز الشعرية الفلسفية أعمق الأثر في الطقوس المسيحية وفي الدين المسيحي، حتى إن المسيحيين الأولين كانوا أحيانا يصلون أمام تمثال إيزيس الذي يصورها وهي ترضع طفلها حورس، وكانوا يرون فيهما صورة أخرى للأسطورة القديمة النبيلة أسطورة المرأة (أي العنصر النسوي) الخالقة لكل شيء والتي تصبح آخر الأمر أم الإله.
وكانت هذه الآلهة- رع (أو آمون كما كان يسميه أهل الجنوب) وأوزير، وإيزيس وحورس- أعظم أرباب مصر. ولما تقادم العهد امتزج رع وآمون وإله آخر هو فتاح فأصبحت ثلاث صور أو مظاهر لإله واحد أعلى يجمعها هي الثلاثة. وكان للمصريين عدد لا يحصى من صغار الآلهة منها أنوبيس ابن آوي، وشو، وتفنوت، ونفثيس، وكث، وثت؛... ولكننا لا نريد أن نجعل من هذه الصحف متحفاً للآلهة الأموات. إن الملك نفسه كان إلهاً في مصر وكان على الدوام ابن آمون- رع لا يحكم مصر بحقه الإلهي فحسب بل يحكمها أيضا بحق مولده الإلهي، فهو إله رضى أن تكون الأرض موطناً له إلى حين.
وكان يرسم على رأسه الصقر رمز حورس وشعار القبيلة، وتعلو جبهته الأفعى رمز الحكمة والحياة وواهبة القوى السحرية للتاج، وكان الملك هو الرئيس الديني الأعلى يرأس المواكب والحفلات العظيمة التي تمجد أعياد الآلهة. وبفضل هذه الدعاوى، دعاوى قدسية المولد وقدسية السلطان، استطاع الملوك أن يحكموا حكمهم الطويل غير مستندين فيه إلا إلى قوات ضئيلة.
ومن أجل هذا كان الكهنة في مصر دعامة العرش كما كانوا هم الشرطة السرية القوامة على النظام الاجتماعي. وتطلب هذا الدين الكثير التعقيد أن تقوم عليه طبقة بارعة في فنون السحر والطقوس الدينية لا يمكن الاستغناء عن قدرتها وبراعتها في الوصول إلى الآلهة. وكان منصب الكاهن ينتقل في الواقع إن لم يكن بحكم القانون، من الأب إلى الابن، ومن ثم نشأت طبقة أصبحت على مر الزمن بفضل تقوى الشعب وكرم الملوك أعظم ثراء وأقوى سلطاناً من أمراء الإقطاع ومن الأسرة المالكة نفسها. وكان الكهنة يحصلون على طعامهم وشرابهم من القرابين التي تقدم للآلهة، كما كانت لهم موارد عظيمة من إيراد أطيان الهياكل، ومن صلواتهم وخدماتهم الدينية. وإذ كانوا معفين من الضرائب التي تجبى من سائر الناس ومن السخرة والخدمة العسكرية فقد كان لهم من المكانة والسلطان ما يحسدهم عليه سائر الطبقات. والحق أنهم كانوا جديرين بقسط وافر من هذا السلطان لأنهم هم الذين جمعوا علوم مصر واحتفظوا بها، وهم الذين علموا الشعب وفرضوا على أنفسهم نظاماً دقيقاً قوامه القوة والغيرة. وقد وصفهم هيرودوت وصفاً يكاد يشعرنا بأنه كان يهابهم ويرهبهم قال:
"وهم أكثر الناس اهتماما بعبادة الآلهة، ولا يتحللون قط من المراسم الآتية؛.. يلبسون ثياباً من نسيج الكتان نظيفة حديثة الغسل على الدوام.. ويختتنون حرصا منهم على النظافة لأنهم يعتقدون أن النظافة أفضل من الجمال، ويحلقون شعر أجسامهم بأجمعه مرة في كل ثلاثة أيام حتى لا يجد القمل أو غيره من الأقذار مكاناً في أجسامهم.. وهم يغتسلون بالماء البارد مرتين في النهار ومرتين في الليل".
وكان أهم ما يميز هذا الدين توكيده فكرة الخلود. فالمصريون يعتقدون أنه إذا أمكن أن يحيا أوزير النيل، ويحيا النبات كله، بعد موتهما، فإن في مقدور الإنسان أيضا أن يعود إلى الحياة بعد موته، وكان بقاء أجسام الموتى سليمة بصورة تسترعي النظر في أرض مصر الجافة مما ساعد على إثبات هذه العقيدة التي ظلت مسيطرة على الديانة المصرية آلاف السنين، والتي انتقلت منهم إلى الدين المسيحي. لقد كان المصريون يعتقدون أن الجسم تسكنه صورة أخرى مصغرة منه تسمى القرينة- الكا- كما تسكنه أيضا روح تقيم فيه إقامة الطائر الذي يرفرف بين الأشجار. وهذه الثلاثة مجتمعة- الجسم والقرينة والروح- تبقى بعد ظاهرة الموت، وكان في استطاعتها أن تنجو منه وقتا يطول أو يقصر بقدر ما يحتفظون بالجسم سليماً من البلى؛ ولكنهم إذا جاءوا إلى أوزير مبرئين من جميع الذنوب سمح لهم أن يعيشوا مخلدين في "حقل الفيضان السعيد"- أي في الحدائق السماوية حيث توجد الوفرة والأمن على الدوام. وفي وسع الإنسان أن يحكم على ما كان عليه من يعللون أنفسهم بهذه الآمال من فقر ونكد. إلا أن هذه الحقول الفردوسية لا يمكن الوصول إليها إلا باستخدام صاحب المِعْبر الذي كان للمصريين كما كان شارون؛ ولم يكن هذا الشيخ الطاعن في السن يقبل في قاربه إلا الرجال والنساء الذين لم يرتكبوا في حياتهم ذنباً ما، وكان أوزير يحاسب الموتى ويزن قلب كل من يريد الركوب في كفة ميزان تقابله في الكفة الأخرى ريشة ليتأكد بذلك من صدق قوله. والذين لا ينجحون في هذا الاختبار في النهاية يحكم عليهم بأن يبقوا أبد الدهر في قبورهم يجوعون ويظمئون، ويطعمون من التماسيح البشعة، ولا يخرجون منها أبدا ليروا الشمس.
وكان الكهنة يقولون إن ثمة طرقاً ماهرة لاجتياز هذه الاختبارات، وكانوا على استعداد لتعريف الناس بهذه الطرق نظير ثمن يؤدونه لهم. ومن هذه الطرق أن يهيأ القبر بما يحتاجه الميت لغذائه من الطعام والشراب، وبمن يستطيع الاستعانة بهم من الخدم. ومن تلك الطرق أيضا أن يملأ القبر بالطلاسم التي تحبها الآلهة : من أسماك، ونسور، وأفاعي، وبما هو خير من هذه كلها وهو الجعران- والجعارين ضرب من الخنافس كانت في رأيهم رمزاً لبعث الروح لأنها تتوالد كما كان يبدو لهم بعملية التلقيح. فإذا ما بارك الكاهن هذه الأشياء حسب الطقوس الصحيحة أخافت كل معتد على الميت وقضت على كل شر. وكان خيراً من هذه وتلك أن يشتري كتاب الموتى{تعليق}ذلك اسم حديث أطلقه لبسيوس على نحو ألفي ملف من ورق البردي وجدت في عدة قبور، وتمتاز عن غيرها من الأوراق باحتوائها صيغاً لإرشاد الموتى. واسمها المصري هو : الخروج (من الموت) بالنهار. ويرجع تاريخها إلى عهد الأهرام، ولكن بعضها أقدم منها، ويعتقد المصريون الأقدمون أن هذه النصوص من تأليف تحوت إله الحكمة. وقد جاء في الفصل الرابع والخمسين منها أن هذا الكتاب قد عثر عليه في عين شمس وأنه كان (بخط الإله نفسه) ولقد عثر يوشيا على ما يشبه هذا الكتاب بين اليهود وهو قراطيس ملفوفة أودع فيها الكهنة أدعية وصلوات وصيغاً وتعاويذ من شأنها أن تهدئ من غضب أوزير، بل أن تخدعه. فإذا ما وصلت روح الميت إلى أوزير بعد أن تجتاز العدد الكبير من الصعاب والأخطار، خاطبت القاضي الأكبر بما يشبه هذه الأقوال:
... أيا من يعجل سير جناح الزمان،
... يا من يسكن في كل خفايا الحياة،
... يا من يحصى كل كلمة أنطق بها -
... انظر إنك تستحي مني، وأنا ولدك؛
... وقلبك مفعم بالحزن والخجل،
... لأني ارتكبت في العالم من الذنوب ما يفعم القلب حزناً،
... وقد تماديت في شروري واعتدائي.
... ألا فسالمني، ألا فسالمني،
... وحطم الحواجز القائمة بينك وبيني!
... ومر بأن تُمحى كل ذنوبي وتسقط
... منسية عن يمينك وشمالك!
... أجل امح كل شروري
... وامح العار الذي يملأ قلبي
... حتى نكون أنت وأنا من هذه اللحظة في سلام
ومن الطرق الأخرى أن تعلن الروح براءتها من الذنوب الكبرى في صورة "اعتراف سلبي". وهذا الاعتراف من أقدم وأنبل ما عبر به الإنسان عن مبادئه الأخلاقية :
"سلام عليك، أيها الإله الأعظم، رب الصدق والعدالة! لقد وقفت أمامك، يا رب؛ وجيء بي لكي أشاهد ما لديك من جمال... أحمل إليك الصدق... إني لم أظلم الناس... لم أظلم الفقراء... لم أفرض على رجل حر عملاً أكثر مما فرضه هو على نفسه... لم أهمل، ولم أرتكب ما تبغضه الآلهة... ولم أكن سببا في أن يسيء السيد معاملة عبده؛ ولم أمِت إنساناً من الجوع؛ ولم أُبكِ أحداً ولم أقتل إنساناً... ولم أخن أحداً... ولم أنقِص شيئاً من مؤونة الهيكل، ولم أتلف خبز الآلهة... ولم أرتكب عملاً شهوانيا داخل أسوار المعبد المقدسة... ولم أكفر بالآلهة... ولم أغش في الميزان... ولم أنتزع اللبن من أفواه الرضع... ولم أصطد بالشباك طيور الآلهة... أنا طاهر، أنا طاهر، أنا طاه" .
على أن الدين المصري لم يكن فيه ما يقوله عن الأخلاق إلا الشيء القليل؛ ذلك أن الكهنة قد صرفوا كل همهم إلى بيع الرقى، وغمغمة العزائم، وأداء المراسيم والطقوس السحرية، فلم يجدوا متسعاً من الوقت لتعليم الناس المبادئ الخلقية. بل إن كتاب قصة الموتى نفسه ليعلم المؤمنين أن الرقى التي باركها الكهنة تتغلب على جميع ما عساه أن يعترض روح الميت من صعاب في طريقها إلى دار السلام؛ وأهم ما يؤكده هذا الكتاب هو تلاوة الأدعية لا الحياة الطيبة الصالحة. وقد جاء في أحد هذه الملفات: "إذا ما عرف الميت هذا خرج في النهار" أي حبي الحياة الخالدة. ووضعت صيغ التمائم والرقى وبيعت لتخلص الناس من كثير من الذنوب، وتضمن للشيطان نفسه دخول الجنة. وكان من واجب المصري التقي أن يتلو في كل خطوة من خطواته صيغاً عجيبة يتقي بها الشر ويستنزل بها الخير. استمع مثلا إلى ما تقوله أم وآلهة تريد أن تبعد "الشياطين" عن طفلها:
"أخرج يا من تأتي في الظلام، وتدخل خلسة... هل أتيت لتقبل هذا الطفل؟ لن أسمح لك بتقبيله... هل أتيت لتأخذه؟ لن أسمح لك بأخذه مني. لقد حصنته منك بعشب- إفيت الذي يؤلمك؛ وبالبصل الذي يؤذيك؛ وبالشهد الذي هو حلو المذاق للأحياء ومر في فم الأموات؛ وبالأجزاء الخبيثة من سمك الإبدو، وبالسلسلة الفقرية من سمك النهر.
وكانت الآلهة نفسها تستخدم السحر والرقى ليؤذي بعضها بعضاً. وأدب مصر القديم نفسه يفيض بذكر السحرة، السحرة الذين يجففون البحيرات بكلمة ينطقون بها، أو يجعلون الأطراف المقطوعة تقفز إلى أماكنها، أو يحيون الموتى. وكان للملك سحرة يعينونه ويرشدونه؛ وكان الاعتقاد السائد أن له هو نفسه قوة سحرية ينزل بها المطر، أو يرفع بها الماء في النهر. وكانت الحياة مملوءة بالطلاسم والعزائم، والرجم بالغيب؛ وكان لابد لكل باب من إله يخيف الأرواح الخبيثة، أو يطرد ما عساه يقترب منه من أسباب الشؤم؛ وكانوا يعتقدون اعتقادا ثابتاً أن الأطفال الذين يولدون في اليوم الثالث والعشرين من شهر توت سيموتون لا محالة وهم صغار، وأن الذين يولدون في اليوم العشرين من شهر شرباخ سيفقدون أبصارهم في مستقبل أيامهم. ويقول هيرودوت أن كل يوم وكل شهر مخصص لإله من الآلهة، وأن المصريين كانوا يعينون ما سوف يقع لكل شخص منهم في حياته حسب اليوم الذي ولد فيه، فيعرفون كيف يموت، وماذا سيكون في مستقبل أيامه. ونسي الناس على مر الزمان ما بين الدين والأخلاق من صلات فلم تكن الحياة الصالحة هي السبيل إلى السعادة الأبدية، بل كان السبيل إليها هو السحر والطقوس وإكرام الكهنة. وإلى القارئ ما يقوله في هذا عالم كبير من علماء الآثار المصرية:
"ومن ثم تضاعفت الأخطار التي تكتنف الدار الآخرة، وكان في وسع الكاهن أن يمد الموتى في كل موقف من المواقف الخطرة برقية قوية تنقذه منه لا محالة. وكان لديهم، فضلا عن الرقى الكثيرة التي يستطيع بها الموتى أن يصلوا إلى الدار الآخرة، رقى أخرى تمنع الميت أن يفقد فمه أو قلبه، ورقى غيرها يستطيع بها أن يذكر اسمه، وأن يتنفس، ويأكل ويشرب ويتَّقي أكل فضلاته، ومنها ما يمنع الماء الذي يشربه أن يستحيل لهبا، ومنها ما يحيل الظلام نوراً، ومنها ما يرد عنه الأفاعي وغيرها من الهولات المعادية؛ وما إلى ذلك...
وهكذا فوجئنا بانقطاع أسباب التدرج في نمو المبادئ الأخلاقية التي نستطيع تبينها في الشرق القديم أو على الأقل بوقف هذا النمو إلى حين. ويرجع هذا إلى الأساليب البغيضة التي لجأت إليها طائفة فاسدة من الكهنة حريصة كل الحرص على الكسب من أهون سبيل".
تلك كانت حالة الدين في مصر حين ارتقى العرش إخناتون الشاعر المارق وأجج نار الثورة الدينية التي قضت على الإمبراطورية المصرية.
|
|
تفوقت في الاختبار على الجميع.. فاكهة "خارقة" في عالم التغذية
|
|
|
|
|
أمين عام أوبك: النفط الخام والغاز الطبيعي "هبة من الله"
|
|
|
|
|
قسم شؤون المعارف ينظم دورة عن آليات عمل الفهارس الفنية للموسوعات والكتب لملاكاته
|
|
|